مقدمة (1)
مقدمة (2)
مقدمات تمهيدية
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
انتشار الإسلام
الخلفاء الراشدون
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
دولة بني أمية
بنو العباس
الدولة الأموية في الأندلس
الدولة الفاطمية
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
الدولة الإسلامية
مناصب الدولة الإسلامية
الخلافة
مبايعة الخلفاء
علامات الخلافة
شارات الخلافة
ولاية الأعمال
الوزارة وما يتبعها
الجند وتوابعه
ديوان الجند
بيت المال
البريد
القضاء
ديوان الإنشاء
الحجابة
النقابة
مشيخة الطرق الصوفية
مقدمة (1)
مقدمة (2)
مقدمات تمهيدية
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
انتشار الإسلام
الخلفاء الراشدون
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
دولة بني أمية
بنو العباس
الدولة الأموية في الأندلس
الدولة الفاطمية
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
الدولة الإسلامية
مناصب الدولة الإسلامية
الخلافة
مبايعة الخلفاء
علامات الخلافة
شارات الخلافة
ولاية الأعمال
الوزارة وما يتبعها
الجند وتوابعه
ديوان الجند
بيت المال
البريد
القضاء
ديوان الإنشاء
الحجابة
النقابة
مشيخة الطرق الصوفية
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة (1)
لا مشاحة في أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث، فيه انتهى التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث، وقد علقنا بدرس هذا التاريخ منذ أعوام، وكنا نغتنم ساعات الفراغ من إنشاء «الهلال» ونعلق ما يبدو لنا من حقائقه على أمل التفرغ لتأليف تاريخ مطول فيه، وقد أعلنا عزمنا على ذلك غير مرة، ولا نزال على هذا العزم بعون الله.
ونظرا لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم - لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم - وما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه في حينه مما يتعلق بهذا التاريخ، وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعا في «الهلال»، لأن مطالعة التاريخ الصرف تثقل على جمهور القراء وخصوصا في بلادنا، والعلم لا يزال عندنا في دور الطفولة، فلا بد لنا من الاحتيال في نشر العلم بيننا بما يرغب الناس في القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية.
وقد صدر من تلك السلسلة إلى الآن ست حلقات تتضمن وصف أهم وقائع التاريخ الإسلامي إلى مقتل ابن الزبير وخلوص الخلافة لعبد الملك بن مروان،
1
وقد آنسنا من جمهور القراء شوقا إلى التوسع في هذا التاريخ واستطلاع كنه التمدن الإسلامي، ورأينا في أفاضل كتابنا تطلعا إلى البحث في هذا التمدن والنظر في علاقته بالتمدن الأوربي الحديث، وكتب إلينا غير واحد من أهل الأدب يسألوننا رأينا في ذلك، فرأينا أن نجعل تتمة السنة العاشرة من الهلال كتابا في هذا الموضوع نبين فيه تاريخ هذا التمدن ونستطرد مع الكلام إلى علاقته بالتمدن الإفرنجي.
وتاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، لا تاريخ حروبها وفتوحها، وخصوصا على ما تعوده مؤرخو العرب في تاريخ الإسلام، فإنهم يسردون الوقائع على علاتها، وقلما يشيرون إلى الأسباب التي تربط تلك الوقائع بعضها ببعض بحيث يرتاح العقل إلى تعليلها والنظر فيها وترسخ في ذهنه حقيقة تلك الأمة، على أننا نظنهم معذورين في ذلك باعتبار ما كانت تدعوهم إليه الحال من تجنب الخوض في أسباب تلك الوقائع، وأكثرها لا ينجو الباحث فيه من الانتصار لأحد الجانبين وهم يتجنبون ذلك، ولعل لهم عذرا آخر.
أما الآن فليس هناك ما يمنعنا من الخوض في هذا العباب، وقد حاول غير واحد من المستشرقين - من الإفرنج وغيرهم - استطلاع كنه ذلك التمدن، فلم يجدوا في كتب القوم ما يشفي غليلا، لتشتت تلك الحقائق وتبعثرها، ولذلك لما نشرنا في العام الماضي عن عزمنا على تأليف هذا الكتاب، كتب إلينا جماعة من هؤلاء الأفاضل يستغربون إقدامنا على ركوب هذا المركب الخشن.
والحق يقال إننا أعلنا هذا العزم ونحن لا نتوقع العثور على ما يزيد على صفحات تتمة السنة العاشرة من مجلة «الهلال» (160 صفحة) فشمرنا عن ساعد الجد وبذلنا جهد المستطاع في مطالعة ما كتبه العرب في الأدب والتاريخ والسياسة وسائر العلوم فيما وفقنا إليه من الكتب المطبوعة والمخطوطة ...
ومن أمثلة ما قرأناه من كتب التاريخ والفتوح والتقاويم مؤلفات البلاذري والمسعودي وابن الأثير وابن خلكان وأبي الفدا وابن خلدون وابن طاطبا والسيوطي والمقري من المؤرخين، وابن خرداذبة والأصطخري وياقوت الحموي من الجغرافيين، ومن كتب الأدب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكشكول، والمستطرف، للإبشيهي، وسراج الملوك للطرطوشي، وغيرها، ومن كتب التفسير والحديث والفقه تفسير الرازي والزمخشري وصحيح البخاري ومشكاة المصابيح والهداية وغيرها.
ومن كتب السياسة والإدارة كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الخراج وصنعة الكتابة لقدامة بن جعفر، والأحكام السلطانية للماوردي والعقد الفريد للملك السعيد، ومقدمة ابن خلدون، وغير ذلك من الكتب في موضوعات أخرى لا يخطر للمطالع أنها تفيد في هذا الموضوع، وقد عثرنا فيها على فوائد جمة، مثل حياة الحيوان للدميري، وعجائب المخلوقات للقزويني، وغيرهما، فضلا عن المعاجم والفهارس مثل كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وكتاب كشف الظنون لحاجي خليفة، وكليات أبي البقاء، وغيرها، وكل ذلك في اللغة العربية ...
ثم طالعنا ما يستطاع الوصول إليه مما ألفه الإفرنج في الإسلام وتاريخه وآدابه في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، مثل كتاب جستاف لوبون الفرنسي في تمدن العرب
2
وكتاب ليبو في تاريخ الدولة الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية
3
ومقالات في المجلة الآسيوية الفرنسية،
4
وكتاب فون كريمر بالألمانية في تاريخ تمدن المشرق،
5
وكتاب مولر الألماني في تاريخ الإسلام في الشرق والغرب،
6
وكتاب ستانلي لين بول الإنجليزي في الدول الإسلامية
7
وكتاب إدوارد جيبون الإنجليزي في اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها
8
وغيرهم.
وقد زاد عدد ما طالعناه من الكتب العربية والإفرنجية على مائتي مجلد ... عدا ما راجعناه من القواميس العامة والموسوعات على اختلاف اللغات والموضوعات، مع ما رسخ في ذهننا من مطالعة تاريخ المشرق بتوالي الأعوام، فوفقنا بعد كل ما تقدم إلى ما يملأ أضعاف الكتاب المطلوب من الأبحاث الفلسفية في تاريخ ذلك التمدن العجيب، من الوجوه السياسية والإدارية والعلمية والأدبية والأخلاقية، فلم نر بدا من تقسيم الموضوع إلى أجزاء نصدر الجزء الأول منها الآن، ثم نصدر ما يليه من الأجزاء تتمة للسنين التالية من الهلال إن شاء الله.
فالجزء الأول، وهو هذا، أساس ما يليه من الأجزاء، وقد صدرناه بمقدمات تمهيدية في العرب والتمدن وحال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة قبيله، والحكومة في الجاهلية وتاريخ الكعبة وقريش إلى ظهور الدعوة الإسلامية وكيفية ظهور هذه الدعوة، وانتشار الإسلام والفتوح الإسلامية إلى قيام الدولة الأموية فالعباسية فالأموية الأندلسية فالفاطمية فغيرها، وقد نظرنا في كل ذلك نظر الناقد، فلم نذكر حادثة إلا أسندناها إلى عللها وأسبابها وبينا ما نتج عنها وذكرنا علاقتها بما بعدها ... وخصوصا فيما ساعد العرب على فتح المملكتين الفارسية والرومية (البيزنطية) مع قلة عددهم وضعف معداتهم، وهو بحث فلسفي لم يستوفه أحد في لغة من اللغات على ما تعلم - إلا ما قد تراه في كتب الباحثين من الإفرنج وأكثره مختصر لا يروي غليلا - ولا يعابون في ذلك والموضوع بعيد عنهم ولا علاقة له بأحوالهم ولا بأديانهم ولا بآدابهم ولا بتاريخهم إلا قليلا - وإنما اللوم علينا نحن أبناء هذا اللسان - وقد سبقنا الإفرنج إلى البحث في تاريخ بلادنا وأمتنا وآدابنا وأخلاقنا.
وعمدنا بعد تلك المقدمات إلى النظر في المملكة الإسلامية في إبان عزها وفي إحصائها، ثم في الدولة الإسلامية وإدارتها وكيف نشأت وتشعبت إلى الوظائف المتعددة كالخلافة وما يتبعها والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم ذكرنا تاريخ كل هذه الإدارات والوظائف وما تفزع منها أو ألحق بها، وقد عانينا المشاق الكبرى في استخراج حقائق تلك التواريخ من كتب القوم، فربما قرأنا المجلد الضخم فلا نستفيد إلا فقرة أو فقرتين، وقد لا تتم الحقيقة الواحة إلا بمطالعة المجلدين أو الثلاثة.
ومن أمثلة ما اتفق لنا من هذا القبيل أننا بعدما كتبنا تاريخ ولاية الأعمال وتاريخ القضاء في الدولة الإسلامية، عمدنا إلى البحث عن رواتب العمال ورواتب القضاة في زمن الخلفاء الراشدين، فوجدنا في فتوح البلدان للبلاذري أن عمر بن الخطاب «بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة وجيوشهم، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، إلخ» لكنه لم يذكر مقدار عطاء أحد منهم، ثم وجدنا في كتاب سراج الملوك للطرطوشي في باب سيرة السلطان في الإنفاق من بيت المال وسيرة العمال قوله «ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى على عمار ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه، وعبد الله بن مسعود مائة درهم كل شهر، إلخ» ولم يذكر منصب عمار ولا منصب ابن مسعود، ولكننا جمعنا بين الروايتين فاستنتجنا منهما أن راتب من يتولى الجيوش والصلاة في عمل من الأعمال، كان على عهد عمر بن الخطاب ستمائة درهم، وراتب القاضي مائة درهم في الشهر، وعلمنا من قرائن أخرى أن الذي يتولى الصلاة والجيوش في أيام عمر هو العامل، ومن قرائن أخرى أن عمارا كان عاملا لعمر على الكوفة، فتحققنا من مجموع ما تقدم أن راتب العامل كان على عهد عمر ستمائة درهم وراتب القاضي مائة درهم - وقس على ذلك.
وسنبحث في الجزء الثاني عن ثروة المملكة الإسلامية وغنى أهلها وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء في مجالسهم وألعابهم واهتمامهم بالعلم والعملاء والشعر والشعراء والدخول عليهم وجلوسهم للناس وقصورهم وبذخهم وركوبهم وضيافتهم وكرمهم والأبنية الإسلامية والمدن الإسلامية إلخ ...
والجزء الثالث يبحث في العلوم والآداب والشعر والصناعة وحالها في الشام والعراق قبل الإسلام، وكيف ارتقى إليها المسلمون وتاريخ ذلك الارتقاء ومقداره.
والجزء الرابع يبحث في الآداب الاجتماعية في تلك العصور الزاهرة على ما يقتضيه المقام.
9
وسنختم المقام ببيان نسبة التمدن الإفرنجي الحديث إلى التمدن الإسلامي، ويكون الكلام في ذلك جليا واضحا بعد تفصيل عوامل هذا التمدن في الأجزاء السابقة.
10
فترى مما تقدم أن الموضوع شاق ووعر، فضلا عن حداثته في عالم التأليف مع قصورنا في هذا الشأن، وفي ذلك تمهيد للعذر على ما قد يشوب هذا الكتاب من النقص، ونتقدم إلى أهل الفضل أن يؤازرونا بملاحظاتهم وآرائهم للانتفاع بها فيما سيصدر من الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
مقدمة (2)
ظهر هذا الكتاب منذ بضع عشرة سنة، فتناوله الأدباء والعلماء بالتقريظ والانتقاد في الصحف العربية وغيرها، وجاءتنا كتب أهل العلم من أقطار العالم الإسلامي ينشطوننا ويستحثوننا، وفيهم من جاهر صريحا أنه لم يكن يظن تأليف مثل هذا الكتاب ممكنا، لقلة المآخذ المساعدة على ذلك، فزادنا تنشيطهم ثباتا على هذا العمل حتى ظهر الكتاب في أجزائه الخمسة.
وكان له وقع خاص عند أدباء اللغات الأخرى، فأخذوا في نقله كله أو بعضه إلى ألسنتهم، فنقل إلى أهم اللغات الشرقية - نعني الفارسية والأوردية والتركية، ظهر مطبوعا فيها كلها - ونقل إلى أهم لغات أوربا - نعني الإنجليزية والفرنسية - وقد ظهر جزؤه الرابع في الأولى وسيظهر جزؤه الأول في الثانية، وتضاعف الإقبال على الطبعة العربية حتى نفذت نسخ هذا الجزء منذ بضعة أعوام، ونحن نتحين الفرص لإعادة طبعه، فلم نتمكن من ذلك إلا الآن.
وما برحنا منذ صدور الطبعة الأولى ونحن نجمع ما يمر بنا من الفوائد التي يحسن إدخالها في هذا الكتاب عند إعادة طبعه، فاجتمع لدينا من ذلك شيء كثير أضفناه إلى هذه الطبعة، ونظرنا فيما وصل إلينا من انتقادات المنتقدين أو ملاحظات الملاحظين مما نشر في الصحف أو الكتب أو جاءنا في الكتب الخصوصية، وتدبرناها كلها بإخلاص وروية فأصلحنا ما صح عندنا وأغفلنا الباقي - وهو الأكثر - وإنما توهم المنتقدون خطأه، لأنهم نظروا فيه من وجه غير الذي نظرنا منه نحن، أو أننا اطلعنا عليه في مصادر لم يطلعوا عليها، فاكتفينا في هذه الحال يذكر المصدر الذي عولنا عليه في ذيل الصفحة.
فجاءت هذه الطبعة أكبر من الأولى وأوفر مادة وأحسن ترتيبا وأكثر صورا وأشكالا، وفي ما أضفناه له من الصور أو الخرائط ما يزيد البحث إيضاحا، فعسى أن يقع عملنا هذا موقع الاستحسان، وحسبنا أننا قمنا ببعض الواجب في سبيل آداب هذا اللسان.
مقدمات تمهيدية
البحث في تمدن الأمة يتناول النظر فيما بلغت إليه من سعة الملك والعظمة والثروة ووصف ما رافق تمدنها من أسباب الحضارة وثمارها، ويدخل في ذلك تاريخ العلم والأدب والصناعة ولوازمها، كالمدارس والمكاتب والجمعيات، وبسط حال الدولة ومناصبها وما انتهت إليه من الرخاء، وما هو مقدار تأثير ذلك في هيئتها الاجتماعية، وذلك يستلزم وصف عادات الأمة وآدابها الاجتماعية ومناحيها السياسية وإسناد ذلك إلى أسبابه وبواعثه.
غير أن النظر في هذا التمدن على هذه الصورة، لا يكون واضحا وافيا إلا إذا تقدمه البحث عن حال تلك الأمة في بداوتها، وكيف تدرجت إلى الحضارة وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك، والبحث المشار إليه ضروري خصوصا في تاريخ التمدن الإسلامي، لأن فيه عوامل خاصة به لا وجود لها في تمدن الأمم الأخرى.
وبناء على ذلك لم نر بدا من تصدير هذا الكتاب بمقدمات تمهيدية، نبسط فيها حال العرب قبل الإسلام ونسبتهم إلى التمدن وما تقدم الدعوة الإسلامية من أحوال تلك الأمة ... وكيف كانت جزيرة العرب عند ظهور الدعوة، وكيف كانت حال الروم والفرس يومئذ ... وما الذي ساعد هؤلاء العرب على فتح تينك المملكتين مع قلة عددهم وضعف معداتهم ... وكيف نشأت الدولة الإسلامية وارتقت من حالها الدينية في أيام الراشدين إلى حالها السياسية في أيام الأمويين فالعباسيين فالفاطميين فغيرهم.
فإذا فرغنا من ذلك، عمدنا إلى الكلام في سعة المملكة وتاريخ إداراتها ومناصبها وغير ذلك.
فنبدأ بوصف حال العرب قبل الإسلام. (1) العرب والتمدن
زعم بعض الكتاب من الإفرنج أن العرب لا فضل لهم في تمدنهم الإسلامي، لأنهم أنشأوه على أنقاض التمدنين البيزنطي والفارسي، فالتمدن الإسلامي عندهم عبارة عن مزيج من ذينك التمدنين، مع بعض التعديل، وأن العرب من فطرتهم بعيدون عن الحضارة، لأنهم لم ينشؤوا تمدنا من عند أنفسهم في عصر من العصور الجاهلية ولا الإسلامية، وعندنا أن العرب أكثر الأمم استعدادا للحضارة وسياسة الملك، لا يقلون في ذلك عن سواهم من الأمم التي تمدنت قديما أو حديثا وإليك البيان. (1-1) قدماء العرب
المشهور عند المؤرخين أن العرب يقسمون إلى قسمين كبيرين العرب البائدة كعاد وثمود، والعرب الباقية، وأن العرب الباقية يقسمون إلى القحطانية سكان بلاد اليمن وما جاورها، وهم ينتسبون إلى قحطان أو يقطان بن عامر وينتهي بأرفخشاد إلى سام، والإسماعيلية أو العدنانية وهم سكان الحجاز ونجد وما جاورهما من أواسط جزيرة العرب، وينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل من امرأته هاجر، ويسمون أيضا مضرية ومعدية لمثل ذلك السبب.
وقد بينا في كتابنا «العرب قبل الإسلام» ما كان للعرب من الدول القديمة فيما بين النهرين قبل الميلاد ببضعة وعشرين قرنا ... نعني دولة حمورابي واضع أقدم الشرائع الإنسانية التي وصلت إلينا، وقد أتينا من هناك بالأدلة التي ترجح كون دولته عربية، وبينا أن تلك الأمة كان لها تمدن عظيم وآداب راقية، وكانت للمرأة فيها منزلة وحرية، حتى تقلدت المناصب السياسية والقلمية
1
وتفرع من الحمورابيين بعد ذهاب دولتهم دول العمالقة المختلفة، ومن فروعهم عاد وثمود والأنباط وعرب تدمر وغيرها.
ويلي الحمورابيين عرب اليمن وهم القحطانية، وقد تمدنوا قبل العرب الإسماعيلية، لأن بلادهم أقرب إلى الخصب والرخاء من بلاد هؤلاء، فنشأت منهم دول قديمة عاصرت الفراعنة وملوك بابل وأشور، وقد ظهروا بعد الحمورابيين بعدة قرون، ذكرنا منهم الدول المعينية والسبئية والحميرية، أصحاب مأرب وصنعاء وغيرهما.
أما العرب الإسماعيلية وهم أهل الحجاز ونجد فأكثرهم أهل البادية، وقد ظهر منهم دول قبل الميلاد وبعده، أشهرها دول القبائل صاحبة الوقائع التي جرت بينهم قبيل الإسلام والتي تعرف بأيام العرب.
ثم إن العرب ليس في أرومتهم ما يمنع استعدادهم للحضارة، لأنهم إخوان الأشوريين والكلدانيين والفينيقيين ولهم استعدادهم وأهليتهم ... فالذين أقاموا منهم في بلاد مثل بلاد ما بين النهرين أدهشوا العالم بمدنيتهم، والمقيمون في جزيرة أكثر بقاعها جرداء لا أنهر فيها ولا جداول، وإنما يستقون من مياه المطر، قضوا قرونا في البداوة ... فلما أتيحت لهم الإقامة في البلاد الخصبة بعد الإسلام، لم يكن تمدنهم فيها يقصر عن تمدن أولئك.
حمورابي ملك بابل واقفا بين يدي إله الشمس.
فالتمدن الإسلامي ليس أول عهد العرب بالحضارة فقد كان المعينيون والسبئيون والحميريون واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، لتوسط بلاد اليمن بين الممالك المتمدنة في ذلك الحين فكانت تجارات الهند تحمل في البحر الهندي إلى بلاد اليمن وحضرموت، فيحملها أهل اليمن إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب، وكذلك كان الإسماعيليون ينقلون التجارة من اليمن ومواني بحر العرب إلى بلاد الشام.
زينوبيا (الزباء) ملكة تدمر.
وساعد العرب على التوسع في وسائل التجارة - فضلا عن توسط بلادهم - أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الأمم المتمدنة في ذلك الحين، لأن اللغات السامية كانت يومئذ لا تزال متقاربة لفظا ومعنى، فالعربي والكلداني والأشوري والعبراني والحبشي والفينيقي كانوا يتفاهمون بلا واسطة، لقرب عهد تلك اللغات بالتشعب بما يشبه حال اللغات العامية العربية المتشعبة من اللغة الفصحى الآن، فكان العربي من حمير أو مضر إذا جاء العراق لا يحتاج في مخاطبة الكلداني أو الأشوري إلى ترجمان، وكذلك إذا يمم فينيقية أو الحبشة فإنه يفهم لسان أهلهما كما يفهم الشامي لسان أهل مصر اليوم، ويؤيد ذلك ما جاء في التوراة عن إبراهيم الخليل فإنه نزح من بلاد الكلدان في نحو القرن العشرين قبل الميلاد واجتاز سوريا وفينيقية وبلاد العرب وخالط أهلها ولم يفتقر في مخاطبتهم إلى مترجم، وكذلك بنو إسرائيل في تيههم حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فإنهم قضوا أربعين سنة في أعالي جزيرة العرب ولم يحتاجوا إلى مترجم بينهم وبين أهلها.
