هو الآن يتخطى السادسة عشرة، طويل الجسم، مديد القامة، عريض الصدر، تستوقف الأبصار نحافته كما يستوقفها طوله، ولكنه على نحافته قوي البدن، بلغ من القوة ما لم يبلغه من كان في مثل سنه، وكأنما تجمعت تلك القوة في ساعده، فليست هناك دوحة تستعصي عليه إذا هو أهوى عليها بفأسه، بذ أباه في قطع الأشجار وتسوية الأخشاب، وغالب أقرانه في الغابة حتى سلموا بتفوقه مكرهين!
كانت هيئته وحشية بسبب شعره الأشعث المغبر وهندامه الساذج المتهدل، وتقاطيع وجهه المسنون الذي يبرز فيه الأنف بروزا شديدا حتى ليبدو أضخم من حقيقته، ولقد وصفه أبوه فقال: «إنه يبدو كقطعة من الخشب لم تسوها الفأس ولم تمسحها الممسحة.» ولذلك ما كان أبراهام يطمع وهو في سن التظرف والأحلام أن تنظر إليه فتاة نظرة تعلق أو فتنة، وهل كان يتجه خياله إلى شيء من هذا؟ ذلك ما لم يظهر عليه دليل حتى ذلك اليوم.
وكان الفتى على قوة جسمه مضرب المثل في دماثة الخلق وعفة اليد واللسان، وكان موضع حديث القوم في أمانته وسمو أدبه. تحدثت عنه زوج أبيه مرة فقالت: «لم يوجه إلي مرة كلمة نابية، أو نظرة جافة، ولم يعص لي أمرا قط، سواء في ذلك مظهره وحقيقة أمره.» وكان يكره الكذب أشد الكره، كما كان صريحا لا يعرف الالتواء والنفاق في أعماله أو في أقواله، كما كان يحب أن ينتصف من نفسه بنفسه.
روي عنه أنه استعار كتابا عن وشنطون لمؤلف غير الذي قرأ له قبل ذلك حياة ذلك العظيم، وكان من عادته أن يقرأ بقية النهار خلف الكوخ متى عاد من الغابة، فإذا نزل الليل قرأ إلى جانب الموقد يثير لهبه بين آونة وآونة؛ فإن زوج أبيه تحتفظ بالشمع لليالي الآحاد، فبينا كان يقرأ ذلك الكتاب ذات ليلة إذ هبطت نار الموقد فوضعه في شق بين كتل الكوخ وذهب فنام، فلما أصبح وجد المطر قد بلل الكتاب، فاشتد أسفه وحمله إلى صاحبه وهو لا يقوى على الوقوف أمامه من شدة الخجل، ولا يدري كيف يعتذر إليه! ثم بدا له فعرض على صاحب الكتاب أن يأخذ ثمنه، وسأله عن الثمن واقترح عليه في مقابله أن يأجره الرجل ثلاثة أيام في عمل من أعمال زراعته! وقد تم له ذلك فطابت به نفسه وزاده غبطة أن قد أصبح الكتاب ملكا له.
وإن أقرانه ليلاحظون عليه شيئا من الشذوذ يومئذ؛ فهو يلقي فأسه أحيانا أثناء العمل في الغابة ويخرج من جيبه كتابا ويقرأ في جهر كما يفعل الخطيب، وهو يضحك أحيانا بلا سبب ظاهر، وقد يعلو في ضحكه ويغلو فيه كل الغلو، مبتدئا بابتسامة ومنتهيا بقهقهة طويلة.
وهو على رقة عاطفته وكرهه للقسوة يؤدي للجيران إذا دعوه أعمال الجزارة، فيقذ الخنازير في جرأة وسرعة ويسلخها ويقطعها كأنه أحد مهرة الجزارين!
وبينا يرى الناس ذلك منه يجدونه يمد يد المساعدة للضعفاء والبائسين؛ لقي وهو في طريقه مع رفيق له رجلا ألقاه جواده وقد ذهبت بلبه الخمر، فما زال به يوقظه وينهضه وهو لا يفيق ولا ينهض، فتبرم رفيقه، فعاتبه أبراهام قائلا إنه لا يستطيع أن يترك الرجل فريسة للبرد، ثم حمله على ظهره حتى أدخله كنه وأقام إلى جانبه ردحا من الليل.
وسمعه الناس مرارا يعلن عطفه على الهنود الحمر، قائلا إنهم هم أصحاب تلك الأرض وإنهم أخرجوا قسرا من ديارهم؛ فهم لذلك جديرون بالعطف والمرحمة.
ولم يقتصر على الإنسان عطفه؛ فقد أظهر أكثر من مرة الرأفة بالحيوان؛ فمن ذلك أنه وقف ذات يوم ينقذ كلبا وقع في الثلج وقد ناله من جراء ذلك تعب عظيم، ومنه أنه رأى بعض خلانه يلعبون بسلحفاة أوقدوا على ظهرها نارا فعنفهم حتى أطلقوها، وذهب فكتب من فوره في الرفق بالحيوان، وقرأ ما كتب على من صادف من الجيران.
وكان على احتشامه وجده يحب كثيرا من ضروب اللعب؛ كالمصارعة ومسابقة العدو، كما كان يشهد الاجتماعات التي تنتظم عددا كبيرا من الجيرة؛ كحفلات الأعراس وسباق الخيل وأضرابها. ولقد كان يبدو فيها مرحا ضحوكا يطفر من جذل وحيوية، فهل كان منقادا لوعيه الباطن فهو يحاول أن يغيب في هاتيك الأفراح ما يهمس في نفسه من هم؟ أم أن حبه لتلك الطبقة التي ينتمي إليها من عامة الناس هو الذي كان يحبب إليه الاجتماع بهم وإيناس نفسه الحزينة بلقائهم؟ الحق أن مرد ذلك إلى السببين معا، ثم إلى عاطفة الشباب التي يشاركه فيها كل شاب، ولقد كان الفتى محببا إلى أقرانه، يلتفون حوله ويصغون إليه، ولا يكمل له سرور إلا إذا كان بينهم، وإنهم ليحسون كلما تحدث إليهم توثب روحه وعذوبة نفسه، ويشعرون شعورا خفيا أنهم جميعا دونه في كل شيء إن جدوا وإن لعبوا. وكان على مرحه وفتوته يكره أن يسف؛ فما يكاد يذكر أحد أنه رآه يشرب الخمر أو يتناول شيئا من تلك الحشائش المخدرة التي يتناولها الناس، وما رأى أحد منه سفها أو تبجحا أو استهانة بشخصه أو استهتارا بغيره؛ فلقد كان يعرض عن شطط غيره أو سفهه ولا يحب أن يؤلم أحدا.
Bilinmeyen sayfa