Tocqueville Muqaddima Qasira
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
elite (النخبة أو الصفوة). والآن حيث إن الجميع متساوون في الأهلية، فلماذا يجب على بعضهم طاعة البعض الآخر؟ إن الفرد يطيع من هم مسئولون عنه، ليس لأنه أقل منهم، ولكن لأن تلك الطاعة مفيدة؛ فهو يتخلى عن كبريائه من أجل إنجاز شيء ما، مثل إنشاء طريق لا يمكنه إنجازه بنفسه. وفي النهاية، لا تزال لديه كبرياء الإنجاز إلى جانب متعة المخالطة الاجتماعية؛ فلقد تعلم، كما لو كان في مدرسة ابتدائية، أنه يمكن أن يطيع غيره وهو لا يزال حرا. في مقدمة توكفيل لكتابه «الديمقراطية في أمريكا»، ذكر أن الديمقراطية في أوروبا «تركت لأهوائها الهمجية»؛ أما هنا في البلدة الأمريكية، فهي تزدهر بينما تتمتع بالمشروعية التي لا تتمتع بها هناك.
تعلم أمريكا نفسها من خلال البلدات كيف يمكن العيش في حرية، وتوكفيل - من خلال تحليله - كان يعلم أمريكا ماذا تفعل. اعترف توكفيل أن حكومة البلدة غير موجودة في كافة أنحاء أمريكا، وقد بالغ بلا شك في تقدير فضائلها والحث على تقليدها من خلال مدحه لها. فإذا كان مبدأ سيادة الشعب يعمل من أعلى لأسفل بدلا من أسفل لأعلى، كما في فرنسا، فسيكون مفروضا ولن يكون محسوسا؛ فحكومة البلدة، التي يكون فيها العديد من المناصب بالانتخاب، ترضي الكثير من الطموحات البسيطة وتربط المواطنين بحكومتهم التي يعتبرونها ملكهم، وهي تجعلهم يعتادون على أشكال الحكومات؛ «الأشكال التي دونها تنشأ الحرية فقط من خلال الثورات.» قال توكفيل إن الديمقراطية تزدهر من خلال الانتخابات، وأمريكا مزدهرة لأن لديها انتخابات، وليس الأمر أن لديها انتخابات بسبب أنها مزدهرة.
هناك شكل آخر يعلم الحكم الذاتي للأمريكيين، وهو نظام المحلفين؛ فهو بمنزلة «مدرسة مجانية ومفتوحة دائما يصبح كل عضو فيها مدركا على نحو جيد لحقوقه .» في إنجلترا، كانت هيئات المحلفين المكونة من النبلاء عبارة عن نظام أرستقراطي، لكنها في أمريكا نظام ديمقراطي يعلم المواطنين كيف يصدرون أحكاما قضائية؛ أي كيف ينفذون القوانين العامة، التي من نوعية القوانين التي تكون السلطات التشريعية الديمقراطية راغبة في إقرارها، في بعض الظروف التي قد تحتاج فيها العدالة لبعض التعديل. وهو يعلم «كل شخص ألا يتنصل من تحمل مسئولية أفعاله الشخصية»، وهي فضيلة سياسية إنسانية، بحسب تعبيره. أثنى توكفيل على هذا النظام ثناء كبيرا؛ فهو «أكثر الوسائل حيوية في جعل الناس يحكمون»؛ ربما تكون تلك مبالغة مقصودة تتناسب مع استراتيجيته الخاصة بالتوجيه أو الحث التي تتخفى وراء الثناء. وأضاف أن ما يجعل الناس يحكمون «هو أيضا أكثر السبل فاعلية في تعليمهم كيف يحكمون.» ففي أمريكا، يتعلم الشعب الحر بالفعل وليس بالرجوع لنظرية ما قبل الفعل.
