وهنا أقول: إن الذين يذهبون إلى فصل الوطنية عن مظاهر التعقل من الأناة والتؤدة والرفق والهوادة؛ بحجة أن هذه العوامل من شأنها أن تضعف من قوة الوطنية وتكسر من حدتها، فتعوق كثيرا أو قليلا من فرط اندفاعها وشدة انصبابها إلى ما ترمي إليه من شريف غايتها قد فطنوا إلى شيء، وغابت عنهم أشياء؛ لأنهم نظروا إلى الأمر من وجهة واحدة ولم يستوعبوا سائر جهاته، وكذلك النظر الجزئي إلى عظام المسائل جدير أن يضل صاحبه، ويعمي عليه الشيء الكثير من الصواب.
لقد فات هذا الفريق أن الغرائز والعواطف مهما شرفت ونبلت، ومهما كرم غرضها وحسن مقصدها، فإنها إذا لم تجعل تحت رقابة العقل (الذي هو وحده منبع النظام وأساس سلامة الكون) تصبح عرضة للوقوع تحت تأثير آفة الآفات، ومصيبة المصائب، وأدوى أدواء المجتمع، وألد أعداء الإنسانية، أعني داء «الأنانية»، وليس هذا محل الخوض في هذه المسألة الكبرى، وما أظن المجال ينفسح أو يسمح باستقصاء البحث والدخول في الجزئيات والتفاصيل وضرب الأمثال، على أن القارئ إذا ألقى هذا الكتاب برهة، وراض الذهن على فحص هذه النظرية جهد طاقته لم يبخل عليه بالجم العديد من الشواهد والأمثلة المؤيدة لهذه القاعدة العامة - خذ مثلا بسيطا: عاطفة الحب التي هي أنزه العواطف في أصلها وطبيعتها وأشدها تضحية وأبعدها من الأنانية بل أقتلها للأنانية إذا تسربت إليها آفة الأنانية فقدت تلك المزايا الكريمة والمناقب الحميدة، فقدت روح التضحية والنزاهة وروح التفاني في شخص المحبوب فأصبح صاحبها أكثر اهتماما بنفسه منه بمحبوبه، وأشد عشقا لذاته السخيفة السمجة منه لذات معشوقه، وأشغف وأهيم بملاحات جماله ومحاسن دلاله منه بمفاتن الحبيب فكل عنايته واكتراثه لنفسه، وكل عواطفه وشهواته تدور حول محور نفسه، ومن ثم تصبح نفسه «السخيفة السمجة الممقوتة» هي الصنم الذي ينصبه، ويخر له ساجدا، ويريد معشوقته المسكينة على أن تسجد له أيضا. ثم بدلا مما يكون في حالة عاطفة الحب النزيه الطاهر من تلك الفضيلة الأخلاقية الاجتماعية الكبرى؛ أعني روح التضحية السامية القاضية بنسيان العاشق ذاته الضئيلة، واتجاه كل ملكاته وقواه وجهوده نحو خدمة النوع البشري ممثلا في شخص حبيبه وتقديس المجتمع الإنساني مصورا في هيكل معشوقه؛ ترى جميع قواه وملكاته قد انعكست نحو ذاته الممقوتة فيظل يحسب أن نفسه هي الجوهر الوحيد في الوجود، وأن سائر الكائنات أعراض خسيسة، وأن كل ما في الكون من خلائق لم توجد ولم تكن إلا لتسره وتلذه وتسعى في خدمته وتسبح بحمده. لا يحسبن القارئ أن في كلامي هذا شيئا من المبالغة، فلقد رأيت بعيني رأسي كثيرا من هذا الصنف من العشاق، ولا أراني مغاليا إذا قلت إن مثل هذا العاشق لا يعير محبوبته من الاهتمام عشر معشار ما يبذله في سبيل انتقاء «دبوس» أو «بمباغ» أو «حمالة»، أو في سبيل المقارنة والمفاضلة عند اختياره لون ثيابه بين «الكحلي» و«الكريم» و«الكاكي»، ورأيت أن مثل هذا العاشق ينتهي به الأمر إلى خسران محبوبه وخسران الصحب والصديق والخلان، وكلما ازداد جمالا في عين نفسه ازداد قبحا في عيون الغير وكبر مقتا عند الخلق والخالق.
