ولكن حرية التجارة تبعث على المزاحمة التجارية والسعي للاستيلاء على أسواق العالم. وقد حاربت بريطانيا الصين كي تجبرها على شراء الأفيون الهندي، مع أن الصين كانت قد منعت الاتجار به. والسبب الأساسي للحرب الكبرى هو هذا السباق إلى أسواق العالم بين بريطانيا وألمانيا. والأساطيل لا يقصد منها حماية الوطن، وإنما يقصد منها حماية التجارة الخارجية. وأكبر أمة تعتمد على التجارة الخارجية هي بريطانيا؛ ولذلك كانت أيضا صاحبة أكبر الأساطيل.
ه. ج. ولز
في 1946 مات «ولز» وهو في التاسعة والسبعين. وقد كتبت عقب موته هذا الفصل التالي في مجلة «الكاتب المصري» ورأيت إثباته هنا:
كان «ه. ج. ولز» أديبا علميا يكتب باللغة الإنجليزية. ولكنه كان آخر من يرضى بأن يصف نفسه بأنه إنجليزي في قوميته، فقد كان يكافح القوميات ويصف العالم بأنه «قريتنا الكبرى» وقد كتب كثيرا لهذه الدعوة العالمية التي نسير إلى تحقيقها على الرغم من الدعوات الانفصالية التي يزدحم بها عالمنا الحاضر من أثر العقائد الدينية والوطنيات واللغات والمذاهب والإمبراطوريات.
وربما ننسى أشياء كثيرة من «ولز» في المستقبل. ولكن ليس شك في أننا سنذكر بأنه الأب الروحي للعالم الجديد المتحد، وبأنه أول من عمد إلى وضع التفاصيل لحكومة عالمية ولغة عالمية وموسوعات عالمية، بل أيضا لوضع النصوص والشروط التي يستطيع أن يعيش بها أبناء هذا العالم وهم آمنون من استبداد الحاكمين والأولياء حتى الآباء.
وإذا شئنا أن نعين الطراز الذي ينتسب إليه «ولز» وجدناه أقرب إلى رجال النهضة الأوروبية (من 1400 إلى 1650) منه إلى عصرنا، فهو من طراز «دافنشي» الرسام الجيولوجي البشري المستقبلي. والاختلاف بينهما بسيط، لأن الأول استعمل الريشة، والثاني استعمل القلم، ولكن كليهما عرف قيمة العلم ، وكان على وجدان بمغزاه في مستقبل البشر وعلى تفاؤل بهذا المستقبل.
وقد روي عن «دافنشي» أنه حين مات حطت على رأسه حمامة، فكانت رمزا لطيران الإنسان، هذه الأمنية التي فكر فيها هذا المفكر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكذلك مات «ولز» وهو يرى بعينيه في العام الأخير من حياته هذا الكشف العالمي، كدت أقول الكوني العظيم: الطاقة الذرية، تخدم الإنسان. وصحيح أن هذه الخدمة كانت للشر والدمار، ولكن ماذا في هذا؟
أجل، لقد اهتز «ولز» من هذا الكشف، بل تزعزع وتكلم في تشاؤم. ولكن ما كان أحراه لو أنه عاش سنوات بعد هذا الكشف أن ينهض ويكافح، وفق سيرته الماضية، لاستخدام هذا العلم الجديد في خدمة الإنسان. ولا بد أنه كان يظفر، فقد سبق أن حدثنا في خيال علمي، بديع، مرعب، عن غارة أبناء أحد الكواكب البعيدة على أرضنا، وكيف استولوا في أيام قليلة على الأرض والبحر والسهل، وكيف شرعوا يربوننا كما نربي نحن الأرانب، فإذا جاعوا مصوا دماءنا، ثم كيف نجونا منهم بالميكروبات، هذه الميكروبات التي يزخر بها عالمنا وقد تعودتها أجسامنا، ولكن أجسام هؤلاء الغرباء لم تتعودها؛ ولذلك تعفنوا وهلكوا.
وجاءت الطاقة الذرية في العام الأخير من حياة «ولز» ترمز إلى هذا الخيال، كما حطت الحمامة على رأس دافنشي ترمز إلى صعود الإنسان إلى السماء. وقد تحققت الرؤية الأولى؛ رؤيا «دافنشي» فهل تتحقق رؤيا «ولز» في استعمار الكواكب؟
وهذا الطراز الجديد من الأدباء يتكاثر في أيامنا. أجل، أولئك الأدباء العلميون الموسوعيون الذين عرفوا القوة التحريرية في العلم؛ أي تلك القوة التي تحرر الناس من الكد وتبسط لهم آفاقا في الحياة الطويلة العريضة، حين يكد لنا الحديد والكهرباء والذرة، ولا يكون لنا بعد ذلك من هم واهتمام سوى الاستمتاع بالدراسة والكشف والاختراع والوقوف على أسرار الطبيعة. ولو أن «ولز» عاش أيام النهضة الأوروبية حوالي 1500، لكان واحدا من رجال النهضة لأنه كان يدعو في حماسة إلى «البشرية» وكان يكافح «الغيبية». وقد تغير معنى «البشرية» من أيام النهضة لأيامنا. كانت قبلا دعوة إلى قراءة مؤلفات الإغريق والرومان القدماء. أما الآن فهي في معناها الأمريكي الأوروبي دعوة إلى مقاطعة الغيبيات.
Bilinmeyen sayfa