Thawrat Islam Wa Batal Anbiya
ثورة الإسلام وبطل الأنبياء: أبو القاسم محمد بن عبد الله
Genres
ولما ترعرع إسماعيل في كنف أمه تزوج من جرهم، وملك أولاده الكعبة من بعده، وما زالوا يعبدون الله على طريقة إبراهيم وإسماعيل حتى هلك، ومن بعده حل فيها الفساد وصارت موضعا لمساوئ خلقية نعف عن ذكرها (قصة إساف ونائلة وما يحيط بهما من الأساطير)، وتغلبت جرهم على بني إسماعيل وطردوهم. واستمرت حالة مكة على ما كانت عليه إلى أن تمكنت قبيلة خزاعة من التغلب على جرهم، وحاربتها حربا شعواء سالت فيها الدماء على جدران الهيكل، وسلب عمرو بن ربيعة بن حارثة سيد جرهم غزالتين من ذهب وحليا أخرى وصفائح كانت زينة الكعبة، وألقى بها جميعها في بئر زمزم التي قيل إنها تفجرت إكراما لظمأ إسماعيل طفلا، وهي الأعلاق التي عثر عليها عبد المطلب أثناء حفر زمزم.
وكان عمرو بن ربيعة آخر من حكم مكة من جرهم، ولم يحكم مكة لبني خزاعة كما توهم الطبري، وأصدق من الطبري في هذه النقطة رواية الأزرقي، وابن هشام أصدق؛ إذن خرج بنو إسماعيل طرداء مظالم جرهم التي اغتصبت الهيكل وأصنامه ووضعت يدها على خيراته. ولم يكن هذا الاستيلاء لغاية دينية، وإنما كان جلبا لمنافع اقتصادية. وقد أفاض في هذه الروايات النصف تاريخية الأزرقي والطبري وياقوت وابن خلدون وغيرهم، على أنها وقعت بتفصيلها وعلى الصورة التي دونت بها، ونحن تقبلنا هذه الرواية بصدر رحب على ما فيها من المبالغة لنخرج منها لحقيقة تاريخية واحدة، وهي أن قبيلة قريش التي تغلبت على خزاعة لم تكن أصيلة في مكة؛ أي إنها لم تكن أولى القبائل التي قطنتها، بل إنها أقبلت عليها من مكان بعيد وانتزعتها من أيدي قبائل كانت سائدة على مكة والكعبة. وبعبارة أخرى: إن قريشا احتلت مكة واستعمرتها، وهذا لا يمنع قوتها وشرفها ولا يطعن في شأنها لبداوتها، وهذا الفتح أو التغلب القرشي على القبائل التي كانت بجوار الحرم لم يكن سوى صورة مصغرة للنزوح والهجوم والغزوات السلمية والحربية التي كانت مستمرة في قلب الجزيرة، ومنها إلى الخارج، ومن الخارج إليها، وحينئذ لا بد أن تكون قبيلة قريش عربية قادمة من وديان العراق وضفاف دجلة والفرات التي كانت خزانة الأمم الفتية ومهد الحضارات، أو عائدة منها إلى وطنها كما عاد اليمنيون من بابل إلى الجنوب بقيادة الزعيم قصي - أي القادم من مكان بعيد - كما يدل اسم قضاعة على الانقطاع؛ أي التخلف.
وهذا الأمر نفسه يفسر لنا كثيرا مما دونه المؤرخون من مناقب قريش الخاصة بها والتي لم تكن في عرب الجزيرة، كالتجارة والتشريع والتنظيم المدني وحماية الغريب وتأسيس دار الندوة وخلق الوظائف المدنية والدينية؛ فإن كافة هذه الأعمال والآراء لم تكن في ذهن القبائل المتوحشة المحاربة التي وصفنا حياتها في كثير من صفحاتنا. ويؤيد هذه الفكرة اسم «قصي» نفسه الذي معناه القادم من مكان بعيد - كما ذكرنا - فقد كان بجسمه وفكره وتكوينه وعقله وخلقه قصيا عن كثير من أمورهم.
