وهنا استراحت باكيتا هنيهة، ثم عادت إلى الحديث، فقالت: لا بد لي قبل الخوض في تتمة الحديث أن أذكر لكم ما كان بيني وبين فيلكس في خلال هذه الأعوام التي مرت بنا، فقد كان يدعوني أخته العزيزة، ولم نكن نفترق لحظة، فإذا خلونا عطف علي دون كلفة، وقبلني بلهف وحنو، فلم أكن أدري أكان ذلك منه حب إخاء أم حب غرام، غير أن رفاقنا الممثلين رأوه مرات ينظر إلي ساهما نظرات غرام، لا تخفى على أحد من الناقدين، حتى إن مدير الجوق قال له مرة وقد رآه ينظر إلي هذه النظرات: أسرع يا بني بالنمو والكد إذا أردت أن تصير باكيتا امرأتك.
فاحمر وجهه خجلا، وبلغ منه الحياء أنه لم يعد يقبلني حين نختلي، غير أنه كان حين نفرغ من التمثيل يجلس إلي، فيروي لي حكاية الكلب الأسود وصاحبه، وكل ما كان يرويه حنا البستاني في ساعات جنونه، وينتهي من ذلك إلى قوله: إني ما خلقت لأكون سعيدا.
وقد عارضته مرارا في استنتاجه هذا، فكان يقول لي: كلا، فإني لا أنسى يوم ماتت أمي، ولم يكن لي من العمر غير خمسة أعوام، فدخل إليها أبي وهي على فراش النزع، فقال لها: إني عائد الآن من الكنيسة، وقد نذرت إلى الله إذا شفاك أن أرد الغلام إلى أهله ... لا تنظري إلي هذه النظرات، فما أنا بمجنون كما يتوهمون، ولكن وخز الضمير يكاد يفقدني صوابي، فاعلمي الحقيقة يا امرأتي العزيزة، وهي أن هذا الغلام الذي تحبينه وتحسبينه ولدك إنما هو ابن الكونت، عرفته يوم جاءنا صاحب الكلب الأسود، ووضعته مكان ولدنا الميت شفقة وإشفاقا عليك، فلم تجبه أمي بكلمة لاعتقادها أن ذلك هذيان مجنون، وضمتني إلى صدرها، فما أفلتتني حتى فاضت روحها، فلما رأى أنها ماتت غضب غضبا شديدا، واختطفني من يدها وهو يقول : أنت السبب في كل نكبتنا، ثم طرحني بعنف إلى الأرض فأغمي علي، فلما استفقت وجدت المنزل غاصا بالناس، وقد أناروا شمعة عند سرير أمي الميتة، وأخذ أبي يغني، فقد بلغ به الجنون أبعد مراميه، ومن ذلك العهد بدأ يضربني، ويتهمني تهما غريبة، على أني بت أعتقد اعتقادا راسخا أن حكاية هذا المجنون صادقة، وأني ابن الكونت فعلا، ولكن كيف السبيل إلى إثبات ذلك؟ وا أسفاه!
وكنت أرى في شعره خصلة وخطها الشيب، وقد سألته مرة عنها فقال: كذا خلقت، فقلت: إن هذه الخصلة البيضاء في شعرك ستثبت نسبك، فإنها تكون عادة إرثا في العائلات، فأطرق برأسه ولم يجب، فطوقت عنقه بذراعي وقبلته، فارتعد ثم جعل ينظر إلي ويبكي.
فقال واحد من الحاضرين: أراك نسيت يا باكيتا ذلك الرجل الذي دخل بعد انتهائك من الغناء ليلقاك بين الكواليس.
قالت: كلا، لم أنسه، وإليكم حكايته فاسمعوها. فإنه حين دخل سألته عما يريد فقال لي: لقد أعجبني صوتك، فهل تعلمت فن الغناء على يد أساتذة؟ قلت: كلا! قال: إذن فاعلمي أني غني، ولي اتصال بأحد المراسح الكبرى، فإذا شئت دفعتك إلى موسيقي ماهر تتعلمي عنه الغناء على أصوله، ثم أدخلك ذلك المرسح براتب ألفي دينار في العام، ونحن نكون من الرابحين.
فدهشت لقوله ولفداحة هذا المبلغ الذي لم يكن يخطر لي في بال، حتى حسبته هازئا فقلت له: ولكني لا أريد أن أتخلى عن هذا الجوق الذي ربيت فيه، فقد بات أصحابه بمنزلة أهلي، وأنا قوام هذا الجوق.
قال: حاشاي أن أسيء إليهم! فسأعوضهم عنك بمبلغ مناسب يكون لهم ثروة، وسأترك لك رقعة زيارتي وعنواني، وأنا موقن أنك ستزورينني وسنتفق، وكان يكلمني وقبعته في يده، ففيما أنا أنظر إليه منذهلة من اقتراحه، رأيت في رأسه خصلة بيضاء من الشعر تشبه تلك الخصلة التي في رأس «فيلكس» شبها عجيبا، حتى كأنها هي، فكدت أصيح لانذهالي، ثم ترك لي رقعة زيارته وانصرف، فلم أنتبه له لشدة ذهولي، ثم قرأت الرقعة بعد انصرافه فكان مكتوبا عليها :
البارون دي نيڤيل، شارع ميرمونستيل، رقم 13.
ولم أخبر فيلكس بشيء من ذلك غير أني لم أنم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي سألته عن اسم القرية التي ولد فيها، فقال لي: اسمها سانت چرمين.
Bilinmeyen sayfa