مضى شهران وهي لا تكف عن التفكير، عيناها لا تكفان عن اختلاس النظر إلى وجوه الناس في ذهابها إلى المكتب وفي عودتها إلى البيت. ستون يوما مضت وهي لا ترى بين الوجوه وجها يشبهه، لا ترى بين العيون عينين لهما نظرته.
نامت الليل مؤرقة، وفي النوم يعاودها الحلم، ترى الأرض تغرق في بحر من الطوفان، وهي واقفة في مدخل المدينة. فجأة تراه أمامها، هذه المرة لا يلحظ وجودها، ويسير بخطوات هادئة إلى الأمام، ثم يستدير وينظر إليها. في عينيه النظرة هي هي لم تتغير، المياه تغرقه من كل جانب، يظل ينظر إليها، آخر ما يختفي فيه عيناه.
في الصباح فتحت عينيها، هدير المياه ما زال في أذنيها، أصوات استغاثة تعلو عليها أصوات أمواج. في اللحظة بين اليقظة والنوم يبدو لها الحلم حقيقة، وأنها شهدت بعينها دمار مدينتها منذ سبعة آلاف عام، وأنه غرق ضمن من أغرقهم الله في الطوفان. ظلت راقدة في السرير، تأخرت عن موعدها في المكتب، ثم نهضت بجسم ثقيل. في المرآة رأت عينيها حمراوتين فيهما دموع، بطرف إصبعها أدركت أنها دموع حقيقية، وعرفت أنها تبكي على موته غريقا، وأكثر ما كان يبكيها أنه لم يكن من أتباع الله.
أدركت عن يقين أنه من أتباع الشيطان، ومع ذلك ظلت الدموع تنهمر من عينيها وهي واقفة أمام المرآة، بدا لها أنه مات هذه اللحظة فقط، ولم يمت منذ سبعة آلاف عام.
في طريقها إلى المكتب ذلك الصباح، عند تقاطع الشارع، رفعت عينيها نحو إشارة المرور، فجأة رأته يسير بين الناس ويجتاز الشارع. تعرفت عليه على الفور، الوجه هو الوجه، التقاطيع المصرية القديمة، والعينان هما العينان فيهما الحركة والنظرة، واندفع جسمها بغير إرادتها نحوه، كادت تمسكه من يده، لكنها تراجعت في آخر لحظة، وانفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش الأسود قائلة: أنت؟!
كان الشارع مزدحما، والكل يجري في طريقه دون توقف، لكن الناس توقفوا وقد أذهلهم المشهد، رأوها تندفع نحوه، وهو يندفع بعيدا عنها. هي فتاة، وهو فتى يسير في الشارع، لم يكن مألوفا أن تندفع الفتاة نحو شاب لا تعرفه بهذا الشكل، وهي ليست أي فتاة، إن شيئا لا يظهر من كيانها إلا الثقبين الصغيرين في قماش أسود، وهي تندفع نحوه، وهو يبتعد عنها بخطوات سريعة. بدا لهم المشهد غريبا ومضحكا في آن واحد.
في أذنيها دوت ضحكاتهم، فانكمشت على نفسها تحت القماش السميك، ظلت منكمشة طول النهار، وهي جالسة في مكتبها أمامها الدفتر، رأسها مطرق، عيناها تتحركان وحدهما ناحية النافذة حيث يقف في مكانه ... وجهه هو وجهه، عيناه فيهما الحركة، النظرة الإنسانية أكثر إنسانية من عيون الناس في الطريق، مع أنه مات منذ سبعة آلاف عام، غرقا مع من غرقوا في الطوفان، وقد بكت على موته. وكل إنسان يموت، لكن التمثال الحجري يعيش سبعة آلاف عام، فهل الحجر أبقى من البشر؟
في رأسها يدور السؤال بغير جواب، أصبح لها صديقا من الحجر، تحس وجوده أكثر من وجود أي إنسان آخر له جسد. فلتت الكلمة من بين شفتيها المطبقتين بلا صوت «جسد»، الكلمة في حد ذاتها تبعث في جسدها رعشة، لا تعرف تماما أين تكون الرعشة. عيناها من خلال الثقبين من تحت القماش السميك تختلسان النظر إلى جسدها، في صدرها قلب ينبض، وفي رأسها عروق، يصعد الدم إليها كهواء ساخن، عقلها يدرك أن صديقها ليس إلا تمثالا من الحجر، لكنها ترى في عينيه نظرة متحركة توشك على النطق.
هل يمكن أن ينطق؟ وبأي لغة؟ العربية أم الهيروغليفية؟ أهو خيال أم حقيقة؟ وإن كان خيالا، فمن أين يأتي الخيال؟ هل يختلط الخيال في عروقها بالدم؟ في رأسها يدور السؤال مع دورة الدم، كدوامة في بحر المياه تغرقها كالطوفان، هو واقف أمامها ينظر إليها، عيناه فيهما النظرة الإنسانية، في أعماقها تدرك عن يقين أنه أكثر إنسانية من كل الناس في الكون، لا يمكن أبدا أن يكون شريرا، يمكن لها أن تقسم وهي في كامل الوعي والإدراك أنه من أتباع الله وليس من أتباع الشيطان.
كانت لا تزال في كامل الوعي والإدراك، لا يمكن لأحد إذا رآها أن يساوره الشك في كونها في كامل الوعي والإدراك. يراها أبوها كما يراها كل يوم بكامل وقارها وملابسها، تخرج إلى مكتبها وتعود في الموعد. وتراها مديرة المتحف جالسة بكامل الوعي والإدراك وأمامها الدفتر، فإذا ما انتهت من الدفتر، لم يصبح أمامها إلا كتاب الله. وفي الطريق تمشي بخطوتها المتزنة المحكومة، ورأسها مطرق بكامل الوعي والإدراك.
Bilinmeyen sayfa