والمسافر في بلاد العرب اليوم يجد أكثرها رمالا قاحلة، لكنه لو نقب تحت تلك الرمال في بعض المواضع، لوقف على آثار القصور وغيرها من بقايا المدنية، روى مؤرخو العرب البائدة عما خلفه العاديون من الأبنية الفخمة هناك ما نعده من الخرافات، لخروجه عن المألوف عندنا، مثل حديثهم عن مدينة إرم ذات العماد التي زعموا «أن شداد بن عاد بناها في الأحقاف في بقعة مساحتها عشرة فراسخ في عشرة، فجعل جدرانها من الجزء اليماني وغشاها بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وبنى داخل المدينة مائة ألف قصر على عمد من الزبرجد واليواقيت، طول كل عمود مائة ذراع، وأجرى في وسطها أنهارا وعمل فيها جداول إلى تلك القصور، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت، إلى غير ذلك مما يفوق طور الإمكان، لكنه يشف عن حقيقة مهما قيل في تحقيرها، فإنها تدل على أن بعض أبنية العرب البائدة كانت مرصعة في بعض جدرانها أو أساطينها بالحجارة الكريمة، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه البذخ والترف، ولا يكون ذلك إلا في إبان المدنية. (1-2) عرب اليمن
أما عرب اليمن القحطانية، فقد تمدنوا تمدنا لا تزال آثاره مطمورة تحت الرمال في حضرموت ومهرة واليمن، وأشهر دولهم عند العرب حمير وسبأ وكهلان، وتاريخ هذه الدول أقرب عهدا من عاد وثمود، وقد اكتشف البحاثون بعض آثارهم، وأكثر ما اكتشفوه أنقاض بعض الأبنية في صنعاء وعدن وحضرموت، فاستخرجوا منها ألواحا مكتوبة بالقلم الحميري «المسند» أكثرها دعاء ديني أو نحوه، ولم يتمكنوا من التنقيب عن الدفائن المهمة في داخلية البلاد لمشقة الوصول إليها، ناهيك بما ذكره مؤرخو العرب عن أبهة تلك الدول وكانت قد انحلت قبل الإسلام، لكن أخبارها كانت إلى ذلك العهد لا تزال مألوفة وفيها ما يدل على تمدن قديم لا يقل عن تمدن الأشوريين والمصريين والفينيقيين، فقد أنشأوا المدن وعمروا القصور وغرسوا الحدائق ونحتوا التماثيل وحفروا المناجم ونظموا الجند وفتحوا البلاد ووسعوا التجارة وأتقنوا الزراعة، وقد ذكرهم هيردوتس الرحالة اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد فقال «إن في جنوبي بلاد العرب وحدها البخور والمر والقرفة والدار صيني واللاذن» وعدها من أغنى ممالك العالم في زمانه.
الحروف الحميرية «المسند» وما يقابلها في العربية.
ومن آثار العرب في اليمن، ما لا يزال التاريخ يلهج بذكره ويعد من عجائب الأبنية، نعني بذلك السد المشهور بسد مأرب، بنوه نحو القرن الثاني قبل الميلاد كما بنى محمد علي «باشا» القناطر الخيرية في رأس الدلتا، وكما بنت الحكومة المصرية خزان أسوان.
سد مأرب
وسد مأرب هذا، عبارة عن حائط موصل بين جبلين يحجز الماء الذي يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما، جعلوا فيه شعبا وأقنية وساقوا إليه سبعين واديا تصب مياهها فيه، فمثل هذا السد العظيم يحتاج إلى مهارة في الهندسة وهمة عالية، وهو أقدم خزان للماء ذكره التاريخ، وعرب اليمن أسبق الأمم إلى هذه الهندسة، وكان بناؤه متينا صبر على صدمات الماء وتأثيرات الهواء بضعة قرون، ولما ضعفت الدولة عن تجديده وأحسوا بقرب تهدمه أخذوا في المهاجرة من جواره، في أواسط القرن الثاني للميلاد، وتفرقوا في البلاد، والمشهور عند العرب أن الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، والأوس في المدينة، والأزد في منى وخزاعة بجوار مكة منهم «أي من عرب الجنوب»، ثم انفجر السد وطغت المياه فهاجر من بقي، وذلك ما يعبرون عنه بسيل العرم.
وذكر إسترابون الرحالة اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، أن مأرب كانت في زمانه مدينة عجيبة، سقوف أبنيتها مصفحة بالذهب والعاج والحجارة الكريمة، وفيها الآنية الثمينة المزخرفة مما يبهر العقول، وذلك يهون علينا سماع ما ذكره العرب عن إرم ذات العماد.
وفي اعتقادنا أنهم لو بحثوا في أنقاض مأرب وصنعاء وغيرهما من عواصم ملوك سبأ وحمير لعثروا على أحافير ثمينة تكشف للعالم عن تاريخ جديد كما كشفت آثار وادي النيل عن تاريخ الفراعنة، وكما كشفت آثار وادي الفرات عن أخبار ملوك أشور وبابل، ولا يتأتى ذلك إلا بإرسال البعثات العلمية للحفر والتنقيب. (1-3) الأنباط
ومن الأمم العربية التي تمدنت قبل الإسلام الأنباط أصحاب مدينة بطرا
بين فلسطين وشبه جزيرة سيناء وقد امتدت سيطرتهم على تلك الجزيرة وما جاورها من جزيرة العرب إلى الحجاز، وكان الأنباط واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، وقد عاصروا الرومان في إبان مجدهم وكثيرا ما كانوا عونا لبعض قوادهم في الحروب حتى تأتى لأحدهم وهو الملك الحارث الثالث أن يتولى دمشق برهة قصيرة في القرن الأول للميلاد قبل عهد الغساسنة بأجيال، وقد ضرب النقود باسمه واسم الحاكم الروماني هناك، وما زالت دولة الأنباط سائدة إلى أوائل القرن الثاني للميلاد فدخلت في حوزة الروم وضاعت فيها ولا تزال أنقاضها في بطرا وعليها الكتابة النبطية يقرأونها كما يقرأون الكتابة الحميرية.
2
نقود الحارث الثالث وأسكاوروس.
ومن الأمم العربية التي تمدنت قديما العمالقة، وقد تفرعوا من الحمورابيين على ما نظن وهم مشهورون بشدة البطش، ومنهم الملوك والرعاة الذين فتحوا مصر وتولوها عدة قرون، غير مستعمرات العرب في مشارف الشام والعراق ومن مدنهم بصرى في حوران للغساسنة، والحيرة في العراق للمناذرة ...
أيقال بعد ما تقدم أن العرب بعيدون بفطرتهم عن الحضارة؟ (1-4) التمدنان اليوناني والفارسي
مسكوكات نبطية.
على أننا لا ننكر أن التمدن الإسلامي قام على أنقاض التمدنين اليوناني والفارسي، لكن شأن العرب في ذلك مثل شأن اليونان والرومان والفرس وسائر الدول العظمى ... لأن اليونان اقتبسوا أكثر عوامل تمدنهم من المصريين وزادوا فيها ووسعوها على مقتضى مؤثرات الطبيعة، حتى صار تمدنا معروفا بهم، فأخذ عنهم الرومان وعدلوا فيه تعديلا طفيفا جدا، وكذلك الفرس فإن تمدنهم قام على أنقاض تمدن الأشوريين والبابليين والكلدانيين قبلهم وأخذوا أيضا عن اليونان.
على أن تلك الأمم لم تستطع الظهور في عالم الحضارة إلا بعد أجيال متوالية، أما العرب فلم يمض على نشوء دولتهم قرن حتى ظهر تمدنهم وبانت ثمار عقولهم، وفي القرنين الثاني والثالث الهجري ملأوا الأرض علما وأدبا ومدنية وحضارة.
وزد على ذلك أن الجرمان الذي نشأ منهم فيما بعد عدد من أعظم دول الأرض، قضوا أجيالا متطاولة وهم يغيرون على الدولة الرومانية قبل الإسلام وبعده، وفتحوا كثيرا من مدنها ودخل بعضهم رومية نفسها ولم يكن من ثمار فتوحهم في القرون الأولى غير النهب والقتل، واعتبر ذلك في غزوات الهون في القرن الخامس للميلاد، فإنهم اكتسحوا شمالي الدولة الرومانية وشرقيها، وفتحوا المجر ورومانيا وسائر شرق أوروبا، وأنشأوا هناك دولة عرفت بدولة الخاقانات حكمت مائتي سنة - كما فعل العرب باكتساح سوريا ومصر والعراق - لكن الهون لم ينشؤوا تمدنا ولا خلفوا حضارة مع أنهم أقرب إلى مركز التمدن اليوناني من العرب. وغزا الصقالبة في القرن السادس للميلاد الدولة الرومانية الشرقية حتى طرقوا أبواب القسطنطينية ثم عادوا ولم يتمدنوا. ألا يدل ذلك على أن في العرب استعدادا خاصا للحضارة؟ (2) الحجاز في العصر الجاهلي
لجاهلية العرب عصران الجاهلية الأولى في عهود من ذكرنا من أمم العرب البائدة ومن خلفهم في اليمن وغيرها، والجاهلية الثانية نريد بها حالة جزيرة العرب ولا سيما الحجاز قبل الإسلام بعدة قرون، وللحجاز شأن خاص في ذلك، ففي الجاهلية الثانية تمدن العرب في جنوبي جزيرة العرب وفي شماليها وظل أهل الحجاز في أواسطها على بداوتهم، لجدب أرضها وجفاف تربتها مع بعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضرة، لتوسطها في الصحراء ووعورة المسالك إليها، حتى امتنعت على الفاتحين العظام مثل رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبله، وإيليوس غالوس على عهد يوليوس قيصر في القرن الأول للميلاد، وامتنعت أيضا على ملوك الفرس في إبان دولتهم فآل امتناعهم هذا إلى اطمئنانهم وسكونهم، والإنسان لا ينزع إلى الإصلاح إلا مضطرا، بخطر أو نحوه، ولكنه مفطور على الأثرة والمنافسة، فقامت المنازعات بين العرب أنفسهم وأصبحت مصادر الارتزاق فيها الغزو والنهب ... فشغلهم ذلك عن الالتفات إلى المصادر الأخرى.
على أنهم كانوا على جاهليتهم أهل أنفة وذمام وكرم ووفاء، مما يدل على استعدادهم لمستقبل عظيم.
قضى أهل الحجاز في جاهليتهم الثانية قرونا لا يعلم مقدارها إلا الله وهم في حال البداوة، إلا ما اقتبسوه ممن هاجر إليهم من جالية اليمن جيرانهم، أو من لجأ إلى بلادهم من اليهود، وخصوصا في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده، فرارا من اضطهاد حكامهم الرومانيين ولا سيما بعد خراب بيت المقدس، وربما هاجر إليهم أيضا قوم من الأنباط وهم أهل تمدن كما تقدم، فجعلوا مكة والمدينة والطائف دار هجرتهم بعد استبداد الرومان بهم، أما اليهود فكانوا يقيمون في يثرب على الأكثر. (2-1) مكة
وكان لليهود تأثير عظيم على عرب الحجاز من حيث الآداب الدينية وطقوسها، فاقتبس العرب منهم أمورا كثيرة كانوا يجهلونها، كالحج والذبائح والزواج والطلاق والكهانة والاحتفال بالأعياد ونحوها، وعلموهم بعض أقاصيص التوراة وفصولا من التلمود، ونشروا بينهم كثيرا من تقاليدهم وعاداتهم، وقد يكون بعض تلك الآداب أو الطقوس متسلسلا إليهم مما كان عند أسلافهم في الجاهلية الأولى، فضلا عمن هاجر إلى الحجاز من أهل اليمن وغيرهم من الأمم التي كانت تحيط بجزيرة العرب، كالكلدان والمصريين والأحباش وغيرهم، فأصبح أهل الحجاز بعد ذلك الاختلاط فئتين أهل البادية الباقين على الفطرة وهم العرب الرحل، وأهل المدن المقيمين في مكة والطائف والمدينة وهم الحضر.
مكة ومسجدها وفي وسطه الكعبة في القرن الثامن عشر للميلاد.
وكانت مكة أشهر مدن الحجاز لاتخاذها محجا يؤمه الناس من أقاصي البلاد لزيارة الكعبة، فأصبحت بتوالي الأجيال مركزا للتجارة لمن يتوافد إليها من الحجاج في المواسم كل عام، فطمحت إليها أنظار أهل السلطة من القبائل القوية، وكانت في أوائل أزمانها في حوزة الحجازيين بني إسماعيل وهم سدنة الكعبة أي حجابها، ثم نزح إليها بنو خزاعة من اليمن بعد سيل العرم نحو القرن الثاني للميلاد وتسلطوا عليها، وغلبوا الحجازيين عليها بما تعودوه من السيادة في عهد دولتهم باليمن، وكان الإسماعيليون (أو العدنانيون) يومئذ ضعافا لا يقوون عليهم، ولكن ناموس الاجتماع قضى عليهم كما قضى على سواهم فدارت الدائرة بعد عدة أجيال على بني خزاعة وضعف أمرهم، وقوي أمر العدنانية، فتفرع منهم كنانة وتشعب من كنانة قريش.
قصي بن كلاب والكعبة
ففي نحو القرن الخامس للميلاد كان سيد قريش ورئيسها قصي بن كلاب بن مرة، وكان حكيما عاقلا ذا سياسة ودهاء، فتزوج ابنة ولي الكعبة (وهو من خزاعة)، طمعا في السدانة، فولد له أولاد اعتز بهم، واشتغل بالتجارة حتى صار غنيا، ولما اقترب أجل حميه أوصى بسدانة الكعبة لابنته زوجة قصي فاعتذرت بأنها لا تستطيع فتح الباب وإغلاقه - وهو عمل سادن البيت عندهم - فأوصى بالولاية لابن له اسمه المحترش أو أبو غبشان، وكان ضعيفا فابتاع قصي ذاك المنصب منه بزق من الخمر.
3
فشق ذلك على خزاعة، وحدثت بسببه حروب بينهم وبين قريش ثم تداعوا إلى الصلح والتحكيم، فحكموا بينهم رجلا من قريش فقضى لقصي، وما زالت سدانة الكعبة في قريش حتى جاء الإسلام.
وكانت سدانة الكعبة تستلزم السيادة على مكة، فجمع قصي أهله من قريش في مكة، وحولها فملكوه عليهم، فقسم مكة أرباعا بينهم، فبنوا المساكن وعمرت بهم وأصبح هو سيدهم في كل شيء، وخلفه بعده ابنه عبد مناف، وكان في جملة أولاد عبد مناف ولدان هاشم، وعبد شمس، فلما دنت وفاة عبد مناف أوصى بالسدانة لهما ثم انفرد بها هاشم، وكان لعبد شمس ابن اسمه أمية (جد بني أمية) حسد عمه على الرئاسة، فآل ذلك إلى المنافرة، فكره هاشم أن ينافر ابن أخيه فلم تتركه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشرين سنة، فرضي أمية وجعلا الكاهن الخزاعي حكما بينهما، فاستفتياه فقضى لهاشم بالغلبة فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشرين سنة على حسب الشرط، وكانت تلك أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارثها أعقابهما إلى أيام الإسلام، وتولى الكعبة بعد هاشم ابنة عبد المطلب جد النبي صاحب الشريعة الإسلامية.
وكانت منزلة قريش من سائر قبائل العرب مثل منزلة اللاويين من بني إسرائيل، ولهم مثل امتيازاتهم، وهي تشبه امتيازات الكهنة في النصرانية، وكانوا لا يؤدون إتاوة ولا يتكلفون دفاعا ... يحكمون على الناس ولا يحكم عليهم أحد ... وكانوا يتزوجون من أية قبيلة شاءوا ولا شرط عليهم في ذلك، وكانوا لا يزوجون أحدا إلا اشترطوا عليه أن يكون متحمسا لدينهم - «التحمس التشدد في الدين»
4 - وقد فرضوا فروضا ألزموا الناس باتباعها. (3) حكومة العرب في الجاهلية
ونريد بالعرب خاصة عرب الحجاز وبالأخص قريش، لأن منها ظهر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
والحكومة في الجاهلية متشابهة عند سائر أهل البادية، فإن المناصب التي تعد عند أهل العالم المتمدن بالعشرات، تجتمع عندهم في شخص شيخ القبيلة، فالشيخ هو الملك، والقاضي، وصاحب بيت المال، وقائد الجند وكل شيء، وكانوا يختارون لهذه الرياسة أقواهم عقلا وأكثرهم دهاء وسياسة بلا تواطؤ أو تعمد، وإذا تساوى عدة منهم في القوة والدهاء اختاروا أكبرهم سنا وأوسعهم جاها، وإذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعا، اقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرج سهمه رأسوه، كبيرا كان أو صغيرا.
ذلك كان شأن العرب الرحل أهل الغزو والسطو، أما الحضر وهم أهل مكة فقد كانت السيادة فيهم لسادن الكعبة، ولما أفضت السدانة إلى قريش، صارت السيادة لهم في كل شيء. (3-1) الكعبة والتجارة وقريش
كانت قريش كما قدمنا حضرا أهل تجارة، وتجارتهم قائم أكثرها على الحجاج الذين يردون مكة في المراسم، فكان من مقتضيات مصلحتهم تسهيل طرق القدوم وترغيب الناس في الحج، وفي جملة ما بعث القبائل على زيارة الكعبة، أنه كان لكل قبيلة منها صنم خاص بها، تأتي في المواسم لزيارته والذبح له حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على ثلثمائة صنم وفيها الكبير والصغير، ومنها ما هو على هيئة الآدميين أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات.
سوق عكاظ
وكان على مقربة من الطائف سوق يجتمع إليها الناس في الأشهر الحرم، فينصبون خيامهم بين نخيله، يبيعون ويشترون ويتبادلون، وهي سوق عكاظ المشهورة، وكان للعرب أسواق أخرى في أماكن أخرى، ولكن هذه كان يجتمع فيها أهل البلد المجاور لها ... وأما عكاظ فكان يتوافد إليها العرب من كل جهة، وزادت قريش في بواعث الاجتماع إليها بأنهم جعلوها مسرحا للأدب والشعر، تتسابق فيه القبائل إلى إظهار نوابغها من الشعراء والخطباء، فيتناشدون ويتحاجون ويتفاخرون، ومن كان له أسير سعى في فدائه، وكان لعكاظ في أيام الموسم رجل يولونه الحكومة للفصل في ما قد يقع من الخلاف أو نحوه، وكان الغالب أن يكون ذلك الحاكم من بني تميم، ومتى فرغ الناس من سوق عكاظ، وقفوا في عرفة، ثم يأتون مكة فيقضون مناسك الحج ويرجعون إلى موطنهم.
وكان رجال قريش يرحلون للتجارة رحلتين في العام رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران بضواحي الشام، فكانت مكة وسط عقد التجارة، بين اليمن والشام، وكانت طرق التجارة خطرة، إلا عليهم، لحفظ العرب حرمتهم، لأنهم ولاة الكعبة، وكانوا كثيرا ما يسافرون إلى بلاد فارس أو إلى الشام، فيأتون من الشام بالأنسجة والأطعمة، ويحملون من فارس السكر والشمع وغيرهما.
فالكعبة كانت مصدر رزق أهل مكة، ولولاها لما استطاعوا المقام في ذلك الوادي وهو غير ذي زرع، على أن أسفارهم ومخالطتهم العالم المتمدن في أطراف العراق والشام، جعلتهم أوسع العرب علما، وأكثرهم خبرة ودراية، ونظرا لعلاقة الكعبة بأسباب معائشهم بذلوا العناية في القيام على شؤونها، وسهلوا على الناس القدوم إليها، فأنشأوا فيها أماكن للسقاية وأخرى للطعام وجعلوا ما يجاورها حرما لا يجوز فيه القتال، وتولى بعضهم السقاية وبعضهم الرفادة وبعضهم غير ذلك، وما زالت تلك المناصب تتعدد حتى أصبحت قبيل الإسلام بضعة عشر منصبا، هي عبارة عن مناصب الدولة في ذلك العهد اقتسمتها قريش في بطونها، وأشهرها عشرة أبطن هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، لكل من هذه البطون منصب أو أكثر، وإليك هي:
مناصب القرشيين (1)
السدانة:
وهي الحجابة وصاحبها يحجب الكعبة وبيده مفتاحها ... يفتح بابها للناس ويقفله، ولها المقام الأول عندهم، ومثل هذا المنصب قديم عند اليهود فقد كان عندهم كاهن خاص لحراسة الهيكل يسمونه حافظ الباب، وقد جعل صاحب «العقد الفريد» السدانة والحجابة منصبين. (2)
السقاية:
وصاحبها يتولى سقاء الحجاج لقلة الماء في مكة فينشئ حياضا من الجلد، توضع في فناء الكعبة تنقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب، وما زال ذلك شأنهم حتى حفرت زمزم وكانت السقاية في بني هاشم. (3)
الرفادة:
وهي خرج كانت تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى صاحب الرفادة فيصنع منه طعاما يأكله الفقراء، وأول من أشار بالرفادة قصي المتقدم ذكره، وكانت الرفادة في بني نوفل ثم في بني هاشم. (4)
الراية:
كانت لقريش راية تسمى «العقاب» فكانوا إذا أرادوا الحرب أخرجوها، فإذا اجتمع رأيهم على واحد سلموه إياها وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها وكانت الراية لبني عبد الدار. (5)
القيادة:
وهي إمارة الركب، وصاحبها يسير أمام الركب في خروجهم للقتال أو التجارة، وكانت القيادة في بني أمية، وصاحبها منهم في أول الإسلام أبو سفيان والد معاوية. (6)
الأشناق:
وهي الديات والمغرم وصاحبها إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه فيه، وكانت لتيم. (7)
القبة:
هي قبة كانوا إذا خرجوا إلى حرب ضربوها وجمعوا فيها ما يجهزون الجيش به، أشبه بما يسمى عندنا بالمهمات الحربية. (8)
الأعنة:
وهي أعنة الخيل وصاحب هذا المنصب يتولى خيل قريش ويدبر شؤونها في الحرب. (9)
الندوة:
وهي دار بناها قصي بجانب الكعبة للشورى فيجتمع فيها كبار قريش للمشاورة، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين من عمره، وكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا يعقد لواء الحرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك في بناتهم إذا بلغن الحلم، وكانت دار الندوة في أيدي بني عبد الدار. (10)
المشورة:
وصاحبها يستشار في الأمور الهامة، وكانت في بني أسد، فلم تكن قريش يجتمعون على أمر حتى يعرضوه عليهم. (11)
السفارة:
هي أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم من القبائل حرب، وأرادوا المخابرة بشأن الصلح بعثوا سفيرا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا السفير منافرا ورضوا به، وكان آخر سفراء قريش في الجاهلية عمر بن الخطاب قبل أن يسلم. (12)
الأيسار:
وهي الأزلام التي كانوا يستقسمون بها للاستخارة ونحوها إذا هموا بأمر عام من سفر أو قتال، فكانوا يستقسمون بالأزلام بما يشبه سحب القرعة عندنا، وكان يتولى ذلك رجل من بني جمح. (13)
الحكومة:
وهي عندهم الفصل بين الناس إذا اختلفوا، وتشبه القضاء في الإسلام أو التحكيم. (14)
الأموال المحجرة:
وهي أموال كانوا يسمونها لآلهتهم، وفيها النقد والحلي وربما أشبهت بيت المال، وكانت ولايتها في بني سهم. (15)
العمارة:
ويراد بها أن لا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته.
5
فترى مما تقدم أن بعض هذه المناصب لا أهمية لها على الإطلاق، ولكن يظهر أنهم أكثروها ليرضوا كل بطون قريش، خوفا من التحاسد وإجلالا لقدر الكعبة والمبالغة في تعظيمها.
