وكان على رأس الخلافة في عصر روايتنا هذه مروان بن محمد؛ وهو من أحسن الخلفاء، وأكثرهم حمية وحزما وغيرة على الإصلاح، ولكنه جاء متأخرا وقد تمكن الفساد من جسم الدولة الأموية، وتغلغل الفساد إلى أعضائها الحيوية، حتى انقسمت على نفسها، وقام من بني أمية غير واحد ادعوا الخلافة لأنفسهم، فتمكن مروان ببسالته وعقله من التغلب عليهم. وكان الخلفاء الذين تقدموه قد انغمسوا في الترف واللهو، وأكثرهم شربوا الخمر واستكثروا من النساء. فلما تولى مروان الخلافة ورأى حالها من الاضطراب عزم على الحزم والتعفف، فحرم الخمر على مجالسه، وابتعد عن النساء،
1
واهتم بشئونه اهتمام الرجال.
ولكن ذلك لم ينفعه شيئا؛ لأن الدعوة العباسية كانت قد استفحلت في أيامه، ورسخت أقدامها في خراسان، وانتشر دعاتها في أنحاء فارس والعراق، فارتبك في أمره وبذل غاية جهده في دفع أعدائه، وكانت ثقته بنصر بن سيار عظيمة. ونصر شيخ جليل بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وقد حنكته الأيام، وفي طبعه ميل إلى الإصلاح. فألقى إليه مقاليد خراسان، وأوصاه بحمايتها وحفظها من الشيعة، ولم يكن يخطر له الخوف عليها؛ لعلمه بقلة الشيعة وتسترهم، حتى جاءه الخبر بسقوط مرو وفرار نصر بن سيار منها بأهله وأولاده، فأسقط في يده، وأيقن بخروج خراسان وما وراءها من سلطانه، وأصبح خائفا على سائر مملكته.
وكان مروان في تلك السنة قد بلغ الثالثة والستين من عمره، وأمه كردية الأصل. وذلك نادر في الخلفاء على عهد بني أمية؛ لمحافظتهم على العصبية العربية، خلافا لما صارت إليه الحال في أيام بني العباس، فإن معظم خلفائهم من الهجناء. والهجين أبوه عربي وأمه غير عربية. وكان مروان قوي البدن شجاعا، فلقبوه بالحمار. وكان ربع القامة، أبيض اللون ، أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها،
2
وشيبه أكبر من سنه؛ لهول ما لاقاه من الأمور العظام، وبخاصة بعد أن جاءه النبأ بسقوط مرو وفرار نصر، فإنه ما فتئ يجمع رجاله وقواده ويشاورهم في أمره، ويتداول معهم فيما صارت إليه حال الدولة من الاضطراب. وقد أخذ في إعداد الجنود وهم أن ينهض بنفسه؛ لأنه رأى أنه من الحزم ألا يثق بأحد من رجاله في مثل تلك الحال، فكان يقضي نهاره مشاورا، ومعظم ليله مفكرا، وربما مضى الليل وهو يضرب في أرجاء غرفته منفردا عن الأهل والجواري والسراري.
فاتفق في إحدى الليالي وهو ساهر على تلك الصورة وقد جاءه الخبر باستفحال أمر الشيعة، أن جاءه الحاجب مهرولا، فظنه جاءه برسول أو رسالة. وكان من عادتهم ألا يردوا عن باب الخليفة صاحب خبر في أية ساعة جاء، ولو في نصف الليل أو بعده. فلما دخل الحاجب على مروان صاح فيه: «ما وراءك؟»
قال: «إن بالباب رجلا غريب الشكل يطلب أن يخاطب أمير المؤمنين.»
قال مروان: «لعله صاحب خبر، أو رسول، أو من هو؟»
Bilinmeyen sayfa