فقال صالح: «لا تفيدك معرفة اسمي ولا مكاني. دعني أنصرف الآن وسآتيك عند الحاجة، وربما جئت عاجلا؛ لأني أشعر بظلمة تحدق بخلافتك إذا انقشعت ظهرت الحقيقة. أما الآن فإني منصرف.» قال ذلك ونادى غلامه، فقال المنصور: «إذا كنت مصمما على الذهاب فأستودعك الله.» وخرج.
الفصل الرابع والستون
اقتل ثم اقتل
وكان صالح لما علم بعزم أبي العباس وإخوته على الذهاب إلى أبي سلمة أحب أن يستعجل إليه؛ ليخبره بما كان فيدبر حيلة لإتمام ما ينويانه على آل العباس، فأصلح لحيته وبدل ثيابه، فرجع إلى حاله الأول، وأمر خادمه سليمان أن يهيئ الجملين، وأغلق باب الحجرة على نفسه، ومكث يدبر بعض الأشياء، فلما فرغ سليمان من إعداد الجملين ذهب إلى صاحب الخان، فدفع إليه أجرة الحجرة وثمن العلف، ولبث ينتظر خروج صالح وهو منذهل من دهائه واحتياله حتى أصبح لا يجرؤ على مخاطبته، فطال انتظاره وقد أمسى المساء وهو لا يعلم ما يعمله مولاه داخل الحجرة، ثم خشي أن يكون احتباسه لسوء أصابه، فتقدم نحو الحجرة وهو يخطو خطوا خفيفا، ويتطاول بعنقه، ويصيخ بأذنيه؛ لعله يسمع حركة أو صوتا يستدل به على شيء، فوصل إلى الباب فرأى من بعض شقوقه نورا ضعيفا، ولكنه لم يسمع صوتا فوقف يتسمع وهو يتردد بين أن يقرع الباب أو ينتظر وهو صامت، فإذا هو بالنور قد انطفأ، وسمع وقع أقدام فعلم أن صالحا خارج، ثم ما لبث أن رأى الباب قد فتح وأطل منه رجل طويل القامة، حاسر الرأس، حافي القدمين، عاري الزندين، وقد تجعد شعر رأسه ولحيته، وتلبد من الوسخ والإهمال، وعليه قميص طويل يكسوه إلى الركبة، والقذارة ظاهرة على كل شيء فيه، فبغت سليمان لأول وهلة، ثم تذكر أنه رآه في هذه الصورة منذ بضعة أيام.
أما صالح فإنه أسرع إلى عباءته والتف بها، وغطى رأسه ولحيته، وأشار إلى سليمان فخرج معه إلى الجملين، فركبا وخرجا من الخان حتى أمسيا خارج المحلة وهما صامتان لا ينطق أحدهما بكلمة، ثم قال صالح: «يا سليمان، أتعلم إلى أين نحن ذاهبان؟»
قال سليمان: «أظننا ذاهبين إلى دمشق.»
قال صالح: «نعم، إننا ذاهبان إليها كالمرة الماضية، فتبقى أنت في انتظاري خارج المدينة ريثما أعود إليك.»
فقال سليمان: «سمعا وطاعة.»
وساقا الجملين طول ذلك الليل واليوم التالي وما بعده من غير أن يستريحا إلا قليلا، وما زالا حتى اخترقا الغوطة وأشرفا على دمشق نحو الغروب، فإذا بغبار يتطاير قرب باب المدينة فوقفا، وقال صالح: «أسرع يا سليمان وأتني بخبر هذا الغبار؛ فإني في انتظارك هنا، واحذر أن يعلم أحد بحقيقة حالنا.»
فهز سليمان رأسه استنكارا لذلك التحذير، واتجه بجمله نحو المدينة. وظل صالح في انتظاره وهو على جمله، وقد التف بالعباءة. ولم تمض برهة حتى رآه عائدا، فلما أقبل عليه قال: «ماذا رأيت؟»
Bilinmeyen sayfa