وترى أيضا أنهم جمعوا بها بين السياسة والدين والإدارة والحرب، ولكنهم اقتسموها فيما بينهم بما يشبه الجمهورية، أو هو نوع من الحكومة لا ترى له شبيها بين الأمم المتمدنة، وربما أشبهت الحكومة الشورية من بعض الوجوه، إلا أن للشورى رئيسا كالملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وليس في هذه شيء من ذلك إلا ما قد يكون لصاحب دار الندوة أو السدانة من الرياسة. (3-2) النهضة العربية قبل الإسلام
إذا تدبرت تاريخ العرب قبل الإسلام على غموضه وإبهامه، تبين لك أمور تدعو إلى الاعتبار وإعمال الفكرة، منها أن العرب على اختلاف القبائل والبطون، قلما نبغ فيهم شاعر أو خطيب أو حكيم أو كاهن في عصورهم الجاهلية الثانية إلا بعد دخولهم في القرن الأول قبل الهجرة، ولا يعترض بضياع أخبار من ظهر منهم قبل ذلك التاريخ، فقد حفظوا أخبار عاد وثمود وصالح وهود قبل ذلك يقرون متطاولة، وذكروا بضعة شعراء ظهروا قبل القرن الأول المذكور، فلو نبغ غيرهم من الشعراء أو الخطباء لما ضاع ذكرهم ضياعا تاما، وأما تاريخهم في جاهليتهم الأولى وهم في بابل أو اليمن، فلم يصلنا منه ما يشفي الغليل.
فتكاثر الشعراء والخطباء والحكماء في القرن الأول قبل الإسلام دفعة واحدة هو ما عبرنا عنه بالنهضة العربية أو الأدبية، على أنها لم تكن تقتصر على الأدب والشعر ولكنها شملت الدين أيضا، فقد كان هناك نهضة دينية اضطربت فيها الأفكار واختلطت الاعتقادات، وأصبح أهل الجاهلية لا يعرفون لمن يصلون ولا إلى من يتوسلون، يذبح أحدهم للصنم ويدعو إلى الله، وفيهم عبدة الحجارة وعبدة النار وعبدة الأصنام، وفيهم الموحدون والمشركون وغير ذلك من أنواع العبادات المتضاربة، وقد ظهر في أثناء ذلك الاضطراب من حرم الخمر ورفض الأصنام، وأصبح الناس يتوقعون الفرج من باب النبوة، وكان ذلك حديث الناس في مجالسهم، فادعى النبوة غير واحد من قبائل مختلفة وهم بعضهم بادعائها مما يدل على تنبه الأذهان إلى أمر الدين والتفكير في عواقب الأعمال.
سبب تلك النهضة
بينا في ما تقدم استعداد العرب العدنانية للنهوض وأهليتهم للتمدن، لما فطروا عليه من صفاء الذهن وسرعة الخاطر، ولكنهم لم يكونوا يستخدمون تلك القوى لاشتغالهم بالغزو وقعودهم عن طلب العلا مع بعدهم عن العالم المتمدن، والإنسان تظهر قواه بالاحتكاك أو الضغط شأن القوى الطبيعية، فالفرد لا يسعى في طلب العلا غالبا إلا إذا عضه الفقر فأحوجه الرزق أو نافسه منافس في أمر يبعث إلى الاستئثارية.
أما الأمم فإنما يدعوها إلى طلب العلا الحروب الخارجية أو الثورات الداخلية، والأولى أكثر تأثيرا لما يرافقها غالبا من الاختلاط بالأمم الأخرى، وفي ذلك من الاحتكاك ما يدعو إلى الاقتباس والمنافسة، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
غزو الحبشة
ومن هذا القبيل ما أصاب العرب في القرنين الأخيرين قبل الإسلام، كان عرب الحجاز قبل الإسلام يدينون بالطاعة لدولة حمير اليمنية، وكانوا يؤدون لها الإتاوة، ثم غزا الأحباش اليمن في القرن الرابع للميلاد وبعده، وتغلبوا على الحميريين فقلت هيبتهم في قلوب العدنانيين.
لكن هؤلاء ظلوا على الطاعة بعامل الاستمرار، فاتفق أن الحميريين شددوا في طلب الإتاوة في سنة جدب وضيق فضاق العدنانيون ذرعا وتحدثوا في الخروج عن الطاعة، وأول من فعل ذلك قبيلة ربيعة في أواخر القرن المذكور واقتدى بها غيرها
6
فكان ذلك من بواعث استنهاض الهمم.
خرطوش بحرف المسند ... فيه أسماء أبرهة وأراحميس وزبيمان من قواد الأحباش في اليمن.
ثم غزا الأحباش الحجاز في أواسط القرن السادس للميلاد، يريدون فتح مكة والاستيلاء على الكعبة، وكانت سدانتها يومئذ إلى عبد المطلب جد النبي فجاء الأحباش بأفيالهم ورجالهم وعدتهم، وأهل مكة لم يتعودوا شيئا من ذلك، لما للكعبة من المنزلة الرفيعة في نفوس القبائل وغيرهم، فلما رأوا الأحباش قادمين شعروا بما يهددهم من الخطر، وأحسوا بافتقارهم إلى الاتحاد لدفع الأجانب عنهم، فدفعوا الأحباش وقد تنبهت أذهانهم وأخذت مواهبهم في الظهور.
ومما يدل على شدة تأثير ذلك الهجوم في نفوسهم أنهم جعلوا يؤرخون به وهو ما يسمونه عام الفيل، وكانوا قبل ذلك يؤرخون بموت الوليد بن المغيرة من مخزوم، أو هشام بن المغيرة،
7
ولم يقتصر تأثير ذلك الاحتكاك على تلك النهضة الأدبية أو الدينية، لكنها أنتجت رجالا نبغوا في السياسة والقيادة والإدارة وكانوا من أهم العوامل تأثيرا في سرعة انتشار الإسلام، كما أنتجت الثورة الفرنسية بونابرت ورجاله.
ومهما يكن من السبب فإن بلاد العرب كانت قبل الإسلام في نهضة أدبية دينية تمهيدا لقبول الدعوة الإسلامية والقيام بنصرتها، ومثل هذه النهضة تتقدم الدعوات الدينية في الغالب، استعدادا لقبولها.
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
فرغنا من المقدمات التمهيدية في حال بلاد العرب قبل الإسلام، فنتقدم بعد ذلك إلى الكلام في نشوء الدولة الإسلامية وكيف تكونت وتطورت، حتى صارت على ما عرفناه منها في أوج التمدن الإسلامي. (1) الدعوة الإسلامية (1-1) نشأة النبي الأولى
تلك كانت حالة العرب في الحجاز لما ظهر النبي صاحب الشريعة الإسلامية ودعا الناس إلى التوحيد وأظهر دعوته سنة 609 للميلاد وعمره أربعون سنة، ولا يتسع المقام لتفصيل سيرته، وإنما نذكر هنا ما يتعلق بالموضوع لبيان الأسباب التي رافقت ظهور الدعوة وساعدت على انتشارها.
ولد صاحب الدعوة الإسلامية وقد مات أبوه، وبعد ست سنوات ماتت أمه فكفله جده عبد المطلب، وكانت له السقاية والرفادة من مناصب الكعبة وكان له مقام رفيع في قريش، لكنه توفي بعد سنتين، فكفله عمه أبو طالب وكان وجيها محترما، فشب محمد في بيته كأحد أولاده، وكان أبو طالب صاحب تجارة مثل سائر قريش، فكان إذا خرج في تجارة اصطحبه في أسفاره، فاشتهر منذ حداثته بالحصافة والذكاء وصدق السريرة حتى لقبوه بالأمين واشتهر في مكة بهذا اللقب، فعرفت بأمره خديجة بنت خويلد وكانت ذات ثروة وتجارة فعهدت إليه في الاتجار بمالها فاتجر وربح فازدادت إعجابا به، فعرضت عليه الزواج بها فتزوجها فاتسعت حالة وأصبح من أهل الرخاء واليسار والكل يحبونه ويحترمونه. (1-2) الدعوة
ولما بلغ الأربعين من عمره مال إلى الخلوة والاعتزال عن الناس فأوى إلى الجبال والشعاب كما يفعل النساك، وأول ما ابتدئ به «الرؤيا الصالحة»، وفي رمضان من تلك السنة (يناير 611 ميلادية) كان معتزلا بنفسه في غار حراء بجبل النور على ثلاثة أميال من مكة،
1
فنزل عليه الوحي وقرأ عليه أول سورة من سور القرآن ودعاه إلى أن يرددها وراءه، فرددها، وأصابه الروع، وأسرع إلى زوجته خديجة وأنبأها بما وقع وقال إن الملك أمره أن يقول «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الآية، فقرأها، وإنه خرج إلى وسط الجبل فسمع صوتا من السماء يناديه «يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل» فذعر وأسرع إلى خديجة فأخبرها، وكان لها ابن عم اسمه ورقة بن نوفل قرأ الكتب ونظر فيها وخالط أهل التوراة والإنجيل وسمع أقوالهم، وكان مشهورا في مكة بسعة العلم في الدين والنبوات، فذهبت إليه وأخبرته بما كان فقال «والذي نفس ورقة بيده، لئن صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه نبي هذه الأمة».
فرجعت خديجة إليه وأخبرته بقول ورقة فاطمأن باله، ولكنه لم ير إظهار دعوته، لعلمه بما سيكون لها من ثقل الوطأة على قريش، لما فيها من تعييب آلهتهم وتحقير أصنامهم، وفي ذهاب تلك الأصنام ذهاب تجارتهم وأموالهم وكل آمالهم، ولم يكن من الجهة الأخرى يتوقع إذا أنبأهم برسالته أنهم يصدقونه فعمد إلى بث دعوته سرا بين أقرب الناس إليه، قضى في ذلك ثلاث سنين فاجتمع حوله نفر قليلون في جملتهم ابن عمه علي بن أبي طالب وكان لا يزال غلاما وأبو بكر الصديق وكان من وجهاء قريش وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم، فهم بدعوة الناس جهارا وبدا بعشيرته الأقربين فكلف ابن عمه عليا أن يصنع لهم طعاما يدعو أهله إليه وفيهم عمومته بنو عبد المطلب وأولادهم وهم نحو أربعين رجلا، فدعاهم إلى بيت أبيه أبي طالب، فلما فرغوا من الطعام هم محمد بالكلام وكان أهله قد سمعوا بدعوته سرا واستخفوا بها، فلما هم بالكلام علموا أنه سيدعوهم إلى ترك الأصنام وعبادة الله فابتدره عمه أبو لهب وكان أشدهم وطأة عليه فأسكته فسكت وتفرقوا ولم يقل شيئا.
لكنه لم يفشل ولا ضعفت عزيمته فأعاد الوليمة ثانية وقد صمم على التصريح بما في ضميره فلما فرغوا من الطعام قال «ما أعلم أن إنسانا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، فقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني في هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟»
2
فظلوا ساكتين وكان سكوتهم استخفافا، فتقدم علي ابن عمه وقال «أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم» فأخذ النبي برقبته وقال «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه» ثم انصرفوا. (1-3) النبي وقريش
على أن استخفافهم هذا لم يقعده عن عزمه ولا أبعده عن قومه، فبدلا من وقوفه عند ذلك الحد، تهيبا وحذرا جاهر بسب الأصنام ونسب أهله وآباءهم إلى الكفر والضلال، فلما علموا بمجاهرته بسب الأصنام أجمعوا على عداوته ومقاومته وتعمدوا أذاه، لكنهم لم يروا سبيلا إلى ذلك وهو في كفالة عمه أبي طالب ... فجاءوا عمه وفيهم أبو سفيان فقالوا له «يا أبا طالب إن ابن أخيك عاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فانهه عنا أو خل بيننا وبينه» فردهم أبو طالب ردا حسنا ووعدهم خيرا.
ثم رأوه لا يزال ماضيا في سب آلهتهم فعادوا إلى أبي طالب وقد اشتد بهم الغيظ وقالوا له «إن لم تنه ابن أخيك وإلا نازلناك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين» فعظم ذلك على أبي طالب وأدرك عاقبة الأمر فلما عادوا من عنده قال لابن أخيه «يا ابن أخي إن قومك قالوا كذا وكذا» فظن أن عمه يخذله فشق عليه ذلك وقال «يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر» وبكى وهم بالانصراف فناداه عمه وقال له «قل ما أحببت، فوالله لا أسلمك أبدا».
وكانت دعوته في أثناء ذلك تذيع على مهل، وقد أسلم جماعة من خيرة الناس كان لهم شأن عظيم في التاريخ الإسلامي منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وحمزة بن عبد المطلب (عمه) وعمر بن الخطاب، وكان لإسلام هذين الأخيرين وقع حسن عند النبي، لأنهما كانا من أهل الوجاهة والقوة.
أما سائر أعمامه وأهله فلما يئسوا من وساطة عمه أبي طالب، رأوا أن يحتالوا في استرضائه بالحسنى، فبعثوا إليه وقد اجتمع كبارهم في ندوة ... فجاء فاستقبلوه بالترحاب وقالوا له «يا محمد إنا قد بعثنا إليك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك».
فقال لهم «ما بي ما تقولون وما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
فلما لم يروا سبيلا إليه جعلوا يعذبون الذين أسلموا وصدقوا دعوته والمسلمون صابرون على ذلك العذاب، حتى إذا اشتد أذى قريش لهم وضاقوا ذرعا عن تحمل ما كانوا يسومونهم من سوء العذاب والإهانة، أشار النبي على الذين ليس لهم عشيرة تحميهم أن يخرجوا من مكة إلى أرض الحبشة، فهاجروا إليها تباعا فبلغ عدد المهاجرين 83 رجلا ما عدا النساء والأولاد، وهي الهجرة الأولى، ولا يخفى ما تقتضيه الأسفار من مكة إلى الحبشة من المشقة، لما في ذلك من ركوب البحر وخصوصا في تلك الأزمان مع ما حملوه معهم من النساء والأطفال، فيدل ذلك على ما كان عليه هؤلاء من الاعتقاد المتين بالإسلام.
ويليق بنا الوقوف هنيهة في هذا المقام لإبداء ما ارتسم في مخيلتنا من أمر هذه الدعوة على أثر مطالعتنا الطويلة في تاريخها فنقول:
هل كان يعتقد صدق رسالته؟
زعم بعض الكتاب من غير المسلمين أن صاحب الشريعة الإسلامية إنما قام بهذه الدعوة، طمعا في السيادة ورغبة في ملاذ الدنيا.
وأما نحن فلا نرى مسوغا لهذا القول وتاريخ الدعوة يدل دلالة صريحة على أنه إنما قام بها عن صدق وإخلاص، فلم يدع الناس إلى الإسلام إلا وهو يعتقد اعتقادا متينا بصحة رسالته وأن الله أرسله لبث تلك الدعوة، ولولا هذا الاعتقاد لم يصبر على ما ناله من الاضطهاد وضروب العذاب، وقد رأيت أنه كان قبل ظهوره بالدعوة موضع احترام أهل مكة كافة، وأهله يحبونه ويكرمونه وهو في عيش هنيء، لما اكتسبه من أسباب اليسار بزواجه بخديجة واتجاره بأموالها، فأصبح بعد ظهوره بالدعوة وقد ناصبه أهل مكة العداء وساموه أنواع العذاب وأهانوه، حتى نقموا على بني هاشم، لأنهم أهله فتعاقدوا أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم وكتبوا بذلك صحيفة أودعوها في جوف الكعبة، فاضطر بنو هاشم أن ينفروا إلى الجبال فأقاموا في الشعب ثلاث سنين لا ينزلون مكة إلا خفية - إلا من جاهرة بعداوته للمسلمين كأبي لهب ونحوه.
ولا يعترض على ما تقدم بأنه لم يثبت إلا لاحتمائه بعمه أبي طالب، لأننا رأيناه بعد وفاة عمه أكثر ثباتا منه في حياته، مع أن الناس أصبحوا أكثر اضطهادا له مما كانوا قبل وفاته، وخصوصا بعد وفاة خديجة وقد ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين، فتتابعت بموتهما المصائب عليه، واستبدت به قريش ولا سيما عمه أبو لهب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط، لأنهم كانوا جيرانه بمنزله، فكانوا يلقون الأقذار في طعامه، ويرمونه بها وقت صلاته.
حتى إذا لم يعد يستطيع صبرا على هذا الضيم لجأ إلى الطائف، لعله يلقى فيها من ينصره ويؤمن بدعوته، فلم يلق إلا الإعراض والأذى، فعاد وقد يئس منهم لكنه لم يرجع عن حرف من دعوته، ولم يكتف أهل الطائف بإعراضهم عنه بل أغروا بعض سفهائهم وعبيدهم أن يسبوه ويصيحوا به ففعلوا حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى الحائط وردوا السفهاء عنه فرجعوا، فأحس عندئذ بما هو فيه من ضيق فشكا أمره إلى الله ، وعاد إلى مكة ولم يغير ذلك شيئا من عزيمته، فلقيه قومه هناك وهم أشد وطأة عليه مما كانوا من قبل.
فاعتبر حاله بعد ذلك الرجوع وقد نبذه الناس قريبهم وبعيدهم مع علمه أنه إذا رجع عن دعوته لقي منهم ترحابا وإكراما كما صرحوا له جهارا، ولكنه لم يكترث لشيء من ذلك ولا أهمه أمر الدنيا.
فلولا اعتقاده المتين بصدق الدعوة التي قام بها وأنه منتدب لهذه الرسالة من الله سبحانه وتعالى لما صبر على ذلك كله. (1-4) أهل المدينة والدعوة
ولما يئس من أهله ومواطنيه جعل يعرض نفسه على القبائل في أيام الحج لعله يلقى من يصغي إليه وأهله يعترضونه ويقفون في سبيله، وخصوصا عمه أبو لهب فإنه كان إذا رآه في جماعة يخاطبهم في شأن الإسلام اعترضه وقال للناس «إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه»، ولكن ذلك لم يقعده من دعوة الناس وما زال يعرض نفسه عليهم في المواسم، حتى بايعه نفر من أهل يثرب كانوا وسيلة لنشر الإسلام في تلك المدينة في برهة قصيرة.
ولعل السبب في سرعة انتشار الإسلام هناك كثرة من في المدينة من اليهود وهم أهل كتاب يعتقدون الوحي ويدركون معنى النبوة، وليس فيهم من يخاف على تجارته إذا بطلت عبادة الأصنام، بل هم يفضلون إبطالها لتسقط مكة وتنهض مدينتهم وخصوصا إذا هاجر إليها صاحب الدعوة نفسه وصارت مركزا للدين الجديد يحج إليها الناس بدلا من حجهم إلى مكة واليهود كما لا يخفى أهل النظر في التجارة وأصحاب فراسة في أبواب الكسب، ناهيك بما كان بين تينك المدينتين من المنافسة والمسابقة والتحاسد، لتباعدهما في الأنساب، لأن أهل مكة من العدنانية وأهل المدينة من القحطانية عرب اليمن، فنشطه أهل يثرب ودعوه إليهم على أن ينصروه، فهاجر إليهم سنة 622 للميلاد، وهاجر معه من بايعه من قبيلته وهم «المهاجرون»، تمييزا لهم عن الفئة الأخرى من الصحابة وهم «الأنصار» أهل يثرب، سموا بذلك، لأنهم نصروا النبي في مدينتهم، وبهذه الهجرة يؤرخ المسلمون وقائعهم إلى الآن، وقد سميت يثرب - عندما عم الإسلام أهلها - بمدينة النبي، تم اختصر إلى المدينة، ولزمها هذا الاسم إلى الآن. •••
ولقي المسلمون في المدينة ترحابا عظيما فاشتد أزرهم وتحولوا إلى محاربة أهل مكة، فجعلوا يناوئونهم في أثناء مرورهم بتجارتهم بين الشام ومكة وفي أماكن أخرى، ووقعت بين الجانبين وقائع كثيرة هي الغزوات المشهورة، أعظمها غزوة بدر الكبرى التي انتصر المسلمون فيها وكانت فاتحة انتصاراتهم في الغزوات الأخرى، حتى أخضعوا جزيرة العرب كلها وفتحوا مكة وأسلم القرشيون كافة، فوجه النبي التفاته إلى العالم الخارجي وخاطب الملوك يدعوهم إلى الإسلام كما سيأتي.
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
(1) الروم
تأسست رومية (روما) سنة 753 قبل الميلاد وقامت معها الدولة الرومانية، وظلت رومية كرسي تلك الدولة عشرة قرون ونصف قرن، وقد فتحت العالم المعمور يومئذ كله، وفي مايو سنة 330 أصبح انقسام الدولة الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي، حقيقة واقعة بعد أن كان مجرد تقسيم إداري منذ سنة 295 ميلادية، ذلك أن قسطنطين اتفق مع زميله ليسينيوس على اقتسام الدولة، وتولى هو القسم الشرقي واتخذ بيزانطيوم عاصمة له، وسماها القسطنطينية، هيأ لها كل مقومات العواصم الرومانية، حتى لقد نقل إليها أعدادا من سكان روما وأعضاء مجلس الشيوخ.
وبعد وفاته سنة 337م اختلف أولاده الثلاثة، ثم انفرد بالأمر أحدهم وهو قسطنطيوس، ولكنه لم يستطع الاستمرار، وصار الأمر إلى واحد منهم توفي سنة 360م، فخلفه يوليان ثم جوفيان سنة 264م، ثم توفي هذا بعد بضعة أشهر، فانتخب الرومان إمبراطورا اسمه فالنتيان، وبعد قليل نصب فالنتيان أخاه فالنس إمبراطورا على رومية، وتم انفصال المملكة الرومانية على أثر ذلك إلى مملكتين إحداهما شرقية عاصمتها القسطنطينية والأخرى غربية عاصمتها رومية، وكانت الأولى أسعد حظا وأطول عمرا فأصبحت القسطنطينية مبعث العلم ومركز السلطنة ومرجع الدين للجزء الشرقي من الدولة الرومانية القديمة.
وكانت حدود الدولة الرومانية الشرقية في القرن الخامس للميلاد غير ثابتة، ولكننا نستطيع القول بصورة عامة أنها كانت تنتهي في الغرب بالبحر الأدرياتي وفي الشرق بضفاف دجلة، وتمتد حدودها الشمالية إلى جنوبي ما يعرف اليوم بروسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وتنتهي في الجنوب إلى بلاد النوبة، وأرقى عصور هذه الدولة بعد قسطنطين الكبير عصر جستنيان (من سنة 527-565م) تولاها 37 سنة، قضى الخمس الأولى منها في محاربة الفرس الساسانية، وانتهت الحرب بمعاهدة سموها «معاهدة الصلح الدائم» لكنها لم تدم، ومن حسن حظ هذا الإمبراطور أنه رزق بقائدين من أشهر قواد العصور الوسطى هما بليزاريوس ونارسيس فتحا له إيطاليا ورفعا أعلامه فوق أسوار روما شمالي إفريقية وغيرها، وكانا عونا له في سائر فتوحه وساعده الأقوى في توسيع نطاق مملكته. (2) الفرس
والعداوة بين الفرس والروم (اليونان) قديمة ربما تجاوزت القرن الخامس قبل الميلاد، وسببها التنازع على السيادة في العالم، لأنهما كانتا أعظم دول الأرض، في تلك العصور، فأرادت كل منهما الاستئثار بالسلطان دون الأخرى، واتصلت تلك العداوة إلى زمن الإسكندر الكبير ثم اتصلت في عصور الرومان إلى أيام الإسلام.