نقول: لقد فات ذلك الفريق أن العواطف والغرائز مهما شرفت ونبلت فإنها عرضة للإصابة بداء الأنانية ما لم تحصن برادع للعقل والرأي، ولما كانت الوطنية - كما بينا آنفا - عاطفة وغريزة فهي بهذا الاعتبار والحكم عرضة لداء الأنانية - لا يقيها من شره سوى العقل الذي هو الدواء القتال للأنانية ولغيرها من العواطف الخبيثة والشهوات الشريرة؛ لأن العقل هو القوة المدبرة المسيطرة على الكون، هو أس النظام ووسيلة الصلاح وعامل الرقي، وهو الدواء المستأصل لجراثيم الفساد والشر والفوضى، وهو سلاح الحق الذي لا يزال ينتصر به في كل مظهر من مظاهر الحياة وفي كل ذرة من ذرات الوجود على جيوش الباطل، ولما كان الباطل والغي والشر والفساد والفوضى لا تزال تتخذ من العواطف والشهوات أثوابا تلبسها وتظهر فيها، وأدوات تستعملها في أغراضها، ومطايا تركبها إلى غاياتها المرذولة. فلسنا نخطئ إذا قلنا إن وظيفة العقل في هذا الوجود هي محاربة الشهوات والعواطف.
لذلك نقول: إن الوطنية باعتبارها غريزة وعاطفة إذا نحيت عن مسقط أشعة العقل قام حولها من ظلمات الأهواء شر بيئة تتكون فيها جراثيم الأنانية المنكرة، وتظهر بمظاهر شتى من التعصب والتشيع والتحزب، وما يستدعيه ذلك من التباغض والتشاحن والتحاقد والتضاغن وحب الانتقام والثأر ولذة التشفي والشماتة.
هذه الحال بالدقة هي التي تسود اليوم في فريق المعارضين المتشائمين، وطنية قوية شديدة لا شك فيها، ولكنها وطنية مرتدية ثياب التعصب والتشيع، مدفوعة بعوامل التحاقد والتضاغن، ساطية بسيف الانتقام والثأر - أعني وطنية مسلحة بكامل عدة الأنانية وأسلحتها، أو بعبارة أبين وأقرب إلى الحقيقة: أنانية مسلحة بسلاح الوطنية.
الآن أحسب القارئ قد أدرك مغزى كلمتي (المتناقضة في ظاهرها المتناسقة في حقيقتها)، حيث أقول للمعارضين إن الوطنية فيكم بالغة أقصى حدها عقب قولي لهم إن أعمالكم لا تتفق مع الوطنية.
الوطنية - كغيرها من الغرائز والعواطف - لا تنهج المنهج القويم المؤدي إلى الغاية المقصودة إلا إذا تسيطر عليها العقل؛ لأنه يعصمها بذلك من أن تنقاد في عنان الأنانية أو تجري وراء الأغراض الشخصية؛ لأن العقل لا يولع إلا بالصدق، ولا يهيم إلا وراء الحقيقة، فهو يهيم أثر الحق متعطشا إليه متلهفا عليه:
كالعين منهومة بالحسن تتبعه
والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب
صبا به مستهاما. أقول كذلك يهيم صاحب العقل في طلب الحق معرضا نفسه لشفار ألسن المعارضين تنهش عرضه، وتفري أديمه، ولكنه يمضي رغم ذلك كالسهم المرسل، والسيل الجارف:
Bilinmeyen sayfa