بهذا الجواب المفحم الحاسم أجابت مصر إنكلترا بلسان واحد، وصوت واحد - علت من نبراته صيحة الإنسانية المتألمة، وتأججت في هزاته جمرة الوطنية المحتدمة، وما أعظم صوت الأمم والشعوب وما أقواه وما أقهر سلطانه وما أشد وقعه! ألم تر إلى صرخة الشعب الواجد الغضبان كيف تصم أذن الظالم وتقرع حبة فؤاده، بل كيف تكاد تشل خلجات روحه، وتكاد تحرق زهرة الحياة في مغارس نفسه ووجدانه؟!
قال توماس كارليل في كتابه «الثورة الفرنسية»: «ما أجل صوت الجماعات وما أخطره! صوت غرائزهم التي هي أصدق من خواطرهم وأفكارهم، أما إن هذا الصوت لأجل وأخطر ما يصادفه الإنسان بين تلك الأصوات والأشباح التي يتكون منها هذا العالم الزمني؟! فكل من يجرأ على منافضة هذا الصوت ومقاومته فقد خرج بنفسه عن دائرة الزمان، وعن حدود نواميسه وشرائعه.»
أعلنت الأمة المقاطعة، وأعلنت وجوب الإضراب عن تأليف الوزارة تأييدا لمبدأ عدم الاشتراك مع الإنكليز في حكم البلاد وإدارة شئونها؛ إذ كان في ذلك الاشتراك دليل على الرضى بما يسومنا الإنكليز من خطة الذل والخسف والهوان. أعلنت ذلك الأمة المصرية، وتمسكت به أشد تمسك، ولم تسمح لنفسها فيه بهوادة ولا لين ولا تساهل، وحصنت نفسها بأمنع دروع الإصرار والتصميم والإباء والمعاندة، وتمسكت إنكلترا من الجهة الأخرى بخطتها أشد تمسك، وأظهرت أن مشروعها الأخير هو القضاء الفصل، والحكم النهائي الذي لا يقبل تغييرا ولا تبديلا ولا نقضا ولا إبراما. وكذلك انفرجت مسافة الخلاف بين الطرفين واستحكمت حلقاته، وبلغت المشادة والمعاندة أقصاها، وأظلم ما بين الأمتين، وجف بينهما الثرى، وعظم الخطب، واستفحل الداء.
وهنا دخلت الأمة المصرية في أصعب أدوار حركتها الجهادية، وأشد أزماتها، وأفظع ساعاتها؛ ذلك الدور الذي سميناه في بدء كلامنا عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث خيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص، وأن متن الرجاء قد انبتر، وظهر السعي قد انحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وقد سجل على الأمة الكريمة حكم الشقاء في صحيفة الأبد.
هنا جاء على الأمة المصرية أشنع أدوار حركتها الجهادية، واسود الأفق وحجبت نور السماء سحائب النحس، فماذا نصنع؟ وكيف نواجه هذا الكارث؟ وكيف نعد العدد، ونجهز آلات الدفاع، ونشحذ سلاح الهجوم؟ وأي عدد لدينا، وأي آلات، وأي أسلحة؟ دروع الصبر والجلد، وسلاح السكينة، وعدة الأمل والرجاء، ونعم الدروع والآلات والأسلحة، «لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا معاذ الله، وقد أوضحت آنفا أن استبداد الظالم أكذوبة، وأنه كسائر الأكاذيب مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالإعدام في النهاية، وأن صوت الأمة المظلومة أقوى صوت في العالم، وأن مآل الحق أن يتغلب على الباطل، وأن الأمل ميراث الإنسان وذخيرته، وأن الدنيا اسمها دار الأمل.» أجل، لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا، ولكني أقول: إن هذه الأسلحة السلبية إن أحرزت النصر والظفر لم يجئ ذلك إلا بطيئا، وليس النصر البطيء بأحسن أنواع النصر، وليس الفرح بالمتاع الآجل البعيد - الذي قد لا تمني نفسك بأن تراه لا أنت ولا أعقابك ولا أعقاب أعقابك - كالفرح بالمتاع الذي يزف إليك عاجلا، تلبس جميل زينته، وترشف عذب ريقته.