القائد بليزاريوس يقود جنوده في إحدى المعارك ضد الفرس.
وأفضى عرش الفرس في أيام جستنيان المذكور إلى كسرى أنوشروان المشهور بالعادل، فلم تعجبه مصالحة الروم فحمل عليهم بخيله ورجله، ففتح سوريا وأحرق أنطاكية ونهب آسيا الصغرى، فبعث جستنيان إليه بليزاريوس فحاربه ورده على أعقابه، ثم عاد وعادوا وتوالت الحروب بين الدولتين نحو عشرين سنة (من سنة 541 إلى 561م) وقد مل الملكان وشاخا فتوافقا على صلح قضي فيه على جستنيان بجزية سنوية مقدارها 30000 دينار، وظلت حدود المملكتين كما كانت قبل الحرب.
وللإمبراطور جستنيان ذكر مجيد في تاريخ الدولة البيزنطية، بسبب اتساع حدودها على أيامه واستعادتها للكثير مما كانت قبائل الجرمان قد استولت عليه من ولايات الدولة الرومانية، وبسبب ما قام به من أعمال خلدت ذكره على مدى التاريخ، منها اجتهاده في تكوين مجموعات القوانين الرومانية المعروفة وأشهرها المجموعة المعروفة إلى اليوم بمدونة جستنيان التي كانت أساسا لما وضع بعدها من القوانين في أوربا إلى اليوم، وقد أدخل صناعة الحرير إلى أوربا وبنى الكنائس والمعاقل والقصور، وأشهر ما يذكر به كنيسة أيا صوفيا، التي جعلها العثمانيون عند فتح القسطنطينية جامعا لا يزال معروفا بهذا الاسم إلى اليوم.
كنيسة أيا صوفيا التي بناها جستنيان، وهي الآن جامع.
ولكن الدولة المطلقة إنما يكون حظها من السعادة أو الشقاء كما يكون ملكها فإن كان عظيما عظمت أو كان حقيرا حقرت، فلما توفي جستنيان خلفه أناس لا يليقون بالملك فلم تعد تعرف السعادة بعده - خلفه ابن أخيه جستين الثاني ثم طيباريوس ثم الإمبراطور موريس «موريقوس» وقد ضعف أمر الدولة، فأراد هذا الإمبراطور أن يقويها بفتح الشرق فناصب الفرس وحاربهم سبع سنين، وقد توفي كسرى أنوشروان سنة 579، وخلفه ابنه هرمز الرابع، وكان عاتيا فثار عليه رعاياه، فاشتغل بإخماد ثورتهم، والروم يوغلون في بلاده من العراق، والتركمان يسطون عليها من الشمال والشرق حتى كادت تذهب فريسة الفاتحين لو لم يقيض لها الله قائدا شهيرا يعرف ببهرام فحارب العدوين وأنقذ البلاد منهما، فمال الفرس إليه فأنزلوا هرمز وسملوا عينيه وملكوا عليهم ابنه كسرى أبرويز، فلم يقبل بهرام، وأذله ففر أبرويز إلى القسطنطينية واستنجد الإمبراطور موريس، فأنجده بجيش تغلب به على بهرام واستعاد الملك، فعرف أبرويز ذلك الفضل لموريس وما زال على ولاء الروم إلى وفاة موريس.
أما هذا الأخير فقد مات مقتولا سنة 602م وخلفه الإمبراطور فوقاس، وكان فوقاس جلفا جاهلا فأبغضته الرعية والتمسوا من ينقذهم منه، وكان من جملة ولاة الأمور يومئذ وال على إفريقية اسمه هراكليوس «هرقل» فاستنجده أهل القسطنطينية، فأنفذ إليهم عمارة بحرية تحمل جيشا يقوده ابنه، وكان يسمى هرقل أيضا، فقتل فوقاس وتربع في دست الإمبراطورية مكانه سنة 610 وفي أيامه ظهر الإسلام. (3) بين الروم والفرس
ورأى أبرويز بابا لمناوأة الروم فادعى أنه يريد الانتقام من قتلة صديقه موريس فزحف بجنده على سوريا سنة 614م وناصره يهودها على البيزنطيين ففتحها وفتح مصر واستولى على أنطاكية ودمشق وبيت المقدس ومدن أخرى من سوريا وفلسطين، ثم أباح لجنده نهب أورشليم «بيت المقدس» فنهبوها وأحرقوا القبر المقدس وكنيسة القيامة وسلبوا خزائنها وحملوا بطريركها والصليب الحقيقي إلى بلادهم، وواصلوا القتل والنهب في سوريا سنة 616م فكان عدد الذين قتلوا من المسيحيين 90000 نفس، وأرسلوا جندا آخر إلى آسيا الصغرى ففتحوها وكان النصر حليفهم حيثما حلوا حتى كادوا يطأون شواطئ البوسفور.
كل ذلك والإمبراطور هرقل معتزل في قصره وقد انغمس في اللهو والقصف والترف لا يبالي بما يهدد مملكته، وكأنه لما تحقق وقوع الخطر نفض غبار الخمول عن عاتقه وخرج للدفاع، ولم يكن عنده مال ينفقه في التجنيد فاقترض أموال الكنائس على أن يعيدها بعد الحرب مع رباها، وحشد جنده وركب البحر إلى كليكيا في آسيا الصغرى واحتل إيسوس فلقيه الفرس هناك فحاربهم وغلبهم سنة 622م، وفي هذه السنة هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة.
هرقل ملك الروم وحاشيته.
قضى هرقل في محاربة الفرس ثلاث سنين متوالية حتى أوغل في بلادهم واضطر أبرويز أن يسحب جنده للدفاع عن قلب مملكته.
أما هرقل فإنه حاربه مرة أخرى سنة 627م فأجهز على قواته وانكسر الفرس انكسارا عظيما، وبلغت جنود الروم نينوى عاصمة الأشوريين القديمة وهي أول مرة وطئ الروم فيها تلك المدينة، وكان أبرويز قد أصبح شيخا طاعنا في السن فأوصى بالملك لابنه مردز، وكان له ابن آخر اسمه شيروبه حسد أخاه وعمد إلى الكيد له ولأبيه، فاستعان ببعض الناس حتى قبض على من بقي من أولاد أبرويز وهم ثمانية عشر ولدا فقتلهم جميعا بين يدي أبيه وزج أباه في السجن حتى مات.
وبموت كسرى أبرويز انقضى مجد الدولة الساسانية ولم يعش ابنه شيرويه بعده إلا ثمانية أشهر فأصبحت حكومة الفرس فوضى، وادعى الملك تسعة ملوك في أربع سنوات، فساد الفساد وتمكن الاختلال فيها فجاءها المسلمون وهي في تلك الحال.
ناهيك بما كان يهدد الروم في أوربا من هجمات برابرة القوط، وكان هؤلاء في أوائل الإسلام قد استولوا على غربي هنجاريا «المجر»، وزد على ذلك أن الهون كانوا في أثناء ذلك يهددون مملكة الروم من جهة الشرق. (4) الانقسامات الدينية
ولم يكن الاختلال في دولتي الروم والفرس مقصورا على الوجهة السياسية والإدارية، ولكنه كان يتناول الأحوال الاجتماعية والدينية بما تفاقم فيها من الانقسامات المذهبية مما هو مشهور، فقد كان الروم حوالي القرن السادس للميلاد في منتهى التضعضع، لتعدد الفرق وتشعب المذاهب وخصوصا فيما يتعلق بالطبيعة والطبيعتين والمشيئة والمشيئتين، وأكثر اختلافهم على الألفاظ، والجوهر واحد.
فكان الإمبراطور وأهل دولته يقولون إن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، وأما رعيته في مصر والشام فكان أكثرهم يقولون بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وهم اليعاقبة، وفي زمن هرقل سعى البطريرك إثناسيوس بطريرك اليعاقبة في منبج في التوفيق بين الطائفتين، فخاطب الإمبراطور في ذلك وذهب مذهبا متوسطا بين القولين، وهو أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة، فوافقه الإمبراطور واستمهله ريثما يخابر بطريق القسطنطينية بيروس وهو سوري الأصل، وكان إثناسيوس قد اتفق معه على ذلك قبل مخاطبة الإمبراطور، فنشر الإمبراطور بهذا المعتقد منشورا قبله أكثر الأساقفة الشرقيين إلا صفرونيوس بطريق بيت المقدس وبعض الأساقفة، وفي مقدمتهم أسقف عمان وسائر أهل الكنيسة الملكية، فشق ذلك على الإمبراطور فعمل على الانتقام من الذين لم يقبلوا منشوره وفيهم جانب عظيم من الروم، فأصبح الانقسام مزدوجا الإمبراطور وبطارقة القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية حزب يقول بطبيعتين ومشيئتين، واليعاقبة ومنهم الأقباط وأهل حوران وسائر أهل داخلية سوريا ومصر حزب آخر، والنساطرة وهم أهل العراق والجزيرة حزب ثالث، فضلا عن طوائف أخرى غير هذه منهم الخياليون الذين يقولون إن المسيح لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل آخر مكانه، والإكيفاليون القائلون بعدم الخضوع للرؤساء وهم يشبهون الخوارج، ثم إن اليعاقبة أيضا كانوا أقساما مما يطول شرحه.
وكان لهذه الانقسامات تأثير شديد في السياسة لاختلاط السياسة عندهم بالدين، حتى آل ذلك أحيانا إلى خروج أمم بأسرها من حوزة الروم إلى الفرس، كما حصل للأرمن فإنهم لما حرم مجمع القسطنطينية بدعة الطبيعة الواحدة جعل الإمبراطور يشدد النكير على متبعيها، والأرمن منهم، فأفضت بهم الحال إلى تسليم بلادهم إلى الفرس، وكذلك فعل القبط بمصر يوم جاءهم عمرو بن العاص، فقد كانوا عونا له في فتحها للسبب عينه. (5) التناقض بين الروم واليهود
ولا بد من الإشارة هنا إلى ما كان بين اليهود والروم من تباغض قوي بسبب ما جرى عليه أباطرة الدولة الرومانية من اضطهاد اليهود في تلك الأيام، وقد بلغ هذا التباغض حده في أيام هرقل فثار اليهود في أنطاكية وقتلوا بطريقها ومثلوا بجثته تمثيلا قبيحا، فأرسل إليهم هرقل فقتل منهم جمعا غفيرا، وثاروا في صور عاصمة فينيقية وقتلوا واليها، وتآمر يهود صور ويهود فينيقية وفلسطين على أن يدخلوا مدينة صور ليلا ويقتلوا النصارى، فاطلع مطران صور على المكيدة وأخبر الوالي بها فأمر الوالي الحامية والبوابين والحراس بأن يكونوا تلك الليلة على حذر، ولما جن الليل هجم اليهود من خارج السور فردهم الجند على أعقابهم، فرجع اليهود إلى الأديرة والكنائس القائمة بجوار المدينة فهدموها وسلبوا آنيتها، وفعلوا مثل ذلك فيما جاورها من القرى، فعاقبتهم الحكومة بقتل كل يهود صور.
وحدث مثل ذلك في قيسارية فلسطين فأرسل الملك أخاه ثاودورس فقتل من كان فيها من اليهود، فاشتد غيظهم على المملكة في كل أنحائها، وزاد الروم خوفا من اليهود وحذرا منهم أن بعض أهل التنجيم أنبأوا الملك أن رجلا من أهل الختان سيأخذ المملكة منه، ويقول العرب إن المراد بأهل الختان المسلمون، ومما فعله اليهود من الفظائع نكاية في الروم، أنهم اشتروا من الفرس ثمانين ألفا من أسرى النصارى وذبحوهم.
ولم يكن التباغض مقصورا على ما بين اليهود والروم، لكنه كان بينهم وبين النصارى على الإجمال، وكانت حكومات النصارى إذا سنت قانونا خصصت بنودا منه لليهود لمعاملتهم بالاحتقار، كما فعل القوط حكام إسبانيا قبيل زمن الفتوح الإسلامية فقد سموا اليهود أعداء الحكومة القوطية، وكانت المجالس الملية في تلك المملكة قد قررت إلغاء الديانة الإسرائيلية فأمرت الحكومة بمنع اليهود من الاحتفال بأعيادهم، وأجبرتهم على النصرانية وضيقت عليهم تضييقا شديدا حتى اضطروا للتظاهر بالنصرانية وقلوبهم ما زالت يهودية تكاد تنفجر حقدا وكظما على ما نالهم من صنوف العذاب، ولم يكن القوط يجهلون تكتمهم ولذلك لم يكونوا يعاملون المتنصرين منهم معاملة المسيحيين الأصليين، بل حرموهم من كل الحقوق المدنية وحظروا عليهم اقتناء العبيد وتمادوا في إذلالهم حتى منعوهم من القراءة، فهل نستغرب بعد ذلك إذا كان اليهود عونا للعرب المسلمين على حكامهم المسيحيين ...؟ (6) حالة الفرس الداخلية
أما الفرس فقد كانت حالتهم الاجتماعية في غاية الانحطاط قبل الإسلام بمدة طويلة لانشقاق عصاهم بتشعب المذاهب عن ماني ومزدك، ومن غريب دعوى هذا الأخير أن إلهه بعثه ليأمر بشيوع النساء والأموال بين الناس على السواء، لأنهم أخوة أولاد أب واحد، وتبع هذا المذهب قباذ أحد ملوكهم، فجاء بعده من نقضه وأقام غيره وتشعبت الآراء هناك وفسدت الأخلاق، وفيما كان الروم والفرس على ما ذكرناه من الانحلال كان العرب في إبان نهضتهم، وقد اجتمعت كلمتهم واشتد أزرهم بمن كان يهاجر إليهم من رجال الروم والفرس أنفسهم، فرارا من تغالب الأحزاب أو ضعف الحكام.
انتشار الإسلام
يبدأ تاريخ الإسلام بالهجرة، فقد هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة، فرارا مما كان القرشيون يسومونهم إياه من الخسف والإهانة وهم قليلون لا يقوون على دفعهم، وقد رأوا من أهل المدينة مؤازرة ونصرة بما أظهروه من البيعة المعروفة ببيعة العقبة فأمر النبي المسلمين بالهجرة إلى المدينة فلاقاه أصحابه هناك بالترحاب وأنزلوه وأنزلوا الذين هاجروا معه على الرحب والسعة. (1) التعاهد بين المهاجرين والأنصار
وأول عمل باشره بعد نزوله هناك المعاهدة بين أصحابه المسلمين (المهاجرين والأنصار) وبين اليهود من أهل يثرب على الاتحاد والتكاتف في الدفاع عن المصالح العامة، وكتب بين الفريقين كتابا يعترفون فيه أنهم أمة واحدة، وقد أورد ابن هشام نص ذلك الكتاب ثم خص المهاجرين من قريش والأنصار من يثرب بعهود أخرى سموها المؤاخاة، فآخى بين أصحابه المهاجرين والأنصار بعهد وثيق، هذا هو الحجر الأول من أساس الدولة الإسلامية والمسلمون يومئذ بضع عشرات، وفرضت الزكاة والصيام وأقيمت الحدود وفروض الحلال والحرام وغير ذلك من دعائم الإسلام، ثم انضم إلى المسلمين بعض وجهاء المدينة فتأيد الإسلام بهم كما تأيد من قبل بحمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب. (2) الغزوات
فلما فرغوا من ذلك فكروا في ما بينهم وبين أهل مكة من العداء ، فعمدوا إلى مقاتلتهم، لنصرة الإسلام فحدثت الغزوات المشهورة - وهي أول الحروب الإسلامية - بدأت بالغزو والقتال على عادة العرب في جاهليتهم وانتهت بفتح المدن والممالك، وأشهر الغزوات وأهمها غزوة بدر الكبرى، لأن فوز المسلمين فيها قوى عزائمهم ونشطهم على موالاة الغزو. (2-1) غزوة بدر الكبرى
بدر آبار بين مكة والمدينة، تنزل عندها القوافل التجارية المسافرة بين مكة والشام، وكان القرشيون أهل تجارة تسير قوافلهم إلى الشام تحمل إليها البضائع - كما تقدم - فعلم المسلمون في السنة الثانية للهجرة أن قافلة من القرشيين أهل مكة، قادمة من الشام ومعها الأموال يخفرها ثلاثون رجلا يرأسهم أبو سفيان بن حرب كبير أهل مكة يومئذ، فانتدب النبي أصحابه لغزو القافلة وأخذ أموالها، فبلغ أبا سفيان ذلك فعجل بإرسال رسول يطلب النجدة من أهل مكة، فجاءه منهم 950 رجلا فيهم مائة فارس، وخرج المسلمون وهم 313 رجلا منهم 70 من المهاجرين والباقون من الأنصار، ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون جملا، وبلغهم بعد خروجهم من المدينة أن قافلة قريش قاربت آبار بدر، فسبقهم المسلمون إلى المكان وبنوا للنبي عريشا جلس فيه ومعه أبو بكر، وتهيأ أصحابه للحرب.
ثم رأوا قريشا مقبلين وهم نحو ثلاثة أمثالهم، وفيهم نخبة رجال مكة الذين قاوموا الإسلام وأهانوا النبي وفي جملتهم أبو جهل بن هشام، وعلم النبي أن هذه الواقعة حد الفصلين إما أن ينتصر المسلمون ويتأيد الإسلام إذا غلبوهم، وإما أن تعود العائدة عليهم إذا غلبوا، فلما رأى القرشيين قادمين في مثل هذا العدد نظر إلى أصحابه فإذا هم قليلون فقال «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
وباشروا القتال بالمبارزة على جاري العادة، ثم قتل أبو جهل فجاءوا برأسه إلى النبي فسجد وشكر الله، ودارت رحى الحرب فكان النصر للمسلمين، وقد قتل منهم أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من القرشيين سبعون رجلا وفيهم من أشراف بطون قريش كلها، وخصوصا بني أمية وبني مخزوم وبني أسد، وأسر منهم سبعون رجلا فيهم عقبة بن أبي معيط فأمر بقتله، لما كان من أذاه النبي بمكة، وكان أكثر المسلمين جهادا في تلك الواقعة علي بن أبي طالب ابن عم النبي وحمزة بن عبد المطلب عمه، وفر من بقي من القرشيين وفيهم أبو سفيان بن حرب رئيسهم وعمرو بن العاص الذي صار من أكبر قواد الإسلام فيما بعد، ساروا يطلبون مكة وغادروا الأموال والأمتعة فاستولى المسلمون عليها وتنازعوا في تفريقها، ففرقها النبي عليهم بالسواء ولم يأخذ لنفسه شيئا، ثم بعث القرشيون يفتدون أسراهم، فاجتمع من ذلك مال كثير، وقد عاد أهل مكة مخذولين، فانكسرت شوكتهم وعظم أمر المسلمين، ومما زادهم تأييدا أن أبا لهب المشهور بمقاومة الإسلام، لم يخرج يوم بدر من مكة، لكنه أرسل من يحارب عنه على جاري عادتهم في من يتخلف عن الحرب، فلما أخبروه بفشل القرشيين اشتد به الحزن حتى مات بعد بضعة أيام، ولواقعة بدر شأن عظيم في تاريخ الإسلام، لأنها كانت فاتحة الانتصارات الأخرى. (2-2) واقعة أحد
ثم إن القرشيين عادوا بعد هذه الكسرة فاجتمعوا في السنة التالية، وقائدهم أبو سفيان وعددهم ثلاثة آلاف فيهم 700 دارع و200 فرس، وتهيأوا للأخذ بثأر قتلاهم في بدر، وساروا لمهاجمة المدينة ومعهم النساء يضربن الدفوف ويندبن قتلى بدر ويحرضن الناس على مقاتلة المسلمين، وكان في جملة رجال الحملة خالد بن الوليد الذي اشتهر بين قواد المسلمين بعد ذلك، فلما أقبلوا على المدينة تشاور النبي وأصحابه فكان رأيه البقاء في المدينة للمدافعة، ورأى مثل ذلك أيضا رجل من الصحابة اسمه عبد الله بن أبي بن سلول، ولكن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج عليهم، فأطاع النبي الأكثرية وخرج في ألف منهم حتى توسطوا بين المدينة وجبل أحد، وباسم هذا الجبل سميت هذه الواقعة «غزوة أحد»، وكان ابن أبي هذا قد غضب، لأن النبي خالف رأيه وأطاع الآخرين، فلما توسطوا الطريق تقهقر هو وثلث الرجال، وأشاع القرشيون في الجند أن محمدا قتل، ففشل المسلمون ولم يظفروا في هذه الواقعة، وقتل منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي، وكان قتله سببا في زيادة الفشل كما كان إسلامه مؤيدا للإسلام، وبلغت جملة قتلى المسلمين سبعين رجلا، وأصيب النبي نفسه بضربة شجت رأسه ودخل بعض حلق المغفر «الدرع» في الشجة فسال الدم، ومثل القرشيون بقتلى المسلمين تمثيلا شنيعا، فقطعوا الآذان والأنوف حتى إن هندا بنت عتبة امرأة أبي سفيان «وأم معاوية» شقت بطن حمزة وأخرجت كبده ولاكتها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها.
وكانت هذه الواقعة أشد ما أصاب المسلمين إلى ذلك الحين، لكنهم كانوا قد ذاقوا لذة النصر فنسبوا هذا الفشل إلى خيانة عبد الله بن أبي المتقدم ذكره، وعادوا إلى مواصلة الغزو حتى كانت واقعة الخندق. (2-3) واقعة الخندق
وذلك أن قبائل العرب لما رأوا انتصار القرشيين في أحد تحزبوا لأهل مكة وانضموا إليهم، وفيهم قريش وغطفان وسائر قبائل العرب وبنو النضير من اليهود - وكان المسلمون قد أجلوهم عن أماكنهم كما سيأتي فحرضوا قريشا على الحرب - وحملوا على المدينة في بضعة عشر ألفا ونحو أربعمائة فرس وألف بعير، وهم الأحزاب وبهم تعرف الواقعة أيضا، وكان المسلمون لا يزيد عددهم على ثلاثة آلاف، فاضطربوا وخافوا، وقد تعلموا من الواقعة الماضية أن لا يخرجوا من المدينة.
