نظرت إليه الفتاة بعينين حائرتين، ولم يعرف الشاب بم يجيب. وأخيرا قال: «هناك خطأ فادح. ولا يمكنني أن أستوضح الأمر. ربما كان لكلماتنا معنى مختلف، مع إنها هي الكلمات نفسها على ما يبدو. اجلسي يا روث، أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة.»
رمقت روث العمال بنظرة وجلة، وغمغمت بشيء عن عدم توفر الكثير من الوقت أمامها، لكنها وضعت وعاءي الماء على الأرض وجلست فغاصت في العشب. ثم ألقى ستانفورد بنفسه على العشب عند قدميها، لكن حين رأى أنها انكمشت وتراجعت، سحب نفسه للخلف قليلا واستقر في موضع يسمح له بالنظر إلى وجهها.
كانت عينا روث مسبلتين، وكان ذلك حتميا؛ لأنها شغلت نفسها بسحب أوراق العشب الورقة تلو الأخرى، وكانت في بعض الأحيان تجدل الأوراق معا. كان ستانفورد قد أخبرها بأنه يريد أن يطرح عليها بعض الأسئلة، لكن يبدو أنه نسي ما كان ينتويه؛ ذلك أنه بدا وكأنه مرتاح تماما لمجرد النظر إلى وجهها. وبعد أن استمر الصمت برهة بينهما، رفعت عينيها لحظة وطرحت هي السؤال الأول. «من أي أرض أتيت؟» «من إنجلترا.» «آها! تلك جزيرة أيضا. أليس كذلك؟»
ضحك من كلمة «أيضا» وتذكر أن لديه بعض الأسئلة التي يريد طرحها. «أجل، إنها جزيرة ... أيضا. والبحر يقذف بحطام السفن على جوانبها الأربعة، لكن لا توجد على شطآنها قرية وثنية بحيث لا يفرح قاطنوها بنجاة أحدهم إذا ما طرحه البحر وتمكن من الهروب من بين براثن الموت.»
نظرت إليه روث والدهشة تملأ عينيها. «إذن، ألا يوجد أي دين في إنجلترا؟» «دين؟ إنجلترا هي أكثر دولة متدينة على وجه الأرض. هناك من الكاتدرائيات والكنائس ودور العبادة في إنجلترا ما يزيد عنه في أي دولة أخرى. نحن نرسل البعثات التبشيرية إلى كل البلدان الوثنية. والحكومة نفسها تدعم الكنيسة.» «أتخيل إذن أنني أخطأت في فهم ما تقصد. كنت أعتقد من حديثك أن الناس في إنجلترا يخشون الموت، ولا يستقبلونه بالحفاوة والترحاب ولا يفرحون حين يموت أحدهم.» «إنهم لا يخشون الموت، وهم لا يفرحون حين يأتي. الأمر بعيد كل البعد عن هذا. إن الجميع بدءا من الرجل النبيل حتى المتسول يكافحون الموت قدر ما أمكنهم؛ فالرجل الطاعن في السن يتمسك بالحياة بنفس حماسة الصبي في التمسك بها. وما من امرئ إلا وينفق آخر ما يملك من قطع ذهبية من أجل أن يدرأ عن نفسه القدر المحتوم ولو لساعة.» «قطعة ذهبية، ماذا تكون؟»
دس ستانفورد يده في جيبه وقال: «آه! هناك بعض العملات المتبقية. هاك هي قطعة ذهبية.»
أخذتها الفتاة وتفحصتها باهتمام بالغ.
وقالت وهي تقلب العملة الصفراء في راحة يدها الرقيقة: «أليست جميلة؟» ثم رفعت نظرها إليه. «هذا هو الرأي العام حيالها. ولكي يجمع المرء عملات نقدية كهذه، سيكذب ويغش ويسرق، أجل، ويكدح كذلك. وعلى الرغم من أن المرء على استعداد لأن يتخلى عن آخر قطعة ذهبية في حوزته لإنقاذ حياته والعيش لسنوات أطول، فإنه يخاطر بحياته نفسها من أجل جني المزيد من الذهب. إن كل عمل في إنجلترا هدفه الأساسي هو جمع قطع معدنية كتلك التي في يدك، والشركات ذات الأعداد الغفيرة من العاملين تهدف إلى جمع هذه القطع المعدنية بكميات أكبر. ومن يمتلك أكبر قدر من الذهب يحوز القدر الأوفر من السلطة ويحظى عموما بالقدر الأوفر من الاحترام، والشركة التي تجني أكبر قدر من المال هي الشركة التي يتوق الكثيرون إلى العمل لديها.»
استمعت إليه روث وقد ملأت عينيها نظرات الحيرة والعجب. وأثناء حديثه كانت ترتجف، ثم تركت العملة الصفراء تسقط من يدها على الأرض وقالت: «لا عجب أن أمثال هؤلاء يخشون الموت.» «ألا تخافينه؟» «كيف ونحن نؤمن بالجنة؟» «لكن ألن يحزنك أن يموت شخص تحبينه؟» «كيف لنا أن نكون أنانيين إلى هذه الدرجة؟ أكنت لتحزن إن حاز أخوك أو شخص تحبه الشيء الذي تقدره في إنجلترا أيا كان هذا الشيء، وليكن - مثلا - كمية كبيرة من هذا الذهب؟» «بالطبع لا. لكنك ترين إذن ... حسنا، شتان بين الأمرين. إن مات شخص تهتمين لأمره فإنك تنفصلين عنه، و...» «لكن هذا الانفصال لا يدوم إلا لفترة قصيرة، وهذا يعطينا سببا آخر للترحيب بالموت. من المستحيل على ما يبدو أن يخشى المسيحيون دخول الجنة. بدأت أفهم الآن لماذا ترك أجدادنا إنجلترا، ولماذا لا يخبرنا معلمونا بأي شيء عن الناس هناك. وأتساءل لماذا لا ترسل البعثات التبشيرية إلى إنجلترا لتعليمهم الحقيقة، ولمحاولة تهذيب الناس هناك وتنويرهم؟» «سيكون هذا حتما كمن يبيع الماء في حارة السقائين. أحد العمال قادم.»
صاحت الفتاة وهي تهب من مكانها: «إنه أبي. أخشى أنني تأخرت. لم أفعل ذلك من قبل.»
Unknown page