أقول: لا مشاحة في أن ذلك الدور كان أشنع أدوار قضيتنا، وتلك الساعة كانت أسود ساعات حركتنا. وحق لنا إذ ذاك أن نحار ونبهت وأن نأسى ونحزن، وحق لنا أن ندور بأعيننا بين أبناء أمتنا المجيدة فنفتش في نخبة رجالها وصفوة أبطالها عن رجل نرمي به هذا الحادث الجسيم، وننقب عن بطل نصدم به هذا الكارث العظيم.
إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع الإنساني وعلله تخلق أيضا أدوية هذه العلل والأدواء، والطبيعة التي توجد آفات الحياة الإنسانية توجد أيضا وسائل إبادة هذه الآفات؛ وذلك لأن الطبيعة أساسها العدل، وروحها النظام، وغايتها الصلاح والنمو الحسن والرقي. فإن هي خلقت الأدواء والعلل والآفات فلم تقصد بذلك إلى الفساد والخراب ولا إلى الفشل والفوضى (وإن ظهرت تلك العلل والآفات في دورها الأول بمظهر الفساد والفوضى) ولكنها تقصد إلى الصلاح والنظام والرقي في النهاية، وإنما هذه العلل والآفات - مع ضررها المؤقت وشرها الزائل - عمليات ضرورية لا بد للمجتمع من اجتيازها في طريق نموه ورقيه - هلا نظرت إلى أوراق الشجر وأجزاء النبات حين تعصف بها الرياح الهوج فتسقط وتذبل، ثم تعفن وتبلى وتنحل؛ فيخيل إليك أنها فسدت وماتت - ولا موت ولا فساد في الطبيعة - ولكن هذا الذي يخيل إليك بلى وفسادا إنما هو عملية انتقال من حال إلى أحسن منها، فلا تلبث هذه المواد النباتية أن تستعيد حياتها وتجدد بهجتها، وقد تستحيل بعد عدة من هذه العمليات الأليمة المحزنة في ظاهرها إلى صنف أجود وأحسن، سنة التحسن والتقدم وقانون النشوء والارتقاء الذي هو روح الطبيعة وعملها وغايتها.
نقول: إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع تخلق أيضا أدوية هذه الأدواء، والطبيعة التي توجد آفات الإنسانية توجد أيضا مهلكات هذه الآفات. وإذا اشتد الجدب صاب الغيث، وإذا أربد الغيم بدده شعاع الشمس، وإذا تكاثرت المصائب على أشخاص المأساة الأبرياء فوق المسرح وتكاثفت الأرزاء، وأخذ الموت بالكظم وبلغت الروح التراقي - ظهر على المسرح من حيث لا يرجى ولا ينتظر بطل الرواية؛ فغير مجرى الحوادث وحول منهج الكوارث؛ فجلى دجى الخطب، وأشرق على الأبرياء بنور الصفو والخير والسعادة.
وكذلك لما ادلهمت مأساة السياسة على مسرح الحياة المصرية، وانتهت هذه المأساة بفضل المذكرة الإيضاحية إلى أزمة الأزمات وعقدة العقد - كما أسلفنا - وعظم الكرب واستفحل الداء؛ ظهر على المسرح لإبادة الشقاء وإسداء الخير والصفاء، بطل الرواية المصرية الحالية؛ عبد الخالق ثروت باشا.
إن العناية الأزلية لما بصرت بتناهي البلاء في هذا البلد الأمين، وبلوغ الشقاء والكرب أقصاه نثرت كنانتها بين يديها، ثم فتشت عيدانها فوجدت ثروت أمرها عودا، وأصلبها معجما فرمت به الحادث الجلل والمحنة النكراء.
Bilinmeyen sayfa