ويجب على القارئ ألا يخطئ هذه الدعوة فيحسبها أنانية لا أكثر، فإن «لورنس» كما قدمنا صوفي، وإن كانت صوفيته أشبه الأشياء بحب «روسو» للطبيعة، كما ترى من هذه القطعة:
إن الإنسان في حاجة قبل كل شيء وفوق كل شيء إلى أن يؤدي لجسمه حقوقه؛ لأنه هو الآن، الآن فقط، يعيش في اللحم ويقوى به. وأعظم العجائب عند الإنسان أن يحس أنه حي. ومهما قيل عن الموتى والذين لم يولدوا، وعما يعرفون، فإنهم لا يعرفون الجمال الذي نعرفه عن الحي بحياة اللحم. وللموتى أن يعرفوا ما وراء الدنيا. ولكن هذه الجلالة التي نعرفها عن الحياة والجسم، إنما نحن الذين نعرفها، ونعرفها لمدة معينة. ويجب علينا إذن أن نرقص طربا لأننا نحيا ونلتئم في جسم الكون؛ لأني أنا جزء من الشمس، كما أن عيني جزء مني. وقدماي تعرفان أني جزء من الأرض. كما أن دمي جزء من ماء البحر. وكذلك نفسي تعرف أني جزء من البشر، وأنها هي عضو حي في النفس البشرية الكبرى، كما أن روحي هو جزء من أمتي. وفي أعماق نفسي أنا جزء من أسرتي. وليس عندي شيء مستقل مطلق سوى عقلي. ولكن ليس للعقل كيان في ذاته؛ إذ هو لا يختلف من لمعة الشمس على سطح المياه.
وانفرادي إذن هو وهم؛ لأني جزء من هذا الكل العظيم الذي لن أستطيع الفكاك منه. ولكن يمكنني أن أنكر صلتي به حتى أعود وكأني شظية منفصلة ، وعندئذ أشقى. ونحن نحتاج إلى أن نحطم الصلات الكاذبة التي تربطنا بغير الأحياء، وخاصة تلك الصلات التي تربطنا بالمال، ونعيد الصلات الحيوية بيننا وبين الكون، بالشمس، والأرض، والناس والأسرة. ولنبدأ بالشمس، وعندئذ نسير في بطء نحو الصلات الأخرى.
وإذا دعا كاتب إنجليزي إلى الشمس فإنما يدعو إلى الطبيعة؛ لأن الشمس عنده خلاء وريف وهجرة من المدن وعيش ساذج بعيد عن تكلف الحضارة.
ولكن «لورنس» يستهجن عند خصومه لأنه يدمن الكلام عن اللذة الجنسية. وهو قد انغمس في الثقافة الجديدة، وعرف شيئا كثيرا عن العقل الكامن، وألف فيه. وهذه الثقافة الجديدة التي تعزى إلى «فرويد» تنظر للذة الجنسية كأنها المحور للنشاط الإنساني. وهي تدعو إلى الصراحة في جميع مسائل الجنس أو شهوات الرجل والمرأة؛ لأنها عرفت أن أكثر من ثلاثة أرباع المجانين في المارستان يرجع جنونهم إلى قمع هذه الشهوات والخوف من التصريح بها. ولذلك لا يبالي «لورنس» أن يصف لك الجمال في جسم المرأة وصفا يجعل الحكومة الإنجليزية تمنع قصصه من التداول. ثم هو لا يعبث أو يلهو بالكلام عن هذا الموضوع؛ إذ يكفي القارئ أن يعرف أنه يتفق ودعوته إلى التمتع بالعيش. وهو يقول إننا نقمع في أنفسنا الشهوة الجنسية، أو نخاف الكلام عنها، حتى ليقف الجنسان وكأن كلا منهما عدو للآخر، فهو إما متوجس وإما قامع. وهنا يقول:
عليك أن تقبل وجودك الجنسي الجسمي ووجود كل حي آخر فلا تخافه ولا تخف وظائفك الطبيعية ... فإن خوفك هو الذي يقطع بينك وبين أقرب الناس إليك وأعزهم عليك. ومتى قطع الناس ما بينهم عادوا متوحشين قساة متهجمين، فاهزم الخوف من الجنس الآخر وأعد للطبيعة مجراها.
وليس من حقنا أن نطالبه بنظام وقواعد، فإنه داعية ينبه ويوقظ، وعلى غيره يجب أن يقع عبء التنظيم ووضع القواعد.
جيمس جويس
كان يقال مدة الحرب وعقبها (في 1919) أنه ما من إنسان رأى هذه الحرب إلا وقد صار غير ما كان قبلها. وهذا القول يصح على الذين درسوا «فرويد»، فإنه ما من إنسان درس العقل الكامن، ووقف على خفاياه وترهاته وأمانيه، إلا وصار غير ما كان قبل أن يدرسه، لأنه سيجد أننا في حديثنا الذاتي وأحلام اليقظة والنوم، نلتفت إلى العلاقات الجنسية ونتخيل تفاصيلها بأكثر مما يجب أن يعرف الناس عنا. وجميع الأدباء الذين درسوا «سيكولوجية الأعماق» التي كشف عنها «فرويد» قد أعطوا الشئون الجنسية حظا كبيرا في قصصهم.
وهذا أحدهم «جيمس جويس» قد ابتدع طريقة جديدة في القصص لأنه جعل موضوعه درس خفايا النفس معتمدا على السيكولوجية الحديثة، فهو في قصة «أوليس» لا ينقل إليك ما يقوله أشخاص القصة، بل يصف لك خواطرهم. وهو يصفها بإخلاص، لا يهمل الشيء لأنه مستكره، ولا يسهب في الآخر لأنه محبوب. وقد قال هو عن الفن أنه يجب أن يكون حرا بعيدا عما نكره وعما نحب. وكأنه يصف العلم بهذا القول.
Bilinmeyen sayfa