وكان في جملة الصحابة يومئذ رجل من فارس له خبرة بفنون الحرب اسمه سلمان الفارسي، فأشار على النبي بحفر الخندق - وكان العرب لا يعرفون ذلك من قبل - فقال له سلمان «كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، فإن ذلك من مكايد الحرب» فاستحسن النبي ذلك وأمر بالحفر، وكان هو نفسه يشتغل معهم بحمل التراب، ولم يكن عندهم العدد اللازمة فاستعاروا بعضها من بني قريظة، فاحتفروا الخندق حول المدينة في بضعة عشر يوما.
وأقامت الأحزاب حول المدينة وحاصروها والخندق يمنعهم من مهاجمتها، فقضوا بضعة وعشرين يوما لا يقاتلون إلا بالمراماة بالنبال والحصي، وقد هالهم أمر الخندق وعلموا أنها مكيدة جديدة، على أن بعضهم حاول الوثوب بفرسه من فوق الخندق فسقط فيه واندقت عنقه، فزاد الرعب في قلوب الأحزاب، فلما طال بهم الانتظار عمدوا إلى البراز، فخرج أحدهم وطلب البراز فخرج إليه علي بن أبي طالب فغلبه علي، واتفق على أثر ذلك سقوط الأمطار وهبوب الرياح ، فأثرت في خيام الأحزاب وكفأت قدورهم، وأهل المدينة في منازلهم قلما أثرت فيها الأنواء، فتشاءم أولئك وعادوا على أعقابهم، فزال عن المسلمين عار أحد بهذه الهزيمة. (3) الفتوح
كل ما تقدم من الحروب لا شيء من الفتح فيه وإنما هو غزو ومقاتلة، وأما الفتوح الإسلامية فأولها فتح أرض بني النضير وهم يهود، حدث حادث دعا إلى مطالبتهم بالجلاء عن بلادهم فطلب النبي أن يجلوا عنها فحاصرهم ستة أيام «سنة 4ه»، فطلبوا إليه أن يخلي سبيلهم على أن يحملوا معهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك فخرجوا وظل ما بقي من أموالهم فيئا للنبي خاصة يعطي منه من يشاء، وكذلك حصل في قريظة وخيبر، وكان لخيبر حصون كثيرة فتحوها تباعا.
حصن خيبر.
أما القرشيون بعد واقعة الخندق فقد هان عليهم مهادنة المسلمين، فعقدوا معهم صلحا في نحو السنة السادسة للهجرة مفاده «أن من شاء من أهل المدينة أن يقدم مكة للحج أو العمرة أو أن يجتاز بها إلى اليمن أو الطائف فهو آمن، ومن قدم من أهل مكة أو من معهم من أهل الشام والمشرق ومر بالمدينة فهو آمن». (3-1) واقعة مؤتة
فتفرغ المسلمون لنشر الدعوة الإسلامية، وكان لفشل الأحزاب مع كثرة عددهم تأثير شديد على قبائل العرب وعظم الإسلام في نفوسهم، فجعلوا يفدون إلى المدينة لقبول الدعوة من تلقاء أنفسهم، وفي جملة الوافدين رجلان لهما شأن عظيم في تاريخ الإسلام، هما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وكلاهما من أشهر القواد، فاعتز المسلمون بهم واتسعت آمالهم، فأرسل النبي في السنة التالية رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، في جملتها كتاب إلى المقوقس وإلى مصر، وبعث «سنة 8ه» جندا لمحاربة الروم في الشام، فحاربوهم في قرية من قرى البلقاء في حدود الشام مما يلي حوران اسمها مؤتة، وتلك أول حروبهم مع الروم، والعرب لم يجربوا الجنود المنظمة بعد، فلم يفلحوا فعادوا إلى المدينة وقد قتل منهم بضعة من خيرة الصحابة فيهم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب أخو علي.
كتاب النبي إلى المقوقس عثر عليه بعض الفرنسيين سنة 1275ه. (تفصيل ذلك في الهلال صفحة 103 و160 سنة 13).
وحدثت في أثناء ذلك حادثة أفضت إلى نقض الصلح بين المسلمين وقريش، فرأى أبو سفيان أنهم لم يعودوا يقوون على مناوأة المسلمين، فجاء بنفسه إلى المدينة لتجديد العهد، وأدرك المسلمون ضعف عدوهم فلم يغفلوا عن هذه الفرصة، فلما سألهم عن الصلح لم يجيبوه جوابا صريحا عن قبولهم إياه،
1
فلما عاد إلى مكة تجهزوا على عجل لكي يباغتوها قبل أن يتأهب أهلها للدفاع، فساروا حتى أقبلوا عليها وهم عشرة آلاف وفيهم المهاجرون والأنصار وقبائل من العرب المحالفة، وكان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا من مكة يتجسسون، فلقيهم العباس بن عبد المطلب عم النبي، فسأله أبو سفيان عما هنالك، فأخبره العباس بقوة جندهم واعتزاز أمرهم، فقال أبو سفيان «لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيما» فأشار عليه العباس أن يستأمن، فلم ير لنفسه خيرا من ذلك، فجاء معه إلى معسكر المسلمين، فأكرم النبي وفادته ومنع الصحابة من إيذائه، لأنهم كانوا ينوون الإيقاع به، وزاد في تعظيمه حتى جعل كل من يدخل بيته من أهل مكة يوم الفتح آمنا مثل من يدخل المسجد.
مسجد مكة وفي وسطه الكعبة.
فعاد أبو سفيان وأخبر أهل مكة بما كان، فاستضعفوه وخذلوه وشتموه حتى إن امرأته هند بنت عتبة أخذت بشاربيه وقالت «اقتلوا الحميت الدسم الأحمس ... قبحه الله من طليعة قوم» فلم يبال.
ثم دخل المسلمون مكة وفتحوها، وسار النبي توا إلى الكعبة فكسر الأصنام التي كانت في المسجد حولها وفي جوفها، ونزع ما كان على جدرانها من صور الملائكة وغيرها، وكان ذلك آخر عهد مكة بالوثنية، وتحولت الكعبة من ذلك الحين إلى مسجد يعبد فيه الله، وأسلم أهل مكة كافة وفيهم أبو سفيان وأولاده، وفي جملتهم معاوية
2
بن أبي سفيان مؤسس دولة بني أمية. (3-2) المؤلفة قلوبهم وغزو الطائف
وسمى النبي أشراف مكة الذين أسلموا بعد الفتح «المؤلفة» أو «المؤلفة قلوبهم»، إشارة إلى تأليف قلوبهم لتتألف بهم قلوب أقوامهم، تعزيزا للإسلام، وفي السيرة الحلبية أن من المؤلفة قلوبهم من تألفهم النبي ليسلموا مثل صفوان بن أمية، ومن تألفهم لدفع شرهم، وكان يتألفهم جميعا بالعطاء فيميزهم به عن سائر الصحابة كما سترى، وفي ذلك من حسن السياسة والحلم وسعة الصدر ما فيه.
وبعد فتح مكة بعث النبي سراياه إلى ما حولها يدعو الناس إلى الإسلام، ثم غزا حنينا والطائف، وشتان بن مجيئه إلى الطائف الآن ومجيئه في أول دعوته، لقد جاءهم يومئذ مستنصرا وجاءهم الآن فاتحا، فغلبهم وغنم غنائم بلغ مقدارها 24000 من الإبل و40000 من الغنم و4000 أوقية من الفضة، فلما عمد إلى تفريقها في أصحابه بدأ بالمؤلفة قلوبهم فأعطى أبا سفيان مائة بعير وأعطى ابنه معاوية مائة بعير وابنه يزيد مائة بعير وأعطاهم الفضة، فكان جملة ما أخذه أبو سفيان وأولاده ثلاثمائة بعير ومائة وعشرين أوقية من الفضة، فقال أبو سفيان «بأبي أنت وأمي يا رسول الله لأنت كريم في الحرب وفي السلم». (3-3) عتب المهاجرين والأنصار
وفعل النبي نحو ذلك في سائر الأشراف مثل الحارث بن هشام أخي أبي جهل المشهور وصفوان بن أمية وغيرهما، فشق ذلك على المهاجرين والأنصار وهم دعامة الإسلام وأهل السابقة، فكيف يتركون وتفرق الغنائم في من لم يسلموا إلا مكرهين بعد أن غلبوا على مدينتهم؟ فتشاكى الصحابة في ما بينهم وقالوا «كيف يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا لا تزال تقطر من دمائهم؟» فبلغ ذلك النبي فجمعهم وسألهم فاعترفوا له بما قالوا فصوب قولهم ولكنه قال لهم «إني لأعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم ليحسن إسلامهم ويسلم غيرهم تبعا لهم، وأما أنتم فوكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يتزلزل، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ ...» وقال مثل ذلك للمهاجرين فارتضوا.
ثم عادوا إلى المدينة في نحو السنة التاسعة للهجرة وقد اعتز جانبهم وذاع أمر سلطانهم في كل جزيرة العرب ، فجعل الناس يفدون على المدينة يدخلون في الإسلام. (3-4) محاولة فتح الشام
فلما اعتز المسلمون ودانت لهم جزيرة العرب كلها تقريبا، عادوا إلى توسيع دائرة الفتح، فأمر النبي سنة 9ه بالتجهز لإعادة الكرة على الروم، فجهزوا جندا عدده ثلاثون ألفا فيهم عشرة آلاف فارس، وتلك أكبر حملة استطاعها المسلمون إلى ذلك الحين بذلوا فيها كل ما في وسعهم من المال والرجال، ولكنهم لقوا في الطريق شدة عظيمة من العطش، فنزلوا قرية بين المدينة والشام اسمها تبوك وهم يظنون الروم يجتمعون إليها ومعهم عرب لخم وجذام، فجاءهم صاحب أيلة «وهي مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام في رأس خليج العقبة» فصالحهم على الجزية، وفي أثناء هذه الحملة سطا خالد بن الوليد على صاحب دومة الجندل بين المدينة ودمشق، على سبع مراحل من هذه وهو عربي نصراني من كندة، فأخذه خالد وقتل أخاه وأخذ منه قباء من ديباج مخوصا بالذهب وأرسله إلى المسلمين، فلما رأوه تعجبوا منه لأنه أول عهدهم بمثل هذه الملابس، ثم عادوا إلى المدينة ولم يفتحوا شيئا من بلاد الروم.
وفي السنة الحادية عشرة للهجرة توفي صاحب الشريعة الإسلامية، والإسلام لا يزال حديثا، فسعى الذين حط الإسلام من نفوذهم أو وقف في سبيل أغراضهم فارتدت معظم قبائل العرب عنه، إلا أهل المدينة ومكة والطائف، وأصبح الإسلام في خطر شديد، لو لم يتداركه أبو بكر.
الخلفاء الراشدون
(1) الخلاف بين المهاجرين والأنصار
كان النبي في أثناء حياته أمير المسلمين وقائدهم في الحرب، وإمامهم في الصلاة، وقاضيهم في سائر الأحوال، فلما مات ولم يخلف ذكرا ولا أوصى بالخلافة لأحد - وأما قوله لعلي المتقدم ذكره أنه وصيه فالأئمة مختلفون فيه - اختلفوا عند موته فيمن يخلفه، وأولى الناس بخلافته أصحابه وهم المهاجرون والأنصار، فقال المهاجرون نحن أحق بالخلافة، لأننا أهل النبي وأصحابه وقد تركنا أهلنا وبلدنا وهاجرنا معه. وقال الأنصار بل نحن أحق بذلك، لأننا آويناه ونصرناه. واشتد الجدال بينهما حتى كاد يفضي إلى النزاع، فذكرهم أبو بكر بحديث كان النبي قد قاله على مسمع منهم وهو «قريش ولاة هذا الأمر» فأذعنوا وتراجع الأنصار.
ولكن الخطر ما زال يهدد الإسلام من اختلاف المهاجرين على من يختارونه لذلك المنصب العظيم، فأحس عمر بن الخطاب رجل المسلمين بذلك، وخاف الفشل، لأن الإسلام قام على الاتحاد، فبادر إلى أبي بكر فبايعه والناس ينظرون، وهم إنما كانوا يخافونه إذا طلب الخلافة لنفسه، لشدة بطشه وقوته، فلما رأوه سبقهم إلى مبايعة أبي بكر بايعوا معه وانفض المشكل. (2) خلافة أبي بكر
أما مبايعتهم أبا بكر دون سائر المهاجرين وفيهم العباس عم النبي وعلي بن أبي طالب ابن عمه وغيرهما من بني هاشم أهل بيته ففيه نظر، والظاهر من أقوال عمر وغيره في مواقف مختلفة أنهم رأوا بني هاشم قد اعتزوا بالنبوة، لأن النبي منهم فلم يستحسنوا أن يضيفوا إليها الخلافة، ولعلهم فعلوا ذلك اقتداء بالنبي نفسه، لأن عمه العباس طلب إليه مرة أن يوليه عملا فأبى، وصرح بذلك بنو هاشم أنفسهم وفي مقدمتهم الحسن بن علي لما تنازل عن الخلافة لمعاوية فقال «أبى الله أن يجمع النبوة والخلافة فينا».
ومما ساعد على اختيار أبي بكر دون سائر المهاجرين من غير بني هاشم - مثل عمر وعثمان وطلحة والزبير - أنهم اعتبروا السبق في الإسلام، لأن أبا بكر أسبق رجالهم إليه جميعا، وهناك سبب آخر ذو شأن عند العرب من عهد جاهليتهم وهو السن، ولفظ الشيخ يدل عندهم على الشيخوخة والسيادة معا، وكانوا إذا تساوت المناقب في من يترشحون للإمارة فضلوا كبيرهم سنا مع ملاحظة المقام الأدبي - كذلك فعلت قريش في حرب الفجار الثاني فإنها جمعت بطونها وعلى كل بطن رئيس ورأسوا عليهم جميعا حرب بن أمية، قال ابن الأثير «وولوه عليهم جميعا لمكانه من عبد مناف سنا ومنزلة»، وقد جمع أبو بكر الامتياز بالسن والوجاهة على سائر قريش، وفوق كل ذلك فإن النبي لما مرض أنابه للصلاة في المسلمين وهي من حقوق الإمامة، فضلا عما امتاز به من العلم وصدق العزيمة وقوة التدبير وعلو الهمة وغير ذلك من المناقب.
بقايا إيوان كسرى في المدائن.
وأول خطبة قالها أبو بكر بعد المبايعة تمثل حقيقة الإسلام، وتبين السر الذي ساعد على سرعة انتشاره وتأييد سلطانه وهي «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم». (2-1) الردة
تسلم أبو بكر الخلافة والإسلام في غاية الاضطراب بسبب الردة التي أشرنا إليها، ومن أسبابها أن بعض القبائل دانت للإسلام ولم يتمكن الإسلام من عقولهم وقلوبهم، فلما مات النبي تبادر إلى أذهانهم أن الدعوة إلى النبوة أمر هين وظنوا أنفسهم يستعينون على تأييد دعواهم بقبائلهم وهي أكثر رجالا من قريش، فكيف يستطيع هؤلاء السيادة على جزيرة العرب كلها وهم قليلون؟ فادعى النبوة غير واحد، وفيهم طليحة الأسدي من بني أسد، وسجاح التميمية من تميم، ومسيلمة من بني حنيفة في اليمامة، وغيرهم، واستعان كل منهم بقبيلته وأنصاره، فدعا ذلك إلى اضطراب الأحوال في سائر القبائل، فمنهم من رفض الإسلام وتابع أولئك الدعاة، ومنهم من اكتفى بالامتناع عن أداء الزكاة، والزكاة من دعائم الإسلام الأولية، ولها شأن المال في الدولة، والمال ضروري لقيام الدول في كل زمان ومكان، وبعض العرب امتنعوا عن الزكاة، لأنهم عدوها من قبيل الإتاوة التي كانوا يدفعونها في جاهليتهم.
واشتد أمر الردة واستفحل المرتدون، حتى حمل بعضهم على المدينة نفسها وهي عاصمة المسلمين، فهاجموها وكادوا يأخذونها لو لم يدافعهم أبو بكر دفاعا جميلا، وقد تصرف في محاربة المرتدين تصرف الرجل الحكيم الحازم، وبين يديه نخبة القواد وأهل الحزم، فعقد لهم الألوية للقتال، وبلغ عدد ما عقده منها أحد عشر لواء عقدت لأحد عشر قائدا في جملتهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص.
فلم تمض على ذلك سنتان حتى استتب الأمر لأبي بكر، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه وسكنت الأحوال، فحول التفاته إلى الشام والعراق ، اقتداء بما أراده النبي، فوجه إليهما الجنود فجرت واقعة اليرموك الشهيرة سنة 13ه وكانت سببا في فتح الشام، واشتد أزر المسلمين بها كما اشتد أزرهم بواقعة بدر الكبرى. (3) خلافة عمر
وتوفي أبو بكر في تلك السنة وقد أوصى بالخلافة لعمر بن الخطاب، وليس هو أكبر سائر المهاجرين سنا، لكن الصحابة لم يكونوا مخيرين في خلافته، لأن أبا بكر أوصى له بها، وكان عمر رجلا حازما عادلا شديدا في الحق، وفي أيامه تم فتح الشام والعراق وأهم وقائعها واقعة القادسية سنة 14ه وهي من أشهر الوقائع الرئيسية التي فاز فيها المسلمون، وفي أيامه فتح بيت المقدس واشترط أهلها أن يأتي عمر بنفسه لعقد الصلح على يديه، وفتحت المدائن عاصمة الفرس سنة 16ه ثم أوغلت جنود المسلمين في فارس، وفتحت الجزيرة وأرمينيا سنة 17ه، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص، ثم فتحت برقة.
وهو الذي دون الدواوين ووضع الأعطية كما سنفصله، وفي أيامه بنيت الكوفة والبصرة والفسطاط، وبنى المسجد الحرام بمكة ووسع فيه فأضاف إليه ما كان يخاوره من الأرض، ابتاعها من أصحابها.
وقتل الإمام عمر سنة 23ه وخلفه عثمان بن عفان، ونظرا لكثرة الفتوح في أيامه نذكر الأسباب التي ساعدت عليها.
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
للكتاب وأهل النقد بحث طويل وجدال عنيف في الأسباب التي ساعدت العرب على فتح بلاد الروم والفرس، وقهر القياصرة والأكاسرة برجال يكاد لا يزيد عددهم على عدد حامية مدينة من مدن أولئك، مع ما كان عليه العرب يومئذ من سذاجة المعيشة وقلة الدربة في فنون الحرب وضيق ذات اليد وضعف العدة، والروم والفرس أعظم دول الأرض يومئذ وعندهما العدة والرجال والحصون والمعاقل، وزد على ذلك أن العرب فضلا عن قلتهم وسذاجة أحوالهم جاءوا مهاجمين في بلاد لا يعرفونها ولا نصير لهم فيها، وأغرب من ذلك كله أنهم فتحوا تينك المملكتين في مدة لا تتجاوز بضع عشرة سنة، فكيف تأتى لهم ذلك؟
أشهر أقوال أهل النقد في هذا الشأن أن العرب لم يستطيعوا فتح تينك المملكتين إلا لما كان فيه الروم والفرس من التضعضع والضعف، على أثر ما كان من الحروب بينهما قبيل الإسلام مما بيناه في فصل سابق، وعندنا أن ذلك التضعضع لم يكن وحده علة ذلك النصر، وإلا لكانت إحدى الدولتين أولى بالاستيلاء على جارها وعدوتها من أمة صغيرة قليلة العدد ضعيفة العدة غلبت الدولتين جميعا، على أننا لا ننكر ما كان لتضعضع الروم والفرس من التأثير في تسهيل الفتح ولكنه لم يكن هو علته، وهناك أسباب أخرى سيأتي بيانها. (1) ما الذي جرأ العرب على الفتح؟
لنبحث أولا في الأسباب التي جرأت العرب على مهاجمة تينك المملكتين، وهم أهم بادية ما برحوا من أجيال متطاولة ينظرون إلى الروم والفرس نظر الاحترام والتهيب، يضربون الأمثال بضخامة ملكهما ويخافون اسميهما، فكيف تتجرأ شرذمة منهم على مناوأتهما ببضعة آلاف ليس على أبدانهم إلا غليظ الكساء، وأكثر طعامهم الشعير، وعدتهم الرماح مشدودة بعصب والسيوف معلقة بخرق؟ ولماذا لم يفعلوا ذلك قبل الإسلام؟ والجواب على ذلك أن العرب أصبحوا بعد الإسلام غير ما كانوا عليه قبله كانوا قبائل مشتتة متباغضة فأصبحوا أمة واحدة بقلب رجل واحد، وهذا وحده لا يكفي لإقدامهم على هذا الأمر العظيم، وإنما ساعدهم على ذلك اعتقادهم صدق الدعوة التي دعوا إليها، اعتقادهم أنهم إنما يفتحون الدنيا في سبيل الدين، وأن الله يدعوهم إلى نشر الإسلام في الأرض، وأن من مات منهم مات شهيدا، وأن العالم الآتي خير وأبقى، هذا الاعتقاد هو الذي جرأ العرب على ركوب هذا المركب الخشن، غير ما ذاقوه من حلاوة النصر في غزواتهم وسراياهم في أيام النبي، والإنسان إذا خدمه التوفيق في أمر هانت عليه المخاطر بكل ما له في سبيله. (1-1) الاتحاد بالإسلام
أما الاتحاد بالإسلام فإنه ظاهر في كل أعمالهم، يشهد بذلك ما قدمناه من أمر المعاهدة والمؤاخاة في أول سنة للهجرة، ويؤيده أن الإسلام عنوان التوحيد كما يتضح من مراجعة القرآن والحديث، ولا تكاد تخلو خطبة من خطب الخلفاء أو الأمراء في صدر الإسلام من الإشارة إلى تلك الوحدة، وتذكير المسلمين بما كان عليه آباؤهم في الجاهلية من التفرق والتشتت، وما يدعوهم إليه الإسلام من نزع العصبية وتوحيد الكلمة، وقد زاد متانة تلك الوحدة اجتماعهم خمس مرات في اليوم للصلاة خلف الإمام أو من يقوم مقامه، وفي ذلك من توطيد عرى الاتحادة والإجماع على الطاعة ما لا يخفى، ذكر البلاذري أن أبا سفيان لما جاء المسلمين قبل الفتح - وهو لم يسلم بعد - رآهم قائمين للصلاة إذا ركع النبي ركعوا وإذا سجد سجدوا فقال «تالله ما رأيت كاليوم طواعية قوم جاءوا ههنا وههنا ولا فارس الكرام والروم ذات القرون». (1-2) اعتقادهم صدق الدعوة
وأما اعتقاد العرب صدق الدعوة وأنهم كانوا يعملون لآخرتهم لا لدنياهم فظاهر من أقوالهم وأعمالهم في أثناء الفتح، كقول المغيرة لما قال له رستم القائد الفارسي في أثناء واقعة القادسية «إنكم تموتون في ما تطلبون» فقال المغيرة «يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم»، وكقول عبادة بن الصامت للمقوقس صاحب مصر، لما خوفه بجموع الروم وأنهم لن يقدروا عليهم وهم محاصرون حصن بابل فقال عبادة:
يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأننا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعضر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولإنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله - عز وجل - قال لنا في كتابه
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وما منا رجل إلى ويدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك إننا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا! فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه ...
