بمثل هذا المنطق السائغ، وبمثل هذه العبارات السهلة، كان أبراهام يأخذ الطريق على دوجلاس في غير مشقة، وكان الناس يلمسون الصدق في هذه العبارات وأمثالها وهم واثقون من نزاهة غرضه وشرف مقصده.
ويريد أبراهام أن يصور موقف كل من الولايات القديمة والجديدة من الرق، فيصل إلى غايته في وضوح ويسر إذ يقول: «إذا أنا أبصرت ثعبانا قاتلا يزحف في الطريق، فإن أي رجل يقرني على أن أعمد إلى أقرب عصا فأقتله، ولكنني إذا وجدت هذا الثعبان بين أطفالي في سريرهم، فإن المسألة تتخذ وضعا آخر، فإني ربما آذيت أطفالي أكثر مما أوذي الثعبان، وربما عضني ذلك الثعبان. وتختلف المسألة أكثر من ذلك إذا أنا وجدت ذلك الثعبان في سرير جاري، وكنت على اتفاق وثيق مع ذلك الجار ألا أتدخل في شئون أطفاله مهما يكن من أمر، ولكن إذا كان ثمة سرير صنع حديثا وأزمع حمل الأطفال إليه، واقترح في نفس الوقت أن يحمل إليه عدد من الثعابين، فليس في الناس من يرى خلافا في أي الطرق أسلك.»
ويعمد أبراهام إلى تهكمه في عذوبة روح وترفع عن الإساءة وحذر شديد أن يجرح شعور أحد، ومهارة يضيق عنها ذكاء خصمه وتتخلف دونها بديهته، ويذهل عندها مكره. استمع إليه كيف يسفه وسائله ويزيف رأيه، وقد رأى منه أنه أنكر ما سلف أن أقره، قال أبراهام: «أقول إنك خلعت قبعتك، ولكنك تريد أن تكذبني، فتضعها على رأسك وتثبت بذلك أني كاذب، وهذا قصارى ما لك من قوة في هذا الجدل.» ثم انظر إليه كيف يحمل الناس على الضحك بأن يستخرج من إحدى عبارات دوجلاس ما يشبه القانون الرياضي، قال دوجلاس: «إذا كان ثمة عراك بين رجل من البيض وبين زنجي فإني أقف إلى جانب الأبيض، أما إذا كان بين زنجي وتمساح فإني مع الزنجي.» فأجاب أبراهام بقوله: «يستخلص من ذلك أن الأبيض من الزنجي كالزنجي من التمساح، وعلى ذلك فبقدر ما يكون من الحق في معاملة الزنجي للتمساح يكون منه في معاملة الأبيض للزنجي.»
ورأى دوجلاس يعمد إلى المداجاة ويجهد أن يلبس الحق بالباطل، فشبهه بنوع من السمك من خصائصه أن يفرز مادة سوداء كالمداد يضل بها الصيادين؛ فهو لا يفتأ يرسل من العبارات الجوفاء ما يرمي به إلى التعمية وطمس الحقائق، والناس يضحكون مما يقول أبراهام معجبين به مستزيدين منه.
ويتساءل لنكولن ضاحكا ذات مرة: «لماذا لا يجيب القاضي دوجلاس عن الحقائق؟ لو كنت درست علم الهندسة فإنك تتذكر أن إقليدس أثبت بالبرهان أن مجموع زوايا المثل يساوي زاويتين قائمتين، وقد بين إقليدس الخطوات التي توصل بها إلى هذا، فإذا أردت أن تنقض هذه النظرية وأن تبرهن على خطئها، أتفعل ذلك بقولك إن إقليدس كاذب؟» ويضحك الناس فيدعهم لنكولن حتى يسكتوا ثم يقول: «بمثل هذه الطريقة يجيب القاضي دوجلاس عما يجادل فيه.»
ولم يدع أبراهام قولا مما ساقه دوجلاس مساق المبادئ إلا حمل عليه وكشف عما فيه من بهرج، ومن ذلك ما أعلنه دوجلاس في مسألة نبراسكا وسماه مبدأ سيادة الشعب، قال أبراهام: «مبدأ سيادة الشعب معناه حق الشعب أن يتولى حكم نفسه، فهل اخترع القاضي دوجلاس هذا المبدأ، كلا ... فقد اتخذت فكرة سيادة الشعب طريقها إلى النفوس قبل أن يولد صاحب مشروع نبراسكا بعصور، بل قبل أن يطأ كولمبس بقدميه أرض هذه القارة، فإذا لم يكن القاضي دوجلاس هو مخترع ذلك المبدأ، فدعنا نتتبع الأمر لنتبين ماذا اخترع غيره؛ أهو حق المهاجرين إلى كنساس ونبراسكا في أن يحكموا أنفسهم وعددا من الزنوج معهم إذا أرادوا ذلك؟ يظهر في وضوح أن ذلك لم يكن من اختراعه؛ لأن الجنرال كاس أعلن ذلك من قبل أن يفكر دوجلاس في مثله بست سنوات؛ وإذن فماذا اخترع «المارد الصغير»؟ لم يخطر على بال الجنرال كاس أن يسمي اكتشافه بذلك الاسم القديم؛ ألا وهو سيادة الشعب، أجل ... لقد استحى أن يقول إن حق الناس في أن يحكموا الزنوج هو حق الناس في أن يحكموا أنفسهم، وهنا أضع تحت أنظاركم اكتشاف القاضي دوجلاس بكل ما فيه؛ لقد اكتشف أن تربية الرقيق والإكثار منهم في نبراسكا هو سيادة الشعب.»
