وأحب أبراهام أن يعمل في المحاكم المتجولة، فيقضي أشهرا بعيدا عن المدينة وعن بيته يتبع المحكمة أينما اتجهت؛ إذ كانت المحاكم يومئذ في تلك الأصقاع هي التي تنتقل إلى الناس، وكان سروره عظيما بهذا التجوال؛ فهو ابن الأحراج والغابات والبقاع المترامية، وهو الذي لم يألف الاستقرار في موطن، وإنه ليرى المدينة أضيق في عينه اليوم منها قبل.
على أن شيئا أقوى من ذلك يحبب إليه الابتعاد عن المدينة وعن البيت، وذلك أنه قد ضاق ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق، فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط، وتأخذه بألوان من العنف يوشك أن ينفد لها صبره لولا أنه يعود بالسبب إلى حدة مزاجها، وإن كان ليسأل نفسه أحيانا أهي مغضبة حانقة عليه لما أصابه من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب لمجادلته ومغاضبته، وقد صغر في عينيها وهان لديها شأنه؟ ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها، فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما يعرف من طباعها.
وكم كان حبيبا إلى نفسه أن يركب مع بعض زملائه في عربة، أو يمتطي جوادا ويصحب القضاة والمحامين على جيادهم إلى حيث تعقد جلسات المحكمة، فإذا فرغوا من جهة انتقلوا إلى غيرها ويبقون على هذه الحال أشهرا، فإذا تصادف أن كان أحدهم أو بعضهم على مقربة من موطنه، ذهب ليقضي الراحة الأسبوعية بين أهله وقد غاب عنهم بضعة أسابيع أو أشهر، إلا أبراهام فما كان يذهب إلى بيته مهما كان قربه منه إلا إذا انتهت الدورة القضائية، وكانت تستغرق أحيانا ستة أشهر.
وكان القضاة والمحامون إذا فرغوا من الجلسات يأوون إلى أحد الفنادق القريبة؛ حيث يطعمون وينامون، وكانوا يتحلقون ليالي الآحاد حول أبراهام، وينضم إليهم عدد كبير من الناس فيمتعهم بأحاديثه وقصصه ساعات، وقد اشتهر أمر لياليه تلك؛ حتى لقد كانت تبلغ الحلقة حوله أحيانا مائتين أو ثلاثمائة رجل كلهم معجب بحديثه شديد الإقبال عليه، وهو ينتقل بهم من نادرة إلى نادرة ومن قصة يستخرج منها عبرة إلى أخرى يثير بها الضحك، وهو إذ يشاركهم في ضحكهم في عذوبة روح ودماثة وظرف لا ينخلع عنه وقاره ولا يتسرب إلى شخصيته شيء من الابتذال، ولو كان غيره مكانه لخيف أن يمسه من ذلك شيء، ولكنه لم يزدد إلا محبة في نفوس الناس، ولم تزدهم أحاديثه إلا تعلقا به، ومن عجب أن اسمه الذي عرف به كان يجري على ألسنة الناس في كل جهة من هاتيك الجهات، فيذكرون أيب الأمين كأنهم وثيقو المعرفة به، وكأنما كان يسبقه هذا الاسم حيثما ذهب.
وكان لنكولن يرى في هذا الطواف مدرسته التي يتلمس فيها المعرفة، وأي معرفة أحب إليه من دراسة طباع الناس والوقوف من كثب على أحوالهم، بل والنفاذ إلى سرائرهم وخلجات نفوسهم؟! لذلك كان في طوافه يغشى المجالس وينطلق إلى البلاد القريبة، فيسمع ويرى ويأخذ بقسط من الأحاديث، ويدلي بآرائه إذا عن له أن يبدي آراءه في أمر، ويستفهم الناس ويسألهم عن أمانيهم، ويظل هذا شأنه حتى ينتهي دور المحكمة فيعود إلى سبرنجفيلد، وتنظر زوجه فإذا هو يدخل الدار وفي عينيه الحنين إليها وإلى أولاده، وفي أساريره من البشر بقدر ما يكون في جيبه من المال، ثم يدفع إليها بمظلة قديمة مهلهلة حائلة الصبغة، تمسكها بعضها إلى بعض خيوط ورقع، ويلقي إليها حقيبة اتخذها من رقعة بساط قديم، بها من الأوراق ما ضاقت عنه جيوبه وما صغرت دونه قبعته، ويقبل على بنيه فيرفعهم على كتفيه وذراعه كالعملاق، وهم فرحون يتسابقون إلى محادثته حتى لتضيع كلماتهم فيما يثيرون من زياط، وأمهم تكظم الغيظ من هذا الخروج على النظام.