حصن بابليون الذي فتحه عمرو بن العاص.
وأمثال ذلك كثير في تاريخ الإسلام حتى لقد كان المسلم يقاتل أباه وأخاه إذا كانا مشركين ولا يبالي ... بل هو يعتقد أنه يفعل خيرا، ويؤيد ذلك ما جاء في تواريخ الأديان الأخرى فإن الإنسان لا يستهلك في أمر ويعرض حياته للخطر من أجله إلا إذا كان من قبيل الدين، وفي أحاديث الشهداء عند النصارى وسائر الأديان الأخرى ما يكفي. (1-3) خصب البلاد المفتوحة
وقد زاد في رغبة العرب في فتح الشام والعراق ومصر ما علموه من خصب تلك الأرضين وكثرة خيراتها، وبلادهم قاحلة لا تفي بمطالبهم بعد تلك النهضة الدينية، وكانت بعض القبائل التي دخلت الإسلام، تحارب لمجرد الكسب من الأسلاب والغنائم، يستدل على ذلك مما أظهروه بعد غزوة حنين والطائف، فقد كانت الأموال كثيرة والغنائم غزيرة - كما تقدم - فلما فرغوا من الحرب ورد السبايا «ركب (النبي) وتبعه الناس يقولون يا رسول الله قسم علينا فيأنا من الإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا». (2) ما الذي ساعدهم على الفتح؟
ذلك ما جرأ العرب على الفتح، أما ما ساعدهم عليه فهاك تفصيله: (2-1) نشاطهم وخفة أحمالهم
لأنهم أهل بادية تعودوا خشونة العيش فأصبحوا لا يبالون بالجوع ولا العطش، إذا سافر أحدهم إلى حرب لا يحمل معه شيئا يثقل كاهله أو يشغل بعيره، وقد لا يحملون طعاما وإنما يقتاتون بما يكسبونه بالغزو في أثناء الطريق.
وللإبل فضل كبير في تغلب العرب، لأنها كانت تقوم عندهم مقام المركبات والخيول والماشية عند الروم، فالعربي يركب ناقته ويحمل عليها أثقاله ويغتذي من لبانها ويستريح في ظلها، وهي تقتات بالعشب في الصحراء ولو كان يابسا، وتصبر على الجوع وتحتمل الظمأ أياما، وأما الرومي أو الفارسي فلا يستطيع الانتقال إلى الحرب إلا بالأحمال والأثقال من المؤونة والذخيرة مما لا يقوى على حمله إلا المركبات، والمركبات تحتاج في جرها إلى دواب، والدواب تحتاج إلى طعام ومياه، ويذكرنا ذلك بما شاهدناه في حرب الإنجليز وعرب السودان في أثناء الحملة النيلية التي أنفذوها سنة 1884 لإنقاذ غردون باشا من الخرطوم، فقد كان الإنجليزي لا يستطيع الانتقال إلا ومعه الأحمال من البقسماط واللحوم المطبوخة والسكر والشاي والبن والشمع وفناطس الماء وأحمال الخيم والأمتعة وأطعمة الخيل، وغير ذلك مما يحتاج إلى الدواب الكثيرة، فكان رجال حملة «المتمة» 1400 وجمالها أربعة آلاف ومعها الجمالة والخدم، وهي عبء ثقيل على كاهل الحملة، وأما السوداني فقد كان في غنى عن كل ذلك بجراب فيه شيء من الذرة الناشفة يتأبطه ويمشي. (2-2) اعتقادهم بالقضاء والقدر
وأن الإنسان لا يموت إلا إذا جاء أجله، فإذا أتت ساعته مات ولو كان على فراشه، وإذا تأخرت فلا يصاب بسوء ولو كان تحت مراهف السيوف، وكان هذا الاعتقاد متمكنا فيهم وهو علة معظم ما كان يبدو من بسالتهم في وقائعهم المشهورة، وفي تاريخ الفتح شواهد كثيرة على ذلك. (2-3) مهارتهم في ركوب الخيل ورمي النبال
فقد كانوا أمهر من الروم والفرس فيهما، وخيل العرب أنجب من خيول أولئك، وكانت أكثر وقائعهم بالمبارزة بين الأفراد على جاري العادة في تلك العصور، فيختارون فارسا من كل جند فيتبارزان، فمن غلب كان أصحاب الغالبين، وكان العرب يغلبون في المبارزة على الأكثر، وكثيرا ما كان نصرهم متوقفا على غلب في مبارزة أو رمي بنبلة صائبة إذا أصابت رئيس الجند أحبطت رجاله، وسيأتي تفصيل ذلك في كلامنا عن السلاح. (2-4) رجال صدر الإسلام
اختص صدر الإسلام برجال توفرت فيهم خصال النصر، وقد امتاز ذلك العصر بنبوغ الرجال العظام كما امتاز عصر نابليون الكبير بقواد لم تلد فرنسا مثلهم، وقد نبغ قواد نابليون على أثر الثورة الفرنسية، كما نبغ قواد الصدر الأول للإسلام على أثر واقعة الفيل التي سطا بها الأحباش على الكعبة، وحركت ساكن العرب فأظهرت قواهم بالضغط والاحتكاك كما تقدم، فكأن الله قدر للعرب النصر فاختصهم بقواد من نخبة رجال العالم في الحرب والسياسة والدهاء والحكمة، كخالد بن الوليد وخالد بن سعيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ويزيد بن أبي سفيان وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، ممن تغلب عليهم البسالة ويحسنون قيادة الجند، ومثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه من أهل الدهاء والسياسة، وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب من أهل الحزم والتقوى وصدق العزيمة.
فنبوغ هؤلاء الرجال وأمثالهم في أوائل الإسلام، كان من أكبر العوامل في سرعة نجاحه، وكان المسلمون يعلمون ذلك حتى إن النبي نفسه قال في أول ظهور الدعوة «اللهم أيد الإسلام بأبي جهل بن هشام» ولما أسلم حمزة وعمر بن الخطاب قال «قد تأيد الإسلام بحمزة وعمر»، وأمثال أبي بكر وعمر وعلي وابن العاص ومعاوية وخالد لو ظهروا اليوم لكانوا من عظماء الناس الذين يمثلهم العالم المتمدن بعظمتهم، كما يتمثل الإفرنج ببونابرت وكرومويل وبسمارك وغلادستون وغيرهم، غير من ظهر من رجال الإسلام في عصر الأمويين والعباسيين. (2-5) الصبر والمطاولة
أصبح العرب بعد فشلهم في واقعة مؤتة وقد عرفوا قوة الروم وخبروا كثرتهم، وعلموا أن قتالهم غير قتال أهل البادية الذين كانوا يغزونهم ببلاد العرب، فلما تحققوا من ذلك جعلوا عمدتهم في حروبهم الصبر والمطاولة، والصبر هين عليهم لاكتفائهم بالشيء اليسير من الطعام واللباس كما تقدم، وإذا قل زادهم عمدوا إلى الغزو واقتاتوا بما تصل إليه أيديهم من الماشية أو الحنطة أو غيرهما.
وكانت حروبهم في أول خروجهم إلى الشام والعراق أشبه بالغزو منها بالفتح، بل تلك كانت قاعدتهم في أكثر فتوحهم، كانوا يرسلون جماعة منهم لغزو البلد الذي يريدن فتحه - وقد لا يكون قصدهم الفتح في بادئ الرأي - فيحومون حول البلد يغزون وينهبون حتى تتاح لهم فرصة للفتح فيغتنمونها، كذلك فعلوا في كثير من فتوحهم في صدر الإسلام وبعده، فإن موسى بن نصير إنما أرسل طارقا إلى سواحل إسبانيا سنة 92ه غازيا لا فاتحا، فاتفقت له أسباب ساعدته على الفتح تشبه الأسباب التي ساعدت العرب على فتح الشام فدخل طارق الأندلس، فلما بلغ موسى ذلك استغربه وشق عليه أن لا يكون هو الفاتح فبعث يستوثق منه، إلى آخر ما كان بينهما، هكذا كان شأنهم قبل ذلك في فتح إفريقية وما يليها. (2-6) نجدة العرب
كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية، والمسلمون هم العرب حتى أصبح اللفظان مترادفين في كثير من الأحوال، وكان العرب أقرب الأمم للدخول في الإسلام لما اختصهم به دون غيرهم من الافتخار، وتمكن ذلك من الأذهان خصوصا لما أمر عمر بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب.
خريطة مشارف الشام والعراق.
والمسلمون لم يهاجموا مدن الشام والعراق رأسا، ولكنهم قضوا زمنا طويلا يغزون ضواحيهما مما يلي البادية، وسكان تلك البادية عرب مثلهم وفيهم الغساسنة في بصرى وغيرها من حوران على حدود الشام، والمناذرة بنو لخم في الحيرة على حدود العراق، وكان الغساسنة عمال الروم في الشام، وبنو لخم عمال الفرس في العراق، ولم يكن هؤلاء العرب يحبون الروم ولا الفرس، وإنما كانوا يخضعون لهم قسرا أو طمعا في الغنائم إذا حاربوا معهم، وخصوصا بنو لخم، فقد كان بينهم وبين الفرس ضغائن على أثر مقتل النعمان بن المنذر الملقب أبا قابوس، فإن كسرى أبرويز قتله وحصلت بسبب قتله واقعة شهيرة بين الفرس والعرب في مكان يقال له «ذو قار» وبه تعرف الواقعة، فيها انهزم الفرس شر هزيمة، وهي أعظم واقعة انتصف فيها العرب من العجم، ومن غريب الاتفاق أنها حدثت في السنة التي جرت فيها واقعة بدر الكبرى، والعرب فازوا في كلتيهما.
وظلت الضغائن بين المناذرة والفرس حتى جاءهم المسلمون، وعرض عليهم خالد بن الوليد الإسلام أو الجزية أو السيف، فاختاروا الجزية وصالحوه على مال يدفعونه كل عام، ووقع نحو ذلك في بصرى وغيرها من بلاد العرب والنصارى في ضواحي الشام، وفي غيرها من بلاد العرب في حدود البادية بين العراق والشام، كعين التمر وفيها قوم من كندة وإياد، وقراقر وهو ماء لبني كلب، وغيرهم من القبائل التي حاربها خالد في أثناء قدومه من العراق إلى الشام، فكانت العرب أقرب سائر الأمم إلى نجدة الإسلام للأسباب التي قدمناها، ولأسباب أخرى تختص بكل قبيلة على حدة، كحقد عرب اليمن على الفرس منذ فتحوا بلادهم وحكموهم قبل الإسلام، ثم تقلص ظلهم عنهم وانحسر إلى البحرين، وكانت ربيعة تقيم في الجزيرة ببلاد الفرس، وكانوا عونا للعرب المسلمين على الفرس، نكاية في هؤلاء.
وكثيرا ما كان هؤلاء العرب وغيرهم من أهل الشام الأصليين يضافرون المسلمين على الروم فرارا من أداء الجزية، كما فعل الجراجمة في جبل اللكام، فإن حبيب بن مسلمة الفهري غزاهم فبادروا بطلب الأمان، فصولحوا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل اللكام وأن لا يؤخذوا بالجزية ... ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم من أهل القرى في هذا الصلح فسموا الرواديف. (2-7) خط الرجعة
ثم إن العرب كانت قاعدتهم في حروبهم هناك المحافظة على خط الرجوع، فلا يقاتلون الفرس أو الروم إلا وهم في حيطة، وكان حفظ ذلك الخط هينا عليهم، لأنهم كانوا يجعلون الصحراء وراءهم وهي ملجأهم، فإذا اندحروا لا يستطيع الروم أو الفرس اللحاق بهم إليها ولا يهمهم ذلك اللحاق، ومتى عاد الروم إلى مساكنهم عاد العرب عليهم، وهكذا حتى يقلقوا راحتهم ويضعفوهم بالمطاولة والصبر، ولو كانوا أقل عددا منهم، وشأنهم في ذلك مثل شأن البوير مع دولة الإنجليز لما حاربوها سنة 1902، كانوا نفرا قليلين فأقلقوا راحة الجيوش الإنجليزية بضع سنوات، وهؤلاء أكثر عددا وعدة وعندهم الحصون والمعاقل، ولكن البوير إنما أتعبوهم بالمطاولة بالسطو حينا بعد حين، ثم الرجوع إلى مكامنهم بين الجبال حيث لا يستطيع الإنجليز الذهاب إليها إلا تحت الخطر الشديد.
وكانت هذه القاعدة مرعية عند العرب يحرضون بعضهم بعضا عليها، ومن هذا القبيل قول المثنى بن حارثة الشيباني، أحد قواد العرب لما علم بقدوم المسلمين لمحاربة الفرس في العراق، فبعث إليهم يقول «قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، ولا تقاتلوهم بمقر دارهم، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم، وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فيئة ثم يكونون أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم».
ويؤيد ذلك رغبة الخليفة عمر في بقاء المواصلة بين مركز الخلافة في المدينة وبين سائر أطراف المملكة الإسلامية بحيث لا يكون بينه وبين سائر المسلمين ماء، فقد كتب إلى قواده في الأطراف بعد فتح فارس ومصر - وكان سعد بن أبي وقاص مقيما في مدائن كسرى وعمرو بن العاص في الإسكندرية - «لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت» فتحول سعد إلى الكوفة وتحول عمرو إلى الفسطاط، فأقاما بجندهما في مضارب الخيام، ثم صارت تلك المضارب مدنا بعد ذلك. (2-8) واقعة اليرموك وواقعة القادسية
تلك كانت القاعدة في حروب العرب بالشام والعراق، ثم جرت واقعة اليرموك الشهيرة (13 رجب 15ه/20 أغسطس 636م) التي بدأت في حياة أبي بكر، واليرموك واد بناحية الشام بجوار بصرى يسيل فيه الماء حتى يصب قرب بحيرة طبرية واسمه اليوناني
Hieromax
1
عربه العرب «يرموك»، وعلى ضفاف ذلك الماء حصلت تلك الواقعة الهائلة وهي ذات شأن عظيم في فتوح الشام، لأن فوز المسلمين فيها نشطهم على مواصلة الفتح وأضعف عزائم الروم.
وإذا تأملت في تفاصيلها رأيت سبب الفوز فيها سداد رأي عمرو بن العاص وشجاعة خالد بن الوليد، وذلك أن الروم لما رأوا ما كان من مناوأة العرب لهم في ضواحي الشام ومطاولتهم، جمعوا قواتهم وعزموا على الفتك بهم دفعة واحدة، وكان المسلمون متفرقين في ضواحي الشام والعراق، فتكاتبوا بشأن ذلك فقال عمرو بن العاص «إن الرأي عندي لمثلنا الاجتماع، فإننا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة وإن تفرقنا لا تقوم كل فرقة بمن استقبلها، لكثرة عدونا» فكتبوا إلى أبي بكر بذلك فأجاب مثل جواب عمرو، فاجتمع جند المسلمين من العراق والشام فلاقاهم الروم في اليرموك، وعددهم على قول ابن الأثير 240 ألفا والمسلمون 50 ألفا بقيادة خالد بن الوليد، فخطب خالد فيهم خطابا حرضهم فيه على الثبات وجعل الجند كراديس على كل كردوس قائد، ولم تكن الحرب بالكراديس معروفة عند العرب كما سترى، والظاهر أن خالدا عبأ الجند تلك التعبئة، لمقاومة الروم بمثل نظامهم.
وشعر خالد بتهيب المسلمين وخوفهم من كثرة الروم، وسمع أحدهم يقول «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!» فقال له «ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان»، وبينما هم في القتال جاءهم الخبر بموت أبي بكر، فكتموه وصبروا صبر الرجال، لعلمهم أن الفشل في تلك الواقعة يذهب بكل أعمالهم، فقاتلوا قتالا شديدا حتى إن النساء كن يقاتلن بالعصي، فانتصر المسلمون، وكان هذا النصر مقدمة سائر ما نالوه في الشام. وكذلك واقعة القادسية في العراق، فقد كانت فاتحة نصرهم على الفرس، وقد صبروا في هذه الواقعة صبرا جميلا وطال أمرها كثيرا. (2-9) نقمة الرعايا على حكامهم
قد علمت ما كان من انقسام الروم والفرس فيما بينهم، وانحطاط الحالة الاجتماعية في بلادهم، فضلا عما كان من الشحناء بين الرعية أهل البلاد الأصليين وحكامهم، وخصوصا في مصر والشام، فإن المصريين الأصليين وهم الأقباط كانوا قد عانوا سلطة الأجانب أجيالا متطاولة (الفرس فاليونان فالرومان) وهان عليهم الانتقال من سلطان إلى سلطان، فرارا من الظلم أو الضغط، وكذلك أهل الشام، وهم أخلاط الآراميين والسريان والأنباط واليهود وغيرهم، وكان حظهم من ذلك مثل حظ جيرانهم المصريين وقد يئسوا من الاستقلال مثلهم، فلا يهمهم إذا كان حاكمهم روميا أو عربيا وإنما يهمهم أن يكون لهم راحة تحت سلطانه، وربما فضلوا العرب، لأنهم أقرب إليهم لغة ونسبا وأخلاقا، وزد على ذلك أن المرء من طبعه يرجو النفع من البعيد أكثر من القريب، ويتوسم الخير في القادم المجهول أكثر مما يتوسمه في الحاصل المعلوم، وعلى الخصوص إذا كان الفرق بينهما ظاهرا مثل ظهوره بين الروم والعرب، فالروم كانوا يومئذ في دور انحطاطهم وقد فسدت أحكامهم وآدابهم، والعرب في دور نموهم وفي إبان نهضتهم وقد جعلوا العدل والمساواة وجهتهم، فضلا عما كان بين أهل هذين القطرين وبين حكامهم الروم من الانقسامات الدينية التي قدمناها، حتى هان عليهم الرضوخ لأية دولة كانت، ولم يروا بأسا في أن يكونوا عونا لها على حكامهم. (2-10) اليهود
كان الروم مع انقسامهم إلى طوائف وأحزاب قد أجمعوا على اضطهاد اليهود - كما تقدم - ولما جاء المسلمون لفتح الشام كانت البغضاء قد بلغت أقصاها حتى هان على اليهود أن يخسروا أموالهم - مع رغبتهم في الأموال - في سبيل الانتقام من الروم، وفي الواقع أنهم كثيرا ما كانوا عونا للعرب عليهم وكانوا يدلونهم على عورات المدن ويدخلونهم إليها، كذلك فعلوا بقيسارية بعد أن حاصرها المسلمون سبع سنين ولم يقووا عليها، لقوة جندها، ومناعة حصونها، فكان يحرس أسوارها كل ليلة مائة ألف جندي، وكان قائد المسلمين هناك يومئذ معاوية بن أبي سفيان، فجاء يهودي من أهلها اسمه يوسف دلهم على طريق في سرب فيه ماء إلى حقو الرجل على شرط أن يؤمنوه وأهله، فدخل المسلمون المدينة وفتحوها.
وقس على ذلك مدنا أخرى سلمها اليهود نكاية في الروم حكامهم، وخصوصا في الأندلس للأسباب التي قدمناها. (2-11) عدل المسلمين ورفقهم وزهدهم
كان لتلك المناقب تأثير عظيم في من يدخل تحت سلطان المسلمين من رعايا الروم أو الفرس، وتلك كانت الوصية الأولى التي يتزودون بها إذا خرجوا للفتح، وإليك وصية أبي بكر لأسامة يوم خروجه بالمسلمين إلى الشام قال «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كيبرا، ولا تعقروا نخلا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».
وفي حكاية بناء الفسطاط ورفق عمرو بن العاص باليمام الذي كان معششا في فسطاطه ما يدل على رغبتهم في الرفق. (2-12) التسوية بين الناس
ومن هذا القبيل التسوية بين طبقات الناس، رفيعهم ووضيعهم، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما كان من أمر جبلة بن الأيهم ملك غسان لما أسلم في زمن عمر بن الخطاب وجاء المدينة بخيله ورجله، وقد فرح عمر بإسلامه وخرج أهل المدينة للنظر إلى موكبه وفيه الخيول المعقودة أذنابها وفي أعناقها سلاسل الذهب وعلى رأس جبلة تاج مرصع بالجوهر، على أن ذلك لم يمنع عمر من إقامة الحد عليه، لما وطئ أحد بني فزارة إزاره وهو يطوف بالكعبة فرفع جبلة يده وهشم أنف الفزاري، فاشتكاه الفزاري إلى عمر فبعث إلى جبلة فأتاه فقال له «ما هذا؟» قال «نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف»، فقال عمر «قد أقررت على نفسك، فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقيده منك فآمره بهشم أنفك كما فعلت به» فقال «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك؟!» فقال «الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقى والعافية» فلم ير جبلة مخرجا من حكم عمر إلا بالفرار، فهرب إلى القسطنطينية ولم يرجع إلى بلاد العرب.
ومثلها حكاية القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص وذهب إلى عمر بن الخطاب في المدينة فاستعاذ به، فبعث عمر إلى عمرو فاستقدمه وابنه، فلما جاء أعطى الخليفة القبطي سوطا وأمره أن يضرب ابن عمرو فضربه، وأراد أن يضرب أباه عمرا فقال عمرو «إنما ابني الذي ضربه»، فقال له «يا عمرو، منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟».
ولا يخفى ما كان لهذه المناقب من التأثير في تعجيل الفتح، لأن أهل الشام والعراق ومصر كانوا يشكون استبداد حكامهم فيهم واحتقارهم إياهم، فلما علموا بعدل المسلمين ورفقهم مالوا إليهم. (2-13) استبقاء الناس على أحوالهم
كان العرب إذا فتحوا بلدا أقروا أهله على ما كانوا عليه من قبل لا يتعرضون لهم في شيء من دينهم أو معاملاتهم أو أحكامهم المدنية أو القضائية أو سائر أحوالهم، كذلك فعلوا بمصر لما فتحها عمرو بن العاص، فإنه جعل أمور الأقباط لأنفسهم يحكم في مصالحهم قضاة منهم، وفعلوا مثل ذلك في معظم ما فتحوه من البلاد.
وكان المسلمون يفرضون على من يقبل البقاء على دينه من أهل البلاد المفتوحة ضريبة تسمى الجزية في مقابل حمايتهم وتأمينهم، وكان الروم قد تعودوا أداء مثل هذا المال للعرب المقيمين في حدود الشام من الغساسنة وغيرهم، يبتاعون به نصرتهم على الفرس، كما كان الفرس يؤدون المال إلى عرب العراق لينصروهم على الروم.
وأما العرب فقد اشترطوا مع دفع المال الخضوع لهم عملا بنص الآية
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وكانوا مع ذلك يتعهدون بحماية الذين يدفعون الجزية أي يعتبرونهم في ذمتهم، ولهذا فقد سموا أهل الذمة، والغالب أن يراد بها حماية أهل البلاد الأصليين من حكامهم الروم، لأنهم كانوا يريدون الخروج من طاعتهم وهم يخافون سطوتهم.
