إلى المدينة، تلك الآيات العظيمة، التي تحكي قصة المملكة اليهودية الغابرة، وموقف الإسلام ونبيه منها، والرأي الواضح بشأنها، ومع «سليمان» عليه السلام في الإسلام، نجدنا بإزاء أكبر حشد من الخوارق والمعجزات، ونعيش جوا سحريا في مملكة للعجائب، تمتلئ بالمردة والعفاريت والجن والشياطين، وهو أمر تضيق بالحديث التفصيلي فيه صفحات موضوع قصير كهذا، ومن هنا سنعمد مضطرين إلى الإيجاز، بادئين بقوله تعالى:
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص (ص: 35-37)، وهي آيات توضح لنا إلى أي مدى بلغ ملك «سليمان» وعظمته كملك نبي.
وعن الشياطين الغواصين والبنائين يحدثنا نعمة الله الجزائري فيقول: «فجمع الجن والشياطين فقسم عليهم الأعمال، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام ... ووجه الشياطين فرقة فرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها، وفرقة يعلقون الجواهر والأحجار في أماكنها، وفرقة يأتون بالمسك والعنبر وفرقة يأتونه بالدر من البحار ... وبني سليمان المسجد (يقصد الهيكل) بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجوهر، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ، واليواقيت، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض بيت أبهى ولا أنور منه ، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ... وروي ... أنهم صوروا أسدين من أسفل كرسيه، ونسرين فوق عمود كرسيه، فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي بسط الأسدان ذراعيهما، وإذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما فظللاه من الشمس.»
14
ويستكمل «الثعلبي» وصف أحوال هذا العرش الفريد، فيقول: «فلما توفي سليمان (عليه السلام)، بعث بخت نصر (نبوخذ نصر الكلداني) فأخذ ذلك الكرسي ... فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم بالصعود عليه ولا بأحواله، فلما وضع قدمه على الدرجة السفلى رفع الأسد يده اليمنى فضرب ساقه ضربة شديدة، دقها ورماه، فحمل بخت نصر فلم يزل يعرج ويتوجع منها حتى مات.»
15
ومع كل هذه الأبهة، فإن حكمة الله أرادت أن يكون في المملكة الفخيمة فقراء ومساكين، لكن «سليمان» - فيما يروي «الجزائري» - كان يحل هذه المشكلة الاجتماعية بحكمة نادرة المثال مشكورة، فكان «إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف، حتى يجيء إلى المساكين ويقعد معهم، ويقول: مسكين مع المساكين ... فلا يزال قائما حتى يبكي»!
16
هذا بالطبع مع قوله تعالى في كتابه الحكيم لنبيه الحكيم:
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (ص: 39).
Unknown page