نحن في فترة من التاريخ يطالبنا الأدب فيها بأن نكون كفاحيين، وألا نجعل الجمال يستغرق بعض اهتمامنا فضلا عن كل اهتمامنا.
لقد مرت بحياتي القصيرة أحداث لا أنساها؛ منها حربان قتل فيهما نحو ثلاثين مليون شاب لكل منهم أم وأب، وربما زوجة أو حبيبة كانت تنتظر الزواج منه، ودمرت بيوت، وجرح ملايين من الشباب والنساء والرجال، ومنها مجاعة قتلت في الهند نحو ثلاثة ملايين هندي، ومنها كوليرا دخلت بلادنا فقتلت آلاف الحفاة الجائعين، ومنها استعمار دموي في أفريقيا الشمالية وأفريقيا الشرقية، ومنها كنوز من البترول أخرجتها الأرض في هذا الشرق العربي، ولكن الإنسان العربي، في هذا الشرق العربي، لا يزال جائعا حافيا، ومنها بهيمية ملوكية تسلطت على أرضنا، وتمرغت، بكل ما فيها من فساد، على مقدساتنا، ومنها برلمان جمع عند الظهر ثم طرد أعضاؤه في مساء اليوم نفسه، كأنهم مجموعة من الكلاب، ومنها، ومنها.
فهل يجوز لأديب أن يقول إزاء هذه الأحوال إن هدفه من أدبه هو الجمال، وإنه لا شأن له بهذه الأحداث؟
هل يجوز له أن يقول: انظروا لقد صنعت ورصعت هذه الجملة، ونظمت هذا البيت البديع. ثم يترك هذه الكوارث كأنها جرت في عصر غير عصره؟! هل له الحق في أن يعيش في البرج العاجي، بينما الأمة تعيش في البدرومات؟!
بالطبع لا، لا يمكن أديبا أن يقف على الحياد هنا؛ إذ عليه أن يكون إنسانيا، والإنسانية تقتضيه الكفاح.
ولكن ماذا نقول في أدباء لم يقنعوا حتى بالحياد، بل انضموا إلى معسكر السادة، بل الطغاة من السادة، وارتضوا البهيمية الملوكية يمدحونها ويرفعونها إلى السموات؟
هل ينساهم التاريخ، أم يبدي رأيه فيهم ؟ هل يقول إن غرامهم بالجمال كان أعظم وأطغى من غرامهم بالإنسانية؟
في ظروف مصر الحاضرة، ومنذ أكثر من ستين أو سبعين سنة، لم يكن مفر للأديب المصري أو العربي من أن يكون سياسيا؛ لأن السياسة هي مقدار الخبز الذي يقرر للفقير، وهي الدواء للمريض، وهي الحرية لجميع أبناء الشعب، وهي حرية المرأة على الخصوص، وهي حق التعلم، وفوق كل هذا ينطوي درس السياسة والاشتباك في مركباتها على حق الاستقلال.
إن تاريخ أدبائنا في مصر هو مأساة إنسانية قبل أن يكون مأساة أدبية، وحسبي أن أذكر خمسة أو ستة من هؤلاء الأدباء.
ولست أذكر شوقي الذي طعن في وطنية عرابي ونظم الأشعار في سبه، ثم قصر قلمه - أو كاد - على مدح الخديوي عباس، ولكني أذكر أولئك الذين جاءوا بعده وأوهموا الجمهور أنهم يحسنون الأدب.
Bilinmeyen sayfa