وسفره إلى الشام
وطوى الرسول عدة ليال لم يذق فيها طعم الكرى * وكان وصوله إلى «المدينة» ليلا * فكره أن ينزل عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها، ودخل المسجد فسلم على القبر النبوي وقبر أبي بكر، ثم أتى مكانا في المسجد ونام فيه نوما عميقا * فلم يستيقظ إلا على صوت عمر يؤذن، وكان يغلس في الأذان * ثم دخل الإمام إلى المسجد وهو يقول «الصلاة رحمكم الله» * فنهض الرسول في من نهض، وتوضأ وصلى خلف عمر صلاة الفجر، وبعد الصلاة انحرف عمر عن محرابه، فقام الرسول إليه وسلم عليه. فلما نظر عمر إليه صافحه واستبشر، وقال «ميسرة ورب الكعبة. ما وراءك يا ابن مسروق.» * فدفع إليه الرسول الكتاب. فقرأه الإمام على المسلمين الحاضرين في المسجد وفيهم الأمراء والصحابة يتقدمهم علي وعثمان بن عفان * فاستبشر الجميع به؛ لقرب وقوع عاصمة الروم الدينية وبلد الأنبياء في أيديهم. فقال عمر يستشيرهم في الرحيل أو الإقامة: «ما ترون رحمكم الله فيما كتب أبو عبيدة.» * وكان أول من تكلم عثمان بن عفان * فقال: «يا أمير المؤمنين، إن الله قد أذل الروم، وأخرجهم من الشام، ونصر المسلمين عليهم، وقد حاصر أصحابنا مدينة إيلياء وضيقوا عليهم، وهم في كل يوم يزدادون ذلا وضعفا ورعبا. فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف، ولقتالهم مستحقر، فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» * فقال عمر: «جزاك الله خيرا» * ثم التفت إلى باقي المشيرين، وقال: «هل عند أحد منكم رأي غير هذا؟» * فيظهر أن المنافسة كانت موجودة بين علي وعثمان قبل وصول عثمان إلى الخلافة، ولذلك كان علي يتعرض أحيانا لعثمان كما تقدم. فأجاب «نعم، عندي غير هذا الرأي، وأنا أبديه لك رحمك الله.» * فقال عمر: «ما هو يا أبا الحسن؟» * فأجاب علي: «إن القوم قد سألوك، وفي سؤالهم ذلك فتح للمسلمين، وقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام، وإني أرى أنك إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك، وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد وصعود كل جبل حتى تقدم عليهم. فإذا أنت قدمت كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح، ولست آمن أن يبأسوا (أي الروم) منك ومن الصلح، ويملكوا حصنهم، ويأتيهم المدد من بلادهم، فيدخل على المسلمين من ذلك الهم والبلاء. لا سيما بيت المقدس عندهم وهو معظم وإليه يحجون فلا يتخلفون عنه، والصواب أن تسير إليهم إن شاء الله تعالى.»
1 * فقال عمر حينئذ: «لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا، ولست آخذ إلا بمشورة علي.» * ثم أمر الناس بالاستعداد للمسير معه.
فيا له من زمن صغير كبير ذلك الزمن الذي كانت فيه ملوك الأمم وقوادها يرجعون إلى رجال العقل والفكر في سياسة ممالكهم، ويفصلون في الأمور السياسية الجسام التي عليها تتوقف حياة ممالك ودول عظيمة في مسجد صغير ساذج في مدينة صغيرة ساذجة بدون كلفة بين أفراد من الأصحاب والأصدقاء كأنهم عائلة واحدة.
على طريق الشام
ولما فشا الخبر أن عمر مسافر إلى الشام خرج الناس في المدينة؛ لتوديعه وتشييعه * فأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات، ثم قام إلى القبر النبوي فسلم عليه وعلى قبر أبي بكر * واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب * ثم خرج «على بعير
2
له أحمر وعليه غرارتان؛ في إحداهما سويق، وفي الأخرى تمر، وبين يديه قربة مملوءة ماء، وخلفه جفنة للزاد.» * وكان مرتديا «بمرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة بعضها من أدم.» * «وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه». *
هكذا كان لباس الأمير العظيم الذي فتحت له كنوز قيصر وكسرى.
وكان معه جماعة من الصحابة ممن شهدوا واقعة اليرموك، وعادوا إلى المدينة بعدها في جملتهم الزبير وعبادة بن الصامت. *
Unknown page