I can manage the rest )» واعترض ديفيد أولا، ثم قال: «سأرد لك المائتين عندما أفتح محل البقالة الخاص بي!» وغني عن البيان أن سالي كانت تشعر بسعادة غامرة، وعندما نهضا التفت إلي ديفيد وقال: هل الأستاذ المشرف هو الذي سيمتحنك في الرسالة؟ فأجبت بالإيجاب، فقال ألا يعتبر هذا من قبيل الغش (cheating) ؟ وعندما رأى الدهشة على وجهي قال: «أعني أنه هو الذي تولى تصحيح الرسالة .. فما الذي سيمتحنك فيه؟» وضحكت ولم أعلق فغادرا المكتب.
سالي زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
كانت أحلام سالي وديفيد أحلام الطبقة الفقيرة، ولم تكن أفكارهما تتجاوز شراء المنزل وتدبير نفقات المعيشة، وكانت قد مضت على صداقتهما سنوات طويلة، يخرجان للنزهة أو يذهبان إلى السينما، على مرأى ومسمع من الجميع، ولم يكن ديفيد قد حصل على أي شهادة، فهو
school leaver
وحسب؛ أي إنه قضى فترة التعليم الإلزامي في المدرسة حتى سن الخامسة عشرة (رفعها حزب العمال إلى 16 بحجة رفع المستوى التعليمي وقال حزب المحافظين إن الهدف من ذلك تخفيض عدد تاركي المدرسة المسجلين في قوائم العاطلين) ثم عمل صبيا في محل بقالة، وكان دخله قليلا وطموحاته أقل، أما سالي فكانت ماهرة في أعمال السكرتارية مثل الاختزال والآلة الكاتبة والأرشفة وما إلى ذلك، وتطمح في أن تصبح سكرتيرة خاصة لمدير إحدى الشركات، وهذه فئة يطلق عليها «مساعدة شخصية» (P. A. Personal Assistant)
وتوازي منصب «مدير المكتب» لدينا. وقد كتب لي أن أزورها في المنزل وأرى والديها، وكانا مثل ديفيد يفتقران إلى الطموح، وقال والدها لي:
I don’t encourage moonlighting
أي لا أحبذ القيام بعمل جانبي إلى جانب العمل الأصلي؛ فالإنسان في رأيه لا بد أن يعيش ويتمتع بحياته، لا أن يكافح في طلب المال، وأكد لي أن «سالي» لم تكتب لي الرسالة إلا بسبب دماثة خلقي، وأنها لا تسعى إلى أي لون من الكسب المادي.
3
كان الإحساس الذي بدأ يتملكني هو أن الأوروبيين يؤمنون بالنظم التي تعفي الفرد من مكابدة ما يكابده الفرد في بلادنا؛ فنحن لم نرث نظما ثابتة بل نحاول وضع نظم جديدة لا نعرف إلى أي حد يمكن أن تنجح، أما الإنجليز وهم من غلاة المؤمنين بالنظم، ولا يكاد يتفوق عليهم إلا السويسريون فيما أعلم؛ فهم منذ البداية يقبلون ما تسير الدولة عليه، والثورة لديهم ضرب من الجنون بالمعنى العلمي (أي الذي يقتضي علاجا في مصحة)؛ ولذلك فإن أي تغيير في المجتمع يستغرق دهورا، وقد سبق ابن خلدون علماء الاجتماع المحدثين في تبيان أحد أسباب ذلك وهو طبيعة الجو؛ فالإنسان الذي ينشأ في بيئة أو في مناخ يصعب التنبؤ به يميل إلى الاحتماء من تقلباته، ويسعى في سبيل ذلك إلى وضع نظم يدخل عليها تحسينات قليلة أو كثيرة عاما بعد عام، حتى تصبح مأمونة، وحتى يجد ما يركن إليه ويثق به. وقد يدهش من يعلم أن أرقام خطوط الأوتوبيس في لندن لم تتغير على مدى الخمسين عاما الماضية، وعندما أشاهد بعض الأفلام القديمة ألاحظ تعليقات الإنجليز عليها كأنما لم يمض علينا زمن! ومثلما يؤمن الإنجليزي بالثبات، يعرف أن التغيير محتوم وهو يقبله على مضض، وكثيرا ما يتحسر على الأيام الخوالي، ويكاد يتمنى لو وقف الزمن وظلت حديقته غناء إلى الأبد! وكان صدق هذا الحدس يتأكد لي كلما التقيت بالطاعنين في السن، وأذكر أنني دخلت صيدلية وكانوا يسمونها على أيامنا (
Unknown page