وكذلك ثروت باشا رجل الجد والحد والقوة والمتانة والوقار والرزانة والعزم والصرامة، لا يخلو مع ذلك من رقة الظرف وحلاوة الإيناس وطرف الفكاهة والدعابة. فيا له من جوهرة كريمة، أبدى الله صفحتها، وجلا بهاءها وبهجتها، على حين قد أقفر العصر من الجواهر الغوالي، وصفرت الأيدي من كرائم اللآلي. فحبذا تلك من جوهرة جمعت بين الرونق والمتانة، والسنا الوهاج والرصانة، كالصخرة المنطوية على ينابع الكرم والسخاء، وأشعة الفطنة والذكاء، وجمرات العزم والمضاء.
ومن أركان مناقب ثروت أيضا: الثقة بالنفس والاعتزاز بالرأي والنفاذ والصرامة، فهو يمضي في تنفيذ إرادته مضاء النجم الثاقب، متحملا مسئولية أعماله وتبعتها، مقتحما ما يعترضه مما يراه هو اعتراضا باطلا واعتبارا كاذبا، غير مبال بما يصوب إليه من سهام الملام والتفنيد وقوارص العذل والتقريع، اغتباطا بما يعتقد أنه سيكون من صالح النتائج ومحمود العواقب، مما يراه هو ببصره النافذ ورويته البصيرة، وإن خفي على غيره من الأشخاص المعتادين ممن لم تمنحهم الطبيعة ما ميزته هو به من الذكاء والفطنة والدهاء. فلا عجب إذا كان ثروت باشا - كغيره من الأبطال والفحول - يتبين فيما يأتي ويذر، وفيما يحل ويعقد من سر الحكمة ووجه الصواب ما ليس يظهر لسواه من الناس؛ إذ كان كل قائد يظل أعرف بخطته من سائر الجنود، وأبصر بما ينتهج لهم من مناهج السعي والعمل وسبل الغزو والجهاد. فبرنامج العمل المرقوم في ذهنه، وخريطة الزحف المرسومة على صفحات قلبه، إنما يقرؤها ويفهمها هو وحده من دونهم، وهو وحده المسئول عن العاقبة والنتيجة. فلينتقدوا وليعارضوا ما شاءوا، فما اعتراضهم ونقدهم إلا سحابة صيف لن تلبث أن تزول متى طلعت من ورائها شموس نتائج أعماله مشرقة بلجاء؛ وإذ ذاك يعلم أقوام أن مذهب الوزير كان الحق الصراح، وخطته الصدق المبين، وكان عمله منزها عن الأغراض والأهواء، بريئا من شوائب الأنانية، بل هادما لعوامل الأنانية ماحقا لعناصرها، مشبعا بعواطف الوطنية والإخلاص والتضحية.
ونحن إذا آنسنا في أخلاق ثروت باشا خلة الثقة بالنفس، والاعتزاز بالرأي، فقد ما آنس الناس ذلك في كل بطل وقائد، وهل كان الاعتزاز بالنفس إلا شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل، المترفعة عن مراعاة أكاذيب التقاليد والاصطلاحات وأباطيل السنن والاعتبارات، الآخذة بالجد والإقدام والإصرار والمثابرة بعزيمة لا تهن ولا تكل، وصريمة لا تثلم ولا تفل، المستهزئة بأكاذيب الآراء والعقائد. فصاحب مثل هذه النفس الكبيرة الشماء ينطلق إلى غايته انطلاق الكوكب المشبوب، مسترسلا في سننه طربا على نغمات موسيقى روحه العظيمة الجياشة الصداحة، ولو ثارت من حوله الزوابع، وضجت المعامع، وصخبت الزعازع، وهبت العواصف، وزمجرت القواصف، وكاد الكون أن يتحطم فيتهدم. هذه - وأبيك - البطولة في أنصع مجاليها وأبعد مراميها، وهي وإن راعت بعض القوم وأخافتهم - لعجزهم عن سبر أغوارها وإدراك أسرارها - فالواجب على الجميع أن يوفوها حقها من الإجلال والإكبار، إذا كانت قد حفت من شواهد الجلال، وآيات السمو والعظمة بما ينبغي أن يثير عواطف الإعجاب والإكبار في نفس كل شريف، بل في نفس كل من علق بنفسه أدنى أثر من عناصر الشرف والكرم والمروءة - فيملؤه عجبا وطربا من جلائل أعمال ذلك البطل (وإن قصر ذهنه عن تمام إدراكها) ثم يلهمه شيئا من الصبر والتأني انتظارا وترقبا لما سيكون من نتائج فعاله وعواقب أعماله - وحسبه أثناء ذلك أن يحمل نفسه على الاعتقاد بأن أفعال مثل هذا الرجل القوي، إنما هي أفعال المولى جل شأنه يأتيها على يد عبد من عباده. فقبيح بأي مخلوق أن يتسرع إليها باللوم والطعن والهجاء، وذميم أن يعجل إلى منفذها بالشر والشغب والمناوأة، أو يعترضه في سبيله الخشن الصعب بالعرقلة والتعطيل والمقاومة. فحسبه بخشونة مركبه ووعورة مسلكه، وإنه يبيت ساهر العين من أجل عيون ملء أجفانها الرقاد، وينصب متعب الجسد من أجل أحساد تتقلب على ألين مهاد، ويتجرع غصص الألم في سبيل أقوام يرشفون أقداح المسرات والنعم، ويخترط أشواك المضض من شجر الكد والعناء لمصلحة من يقطفون ثمار الراحة من أفنان الدعة والصفاء.
