okra/lady’s fingers ) فأنكروا معرفتهم بها، وشرحت لهم فهيمة أسلوب «عمل الويكة»، والملوخية البراني، فقالوا إنهم يعرفون الملوخية لكنهم لا يعرفون البامية. وهنا تطوعت نهاد بأن تعد لهم وجبة بامية مصرية (مع الليمون طبعا والفلفل الأخضر) واتفقنا على ذلك في عطلة نهاية الأسبوع. وما إن فتحت نهاد غطاء حلة البامية المطبوخة باللحم الضاني حتى صاح الجميع «الله! ملوخية!» واتضح أن ذلك هو اسمها في المغرب. ولن أنسى الحرج الذي أصاب فهيمة حين سألتها فتحية المغربية: «لماذا لا تغيرين اللباس السوداني؟» وكان المقصود هو «التوب» ولكن الكلمة العربية الصحيحة أصبحت تعني للمصريين والسودانيين شيئا آخر.
وقررت إدارة البعثات زيادة مرتبي سبعة جنيهات (علاوة زواج) ولكن ذلك لم يكن كافيا، فكان علي أن أقضي المزيد من الوقت في العمل، حتى كاد العمل في الرسالة أن يتوقف، ولكنني كنت أواصل قراءاتي المتنوعة مع نهاد، وكان لديها من الجلد والصبر ما أعجب له ، وذكرت ذلك ذات يوم للمشرف فقال لي: «لا تقلق .. النساء بطبيعتهن صبورات! ألا ترى الدجاجة وهي ترقد على البيض؟» وكنا نتبادل الكتب فتنتهي هي من الكتاب في يوم أو يومين، ثم لا أنتهي أنا منه في أسبوع كامل! وبدأنا رصد التعبيرات الاصطلاحية التي نسمعها في حياتنا اليومية أو في الراديو أو نقرؤها في الصحف، وخصصنا لذلك كشكولا ضخما امتلأ حتى ضاق بما فيه، ولم يكن برد الخريف الخفيف يمنعنا من التريض، وكانت اهتماماتنا المشتركة تزداد عمقا واتساعا كل يوم، وأعتقد أن العالم الجديد الذي كنا نعيش فيه بعيدا عن الأهل والأصدقاء القدامى ساعد على هذا التعميق، وتدريجيا بدأت نهاد تتعرف على زملائي في العمل، وكنا نتغلب على أي خلافات بالتفاهم الباسم؛ إذ حاولت أنا أن أحاكي الإنجليز في نبذ الانفعال، كما كانت تلجأ هي إلى استخدام اللغة الإنجليزية في أي خلاف مما كان يكسر من حدة الانفعال لديها، ويضفي منطقا هادئا على كل شيء.
وما إن علم الإخوان العرب في الإذاعة بأن لدي آلة العود الشرقية، حتى قرروا قضاء سهرة موسيقية في منزل أحدهم، فزارني أكرم صالح الفلسطيني واصطحبني بسيارته إلى ذلك المنزل، وبمجرد أن بدأت العزف، وكان اللحن الذي طلبوه هو «ودع هواك وانساه وانساني/ عمر اللي فات ما حيرجع تاني» لمحمد عبد المطلب (تلحين محمود الشريف) حتى وجدت الدموع تسيل من عيونهم، فكان معظمهم يغالب النهنهات، خصوصا «زغلول» وهو مصري فرضت عليه حياة الغربة فرضا، فكان مقام الراست الشرقي يهز أعماقه، والإحساس باستحالة «عودة الزمن» يثير مكامنه، وكان الموجودون خليطا من جميع البلدان العربية، وكلهم يبكي جرحه حتى حل الهزيع الثاني فانفض السامر، وأدركت أن العربي يحمل الوطن في قلبه إلى الأبد، وعندما عدت إلى الغرفة كانت نهاد قد أوت إلى الرقاد، فجلست وحدي أفكر في شتات اللغة العربية التي كانت تتناثر حولي، وكل كلمة ذات جذور تضرب في أعماق الوجدان وأعماق التاريخ.
7
وفي ديسمبر فوجئت بصوت لا أعرفه يحادثني في التليفون. قال إنه مصري انتهى من دراسة الطب وكان يقضي سنة الامتياز، لكنه كان طموحا ويريد أن يصبح جراحا شهيرا؛ ومن ثم استخرج لنفسه «جواز سفر طالب»؛ لأنه إذا أكمل عام الامتياز وتخرج فلا بد أن يعين في الأقاليم (أو في القرى والدساكر كما يسميها) واشترى لنفسه تذكرة طائرة، وأتى بتأشيرة خروج سياحية، ذاق الأمرين في استخراجها، إلى لندن. وأشار عليه أحد معارفه القدامى ممن سبقوه إلى لندن بأن يتصل ب «عم عناني» حتى يترجم له ما يريد. وعندما قابلته وجدت شابا أسمر لوحته الشمس، يتميز بخفة الظل والألمعية، ولا يتحدث إلا في الطب وأطلعني على أوراقه الرسمية، وقال لي إنه يريد أن يتقدم للعمل في مستشفى مارلبون
St. Mary Marylebone
القريبة من منزل الطلاب، لكنه لا يريد أن يبدأ من الصفر؛ فمن كان طموحا مثله لا بد أن يبدأ من القمة، وأفهمته أن ذلك لا يصلح مع الإنجليز، أو مع الأوروبيين، وقصصت عليه قصة ناجي الحبشي عازف الفيولنسلو (الشيلو) المشهور، فعندما حصل على بعثة وذهب إلى إيطاليا للدراسة مع أشهر عازف كونشرتو (concertist)
في أواخر الخمسينيات قدم نفسه على أنه عازف كونشرتو مصري ، وكان رد الأستاذ الإيطالي هو أنه ما دام كذلك فعليه أن يعود إلى مصر، وقال له: «العازفون يأتون إلي حتى يصبحوا عازفي كونشرتو! وما دمت قد أصبحت كذلك فعليك أن تعود إلى بلادك.» وبعد تدخل رجال البعثات في روما قبله الأستاذ ولكنه لقنه درسا في التواضع؛ إذ فرض عليه ألا يعزف شيئا سوى السلالم الموسيقية وتمارين المبتدئين ثمانية أشهر كاملة! ولكن سمير سيدهم (وكان ذلك اسم الشاب المصري) كان مصرا على المحاولة، فاقترحت حلا وسطا يتمثل في أن يقدم «مشروع بحث» في عملية الغضروف التي يحتاجها الرياضيون في مصر على وجه الخصوص دون أن يلجأ إلى الكذب في شيء، فإذا وافق مجلس أمناء المستشفى
Board of Governors
على المشروع عينوه باحثا، فإذا نجح استطاع دخول عالم الجراحة من الباب الصحيح. ووافق سمير وكتبنا المشروع وقدمه واختفى أسبوعين أو ثلاثة، ثم جاءني صوته على التليفون مبتهجا جذلا؛ إذ وافق مجلس الأمناء ، وعين له اثنين من الأطباء الإنجليز (
Unknown page