ورأى أبراهام في هذا الصراع فرصة قلما تتاح له مثلها، فعول ألا يدع في مسألة الرق شيئا غامضا، وأخذ يقلبها على وجوهها في سهولة تستهوي الألباب، تلمس ذلك في قوله هذا عن المتمسكين بالرق، قال: «يظهر لي مبدأ الاستعباد عندهم كما يأتي: ليست العبودية صوابا من جميع الوجوه، وليست كذلك خطأ من جميع الوجوه، وإن من الخير لبعض الناس أن يكونوا عبيدا، وإنهم في هذه الحالة يكونون خاضعين لإرادة الله. حقا ما كان لنا أن نعارض مشيئة الله، ولكن لا تزال ثمة صعوبة في تطبيقها على بعض الحالات الخاصة، فلنفرض مثلا أن شخصا يدعى الدكتور روس الموقر يملك عبدا اسمه سامبو، فإنا نتساءل: هل مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبدا، أم هي أن يطلق سراحه؟ ولن نظفر من الله بإجابة سريعة عن هذا السؤال، ولن نجد في كتابه جوابا لذلك، أو لا نجد في الغالب إلا ما يثير الجدل حول معناه. وليس يفكر أحد أن يسأل سامبو ما رأيه في ذلك، وعلى ذلك يترك الأمر للدكتور روس ليفصل فيه، وبينما يفكر في الأمر تراه يجلس في الظل وعلى يده قفازه يقتات بالخبز الذي يكسبه سامبو تحت الشمس المحرقة، فإذا هو قرر أن مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبدا، فإنه بذلك يحتفظ بمكانه المريح، أما إذا قرر أن مشيئة الله هي أن يصير سامبو حرا، فإن عليه أن يخرج من الظل وينزع قفازه ويكدح من أجل خبزه، فهل يفصل الدكتور روس الموقر في الأمر بما تقضي به النزاهة المطلقة التي لا بد منها في كل فصل حق؟»
وانتهى بعد ثلاثة أشهر ذلك الصراع الذي اشتهر أمره، فكان نصيب لنكولن من المؤيدين مائة وخمسة وعشرين ألفا، ونصيب دوجلاس دون ذلك بأربعة آلاف، ولكن مجلس الولاية كان هو الذي يختار عضو مجلس الشيوخ وفق القانون، وكان بهذا المجلس أربعة وخمسون عضوا من الديمقراطيين وستة وأربعون من الجمهوريين؛ لذلك فاز دوجلاس فصار عضو مجلس الشيوخ، ولقد عد انتصاره في نظر بعض المؤرخين بعد هذا الصراع أعظم انتصار شخصي في تاريخ أمريكا السياسي.
وهكذا يفشل أبراهام مرة أخرى في محاولة الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ، ويحظى دوجلاس دونه بذلك المقعد، ولكن أبراهام على عادته لا يعبأ بهذا الفشل، بل إنه ليستشعر الراحة بينه وبين نفسه أن استطاع أن يسمع هاتيك الألوف صوته، وإنه ليحس أن مبادئه قد أخذت سبيلها إلى قلوب الكثيرين منهم على صورة طالما منى نفسه بها، وأي شيء أحب إليه من ذلك؟ لقد أصبح اسمه على كل لسان، وتسامعت أمريكا كلها باسم أبراهام لنكولن، وصار يعد من رجال وطنه الأفذاذ، وأضاف الناس إلى ألقابه في الشمال لقبا جديدا؛ فقالوا لنكولن قاتل المارد، وطنطنت باسمه الصحف، ومن ذلك ما قالته إيفننج نيويورك بوست: «لم يصل رجل في هذا الجيل إلى الشهرة في قومه بمثل تلك السرعة التي وصل بها لنكولن في هذا الانتخاب.» وكتب إليه شخص يقول: «إن مثلك اليوم كمثل لورد بيرون، الذي أفاق ذات يوم من نومه ليجد نفسه ذائع الصيت. إن الناس يستنبئون عنك بعضهم بعضا. لقد قفزت دفعة واحدة من محام له الصدارة في إلينوى إلى سياسي له الشهرة في قومه.»
أما هو فقد وصف شعوره يومئذ بقوله: «مثلي كمثل الصبي اصطدم إصبع قدمه بشيء آلمه، فكان الألم أشد من أن يصحبه ضحك، وكان الصبي أكبر من أن يبكي.»
Bilinmeyen sayfa