وقد بقيت في المناسك ألفاظ وأسماء تدل على أصول هذه العلاقات واقتسام الحقوق بين جرهم وخزاعة وتغلب إحدى القبيلتين على الأخرى، ومنها «الإجازة»، وكانت في بيت الغوث بن مر بن عدوان (ابن خلدون، ج2، ص333)، والنسي، وكانت في بيت القلماس (الطبري، ج1، ص134، والبيروني، ص13-14).
تداعي الوثنية وعقم أديان العرب قبل الإسلام
قد كان دين العرب قبل الإسلام عقيما ومتداعيا إلى السقوط بعد أن دب إليه الفساد وسرى الضعف والانهيار إلى عناصره، ويقول الواقدي: «لقد عراه البلى، وأخنى عليه الدهر.» ولكن أسد قريش لم يسأموا عبادة أربابهم إلا قليلا، ولم تحدثهم أنفسهم باستبدال سواها بها؛ لأن خيالهم مهما كان واسعا، فلم يكن ليدخل في أذهانهم أنه من اليسير عليهم أن يخلقوا نظاما دينيا كاملا يحل محل هذا النظام العتيق، ولم يكونوا يستطيعون إدراك «الإمكان» في هذه المسألة؛ لأن تكوين الآلهة ليس من صنع البشر، ولا وضع القواعد والشعائر والرسوم في طاعة جنس الإنسان؛ فإذن لا سبيل إلى الاستغناء عن هذه الأرباب وإن ملوها وضجروا منها وزهدوا فيها، فلا بد لهم من الصبر عليها لأنها قديمة، ولأنها معبودة آبائهم من قبل؛ فقد ازدادت بالتقدم شأنا، وأفادت بمضي المدة جلالا ووقارا، وكسبت من كر الأجيال ومر القرون عظمة واحتراما، وإذن فهم يصبرون عليها ولو على مضض، وقد يهفو أحدهم في حقها ، أو قد يعتدي عليها فيكون كافرا بها أو حاقدا عليها، ولكن جحود الفرد وإلحاده لا يمس عقيدة القبيلة ولا يزعزع إيمانها، ولا يصرف عنها الخير الذي قد تجلبه الآلهة، ولا يجلب الشر الذي قد تصرفه الآلهة.
ولكن هناك أفرادا يعدون على الأصابع، كانوا يشعرون في أعماق أنفسهم أن القبيلة على باطل، ولكنهم لا يستطيعون المجاهرة ولا يقدرون على حياة سلبية في العبادة، لا يملكون أن يعيشوا بدون الاعتقاد في شيء وهم يرون الباطل في دين القوم ويشعرون بالحق في أنفسهم.
فكانوا يتلمسون عقيدة فضلى، ويلتمسونها في ماضيهم الروحي، في حنايا ضلوعهم وفي قلوبهم المنطوية على ذرات من الإيمان القديم وأشعة من نور ملة إبراهيم الحنيفية والتوحيد.
هذه الفئة تحنفت؛ أي رجعت إلى الحنيفية التي أتى بها إبراهيم؛ ومنهم أمية بن أبي الصلت في الطائف، وزيد بن عمرو في مكة، وأبو قيس بن أبي أنس وأبو عامر في المدينة؛ هؤلاء الأربعة كانوا البقية الباقية من دين إبراهيم وأطلقوا على أنفسهم اسم المتحنفين.
والحنيف إذن هو المتعبد المتطهر الذي يحاول الخلاص من أدران الحياة لتكون له في الحياة خطة عليا؛ حياة الروح قبل حياة الجسم. وربما كانت هناك علاقة لفظية بين التحنف والتحنث؛ والتحنث هو الذي كان يفعله رسول الله
Unknown page