213

جراي

ورؤي نظرا لحرارة الجو أن تتم المبارزة الحاسمة التي بعثت على اجتماع هذا الحشد من الأمم العديدة عند «درة الصحراء» بعد مشرق الشمس بساعة، وكانت أرض النزال الفسيحة التي تم إعدادها تحت إشراف فارس النمر تضم مساحة من الرمل الصلب، طولها مائة وعشرون ذراعا وعرضها أربعون، وكانت تمتد طولا من الشمال إلى الجنوب حتى تهيئ للفريقين الانتفاع بإشراق الشمس على السواء. وأقيم الكرسي الملكي لصلاح الدين في الجهة الغربية من الحظيرة في قلب المكان، حيث كان ينتظر من المتبارزين أن يلتقيا في منتصف العراك، وأقيم تجاه هذا رواق من حجرات مغلقة أنشئ بحيث تستطيع السيدات اللائي أقيم لإيوائهن أن يرين القتال دون أن يتعرضن للنظر. وفي نهايتي أرض النزال أقيمت الحواجز التي يمكن فتحها أو إغلاقها حسبما يريد المرء، وأقيمت كذلك العروش، ولكن لما رأى الأرشدوق أن عرشه أسفل من عرش رتشارد أبى أن يشغله، أما قلب الأسد الذي كان على أهبة لأن يسلم بالكثير حتى لا تقف الرسوم في سبيل النزال فقد رضي لساعته أن يبقى الكفيلان - كما كان يطلق عليهما - على ظهري جواديهما أثناء القتال. وفي طرف من أطراف الميدان وقف أتباع رتشارد تقابلهم صحبة كنراد؛ وحول العرش الذي أعد للسلطان اصطف حرسه الفاخر من أهل جورجيا، وشغل بقية الساحة النظارة من المسيحيين والمسلمين.

وقبل منبثق النهار بوقت طويل أحاط بساحة النزال عدد من الأعراب أكثر مما رأى رتشارد في المساء السالف، ولما أشرقت فوق الصحراء من قرص الشمس البهي خيوط الشعاع الأولى، قام السلطان نفسه ينادي: «حي على الصلاة، حي على الصلاة!» بصوته الجهوري، فأجابه الآخرون الذين تخول لهم مرتبتهم وتدفعهم حماستهم إلى النداء مؤذنين، وكان مشهدا رائعا أن تراهم جميعا وقد خروا على الأرض سجدا يكررون دعواتهم مولين شطر مكة، ولكنهم ما إن نهضوا من السجود حتى بدت أشعة الشمس - وسرعان ما اشتد اتقادها - وكأنها تؤيد ما زعم اللورد جلزلاند في الليلة السابقة؛ فلقد انعكس ضياؤها من رءوس الحراب العديدة؛ ولا مرية في أن رماح الأمس الجرداء لم تعد كما كانت بغير سنان، فأشار دي فو لسيده إلى هذا، فأجابه الملك جازعا إنه يثق كل الثقة في إخلاص السلطان ونزاهته، ولئن كان دي فو يرتاع لجسمه الضخم فلينسحب.

وسرعان ما علا بعد هذا صوت الدق على المزاهر، وما إن طرق هزيمها أسماع الفرسان حتى نزلوا جميعا عن ظهور خيولهم، واستلقوا على وجوههم كأنهم يصلون الصبح ثانية، وإنما كان ذلك لتهيئة الفرصة للملكة وأديث ووصيفاتها كي يخرجن من السرادق إلى الرواق الذي أعد لهن، وقد خفرهن خمسون حارسا من سراي صلاح الدين شاهرو السلاح، وقد أمروا أن يمزقوا إربا إربا كل من يجرؤ - أميرا كان أو حقيرا - على النظر إلى السيدات وهن سائرات، أو يحاول أن يرفع رأسه، حتى يعلن «سكوت» الموسيقى للرجال جميعا أنهن قد أوين إلى رواقهن حيث لا تراهن العيون المتطلعة.

هذه الرعاية الشرقية لاحترام الجنس اللطيف رعاية لا يتصورها العقل، حدت بالملكة برنجاريا أن تتفوه ببعض النقد والقدح الشديد في صلاح الدين وبلده، ولكن عرينهن - كما أطلقت على الرواق الملكة الحسناء - كان مغلقا في أمن، ووقف على حراسته أتباعهن السود، فاضطرت إلى القناعة بأن ترى وتناست إلى حين حبها لأن ترى، وهو إلى نفسها أشهى.»

وحينئذ ذهب كفيلا البطلين - كما يحتم عليهما الواجب - ليطمئنا على تمام تسليح رجليهما واستعدادهما للنزال, ولم يسارع أرشدوق النمسا إلى تأدية هذا الجانب من طقوس الحفل إذ إنه كان قد أدمن في شراب نبيذ شيراز في الليلة السالفة إدمانا شديدا لم يألفه، ولكن كبير رجال المعبد، وقد كان أكثر منه اهتماما بنتيجة النزال، بكر إلى خيمة كنراد منتسرا، ولشد ما كانت دهشته حينما أنكر عليه الأتباع الدخول

فقال لهم كبير رجال المعبد وقد اشتد به الحنق: «ألا تعرفوني أيها الأوغاد؟»

فأجاب خادم كنراد وقال: «إنا نعرفك أيها الرجل الشجاع المبجل، ولكن حتى أنت لا يجوز لك الدخول الآن؛ إن المركيز قد أوشك أن يقر بما في نفسه.»

فصاح رجل المعبد في نغم اختلط فيه الذعر بالدهشة والازدراء وقال: «كيف يقر بما في نفسه؟ ولمن؟ ناشدتكم الله إلا خبرتموني.»

فقال الخادم: «لقد أمرني سيدي أن أكتم السر.» وما إن سمع كبير رجال المعبد هذا حتى دفعه وخلفه وراءه ودخل الفسطاط عنوة.

Unknown page