لم ترق قصة «المخطوبة» كثيرا لصديق أو صديقين، وظنا أنها لا تتلاءم كل الملاءمة وما أخرجنا أخيرا من قصص تحت عنوان «الصليبيين»، وأكدا لي أن هذا العنوان: «قصص الصليبيين»
1
دون الإشارة المباشرة إلى أخلاق قبائل الشرق، وإلى الخصومات الخيالية في ذلك العهد، يكون بمثابة اللوحة تعلن عن مأساة «هاملت» ولا تذكر شخصية أمير الدنمارك.
2
ولكني، من ناحية أخرى، أدركت المشقة في رسم صورة حية لجزء من العالم أجهله كل الجهل، وليس لدي عنه إلا ذكريات باكرة لقصص ألف ليلة وليلة؛ ولست أعاني من قصور الجهل فحسب، ذلك الجهل الذي أحاطت بي غيومه كثيفة فيما يتعلق بأخلاق الشرق، كما تحيط الغيوم بالمصري، ولكن هناك كثيرا من معاصري على بينة من الموضوع كأنهم من أهل أرض «جوشن» المكرمة؛ فلقد تغلغل حب الأسفار بين جميع الطبقات، ودفع بأبناء بريطانيا إلى أنحاء العالم طرا، وتطلعت عيون البريطانيين في العهد الأخير إلى بلاد اليونان، التي تجذب النظر بما فيها من آثار الفنون، وبجهادها في سبيل الحرية في وجه حاكم مسلم طاغية، بل وباسمها ذاته، حيث لكل عين أسطورتها القديمة، كما تطلعت إلى فلسطين التي تحببها إلى الخيال ذكريات أكثر من هذه قداسة، والتي وصفها الرحالة في العصر الحديث. ولذا فإني لو حاولت هذا العمل الشاق: وهو أن أبدل بأساليب من بنات خيالي أزياء الشرق الحقيقية، فإن كل رحالة ألاقي ممن ضربوا في الأسفار إلى وراء ما كان يعرف قديما ب «الرحلة العظمى»، يحق له بشهادة العين أن يأخذ علي ما زعمت لنفسي، وكل عضو من أعضاء «نادي الرحالة» يزعم أنه وطأ بقدميه أرض «آدم» له أن يقف مني موقف الناقد الشرعي ويراجعني فيما أقول. ولما كان مؤلف «أناستاسيوس»، وكاتب «الحاج بابا»، قد وصفا عادات الأمم الشرقية ورذائلها وصفا صادقا صحيحا، تمازجه فكاهة «لي ساج» ومقدرة «فيلدنج» على إثارة الضحك، فقد عن لي أن رجلا كمثلي، الموضوع غريب عنه كل الغرابة، لن يصدر، وهو راغم، إلا عما يباينهما مباينة غير مستساغة. أضف إلى هذا أن شاعر البلاط في قصته الفاتنة «ثلبا» قد بين لنا كيف أن رجلا عليما موهوبا مثله يستطيع أن يبلغ في بحثه بطريقة الاستقراء وحدها شأوا بعيدا في معرفة العقائد القديمة وتاريخ الشرق وعاداته، وبلاد الشرق هي المجال الذي ينبغي لنا أن نبحث فيه عن مهد الإنسان. وسار «مور» على الدرب عينه موفقا في كتابه «للا روخ» كما سار «بيرون» وضم تجاريب مشاهداته إلى واسع اطلاعه؛ وكتب بعضا من قصائده الخلابة الفاتنة. وقصارى الكلم أن موضوعات الشرق قد عالجها من قبل علاجا ناجحا أناس أقر لهم بالبراعة في هذا الفن، فبت أستحي من المحاولة في هذه السبيل.
كانت هذه العقبات شديدة علي، ولما أمسيت أفكر في الأمر جادا لم تفتر ولم تهن؛ ولكني قهرتها في نهاية الأمر؛ وما أملت أن أباري من ذكرت من المعاصرين، ولكني رأيت، من ناحية أخرى، أن أخلص من الأمر الذي شغل خاطري زمنا، دون أن أدخل مع أحد في ميدان المنافسة.
واستقر بي الرأي أخيرا على تلك الفترة التي تتصل بالحروب الصليبية اتصالا وثيقا، والتي التقى فيها صلاح الدين برتشارد الأول، ذلك الملك المقاتل، ذلك الرجل الساذج الكريم، ذلك المثال الصادق للفروسية بكل ما فيها من إسراف الفضائل، وما فيها من رذائل لا تقل عنها إسرافا ؛ وقد أظهر الملك المسيحي الإنجليزي كل قسوة وعنف، وهما من صفات السلطان الشرقي، بينما أبان صلاح الدين عن الحكمة والسياسة البعيدة، وهما من مميزات الملك الأوروبي؛ وتباريا أيهما يفضل الآخر في صفات الفروسية والشجاعة والكرم. هذا التباين الفريد بين الرجلين أمد المؤلف، كما يظن، بالمادة التي ينسج منها قصة خيالية لها لذة فائقة. وكان من الشخصيات الثانوية التي أدخلت على الرواية، فتاة زعموا أنها من ذوات قربى رتشارد قلب الأسد، فكان في ذلك مسخ لحقائق التاريخ استاء له المستر «ملز» مؤلف «تاريخ الفروسية والحروب الصليبية»، وما نحسب إلا أنه لا يدري أن القصص الخيالي له، بطبيعة الحال، أن يبتدع مثل هذا الابتداع، وإنها حقا لضرورة من ضرورات الفن.
وضمت قصتي كذلك الأمير «داود الاسكتلندي» الذي التحق بالجيش فعلا، والذي لعب دور البطولة في بعض المغامرات الخيالية وهو في طريق العودة إلى وطنه، وقد جعلت منه شخصية من شخصيات الرواية.
وحقا لقد أنزلت من قبل قلب الأسد إلى ميدان القصص، ولكني عرضت فيما مضى لصفاته الخاصة أكثر مما عرضت هنا في «الطلسم». كان في القصص السالفة فارسا متنكرا، أما هنا فهو بصفته الصريحة، صفة الملك الغازي؛ ولذا فما تسرب إلي الشك في أن اسما كاسم الملك رتشارد الأول، عزيزا على الإنجليز، ربما عمل على إدخال السرور إلى نفوسهم أكثر من مرة.
وعالجت كل ما كان يعتقد القدماء، من صدق ومن خرافة، بشأن هذا المقاتل العظيم الذي كان أكبر فخر لأوروبا وفرسانها، والذي ألف العرب - حسب ما يقول مؤرخ من بلادهم - أن يسبوا خيولهم إذا ذعرت، باسمه المخوف، فكانوا يقولون: «هل تحسبين أن الملك رتشارد في طريقك فتحيدين عنها آبدة؟!» وأعجب سجل لتاريخ رتشارد الملك قصة خيالية قديمة ترجمت عن أصل نورماندي، وقد كانت أول أمرها أقرب ما تكون إلى رواية عمل من أعمال الفروسية، ولكنها حشيت فيما بعد بأعجب الأساطير وأشدها فزعا، وربما لم تتوارد على الأيام قصة خيالية منظومة يختلط فيها التاريخ الحق العجيب بحادثات أكثر من هذه مبالغة وأشد عبثا؛ ولقد سقنا في ملحق بهذه المقدمة عبارة القصة التي يظهر فيها رتشارد بمظهر الغول يأكل بالفعل لحم البشر.
Unknown page