والمدارس الفرنسية الثانوية هي في صميمها كليات للأدب الفرنسي؛ ذلك أن الطالب يدرس اللغة دراسة وافية، ويدرس أدباء فرنسا القدامى والمحدثين بالروح الوطني والذوق الفني، وبعيد أن تجد طالبا يخطئ في لغته حين يتكلم، فضلا عن الخطأ في الكتابة.
وفي باريس هذه الأيام حركة أدبية تندغم فيها السياسة والدين والفلسفة، هي الحركة الوجودية التي يتزعمها بول سارتر.
ولهذه الحركة عبرة ، بل عبر كثيرة، فإن وصولها إلى الجماهير، بل إلى العامة، برهان على ارتفاع المستوى الثقافي بين الشعب؛ ذلك أن لها أنصارا وخصوما من الشعب، وهي سياسة من حيث أنها تخاصم المذهب الاشتراكي الماركسي، وهي دينية من حيث أنها تلغي الغيبيات التي يرتكز عليها الدين، ثم هي أيضا تأخذ مكان الدين في تعيين الأخلاق والقيم الإنسانية، ثم هي فلسفية، أو هذا ما تزعمه، من حيث أنها تعالج المشكلات التي يعالجها الفلاسفة، كالمبدأ أو الميعاد، والمصير، والأسلوب، والكائن البشري بين كونه وبين خلاصه، أو بين نشأته وبين نضجه.
ولست هنا أقدح أو أمدح هذه الوجودية، ولكني أستخلص منها هذه العبر التي ذكرت، وأحب أن أؤكد أن أعظم هذه العبر هي أن الأدباء يقومون في فرنسا منذ بداية هذا القرن مقام الكنيسة والكهنة، والشعب يسترشد بأناطول فرانس، وأندريه جيد، وهنري باربوس، وبول سارتر، كما كان يسترشد أسلافه بكهنة الكنيسة وقديسيها.
وهذا طراز آخر من الأدب لم نعرفه نحن في تاريخنا الأدبي، إلا إذا عزونا إلى المعري هذه النزعة، أو هذا الموقف، حين أخذ على نفسه الاضطلاع بتعيين الأخلاق ورسم القيم، وقد فعل ذلك في حذر وتردد، وأحيانا في مراوغة وتهارب، وقد كان المعري بشريا ينكر الغيبيات.
أما أدباء فرنسا فيضطلعون بهذه التبعات دون خوف، وهم يوجهون أدبهم هذه الوجهة منذ بداية القرن العشرين، وكثيرا ما أقرأ لأحد الناقدين نقدا موجها إليهم فلا أدري هل هو ينتقد ديانتهم أم سياستهم أم فلسفتهم أم أخلاقهم أم فنهم؟
والواقع أنه ينتقد، أو هو يحاول أن يستوعب في نقده كل هذا، وقد سبقت هذه النزعة الأدبية الاستيعابية للحياة محاولات ابتدائية من «بلزاك» و«فكتور هيجو» و«زولا».
فإن بلزاك الذي يعد أعظم القصصيين في القرن التاسع عشر قد استطاع أن يجعل القصة مسرحا للنقد الاجتماعي، وهو نقد دقيق وبصير معا، ولكنه لم يكن على وجدان الأدب الفرنسي الحديث، بأن الأديب يجب أن يكون على إيمان وكفاح، كما نجد في هنري باربوس مثلا، ثم جاء بعد بلزاك فكتور هيجو، فكان مكافحا في السياسة يدعو إلى الجمهورية كما كان في «البؤساء» بصيرا بالخفايا الاجتماعية والشقاء البشري.
ثم جاء أميل زولا الذي نهج نهجا جديدا في «الطبيعة»؛ أي نقل الحقائق البشرية كما هي بلا تزويق أو مداراة، وشرح الطبيعة البشرية عارية مكشوفة، وقد وجد في أيامه أنصارا يحبون الصدق ولو آلم، كما وجد خصوما يكرهون الحقائق لبشاعتها.
وهذه البذرة التي زرعها أميل زولا، وهي التزام الحقائق وتحري الصدق دون القناعات المخفية، هذه البذرة هي التي نبتت في القرن العشرين وجعلت الأدباء الفرنسيين يجابهون المجتمع ويكشفون عن حقائقه في استقلال الرأي وثبات القصد.
Bilinmeyen sayfa