وكان له على شهود جلسات المجلس أجر يعادل ما كان يناله من عمله في تخطيط الأرض، وهو لم يزل يؤدي ذلك العمل، وكان هذا كفيلا أن يكفيه عسر الحياة لولا ما أثقل كاهله من الدين.
ولم يجد الفتى من أعضاء المجلس ما يهزه هزة إعجاب أو محبة، وقل فيهم من تعجبه فصاحته أو كياسته، بيد أنه يرى في صفه رجلا يكاد يكون على نقيضه في كل شيء، رجلا ربعة عريض المنكبين أنيق المظهر، جم النشاط لا يكاد يستقر في موضعه، طموحا يدس أنفه في كل شيء ويجادل في كل أمر؛ وذلك هو دوجلاس، وإن أبراهام ليحس أن سيكون لهذا الرجل في غد شأن في السياسة عظيم.
وكان أبراهام يزور نيو سالم كلما سمح له وقته وهو اليوم يحب آن كما يكون الحب، فلقد أكبرته وأعجبت برجولته إذ ظل على ولائه لها. بينما هجرها خاطباها واحد بعد الآخر لما نزل بأبيها من فاقة، وسرعان ما أحبته كأعظم ما يكون الحب، وألفى أبراهام نفسه في ربيع العيش حقا؛ لا يرى حوله إلا جمال الربيع ولا يحس إلا نشوة الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل، ولكن الربيع - وا أسفاه! - لن يطول بل إنه لينقلب في مثل عمر الزهر إلى جحيم! نزلت الحمى كما نزلت من قبل وهو غلام في كنطكي، وحلت بجسده فتغلبت عليها قوة ذلك الجسد، ولكنها مست صاحبته فلم تقو عليها؛ فكان من ضحاياها طائرة الجميل! وبات الفتى والحزن يرمض قلبه ويأكل أحشاءه، ويتلقى الصدمة الثانية بعد فجيعته في أمه، فكأنها الضربة تأتيه في مقتل! لقد وهنت عزيمته وخارت قوته وذوى عوده القوي، وصار يراه الناس أحيانا هائما على وجهه يهذي كأن به جنة، حتى نصح له طبيب أن يرتحل، فنزل ضيفا عند أسرة صديقة كانت تقيم بعيدا عن نيو سالم، ولكن همه لازمه إلى هناك، حتى لقد شاطره ذات ليلة نفر من جلسائه حزنه حين سمعوه يصرخ من أعماق قلبه: «لا. لا أطيق أن أذكر أنها ترقد هناك وحدها حيث ينزل المطر فوق قبرها وتصخب العاصفة!»
ولكن اليأس يسلمه ثانية إلى الحياة حيث لا معدى عن الحياة ولا حيلة في البلوى! ويحل موعد الانتخابات للمجلس، وقد ازداد الناس محبة له وإكبارا، وازداد هو خبرة واكتسب أنصارا، وأظهرته الانتخابات هذه المرة خطيبا كأحسن ما يكون الخطيب في مثل هذه السن، وبرزت روح فكاهته وتهكمه اللاذع فكانت من أسباب قوته، قام يحمل عليه أحد خصومه من الحزب الديمقراطي، وكان قد حصل بتغييره مبدأه السياسي على مرتب سنوي كبير، وقد علم الناس أنه كان يقيم في منزل أنيق في مدينة سبرنجفيلد في قمته حديدة لمنع الصواعق، وكانت بدعا يومئذ وترفا، وأسرف هذا الخصم في الطعن على أبراهام، وأعلن في خطابه أنه لن يستقر إلا أن يحط من قدره في أعين الناس ونفوسهم، وأشار إلى حداثته وجهله، وسخر من ملبسه وهيئته ونشأته وبالغ في الزراية عليه، ووقف ابن الأحراج يرد عليه فقال: «إني أدع لكم أيها المواطنون أن تقرروا ما إذا كنت أهلا لأن ترفعوني أو تحطوا من قدري، رأى هذا السيد أن يشير إلى حداثة سني ولقد نسي أني لست صغير السن صغري في ألاعيب الساسة وتجارتهم. إني أحب أن أعيش كما أحب أن أرقى وأصبح ملحوظ المكانة، ولكني أفضل الموت على أن أحيا فأرى اليوم الذي أصنع فيه ما صنع ذلك السيد، فأغير مبدئي من أجل ثلاثة آلاف دولار في العام، ثم لا أستطيع أن أنام في منزلي إلا أن أضع في قمته مانعة للصواعق أحمي بها ضميرا آثما من غضب إله ساخط.» وضج الجمع بالضحك وصاروا بعدها لا يرون هذا الرجل إلا أشاروا إليه قائلين: «هذا هو الذي لا يستطيع أن يرقد في بيته إلا في حماية مانعة تمنع الصواعق يخشى أن يصبها الله عليه.»
وبرهن أبراهام على نضجه السياسي المبكر في رد كتبه إلى صحيفة طلبت إلى المرشحين أن يبينوا مناهجهم، جاء فيه: «سأسعى حتى يفوز جميع من يدفعون الضرائب ويحملون السلاح من البيض بحق الانتخاب، لا أستثني من ذلك النساء بأي حال، فإذا انتخبت فسأعد أهل سنجون جميعا هم مرسلي سواء من اختارني منهم ومن لم يفعل، وفي غير ذلك سأسير وفق ما يمليه علي تقديري مراعيا مصالحهم أبدا، وسواء انتخبت أم لم أنتخب فإني أؤيد بيع الأراضي العامة للولايات المختلفة، كما أعين الدولة في مشروعات حفر القنوات ومد طرق الحديد بغير أن تقترض مالا تدفع عنه أرباحا.»