إن الرجل العظيم يعمل عمله مدفوعا إليه بدافع وجداني مستسر في خفايا نفسه العميقة العظيمة، فحكمة هذا الدافع الوجداني لا يمكن أن تكون بادية لعيون العامة والجماهير مثلما تبدو وتظهر لصاحبه، بدليل أن كل امرئ يكون أعرف بسريرة وجدانه من غيره، ويكون أبعد نظرا وأقصى مرمى فيما يتعلق بمذهبه الخاص به دون غيره، وبخطته التي هو انتهجها دون سواه.
ولكنا نرى الذين لا يريدون أن يعترفوا للرجل العظيم بشرف مسعاه، وسمو غايته ومرماه - إما لقصر عن إدراك مراميه أو لآفة في نفوسهم - ينكرون عليه بعد همته وحسن نيته، فيتهمونه بالسعي وراء حاجة في نفسه وبغية شخصية أنانية، ومن ثم يحكمون عليه بما لا يليق أن ينسب إلى الفحول والأبطال. أمثال هؤلاء الظالمين الجائرين لا يرون في أبطال العالم - الذين هم بناة ما في العالم من مجد وعظمة، ومشيدو ما فيه من صروح الحضارة والمدنية العالية، والذين هم في الحقيقة أعلام التاريخ وفرائد عقده النظيم المؤلفة منهم سلسلة المدنيات الذهبية - إلا أشرارا آثمين لا فضل لهم ولا خير فيهم، وأنهم لم يأتوا من أعمالهم العظام ما أتوا إلا إرضاء لشهوات أنانية وإشباعا لمطامع شخصية. والواقع أن أولئك الأفاكين المعتدين بالكذب والزور على مقامات العظماء في كل زمان ومكان هم الجناة الآثمون الذين لم يسلم من ألسنتهم بطل ما أيا كان في حاضر الزمن وغابره ؛ فهم زعموا أن الإسكندر الأكبر كان مجنونا مصابا بجنون الغزو والفتح بعلة أنه دوخ بلاد اليونان وأصقاع آسيا، وزعموا أن حب الشهرة والولوع بالصيت كان باعثه الوحيد على فتوحاته العظيمة بدليل أن هذه الفتوحات قد أدت في النهاية إلى الصيت والشهرة. ومثل هذا قاله أولئك الأفاكون عن يولوس قيصر وهانيبال، والسفاح، وتيمورلنك، ومحمد الفاتح، وشارلمان، وشارل الثاني عشر ملك السويد (الذين سموه «مجنون الشمال» إشارة إلى موقع مملكته من أنحاء المعمور) ونابليون بونابرت، وكذلك خيل إليهم أنهم قد استطاعوا أن يثبتوا الجنون على أئمة العالم وقادته وأقطابه، وكأنى بهم قد استنتجوا من ذلك (وإن لم يصرحوا بهذا الاستنتاج) أنهم هم الأكابر والفحول والعظماء - لا نابليون ولا محمد الفاتح ولا عمرو ولا أمثالهم - وأنهم هم أجل وأعظم من هؤلاء الأعلام والأقطاب؛ بدليل أنهم لم يغزو آسيا كالإسكندر، ولم يفتحوا روما كهانيبال، ولم يدوخوا أوروبا كما فعل نابليون، وإنما حصروا كل مجهودهم وهمتهم في أن يأكلوا ويشربوا، ويتركوا غيرهم يأكل ويشرب، وبذلك عاشوا وماتوا سالمين مسلما منهم، آمنين مأمونا من شرهم.
فهؤلاء النقاد الأصاغر أشبه شيء بالبعوض الذي يحاول أن يلدغ بإبرته الضئيلة الواهية المناكب العراض، والأعناق الضخمة من أسود المجتمع وضياغمه، فتكل إبرتهم وتنبري دون أن تنال تلك الليوث بأدنى ضائر، أو هم كما قال الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
هذا البعوض النقاد ما زال يظهر في العالم منذ كان العالم، لم يخل منه عصر من العصور ولا مصر من الأمصار، فنحن نتلو نبأه في إلياذة هوميروس تحت اسم «ثرسيثيس» ذلك المخلوق الحقير الذي لم يكن له هم ولا دأب إلا سب الأمراء والملوك، فكان جزاؤه على الدوام الضرب بالعصي والجلد بالسياط، وأشد عذابا عليه من ذلك شوكة الحسد المضيض وإبرة الحقد الأليم التي قضي عليه أن لا يزال يحملها في جلده، وجمرة الغيظ والحنق التي قيض له أن لا تنفك مدفونة في صميم كبده، وحسبه فشلا وخيبة مع كل ذلك أن تصبح آراؤه الوجيهة الرشيدة ، وانتقاداته السليمة السديدة - يوما ما إن عاجلا أو آجلا - قد ذهبت بعد كل مجهوداته الجسيمة ومحاولاته العظيمة هباء منثورا،
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . •••
Bilinmeyen sayfa