والحجة المؤيدة لليوتوبية تقوم على رسالة المسيح وخدمته، التي تعتبر يوتوبية من منطلق أنها كانت موجهة غالبا نحو مشاكل البشر التي يمكن لفعل الإنسان أن يحلها. ذهب علماء لاهوت مثل بول تيليخ (1886-1965) إلى أن العناصر اليوتوبية في المسيحية، لا سيما طبيعتها الأخروية منها، مصدر جوهري من مصادر قوتها. علاوة على ذلك، أدمج كتاب ماركسيون من أمثال إرنست بلوخ العناصر المسيحية الأخروية في مذهبهم الماركسي، وتمخض عن ذلك «لاهوت» لا ديني من الأمل. أصبح هذا الخلاف مهما على نحو خاص في القرن العشرين مع نشوء حركة الإنجيل الاجتماعي، والاشتراكية المسيحية، والمنافسة الجادة التي شكلتها أنظمة عقائدية أخرى كالشيوعية للمسيحية.
يعتبر تيليخ من أبرز مؤيدي اليوتوبيا من بين علماء اللاهوت المسيحي الحديث، والذي كتب يقول: «أعتقد أنه يمكن إثبات أن لليوتوبيا أساسا في وجود الإنسان.» فبالنسبة لتيليخ، نحن يوتوبيون لأننا بشر، واليوتوبيا هي في المقام الأول رفض أو «إنكار لما هو سلبي في الوجود الإنساني»؛ فكافة اليوتوبيات هي وسائل تمثل تغلب الإنسان على تناهيه. وتتمتع اليوتوبيا بقسمات من الحقيقة «لأنها تعبر عن جوهر الإنسان، الهدف الداخلي من وجوده، وتبدي ما يكنه الإنسان كهدف ، وما يجب أن يحققه في المستقبل كشخص.» إلا أن اليوتوبيا تتمتع أيضا بقسمات من الباطل؛ لأنها «تنسى تناهي الإنسان وعزلته، وتنسى أن الإنسان بوصفه متناهيا يجمع بين الوجود واللاوجود، وأن الإنسان بموجب مقتضيات الوجود منفصل دائما عن وجوده الحقيقي.» إضافة لذلك، اليوتوبيا مفيدة ومضرة في نفس الوقت؛ لأنها تفتح الباب أمام أشياء جديدة يمكن للبشرية القيام بها، ولكنها في الوقت نفسه توحي بأن الأشياء المستحيلة هي في الواقع ممكنة. اليوتوبيا مهمة لأنها «قادرة على تغيير المسلم به»، وهي غير مجدية لأنها «تؤدي حتما إلى التحرر من الوهم.» ويختتم كلامه بالإشارة إلى أمل مقيد، زاعما بأن اليوتوبيا دائما ما تكون معلقة بالضرورة بين «الإمكانية والاستحالة».
علاوة على ذلك، دفع الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر (1878-1965)، صاحب كتاب «مسارات في اليوتوبيا» (المنشور بالعبرية في عام 1946، وبالإنجليزية عام 1949)، بأهمية اليوتوبية لكل من اليهودية والمسيحية، معتبرا أن اليوتوبيا هي التطبيق العملي للإيمان بفكرة المخلص الذي سينقذ العالم في كلتا الديانتين. لكنه حذر من خطر تحويل اليوتوبيا إلى مخطط يجب اتباع خطواته.
بتقديم اليوتوبيا صورا بديلة للمستقبل، فإنها تتحدى الحاضر لتبرير نفسها بقيم تسمو فوق مسائل السلطة الراهنة. وتؤكد اليوتوبيا على أن الحياة للبشر، وأنه ينبغي تصميم المجتمع بحيث يلبي احتياجات جميع أعضائه.
لوحظت مؤخرا وظيفة المعارضة التي تقوم بها اليوتوبيا في حركة «لاهوت التحرير»، والتي كانت لها على نحو واضح رؤية يوتوبية في «اختيارها التمييزي للفقراء» وتضمنت شكلا من أشكال المجتمعات المقصودة عرف ب «جماعات الأساس»، بوصفه جزءا جوهريا من إحداث التغيير الاجتماعي. كانت الحركة صريحة في معارضة دعم الكنيسة للأغنياء والأقوياء في أمريكا الجنوبية. وبقيامها بذلك، فقد احتكمت إلى المساواة التي دعا لها المسيح والقديس فرانسيس على وجه الخصوص. ويشير جوستافو جوتيريز (المولود عام 1928) - وهو عالم لاهوت بيروفي وأحد مؤسسي الحركة - صراحة إلى الوظيفة اليوتوبية في حركته اللاهوتية. ومع تجاوز الحركة لحدود الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي قمعتها، إلى المذهب البروتستانتي، وإلى لاهوت السود على وجه الخصوص، أضافت عنصر العرق ثم النوع إلى الطبقة.
واليوم، ثمة مجتمعات مقصودة مسيحية كثيرة، بعضها مغال في التحفظ، وبعضها مبالغ في الراديكالية، محاولين أن يعيشوا الحياة التي يعتقدون أن المسيحية تقتضيها منهم. ويميل المحافظون منهم إلى الانعزال عن المجتمع الأكبر، في حين يتجه الراديكاليون منهم إلى الانخراط مباشرة في المجتمع الأكبر.
ومن ثم تستمر العلاقة الوثيقة بين المسيحية واليوتوبية حتى في الوقت الذي يؤمن فيه كثير من المسيحيين أنها ضرب من الهرطقة.
الفصل السادس
اليوتوبية والنظرية السياسية
تبدأ اليوتوبية بعدم الرضا وتقول إن احتياجات الإنسان يمكن إشباعها إن تم توفير ظروف معينة. وأبسط حالات عدم الرضا تؤدي إلى أبسط حالات الإشباع وأبسط صور اليوتوبيا، التي لم يتم الوصول إليها في معظم العالم؛ معدة خاوية تملأ، جسد عار يستر، سكن للوقاية من التعرض للعوامل الجوية. لكن بعض منتقدي اليوتوبية ربطوها ببعض مشكلات القرن العشرين، مثل الحربين العالميتين وعمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا ورواندا. وعلى وجه الخصوص، نظر إلى الشيوعية والنازية، وحديثا الحركة الإسلامية، التي يؤمن أتباعها أنها سبل لحياة أفضل، بوصفها الأساس لما أطلق عليه القرن العشرين الديستوبي. وعلى الجانب الآخر، يدفع مؤيدو اليوتوبية بأنها كانت الركيزة الأساسية للتغلب على أسوأ مآسي القرن العشرين، وأنها ضرورية من أجل استمرار الحضارة، بل وجزء جوهري من بشرية الإنسان. وإلى حد ما، كلاهما على حق.
Unknown page