وتقدم ذات مرة أثناء المعركة الانتخابية خصم آخر من الديمقراطيين، أنيق الملبس بدين، فعرض بالهوج وسماهم أرستقراط الاتحاد، وبينما هو في كلامه إذ فتحت حلته فكشفت عن سلسلة ذهبية على صداريته، وأختام ودوال من الذهب وغيرها من وسائل الزينة، فوثب لنكولن وأشار بيده إلى ملابسه هو التي لا يعلق بها إلا طيف البلى وأمارات القدم، وقال وقد وضع كفه على صدره: «هذا هو رجلكم الأرستقراطي أحد لابسي الجوارب الحريرية المترفين»، ثم بسط كفيه مادا ذراعيه إلى جانبيه وقال وهو يومي برأسه إلى كفيه الكبيرتين اللتين تركت فيهما الفاس أثرها: «وها هما هاتان يدا بارونكم البيضاوان الناعمتان ... حقا إني أعتقد كما قال ذلكم السيد أني أرستقراطي نفخته العظمة والكبرياء.»
وكتب لنكولن في تلك المعركة إلى أحد الديمقراطيين ردا على إشاعة أطلقها عنه فقال: «أنبئت أنك أذعت في الناس أثناء غيابي في الأسبوع الماضي أن لديك حقيقة أو حقائق، لو اطلع عليها الناس لقضت قضاء مبرما على أملي وأمل إدوارد في حركة الانتخابات القائمة، ولكن تأبى عليك مجاملتك إيانا أن تعلنها. وأنا أقول لك إنه ما من شخص يطلب الجميل كما أطلب، كذلك قل في الناس من يتقبل الجميل كما أتقبل، ولكن الجميل إلي في مثل هذه الحال معناه الجور في حق الناس؛ ولذلك فإني استميحك أن تنصرف عنه، إن حيازتي ثقة أهل سنجمون ذات مرة أمر مقرر، فإذا كنت أتيت أمرا يحرمني إذا عرف تلك الثقة، سواء كان إتيانه عن إصرار أو عن خطأ، فإن الذي يعرف هذا الأمر ثم يخفيه إنما يخون صالح بلاده، وليس يقوم بذهني شيء عما عساه أن تكون الحقائق التي تتحدث عنها واقعية كانت تلك الحقائق أو مزعومة، بيد أن ما أعهده فيك من الصدق لا يسمح لي برهة أن أشك في أنك على الأقل تعتقد ما تقول. إني أراني مدينا لك بهذا الاعتبار الشخصي الذي أبديته نحوي، ولكني آمل أن ترى إذا ما تأملت ثانية أن صالح الناس أهم من ذلك. وعلى هذا فلا تتحرج أن تعلن الحق. وأؤكد لك أن ذكرك ما لديك من الحقائق في صدق وأمانة لن يفصم ما بيني وبينك من عرى الصداقة مهما بلغ ما ينالني منه، هذا وإني أرجو أن يأتيني رد منك على كتابي هذا، ولك الحرية أن تنشر الكتابين إذا أردت.»
أصبح ملكا للزمان ودخل في التاريخ .
اقرأ هذا الكتاب تر كيف يملك أبراهام قلوب الناس بأمانته ودماثته وإخلاصه، ثم انظر إلى قوة حجته وروعة منطقه وحسن دهائه، وتأمل في أدبه وتحشمه، وهو في موقف من يرد الإهانة عن نفسه؛ تلك لا شك مزايا تسلكه في أحرار الشمائل وعظماء النفوس.
وفاز لنكولن ثانية في الانتخاب وحق له أن يفوز، وكان له في المجلس أصدقاء، منهم ثمانية كانوا مثله في طوله القامة، وكانوا يجلسون رفقة فعرفوا باسم التسعة الطوال، وكان أبراهام أطولهم في المعرفة باعا وأعلاهم في الخلق مقاما؛ فلقد ظهرت صفات ابن الغابة لهم في وضوح، فأعجبوا بأناته ودماثته وبعد نظره، وفتنتهم بلاغته وأسلوبه في الحوار والجدل، وهم يغبطونه على سعة صدره وشجاعته وصراحته، ويحمدون له رقة عاطفته وشفقته وسلامة طويته، وإنهم فوق ذلك يلذهم حديثه وتطربهم أقاصيصه وتأسر قلوبهم مودته، وإنه ليقرأ اليوم قراءة منتظمة، فقد مر العهد الذي كان يتناول فيه أي كتاب يصادفه، هو اليوم يقلب صفحات التاريخ فليس ألزم منه فيما يرى لرجل السياسة، وهو يستزيد من القانون نصوصه وفقهه، وهو يدرس حال أمريكا من جميع نواحيها، ويطيل النظر في تاريخ ساستها وفي مناهجهم في الإصلاح وأساليبهم في توطيد سياستهم، يستوعب ذلك كله لا يفوته منه شيء.
Bilinmeyen sayfa