بوجه عام، الحكم على الآخرين من خلال نظام المحلفين يحد من سيادة الشعب، معلما إياه أن سيادته لها حدود، وأنه يجب أن يكون لها إطار قانوني، حتى إن القوانين الجيدة، عند تنفيذها، ربما تكون قاسية جدا. وفي نفس الوقت، يكشف انتخاب القضاة في الولايات الأمريكية أنه في الانتخابات تكون للشعب بوجه عام سلطة تعسفية للاستبعاد لا يمكن تبريرها أو مواجهتها على نحو كامل؛ فمهما تم تقييد سيادة الشعب وتحديدها، فهي لا تزال محتفظة بعنصر ما من اللاعقلانية؛ ففي نهاية الأمر قد لا تصبح تلك السيادة أكثر عقلانية من تلك الخاصة بأي نظام ملكي؛ فكل منهما له أهواؤه. فلا يمكن أن تكون هناك عقلانية كاملة في الحرية، ويجب على المواطنين الأحرار الذين يرون أن حزبهم ومرشحيهم قد خسروا، أن يتعلموا كيف يتقبلون قرار الشعب بهدوء شديد.
وفيما يتعلق بالفضائل السياسية لحكومات البلدات ونظام المحلفين، سلط توكفيل الضوء على خصيصة مهمة من خصائص مركزية الحكم، كثيرا ما يستشهد بها حتى الآن؛ فمركزية الحكم أمر جيد إذا كان الهدف منها توحيد القوى من أجل خدمة مصالح الناس، لكن مركزية الإدارة تضعف من سيادة من يخضع لها؛ لأنها، بمطالبتها بالتوافق، تميل لإضعاف «روح المدينة» فيهم، وهي ممارسة الحكم الذاتي إلى جانب مقاومة الغرباء المنعكسة في الحرية المحلية المتمثلة في حكومة البلدة ونظام المحلفين. اعترف توكفيل أن الإدارة المركزية يمكن أن تكون أكثر فاعلية، لكنها تصبح أكثر نهما للسلطات والمزايا، وتتسع دائرة تأثيرها، وتصبح غير مدركة للأضرار الكبيرة التي تحدثها عندما تنتزع الإدارة من يد الشعب، رافضة تعاونه المجاني ومعطية الإدارة لمسئولين بيروقراطيين يوجهونها من المركز. فرنسا نموذج مجسد لهذا الخطأ؛ حيث كانت إدارة النظام الملكي من قبل رؤساء وزراء مثل الكاردينالين مازاران وريشليو مثالا سيئا حذت حذوه الثورة الفرنسية؛ لكن الولايات المتحدة بفيدراليتها حافظت على نظام الإدارة المحلية، وضربت مثالا جيدا للامركزية الإدارية في إنجلترا، وهو شكل آخر للإدارة مأخوذ من النظام الأرستقراطي لكن تحول للنهج الديمقراطي.
إن نظام الفيدرالية في أمريكا هو الاتحاد المنشأ بموجب الدستور، وانتقل توكفيل من الحديث عن حكومة البلدات التي وصفها بأنها شكل حكم طبيعي وتلقائي، وعن حكومة الولايات الفردية التي وصفها أيضا بأنها شكل حكم طبيعي يشبه السلطة الأبوية، إلى الحديث عن الاتحاد الذي سماه «إنجازا مبدعا». ثم أثنى على تأسيس الأمريكيين دستورهم فيما بين عامي 1787 و1789، مادحا إياهم بأنهم «شعب عظيم حذره مشرعوه» من حدوث أزمة، فتدبر الأمر لمدة عامين وحدد عمق المشكلة، ثم وجد الحل دون عجلة وخضع له «دون أن يكلف الإنسانية قطرة دمع أو دم واحدة.» كان هذا الإنجاز «جديدا في تاريخ المجتمعات»، وتماشيا مع مبدأ سيادة الشعب، أرجع الفضل في وضعه وتطبيقه للشعب الأمريكي، ثم أثنى بعد ذلك على مؤسسي أمريكا والحزب الفيدرالي لقيادتهم الحكيمة للأمر، الذين وصفهم بأنهم: «أفضل العقول وأنبل الشخصيات التي ظهرت في العالم الجديد.» ويبدو أنه كان يشير إلى أن السيادة تتجلى أحيانا في الصبر والإذعان لمن لديهم فضيلة أعلى، وليس في الحسم.