وعادت تبرز في المحاماة مواهبه وتظهر خلاله، وأخذ ينشر فيها مبادئه بالعمل لا بالقول. جعل الحق رائده والصدق غايته، كما جعل مرد كل أمر عنده إلى معاني الإنسانية والفضيلة لا إلى أصول القانون وملابساته، وليس معنى ذلك أنه أهمل جانب القانون، كلا إنما كان يهمل جانب القانون إذا أدت ملابساته إلى التعمية وإظهار الباطل في زائف من ثياب الحق؛ ولذلك جعل الفضيلة فوق القانون، والصدق فوق المهارة في الحوار واللباقة في الجدل، وكان يحث أصدقاءه من المحامين ومحبيه من الناشئين على ألا يفرطوا في جنب الفضيلة، قائلا في صراحة وبساطة: «إن هناك رأيا شائعا في الناس مؤداه أن المحامي رجل يتهاون عادة في حق الأمانة؛ ولذلك فلا بد من أن يتمسك المحامي بالأمانة فيما صغر أو كبر من الأمور؛ لكي يدرأ تلك التهمة الشنعاء عنه وعن مهنته.» ومن شهير عباراته قوله: «يجب أن تبث في المهنة روح الفضيلة؛ كي تطرد تلك الروح منها ذوي الرذيلة.» وقوله ينصح أحد الناشئين: «اعمل على أن تكون محاميا أمينا، فإذا لم تستطع أن تكون أمينا وأنت محام، فخير لك أن تكون أمينا وألا تكون محاميا.»
وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه الدفاع عنه، استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة قلبة يقرأ في وجه محدثه أمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في مهارة دون أن يسيء إلى شعوره؛ فهو وإن لم يك من الماكرين، لا يستطيع أن يمكر به أحد، وقد كان لشخصه هيبة وجلال وإشعاع ينتشر منه إلى محدثه، فيوحي إليه وجوب التمسك بالصدق والنفور من الكذب، فيكون شعور محدثه بإزائه كما يكون شعور المرء في مكان مقدس يستفظع فيه الذنب وإن هان.
وكثيرا ما كان يحاول الصلح بين المتقاضين، ومما نصح به في محاضرة عامة قوله: «احرص على أن تقنع المتخاصمين بالصلح ما أمكنك ذلك، وبين لهم أنه غالبا ما يكون الفائز فائزا اسما فحسب، وهو في الواقع خاسر بما دفع من أجر أو أنفق من مال أو أضاع من وقت، والعمل بعد ذلك كثير للمحامي ... وإنه لتتهيأ للمحامي فرصة ثمينة ليصبح طيبا خيرا، وذلك بما يسعى إليه من سلم، فلا تلجأ إلى التقاضي والشحناء، فقلما وجد من هو أكثر سوءا من رجل يفعل ذلك. ولا تأخذ أجرك سلفا إلا قدرا صغيرا منه، فإنك إن أخذت أجرك كله مقدما وبقي اهتمامك بالقضية كاهتمامك بها في حالة ما إذا كان لا يزال أمامك من الأمل ما تتطلع إليه تطلع موكلك إلى النجاح؛ فأنت إذن فوق مستوى البشر.»
وكثيرا ما كان يقنع أبراهام بالقليل من الأجر؛ إذ كان يعد طلب الأجر الباهظ من أكبر آثام المهنة، ثم إنه كان يأخذ المسألة من ناحيتها الإنسانية؛ فيرى في عمله مثل عمل الطبيب والواعظ الديني والمعلم، وعنده أن واجب هؤلاء أن يمدوا يد المعونة للناس، وألا يتقاضوهم من الأجر إلا ما كان في وسعهم. ومما يذكر برهانا على هذا أنه دافع مرة عن حق رجل في مبلغ ستمائة دولار ولم يطلب منه أجرا على ذلك إلا ثلاثة ونصفا. ويذكر أيضا أنه لم يتفق على الأجر مرة، فلما ربح القضية أرسل إليه موكلوه خمسة وعشرين دولارا، فرد إليهم عشرة منها قائلا إن ما بقي هو ما يستحقه. وكان أحيانا يعفي موكله من الأجر إن كان مملقا قانعا من الأجر بالثواب وبالجميل يغرسه في قلبه، وذلك ما حدث حين دافع عن ابن متحديه القديم وصديقه بعد التحدي والمشاجرة آرمسترنج، فإنه لم يسأله أجرا على ما بذل في الدفاع عنه من جهد شديد إلا المودة.
يذكر صديقه وزميله في العمل هرندن أنه سار في قضية ذات مرة في غيبة لنكولن أثناء طوافه، ولأمر ما لا يدخل في نطاق مسئوليته حدث إبطاء في سير القضية، فعمد موكله إلى محام آخر وترك هرندن، فرفع هرندن أمره إلى القضاء يطلب أجرا على ما بذل من جهد، فحكم القاضي على الرجل بدفع أجر معين، وإذ ذاك قدم أبراهام فأسرع إليه الرجل يسأله أن يعفيه مما يقضي به الحكم من أجر مظهرا له فقره وسوء حاله، فنظر إليه أبراهام لحظة، ثم أطلقه وقد أعفاه لم يأخذ منه درهما، فلما حدثه هرندن في ذلك وأشار إلى ما كان من سوء صنع الرجل في نقل القضية إلى غيرهما، قال أبراهام إنه لا يتمالك نفسه إذا اشتكى إليه أحد الفقر والبؤس، وإنه ليحبس دموعه في جهد إذا بكى لديه إنسان. ثم ضحك ضحكة من ضحكاته العذبة وقال: «إني أحمد الله إذ لم يخلقني امرأة؛ وإلا لما كنت أرفض لأحد قط طلبا ليس فيه ما يمس الشرف!»
Bilinmeyen sayfa