وترى ذلك واضحا في كلام عبادة بن الصامت للمقوقس حاكم مصر ولسائر القبط لما دعاهم إلى الإسلام فقد قال لهم «وإن أبيتهم إلا الجزية فأدوها إلينا عن يد وأنتم صاغرون، وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وتعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا ... إلخ»، ومثله كتاب خالد بن الوليد إلى ابن نسطونا في العراق، وغيره من كتب العهود لأهل الذمة وهي كثيرة، ويؤيد ذلك أن المسلمين لما دعوا إلى الاجتماع في اليرموك، وكانت حمص في ذمتهم، ردوا إلى أهلها ما كانوا أخذوه منهم من الجزية وقالوا «قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم»، فقال أهل حمص «لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم» وكثيرا ما كانوا يعفون غير المسلمين من الجزية إذا تعهدوا بالقتال معهم، وأكثر ما يكون ذلك مع العرب النصارى، ولكنه وقع مع غير العرب كالجراجمة وغيرهم.
فلم يكن استيلاء المسلمين ثقيلا على الناس، بل كان الأهالي كثيرا ما يفضلونهم على حكامهم الأصليين، والجزية التي كانوا يتكفلون دفعها إلى المسلمين أقل كثيرا من مجموع الضرائب التي كانوا يؤدونها إلى الروم أو الفرس. (2-14) الخلاصة
وجملة القول أن المسلمين لم يجزئهم على الفتح ويساعدهم عليه إلا الدين وشدة الاعتقاد بالنصر، مع ما كان من مهارتهم في الفروسية ورمي النبال، وقوة أبدانهم ونشاطهم من عيشة البداوة، مع المطاولة في الحرب ونبوغ أفراد منهم في الرأي والشجاعة، فضلا عن عدلهم ورفقهم واختلال أحوال الروم والفرس، فلم تمض بضع عشرة سنة حتى فتحوا الشام وفلسطين ومصر والعراق وفارس في زمن عمر بن الخطاب، وتواصل الفتح في أيام عثمان بن عفان ومن بعده. (3) عود إلى الخلفاء الراشدين (3-1) الفتنة
وفي زمن عثمان حدثت الفتنة، ثم استشرى أمرها بمقتله سنة 35ه فغيرت طور التاريخ الإسلامي، وسببها أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة سنة 23ه وأحس بدنو الأجل أهمه أمر المسلمين بعده، فعمد إلى طريقة لانتخاب من يتولاهم بعده بالأكثرية، فسمى نفرا من الصحابة فيهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وأوصاهم أن يجتمعوا في بيت عائشة زوج النبي ويختاروا واحدا منهم يتولى الخلافة بعده، فاختاروا عثمان بن عفان وهو من بني أمية وأكبرهم سنا.
وكان بنو أمية أوفر بطون قريش عددا وقوة، لكن أكثرهم لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد فتح مكة وبعد أن أسلم أبو سفيان زعيمهم، فلم يكن لهم جهاد في الغزوات التي قامت عليها دعائم الدولة الإسلامية، فلما تولى أبو بكر لم يولهم الأعمال، إلا قليلا منهم، وربما كان السبب في ذلك أنه لم يكن يثق بصدق إسلامهم، لحداثة عهدهم فيه، أو لأنهم أسلموا مضطرين، فطالبوه بزيادة نصيبهم في الولايات فقال لهم «أدركوا إخوانكم في الجهاد» وأنفذهم لحروب الردة، ثم بعثهم عمر لحروب الشام، وهم مع ذلك يرون أنهم أولى بطون قريش بالسلطة، لأنهم أعز من بني هاشم جانبا وأكثر عددا، وكانت القيادة في الحروب قبل الإسلام إليهم كما رأيت في كلامنا عن مناصب الجاهلية، وزاد نفوذهم بعد موت أبي طالب عم النبي، وكانت بين الهاشميين والأمويين منافسة متصلة بزمن الجاهلية.
فلما تولى عثمان بن عفان اعتزوا به، وكان رجلا صالحا لكنه كان يؤثر أقرباءه فجعل يوليهم الأعمال في الأمصار ويعهد إليهم بمصالح الدولة، فشق ذلك على الصحابة الذين كانت الأعمال إليهم من قبل، وحدثت أسباب أخرى يطول شرحها آلت إلى نقمة أهل الأمصار على عثمان، فجاءوا إلى المدينة وفيهم أهل مصر والكوفة وأهل البصرة وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، فأبى فقتلوه وهو يقرأ القرآن فتلطخ قميصه بالدم. (3-2) علي وطلحة والزبير
فلما قتل عثمان اختلفوا في من يخلفه من كبار الصحابة، وكان غرض أهل مصر في علي بن أبي طالب، وغرض أهل البصرة في طلحة بن عبيد الله، وغرض أهل الكوفة في الزبير بن العوام - وهم أكثر الصحابة تطلعا إلى الخلافة - وكان أكثر مسلمي الشام مع بني أمية، وهم يريدونها لعثمان أو من يخلفه منهم، وأما أهل المدينة فكانوا يريدونها لعلي بن أبي طالب، جريا على عادتهم في نصرة بيت النبي منذ هاجر النبي إليهم، وانضم إلى أهل المدينة في نصرة علي ربيعة واليمن وغيرهما، فكان دعاة علي أكثر عددا من سائر الأحزاب، لكنهم كانوا لفيفا من قبائل شتى وأكثرهم من المدينة، وبين أهل مكة والمدينة منافسة قديمة تمكنت بعد الإسلام، لما رأيته من نصرة أهل المدينة للمسلمين بعد الهجرة، حتى تأيد أمرهم بهم وعادوا ففتحوا مكة، وسارت المدينة عاصمة المسلمين وتحولت إليها التجارة والنفوذ وضعف أمر مكة، فلما بايع أهل المدينة عليا بايعه أيضا طلحة والزبير مكرهين، وخرجا إلى مكة فنصرهما أهلها، نكاية في أهل المدينة، ثم شخصا إلى العراق للاعتزاز بأحزابهما هناك فتبعهما علي بجنده، فجرت بين الجيشين واقعة الجمل الشهيرة بجوار البصرة، فقتل فيها طلحة والزبير وخلصت الخلافة لعلي، فنقل عاصمة المسلمين من المدينة إلى الكوفة، وقد أخطأ في تخليه عن أحزابه بالمدينة واعتماده على أهل العراق. (3-3) علي ومعاوية
وظن علي أن الجو قد خلا له، وما درى أن في الشام رجلا عظيما يطلب البيعة لنفسه - نعني معاوية بن أبي سفيان - وقد رأيت أن أبا سفيان وأولاده لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد أن يئسوا من الفوز، فلما قتل عثمان كان معاوية بالشام وحوله نخبة الرجال من قريش، وكلهم يستهلكون في سبيل نصرته، لما ذكرناه من كثرة بني أمية وقوتهم من أيام الجاهلية، وقد شق عليهم في أول الإسلام أن تكون النبوة في بني هاشم فنقموا عليهم، ولما خرج بنو هاشم من مكة بالهجرة خلا الجو في مكة لبني أمية، وسارت الرياسة إليهم في أثناء محاربتهم المسلمين في وقائعهم المشهورة في بدر وغيرها، ورئيسهم في كل ذلك أبو سفيان والد معاوية، ولما تولى أبو بكر وأرسلهم للجهاد تولى ولاية الشام منهم يزيد بن أبي سفيان، ثم مات فخلفه أخوه معاوية في زمن عمر، فلما تولى عثمان أقره عليها ومعظم جنده من قريش، فاتصلت رياسة بني أمية - وخصوصا بيت أبي سفيان - على قريش في الإسلام كما كانت قبله، واستقل بنو هاشم بأمر النبوة ونبذوا الدنيا. (3-4) التحكيم
فلما قتل عثمان رأى معاوية سبيلا لالتماس الخلافة، فعرض قميص عثمان الملطخ بالدم في مسجد دمشق ودعا الناس للمطالبة بثأره، لأنه من رهطه، واتهم عليا وأصحابه بقتله، ثم رأى الحرب منتشبة في العراق بين علي وطلحة والزبير، فظن هذين يكفيانه مؤونة الحرب، فلما قتلا وفاز علي عمد معاوية للمطالبة بدم عثمان، واستنجد رجالا من دهاة العرب فيهم عمرو بن العاص، وكان عثمان قد عزله عن مصر، فاستدناه معاوية ووعده بولاية مصر إذا هو فاز، فحارب معه في واقعة صفين الشهيرة سنة 37ه وكادت رجال علي تظفر بمعاوية وأصحابه فيها، فاستنبط ابن العاص حيلة أخرجت الخلافة من أهل البيت إلى بني أمية.
وذلك أنه أمر رجال معاوية برفع المصاحف على أسنة الرماح، إشارة إلى طلب الهدنة للمخابرة، فانخدع أصحاب علي بذلك فألحوا عليه أن يوقف القتال ففعل، وبعد المخابرة توافقوا على التحكيم، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار أصحاب علي أبا موسى الأشعري، وشتان بين الرجلين في الدهاء والذكاء، ورضي الفريقان بما يحكم به هذان وعينوا يوما لسماع الحكم، فاحتال عمرو على أبي موسى حيلة غلب بها على عقله، أظهر أنه يريد خلع علي ومعاوية معا ليختار المسلمون واحدا سواهما، فقبل أبو موسى ذلك، لكن عمرا طلب إليه أن يتكلم قبله، لأنه أرفع منه منزلة وأكبر سنا، فانخدع أبو موسى فوقف وقال «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليا فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتهموه أهلا».
ثم وقف عمرو وقال «إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان والمطالب بدمه وأحق الناس بمقامه».
فلما سمع الناس ذلك أيقنوا أنها حيلة قد عملت، ولو أنها آلت إلى خلافة معاوية فقط لهان أمرها، ولكنها أوجبت انقسام رجال علي عليه، لأن بعضهم لاموه على قبول التحكيم وخرجوا من حكمه وهم الخوارج، فأصبح علي بين عدوين، والخوارج أشدهما خطرا عليه، لأنه قتل بطعنة من أحدهم في السنة 40 للهجرة في مسجد الكوفة.
فبايع أهل الكوفة ابنه الحسن، ومعاوية لا يزال يطالب بالخلافة لنفسه فرأى الحسن أنه لا يقوى على حربه فتنازل له عنها، حقنا للدماء، فبويع معاوية في الشام وانتقل كرسي الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وكان ذلك آخر العهد بدولة الخلفاء الراشدين. (4) أحوال الخلفاء الراشدين
نرى مما تقدم أن دولة الخلفاء تأسست على التقوى وشيدت بالعدل، وكان خلفاؤها في أبسط أحوال العيش، وكانت الخلافة على عهدهم أشبه بالرتب الدينية منها بمصالح الدولة، وكان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس الغليظ (الكرباس القطن الأبيض) وفي رجليه نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعية، وإذا كلم أدنى الناس سمع منه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدون ذلك من قبيل الدين ويحكمون الناس بالتقوى والعدل والقدوة الحسنة.
وكان طعامهم أدنى من أطعمة فقرائهم، وهم لم يتقللوا منه لفقر أو عجز، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك مواساة للفقراء من رعيتهم، فقد كان لعلي بن أبي طالب دخل طائل من أملاكه يخرجه جميعه على الفقراء.
ولم يكونوا يعبأون بالمال، وكان ذلك شأن سائر الصحابة في أيامهم، ولعل السبب في ذلك قربهم من عهد النبوة ولا تزال رهبتها آخذة بمجامع قلوبهم، فلما بعد عهدها زالت تلك الرهبة من قلوبهم فعكفوا على مطالب الدنيا، ويظهر أن ذلك بدأ فيهم في أواخر عهد الراشدين، فقد ذكر المسعودي أنه «في أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور، فكان لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف إبلا وخيلا كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا، وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار، وبنى الزبير داره بالبصرة وبنى أيضا بمصر والكوفة والإسكندرية، وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج، وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرافات، وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن، وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلثمائة ألف درهم».
وكانت مدة حكمهم نحو ثلاثين سنة اتسعت فيها الفتوح الإسلامية، حتى وطئت خيل العرب ما بين إفريقية في الغرب إلى أقاصي خراسان في الشرق وعبرت النهر إلى سمرقند .
دولة بني أمية
بينا في أواخر كلامنا عن الخلفاء الراشدين كيف انتقلت الخلافة إلى بني أمية وأولهم معاوية بن أبي سفيان، وتمتاز الخلافة في عهد بني أمية بأنها سلطنة دنيوية يحكمها خليفتها بالدهاء والسياسة، ويستدني الناس بالإرهاب ويؤيد سلطانه ببذل الأموال، والسبب في ذلك أن مؤسس هذه الدولة لم يستطع تأييدها لولا ما في الشام من الخير الكثير والأموال الطائلة، فلما خلصت له الخلافة عمد إلى التوسعة على الناس ببذل الأموال، وكان يبذلها خصوصا لبني هاشم، تخفيفا لما في أنفسهم من النقمة عليه، لانتزاعه الخلافة من أيديهم، وكان إذا وفد أحدهم عليه بالغ في إكرامه وإرضائه وقضاء حوائجه، وكثيرا ما كانوا وهم في حضرته يذكرون حقهم بالخلافة ويعرضون باغتصابه إياها، وهو يغضي عن ذلك ويقطع ألسنتهم بالمال والحلم مما هو مأثور عنه.
واقتبس معاوية من الروم أسباب البذخ ودواعي الترف وقلدهم في أبهة الملك، فأقام الحرس يحملون الحراب بين يديه إذا مشى أو قام للصلاة، وبنى لنفسه قصرا نصب فيه السرير وأوقف الحاجب ببابه، وبنى مقصورة في المسجد إذا جاء للصلاة صلى فيها، ولعله اتخذ هذه الوسائل خوفا من أن يغتاله أحد كما اغتالوا عليا وكادوا يغتالونه هو، وقلد الروم في لبس الخز والديباج، وهو الذي وضع البريد على مثال ما كان عند الفرس والروم وأنشأ ديوان الخاتم، مما سيأتي تفصيله.
ومما استحدثه معاوية في الإسلام أنه جعل الخلافة وراثية في نسله، بعد أن كانت انتخابية، وهو أول من استطاع ذلك من المسلمين، فبايع لابنه يزيد وحمل الناس على بيعته بولاية العهد، ولا عبرة في بيعة الحسن بعد أبيه علي، فإن الناس بايعوه من عند أنفسهم ولم يوص له أبوه بالخلافة. (1) الخلافة وبنو أمية
ولا بد من النظر في الأسباب التي أعانت معاوية على إخراج الخلافة من أهل البيت وحصرها في قبيلته، وكان هو وكل الذين بايعوه يعتقدون أن أهل البيت أحق بها منه، والأسباب عديدة ذكرنا بعضها في ما تقدم، ومنها أيضا أن معاوية استخدم في شد أزره رجالا هم أشهر دهاة الإسلام استدناهم إليه بالأطماع، منهم عمرو بن العاص فقد أطمعه بمصر فساعد على مبايعته كما قد رأيت، ومنهم زياد بن أبيه وهو رجل لا يعرف أبوه ولكنه ذو دهاء وسياسة فانتحل معاوية حكاية استلحقه بها بنسبه وزعم أنه أخوه من أبيه أبي سفيان وسماه زياد بن أبي سفيان، فكان زياد هذا من أكبر أعوان معاوية وله فضل كبير في تأييد هذه الدولة في العراق وغيره، وابنه عبيد الله بن زياد هو الذي قتل الحسين بن علي قتلته المشهورة على يده، وما زال آل زياد يعدون من قريش حتى رد نسبهم الخليفة المهدي (سنة 195ه) إلى رجل اسمه عبيد الرومي من ثقيف، وممن استخدمهم معاوية في تأييد خلافته المغيرة بن شعبة، وهو الذي شجعه على مبايعة ابنه يزيد بالخلافة وحصر الخلافة في نسله وساعده أيضا في استدناء زياد بن أبيه.
والمؤرخون يعدون هؤلاء الأربعة أعظم دهاة العرب، ومن ذلك قول أحدهم «ما رأيت أثقل حلما ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرا بعلانية من زياد، ولو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها».
ومما ساعد معاوية على الفوز أن عليا لم يكن يرى الاحتيال في الملك ولا يعرف الدهاء في السياسة، يدلك على ذلك ما فرط منه من هذا القبيل لما بويع بعد مقتل عثمان، فجاءه المغيرة يومئذ وأشار عليه باستبقاء معاوية وسائر العمال، كما كانوا في زمن عثمان حتى يستتب له الأمر وتجتمع على بيعته القلوب وتتفق الكلمة، ثم يفعل بعد ذلك ما شاء وهو رأي رجل حازم، فعده علي من قبيل المداهنة في الدين فلم يعمل به، ونصحه أيضا مثل هذه النصيحة ابن عمه عبد الله بن عباس فأبى، فقال له ابن عباس «يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول الحرب خدعة؟» فلم يقتنع
1 ... أما المغيرة فلما رأى ضياع نصيحته معه عمد إلى مسايرته وعاد إليه في الغداة وحسن له ما رآه، ولو عمل علي برأي المغيرة وابن عباس لما نقم هؤلاء عليه ولا خرج المغيرة ولا غيره من أحزابه ولا كانت واقعة الجمل، وربما لم يصل الأمر إلى بني أمية. (1-1) بذل المال
وهناك عامل ذو تأثير عظيم استخدمه معاوية وسائر بني أمية في تأييد سلطانهم، نعني به «المال»، فقد كانوا يصطنعون به الأحزاب ويستدنون به الأعداء، فيبذلون للشعراء والوافدين، ففازوا به على علي بن أبي طالب وأولاده وأحفاده، على حين أن هؤلاء كانوا يعدون استخدام المال في هذا السبيل رذيلة يجلون أنفسهم عنها، ويعتقدون أن الحق وحده يكفي لتأييد دعوتهم، وقد صح زعمهم هذا في أوائل الإسلام والناس في دهشة النبوة قبل أن تغلب عليهم أهواؤهم، فلا نظن أهل الكوفة نكثوا بيعة الحسين إلا بالمال، حتى آل الأمر إلى قتله فكأنهم قتلوه بالمال، وهم لم يقتلوا عبد الله بن الزبير إلا بالمال، ولو بذل عبد الله هذا المال مثلهم لكانت الخلافة في نسله لا في بني أمية، ولكنه استنكف أن يعطي الناس من أموال الكعبة فأضر بنفسه، وقد صرح بذلك خصمه عبد الملك فقال وهو على فراش الموت «ما أعلم أحدا أقوى على هذا الأمر (الخلافة) مني، إن ابن الزبير طويل الصلاة كثير الصيام، لكنه لبخله لا يصلح للسياسة».
وكان أخوه مصعب بن الزبير مع ذلك ينفق الأموال الطائلة على نفسه وأهله، حتى إنه بذل مليون درهم في زواج سكينة بنت الحسين، وكان الجند في ضيق يطلبون مالا ولا يعطي لهم، فكتب عبد الله بن همام إلى عبد الله بن الزبير يقول:
بلغ أمير المؤمنين رسالة
من ناصح لك لا يريد خداعا
يضع الفتاة بألف ألف كامل
وتبيت سادات الجنود جياعا
ولو لأبي حفص أقول مقالتي
وأبث ما أبثثتكم لارتاعا
وقد كان عبد الملك من أكثر بني أمية بذلا للمال في سبيل تأييد سلطانه، فإن عامله الحجاج بن يوسف لما حاصر الكعبة وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيبوا، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك» ففعلوا.
وكثيرا ما كان عبد الملك يرد أذى الأحزاب عنه بالمال، ينشره على الناس فيشتغلون به عنه، ومن ذلك ما فعله مع رجال عمرو بن سعيد بن الأشدق لما طمح بالشام دونه وخاف عبد الملك على نفسه فأمنه، واحتال في استحضاره إلى ديوانه وقتله غدرا، ثم علم أصحابه بمقتله فتجمهروا حول المجلس، وخاف عبد الملك العاقبة فأمر رجلا أن يرمي رأس عمرو إلى الناس، وأخذ ابنه عبد العزيز المال في البدر وجعل يلقيها إليها، فلما رأى الناس الرأس والأموال اشتغلوا بالأموال وتفرقوا.
وكان للمال تأثير أعظم من ذلك في أيام العباسيي، فإن سلطانهم كان يقوى ويضعف بنسبة ما يبذله الخليفة من الأموال للجند، وخصوصا لما استبد الأتراك في أمور الدولة فكانوا يبيعون نصرتهم بالمال، وكان إذا تولى الخليفة طالبوه بحق البيعة وقد يفرضون عليه رزق سنة أو غير سنة. (1-2) الدهاء والحزم
ومن الأسباب التي أيدت سلطان بني أمية أنهم كانوا يعولون في تأييده على الدهاء والسياسة والحزم، ولو كان فيها خرق لحرمة الدين أو إهانة لأهله، فإنهم قتلوا ابن بنت النبي، وضربوا الكعبة بالمنجنيق، ولعنوا ابن عم النبي وصهره على المنابر، وقتلوا من لم يلعنه، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكان آخر. (2) خلفاء بني أمية
قلنا إن معاوية جعل الخلافة وراثية في نسله، لكنها لم تتعد أولاده ولم يخلفه منهم إلا يزيد الذي بويع بولاية العهد في حياته، ولم يحكم إلا بضع سنين ارتكب في أثنائها أمورا كبارا في جملتها مقتل الحسين بن علي، ولما مات يزيد اختلف الناس على البيعة، وكان له ابن اسمه معاوية (الثاني) ولوه وهو لا يرى الخلافة حقا لهم، ومات بعد قليل، فبايع بنو أمية شيخا أمويا من غير بيت معاوية اسمه مروان بن الحكم سنة 65ه، تولى الخلافة بضعة أشهر ومات، ثم انحصرت الخلافة في نسله، وكل خلفاء بني أمية بعده من ولده أشهرهم عبد الملك بن مروان المتقدم ذكره تولاها من سنة 65-86ه. (2-1) عبد الملك بن مروان وابنه الوليد
ولعبد الملك ذكر حسن في تاريخ التمدن الإسلامي، لأنه عمم اللغة العربية في دواوين الممالك الإسلامية، وكانت لا تزال إلى أيامه تكتب بلغات أهلها ويتولاها أناس من الوطنيين فالديوان المصري كان يكتب بالقبطية ويتولى أعماله جماعة من قبط مصر، والشامي يكتب باليونانية وأموره بأيدي أناس من نصارى الشام، والعراق بالفارسية ويكتبه بعض أهل العراق، فأمر عبد الملك أن تكون كلها بالعربية وسلم مقاليدها إلى المسلمين، ولا يخفى ما كان لهذا العمل من التأثير العظيم في تأييد الدولة الإسلامية، لأنه جعل اللسان العربي لسانا عاما في سائر أنحاء المملكة، فأصبح أهلها بتوالي الأجيال وقد نسوا جنسياتهم وصاروا يعدون أنفسهم عربا، وساعد على ذلك أن العربية هي لغة الدين أيضا.