الجمعيات والمصلحة الشخصية
إن ما يمكن أن يطلق عليه عالم الاجتماع اليوم جماعة يسميه توكفيل جمعية. توحي الكلمة بأن المجتمع يتكون من ارتباط الشخص بآخرين. إن عملية الارتباط هذه طبيعية بالنسبة إلى البشر، وإن كانت أقل طبيعية من رغبة الشخص في العيش بمفرده. لكن في الديمقراطية الكل متساوون؛ ومن ثم غير معتمدين بعضهم على بعض؛ ولذلك فإن الرغبة في المساواة تميل لإضفاء الفردية على المواطنين، ويجب على الأفراد القيام بعمليات الارتباط هذه بأنفسهم، ولا يمكن اعتبارها أمرا مسلما به. ويطلق توكفيل تقريبا على أي مجموعة مكونة من أكثر من شخصين جمعية؛ مثل: الزواج، والنادي الخاص، والشركة المشتركة، والحزب السياسي، والبلدة، والأمة، وحتى الجنس البشري. هنا تظهر سمة متفردة أخرى لليبراليته؛ ففي حين أن جون ستيوارت ميل، وهو ليبرالي أكثر نمطية، حاول جاهدا الدفاع عن قيمة الفردية فيما يتعلق بعدم الامتثال لرأي الأغلبية، فإن توكفيل توسع في استعراض مزايا الارتباط بالنسبة إلى المجتمع الليبرالي؛ فقد كان أقل وثوقا من ميل في أن الأفراد يمكن أن يتعلموا التصدي للأغلبية، وأراد أيضا إقناع الأغلبية بأنها لا تحتاج إلى طلب التوافق.
إن الجمعيات السياسية هي النوع الأول الذي تناوله توكفيل، وفي الجزء الثاني أضاف تمييزا بين الجمعيات السياسية والمدنية، وهذان النوعان من الجمعيات يندرجان تحت الجمعيات غير الرسمية لما أطلق عليه «المجتمع المدني»، وهو مصطلح مستخدم على نطاق واسع اليوم للإشارة إلى الحيز بين الدولة والفرد، لكن توكفيل استخدمه أيضا للإشارة إلى البلدة، وكذلك الأشكال الأخرى من الحكومة. إن الارتباط عملية سياسية، أو يميل لأن يكون كذلك؛ فهو فعل نابع من الحرية السياسية. قال توكفيل إن أي جمعية مدنية تكون بين أشخاص لهم مصالح متشابهة، وأي جمعية سياسية تكون بين أشخاص مختلفين، لكن يبدو أنه لم يكن مهتما بالتشديد على مثل هذا التمييز؛ لأنه في واقع الأمر وصف مثاله الرئيسي - الذي كان الجمعيات الداعية للاعتدال في معاقرة الخمور في أمريكا في القرن التاسع عشر - بأنه مدني في بعض المواضع، وسياسي في مواضع أخرى. في الولايات المتحدة اليوم، تتألف جمعيات مثل رابطة السلاح الوطنية أو الرابطة الأمريكية للمتقاعدين، من أشخاص لديهم مصالح متشابهة، ولكنها ذات طابع سياسي واضح جدا.
إن السبب وراء عدم وجود تمييز واضح بين الجمعيات السياسية والمدنية، هو أن الأمريكيين تعلموا كيفية الارتباط من الارتباط في السياسة؛ فالشعب يعلم نفسه، بحسب قول توكفيل، أولا من خلال نظامي البلدات والمحلفين، ثم يأتي دور الجمعيات بوجه عام التي تعد بحسب تعبيره «مدارس عظيمة مجانية يذهب إليها كل المواطنين ليتعلموا النظرية العامة للارتباط.» ربما تسأل: ما هي تلك النظرية العامة؟ لم يجب توكفيل على هذا السؤال، لكنه تحدث عن فن وعلم الارتباط، جامعا على نحو ما بين الفعل الإنساني والفهم الإنساني؛ بحيث تنبع النظرية من الممارسة الفعلية لعملية الارتباط.
Unknown page