ت. س. إليوت.
ولكن «إليوت» بهذا اليأس يبين لنا أنه يتكلم بلسان الطبقة التي نشأ منها، طبقة المحافظين الأمريكيين الذين يمارسون فضائل الاستقامة، ويتجنبون السجون؛ لأنهم أغنياء عن الجريمة بما لهم من مال وثراء. وهو يعجز عن مجابهة العصر الحديث، ولا يطيق رؤية الشعب وهو يحاول بلوغ القمة الديمقراطية. وبكلمة أخرى نقول إن «إليوت» يعمى عن رؤية القرن العشرين؛ لأنه لا يرى غير الحضارة الآلية التي تكاد تخنق البشر بقوتها وجبروتها. ولكنه ينسى أن هذه القوة أو الجبروت كان يمكن بتغيير النظام الإنتاجي أن يكونا في خدمة الإنسان.
أما من حيث الأسلوب فإن «إليوت» يشبه «جيمس جويس» في التعبير عن التتابع العاطفي؛ أي أحلام اليقظة، أو الخواطر المطلقة. ولكنه يختلف من «جويس» من حيث إن هذا رومانتي طليق لا يبالي التقاليد ، أما «إليوت» فيعد من الكلاسيين التقليدين. ونزوعه إلى الكاثوليكية يتناسق مع نزوعه إلى التقاليد. ومع ذلك نجد في «إليوت» سمة عصرية، هي أن شعره لا يعرف الطبيعة أو الريف أو الحياة الساذجة الفطرية، فهو شعر المدينة، بل شعر النادي والشارع والمقصف والمصنع. وعنده أن المجتمع الأمثل هو المجتمع المسيحي. ولكن ما هو هذا المجتمع المسيحي؟ فإن الاشتراكي في موسكو، يستطيع أن يصفه وصفا مخالفا كل المخالفة لما يصفه به الديمقراطي في لندن أو نيويورك.
وخلاصة القول إن «إليوت» يؤلف قصائده كي يندب العصر الحاضر، عصر الديمقراطية والاشتراكية، الذي لا يستطيع أن يعيش فيه لأنه يعجز عن التخلص من الأخلاق التي ورثها من طبقته في الأقاليم الشرقية للولايات المتحدة. وهو مع أنه يتكلم بلغة العصريين، فإنه يحس إحساس التقليديين، كما يفكر بعقولهم. وقد رأى حربين عالميتين فلم يخرج منهما ملهما بسخاء بشري يدعو إلى الاتحاد العالمي. ولم يبصر من خلالهما رؤية الإنسان القادم الذي لن يبالي تلك الأنانيات الصغيرة بشأن التفاوت في الثروة والتفاخر بالرياش وأبهة الألقاب. ومن هنا تشاؤمه الذي يطغى على ذهنه كما لو كان طوفانا وظلاما.
الشاعر أودين
نحن نعيش في عصر الانتقال من نظام المباراة في الإنتاج إلى نظام التعاون؛ أي من الانفرادية إلى الاشتراكية. وهذا الانتقال يجد من العراقيل والصعوبات ما رأينا أماراته في قيام الحكومات الفاشية في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبرتغال وأرجنتينا. فإن الطبقات التي انتفعت، وأثرت، وتسلطت بالمباراة، لا تستطيع أن تنظر بالرضا والارتياح إلى الانتقال إلى التعاون، حين تقوم المساواة مقام التفاوت؛ لأنها هي التي تنتفع بهذا التفاوت. ولذلك رأينا هذه الطبقات لا تبالي تحطيم دساتيرها وجحد النظم الديمقراطية كي تنشئ ديكتاتوريات تمنع التطور الديمقراطي من الوصول إلى غايته المنطقية وهي النظام الاشتراكي.
ومن هنا أصبح الأديب مكافحا؛ يكافح من أجل هذا الانتقال وأحيانا لا يكافح بقلمه فقط، بل يعمد إلى بندقيته ويغادر وطنه إلى إسبانيا مثلا حيث يقاتل إلى جنب الجمهوريين ضد الديكتاتور فرانكو.
ولكن يجب أن نعترف أن عصر الانتقال هذا الذي نعيش فيه لم يحل جميع الأدباء إلى مكافحين، فقد رأينا مثلا الشاعر «إليوت» يحاول الاستمساك بالكلاسية القديمة في الأخلاق والاجتماع والدين، مع أنه يستعمل أساليب «الانتقاليين»، فهو بمثابة الفلاح الذي يزرع خمسة أفدنة بالطرق العصرية، ويعيش في منزل يمتاز بجميع الوسائل العصرية الكهربائية في الإضاءة والطبخ والتبريد والتدفئة ثم ينعي على العصر الحديث آلاته وأدواته التي يستمتع هو نفسه بها. وكأن كل ما يقصد إليه أن يستأثر هو بها ويحرم غيره منها.
أودين.
ثم هناك غير هؤلاء التقليديين جماعة المترددين الحائرين الذين لا يجدون مراسيهم في وسط هذه الفوضى الانتقالية. ونحن نجد أحيانا في «إليوت» نفسه مثل هذه المواقف الحائرة.
Bilinmeyen sayfa