2
ومن أعمال عبد الملك أنه ضرب النقود الذهبية بالعربية، ونقل الطراز من الرومية إلى العربية، وسيأتي تفصيل ذلك. وكان عامل عبد الملك على العراق الحجاج بن يوسف المشهور بدهائه وغلظته، وكان نصيرا له على تأييد دولته فحارب عبد الله بن الزبير، وكان هذا يدعو الناس إلى بيعته دون بني أمية فحاصره الحجاج في مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق، ثم قتله واستخلص الخلافة لعبد الملك.
قال ابن الأثير «وهو (عبد الملك) أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه».
3
ومنهم الوليد بن عبد الملك (سنة 86-96) وفي أيامه فتحت الأندلس وامتدت فتوحاته من جهة تركستان وبعض جزائر البحر المتوسط، واتسعت حال بني أمية في بناء القصور واتخاذ المصانع والضياع. (2-2) عمر بن عبد العزيز
ومن أشهر خلفاء بني أمية عمر بن عبد العزيز بن مروان (حكم سنة 99-101ه) وكان أقربهم جميعا إلى سيرة الخلفاء الراشدين، ولعله كان كذلك لقرابته من عمر بن الخطاب، لأنه ابن حفيدته، فلما تولى الخلافة جعل جده عمر قدوته بالزهد والعدل، وكان بنو أمية منذ جاهروا بطلب الخلافة فرضوا لعن علي على المنبر فرأى عمر أن ذلك لا يوافق روح الإسلام فأمر بإبطاله
4
فلم تقع أعماله هذه موقعا حسنا لدى بني أمية، وخصوصا لأنه منعهم من اقتناء الأملاك، وكان عمر بن الخطاب قد نهاهم عن ذلك فلم يسمعوا فأعاده هو، فخافوا إذا طال حكمه أن يخرج الخلافة منهم فعجلوا به. (2-3) يزيد بن عبد الملك
وخلفه ابن عمه يزيد بن عبد الملك، وكان من أهل اللهو والطرب فشغل عن مصالح الدولة بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة، وتسلطت حبابة على عقله وقلبه فأصبحت المملكة طوع إرادتها، تولي من شاءت وتعزل من شاءت، وهو لا يعرف من أمور الدنيا شيئا، فلامه أخوه مسلمة وقال له «توليت هذا الأمر بعد عمر بن عبد العزيز وعدله، فتشاغلت بهذه الجارية عن النظر في الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون وأنت غافل عنهم» فتأثر لقوله وقال «صدقت» وهم بترك الشراب ولم يجتمع بحبابة أياما، فاشتاقت هي له فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها «إن خرج أمير المؤمنين للصلاة فأعلميني» فلما أراد الخروج أعلمتها فتلقته والعود في يدها وغنت:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
فغطى يزيد وجهه وقال «مه، لا تفعلي»، ثم غنت:
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلم يتمالك أن عدل إليها وقال «صدقت والله ... قبح الله من لامني فيك! يا غلام، مر مسلمة أن يصلي بالناس»، وأقام معها يشرب وتغنيه وعاد إلى ما كان عليه.
5
وما زال يزيد في ذلك حتى مات بعد موتها حزنا عليها، وخبر موتهما أنه نزل ببيت رأس بالشام ومعه حبابة وقال في نفسه «زعموا أنه لا تصفو عيشة لأحد يوما إلى الليل إلا كدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك»، ثم قال لمن معه «إذا كان غد فلا تخبروني بشيء ولا تأتوني بكتاب»، وخلا هو وحبابة وأتيا بما يأكلان ويشربان، فأكلت حبابة رمانة فشرقت بحبة منها فماتت.
فأقام يزيد ثلاثة أيام لا يدفنها حتى تغيرت وأنتنت، وهو يشمها ويرشفها، ولم يتركها حتى عابه أهله وعاتبوه فأذن بدفنها، ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوما ثم مات ودفن بجوارها سنة 105ه. (2-4) هشام وبقية خلفاء بني أمية
وتولى الخلافة بعده أخوه هشام (من سنة 105-125ه) وكان غزير العقل لكنه كان بخيلا، والبخل مضر في دولة تأسست بالكرم.
وخلفه الوليد بن يزيد، وكان قبل الخلافة منهمكا في اللهو والشراب والغناء مثل أبيه وله أشعار في ذلك، فلما أفضت الخلافة إليه زاد انهماكا في اللذات واستهتارا بالمعاصي، وزاد على ذلك أنه أغضب أهله وأساء إليهم فهجموا عليه مع أعيان رعيته فقتلوه وبايعوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك.
وكان يزيد هذا عاقدا النية على إصلاح الأحوال، ولكن الأمر كان قد استفحل وبدأت الدعوة العباسية واضطرب حبل بني أمية.
وفي أيام خلفه مروان بن محمد بن مروان خرجت الخلافة من أيديهم سنة 132ه رغم ما كان عليه مروان هذا من الرغبة في استبقائها والهمة في سبيل الدفاع عنها، لكنه جاء متأخرا وقد قضي عليها بالزوال.
بنو العباس
(1) الدعوة العباسية
قلنا في عرض كلامنا عن خلافة أبي بكر أن المسلمين لم يشاءوا أن يجمعوا في بني هاشم النبوة والخلافة فبايعوا غيرهم من قريش، وأما بنو هاشم فكانوا يعدون ذلك عدولا عن الحق وأنهم أولى الناس بذلك الأمر وجعلوا يسعون في سبيله، والهاشميون المطالبون بالخلافة أصناف منهم العلويون من أعقاب علي بن أبي طالب، وهم فئتان إحداهما تدعو لنسل فاطمة الزهراء، والأخرى تدعو لمحمد ابن الحنفية (ابن علي من غير فاطمة)، ومنهم العباسيون سلالة العباس عم النبي، وكان كل من هؤلاء يدعو الناس إلى نفسه فيبايعونه سرا ويظل صاحب الدعوة مستترا لا يظهر، فلما ظهر ضعف بني أمية واضطرابهم هان على الناس الخروج من طاعتهم، وخصوصا لأنهم لم يخضعوا للأمويين إلا طعما أو خوفا وأكثرهم يعتقدون أن بني هاشم أولى بالخلافة منهم.
ووفق العباسيون يومئذ إلى رجل فارسي من أهل خراسان ذي بطش وبسالة اسمه أبو مسلم الخراساني، فأنفذوه في طلب البيعة لهم في خراسان، لبعدها عن مركز الخلافة الأموية فوفق إلى ذلك توفيقا عجيبا، فحارب وجاهد حتى أدنى الخلافة من بني العباس وسلم أزمتها إلى أبي العباس السفاح أول خلفائهم سنة 132ه، ولأبي مسلم فضل في تأسيس الدولة العباسية أعظم من فضل عمرو بن العاص في خلافة معاوية، لأن عمرا نصر معاوية برأيه، وأما أبو مسلم فإنه نصر العباسيين بسيفه وقومه. (2) الدولة العباسية
مهما قيل في دولة بني أمية فهي تمتاز عن دولة بني العباس بأنها عربية حقيقية، لأن عمالها وقضاتها وسائر رجالها كانوا عربا، إلا بعض الكتبة والأطباء ونحوهم، وأما بنو العباس فقد غلب في العصر الأول من دولتهم العنصر الفارسي، لأن الفرس هم الذين سلموا إليهم مقاليد الأحكام - كما رأيت - فاتخذوا منهم الوزراء، وهم أول من اتخذ الوزراء، اقتبسوا هذا المنصب من الفرس كما سيأتي.
أول خلفائهم أبو العباس السفاح، وكان له عدة إخوة وأعمام استخدمهم في تأييد سلطانه، وكان مقر السفاح في الأنبار على الفرات غربي بغداد، وما زال فيها حتى مات ولم يحكم إلا بضع سنين. (2-1) المنصور وخلفاؤه
فخلفه أخوه أبو جعفر المنصور سنة 136-157ه وهو من أعظم رجال الإسلام دهاء وسياسة وشجاعة، بنى مدينة قرب الكوفة سماها الهاشمية ثم اتفق له فيها حرب مع جماعة يقال لهم الراوندية فكرهها لذلك ولقربها من الكوفة، وكان يخاف أهل الكوفة، لأنهم قتلوا عليا والحسين، فخرج منها وبنى مدينة بغداد وهي أشهر عواصم المسلمين، ثم رأى أن بقاء أبي مسلم يجعل مركزه في خطر، لأنه أقدر الناس على إخراج الملك من أيدي العباسيين كما سلمه إليهم فقتله غيلة، وعذره في ذلك أنه كان عقبة في سبيله فأزالها، كما فعل محمد علي بالأمراء المماليك، وكما فعل السلطان محمود الثاني بالإنكشارية بعد ذلك بأحد عشر قرنا. وأيام المنصور كلها حروب وفتوح.
وخلفه ابنه محمد الهادي فهارون الرشيد ثم ابنا الرشيد الأمين فالمأمون، وفي أيام الرشيد والمأمون بلغت الدولة العباسية أوج مجدها ومعظم سلطانها، وزهت فيها العلوم والمعارف وترجمت الكتب وتفجرت ينابيع الثروة مما سنأتي على تفصيله في أماكنه.
قتل المنصور أبا مسلم الخراساني، خوفا من طمعه في السلطة وهو فارسي، لكنه استخدم في بلاطه رجالا من الفرس، وفعل خلفاؤه مثله وقدموهم في مناصب الدولة ومنها الوزارة وهي أرفع هذه المناصب عندهم، فآل ذلك إلى استفحال أمرهم في أيام الرشيد وزاد سلطان البرامكة، فلما رآهم الرشيد يستبدون بمصالح الدولة دونه نكل بهم كما هو مشهور. (2-2) المعتصم والأتراك
وخلف المأمون المعتصم بالله سنة 218ه فأكثر من استخدام الأتراك، وكان صبيان الأتراك يحملون إلى بلاد الخلفاء في أوائل الدولة العباسية هدايا من عمال الأمصار في تركستان، وكان الخلفاء ينتقون أحسنهم خلقا وأقواهم بنية، لاستخدامهم في قصورهم وكانوا يسمونهم المماليك، وكانوا يدخلون في الإسلام ويتعلمون ويتثقفون فظهرت مواهبهم فولاهم الخلفاء كثيرا من مناصب الدولة، وأخذوا يرتقون بحسب اقتدارهم حتى وصلوا إلى أعلى مناصب الإمارة والجند، فأصبحت مقاليد السلطة تتنازعها قوتان متوازنتان الترك، والفرس - وسنعود إلى تفصيل ذلك.
واصطنع المعتصم قوما من أهل الحوف بمصر (الشرقية والدقهلية) واستخدمهم في جنده وسماهم المغاربة، وجمع خلقا من سمرقند وأشروسنة وفرغانة سماهم الفراغنة فكانوا من أصحابه وحاشيته، فضلا عما كان عنده من الجند العربي، واصطنع غيره بعده أناسا آخرين من أمم أخرى، فتعددت العناصر وكثرت الأيدي الأجنبية المتعارضة، فآل ذلك إلى ضعف الخلفاء واستبداد العمال في الولايات واستقلالهم. (2-3) تفرع الدولة العباسية
وجعلت سلطة الخلفاء تتقلص حتى اقتصرت على السواد بين الفرات ودجلة، ولم يكد يدخل القرن الرابع للهجرة حتى انحصرت سلطتهم في مدينة بغداد، وإليك فروع المملكة الإسلامية على عهد الراضي بالله (934/322-940/329):
الولايات
حكامها
البصرة
في يد محمد بن رائق بالإضافة إلى إمرة الأمراء.
خوزستان، الأهواز
في يد أبي عبد الله البريدي.
فارس
في يد عماد الدين أبي الحسن علي بن بويه.
كرمان
في يد أبي علي محمد بن إلياس.
الري وأصفهان والجبل
في يد ركن الدولة أبو علي حسن بن بويه وغيره.
الموصل وديار بكر ومضر وربيعة
في يد بني حمدان.
مصر والشام
في يد محمد بن طغج الإخشيد.
خراسان وما وراء النهر
في يد السامانية.
طبرستان وجرجان
في يد الديلم.
البحرين واليمامة
في يد القرامطة. (2-4) استبداد الجند والخدم
ومما زاد الأمر استفحالا أن الخدم والأجناد أصبحوا مطلقي الأيدي في قصور الخلفاء، يستبدون في أعمالها ويسومون الخلفاء أصناف الإهانة وأنواع العذاب، كما فعل جند المغاربة والأتراك في المعتز سنة 225ه لما خلعوه، لأنه قصر في عطائهم، فإنهم دخلوا حجرته وجروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأوقفوه في الشمس، فكان يرفع رجلا ويضع الأخرى لشدة الحر، وبقي بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة وأحضرا ابن أبي الشوارب القاضي وجماعة فأشهدوهم على خلعه ثم سلموه إلى من يعذبه ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سردابا وجصصوه عليه فمات،
1
ومع كل ما لحق الخلفاء من الذل والضعف لم يخطر للفرس ولا للأتراك ولا لغيرهم من عرب قريش أن ينزعوا الخلافة من أعناق بني العباس.
فما زالت الخلافة العباسية في بغداد حتى جاءها التتر من مفازة الصين فافتتحوها وقتلوا خليفتها سنة 656ه ففر من بقي من أهله إلى مصر والتجأوا إلى سلاطينها المماليك فأنزلوهم على الرحب والسعة إلى أن فتح السلطان سليم العثماني مصر سنة 923ه فأخذ الخلافة منهم، وبلغ عدد الخلفاء العباسيين جميعا نيفا وخمسين خليفة، منهم 37 في العراق، أولهم السفاح وآخرهم المستعصم، والباقون في مصر.
الدولة الأموية في الأندلس
أول من دخل بلاد الأندلس من المسلمين طريف بن زرعة ثم أعقبه طارق بن زياد وموسى بن نصير سنة 92ه في عهد الدولة الأموية بالشام، فافتتحاها وتولاها الأمراء باسم الخلفاء الأمويين، فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس وأعمل أبو العباس السفاح السيف في بني أمية قتلهم جميعا إلا نفرا قليلا منهم فيهم شاب اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك نجا وفر إلى بلاد المغرب واجتاز البحر إلى الأندلس، وكان عليها أمير اسمه عبد الرحمن بن يوسف الفهري، فامتلكها منه وخطب فيها للسفاح زمنا قصيرا
1
ثم قطع الدعوة عن العباسيين ودعا لنفسه سنة 138ه وأقام في قرطبة عاصمة الأندلس في ذلك الحين، وخلفه حكام من بيته كانوا يلقبون أنفسهم بالأمراء إلى آخر القرن الثالث، حتى صار الأمر إلى عبد الرحمن الثالث المعروف بالناصر فسمى نفسه خليفة سنة 317ه وهو أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس: حارب الإفرنج مرارا وردهم على أعقابهم، فلما مات خلفه بضعة عشر خليفة ليس فيهم من يعدل به.
حكم الناصر خمسين سنة تعد العصر الذهبي للسلطان السياسي للإسلام في الأندلس، وقد ساد عبد الرحمن شبه الجزيرة الأيبيرية كلها ودانت له بالطاعة الممالك والإمارات التي قامت في شمال شبه الجزيرة وشمالها الشرقي، ونشر سلطانه على شمالي مراكش الحالية وراسله أباطرة الدولتين البيزنطية والأتونية في ألمانيا.
وخلفه في الحكم المستنصر، وهو أعلم خلفاء بني أمية الأندلسيين، عني بالعلوم والآداب، وأنشأ مكتبة القصر التي تعد أعظم مكتبة عامة أنشئت في العصور الوسطى.
وبعد الحكم المستنصر صار الأمر إلى ابنه هشام الثاني الملقب بالمؤيد، وكان شابا ضعيفا خامل الذهن محدود الذكاء، فسيطر عليه الحاجب أبو محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور وأصبح صاحب السلطان الأعلى في البلاد، ويعتبر المنصور من أعظم السياسيين ورجال الحكم الذين أنجبهم الإسلام في شتى عصوره، وقد ارتقى من صفوف الشعب إلى أعلى المناصب بالذكاء وسعة الحيلة وبعد النظر والمثابرة والدأب على العمل، وجمع زمام الأمور كلها في يده وحرص على أن يواصل نشاط الحملات على الممالك والإمارات الإسبانية الشمالية حتى كاد يقضي عليها، وقد تمتع الأندلس في عهده برخاء لم يعهده في أي عهد مضى.
وعندما مات خلفه ابنه عبد الملك المعروف بالمظفر، فسار على سيرة أبيه دون أن تكون له كفايته، ولكنه استطاع أن يحتفظ بما خلفه له أبوه سبع سنوات، وعاجلته المنية سنة 1008 فخلفه أخوه عبد الرحمن ولقب نفسه المأمون، وكان شابا مضطرب العقل مستغرقا في هواه، لم يكتف بأن يحكم باسم الخليفة هشام المؤيد، وأراد أن يجعل نفسه وليا للعهد، فبدأت سحب الثورة تتجمع في سماء الأندلس، ثم انفجرت دفعة واحدة فأطاحت بملك بني عامر، وبدأت الفتنة العامة التي تسمى في تاريخ الأندلس بالفتنة الكبرى.
أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس كما صوره الإسبان.
بدأت هذه الفتنة التي قصمت ظهر الأندلس من أوائل القرن الخامس الهجري، فانقسمت الأندلس إلى إمارات يتولاها رؤساء أو أمراء أشهرهم بنو حمود في مالقة والجزيرة الخضراء (408 / 1017-449 / 1057) وبنو عباد في إشبيلية (414 / 1023-484 / 1091) وبنو زيري في غرناطة (403 / 1012-483 / 1090) وبنو جهور في قرطبة (422 / 1030-461 / 1068) وبنو ذي النون في طليطلة (427 / 1035-478 / 1085) والصقالبة العامريون في بلنسية (412 / 1021-478 / 1085) وبنو هود في سرقسطة (410 / 1019-536 / 1141) وبنو مجاهد العامريون في دانية (408 / 1017-468 / 1075)، ويعرف هؤلاء الرؤساء بملوك الطوائف، وتنازعوا وتغالبوا فيما بينهم وحاربهم الإفرنج، لأنهم طمعوا فيهم على أثر ذلك الانقسام.
وضاق بنو عباد ذرعا في حرب ألفونس السادس ملك ليون، فاستنجدوا ملك المرابطين من المغرب، فأقبلوا بقيادة يوسف بن تاشفين اللمتوني، وانضم إليهم عدد كبير من ملوك الطوائف وجنودهم وتمكنوا من الانتصار على ألفونس السادس في موقعة الزلاقة عام 478 / 1086 انتصارا حاسما أنقذ دولة الإسلام في الأندلس إلى حين، ثم عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب حاسبا أن أمراء الطوائف سيصلحون من أحوالهم، ولكنه تبين أنهم عادوا إلى ما كانوا فيه، فرجع إلى الأندلس مرة أخرى واستنزل ملوك الطوائف جميعا عن عروشهم، عدا بني هود أصحاب سرقسطة، وجعل ما بقي بيد المسلمين من الأندلس جزءا من دولة المرابطين، وظل الأمر على ذلك حتى سنة 540 / 1145 عندما تغلب الموحدون على المرابطين في المغرب وأزالوا ملكهم وحلوا محلهم، وأنشأوا إمبراطورية واسعة شملت المغرب الإسلامي كله وما بقي بأيدي المسلمين من البلاد الأندلسية.
ونشأت في نهاية العصر الموحدي إمارات صغيرة في بلنسية ومرسية وغيرهما من قواعد الأندلس، أهمها في غرناطة الدولة النصرية أو دولة بني الأحمر، نسبة إلى مؤسسها أبي عبد الله محمد بن نصر الملقب بابن الأحمر ... وكان في أول أمره فارسا يعمل في خدمة بني هود أصحاب شرق الأندلس، ثم ضبط قاعدة أرجونة وحصنها وانتهز فرصة ضعف بني هود فاستقل عنهم، وأخذ يوسع حدود مملكته، فاستولى على جيان وأطاعته بياسة ووادي آش ومالقة وغرناطة، ثم نقل مركز دولته إلى ذلك البلد الأخير، واختار ضاحية من ضواحي غرناطة تقوم على تلال حمراء على ضفة نهر حداره أحد نهيرات نهر شنيل المتفرع من الوادي الكبير، وهناك أنشأ حصونا وقصورا وزودها بكل ما يلزم المدن، وتلك هي المعروفة بالحمراء، ونقل إلى الحمراء مركز الحكم، وأدار عليها وعلى غرناطة سورا، وتكشف عن كفاية إدارية وعسكرية مكنت له من تدعيم أسس الدولة التي أنشأها وقدر لها أن تكون آخر معاقل الإسلام في إسبانيا، واستمرت تقاوم عناصر الفناء المحيطة بها والمتأصلة في كيانها 254 سنة ابتدأت من سنة 1238 وانتهت في يناير سنة 1492، وانتهى معها سلطان الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية بعد أن دام 781 سنة.
وقد زهت الأندلس في أيام بني نصر وظهر فيها الشعراء والأدباء على نحو ما كانت عليه في أيام عبد الرحمن الناصر، لكن الإسبان ما زالوا يهاجمون المسلمين ويناوئونهم وهم يدافعونهم إلى أواخر القرن التاسع للهجرة فهاجم غرناطة فرديناند وإيزابلا سنة 897 / 1492 ففر ملكها أبو عبد الله وهو محمد الحادي عشر من تلك الدولة، فانقضت بفراره دولة المسلمين في الأندلس.
وللأندلس شأن عظيم في التاريخ الإسلامي، فقد نبغ فيها العلماء والشعراء وأنشئت فيها المدارس والمكاتب وشيدت الأبنية والقصور، وسنأتي على كل شيء في موضعه.
الدولة الفاطمية
نشأت هذه الدولة في بلاد المغرب، وهي تنتسب إلى السيدة فاطمة بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم
عن طريق جعفر الصادق، وأول من ظهر بالدعوة منهم عبيد الله المهدي في أواخر القرن الثالث للهجرة، ولذلك فهي تسمى أيضا العبيدية، وقد أعانهم على نيل الخلافة رجل اسمه أبو عبد الله الشيعي نحو ما فعل أبو مسلم مع العباسيين، فلما استتب لهم الأمر قتلوه كما فعل المنصور بأبي مسلم، وامتد سلطانهم في أواسط القرن الرابع إلى مصر على يد القائد جوهر الصقلي، وكانت مصر في حوزة العباسيين ففتحها جوهر الصقلي وبنى فيها مدينة القاهرة نحو سنة 360ه وسميت القاهرة المعزية، نسبة إلى المعز لدين الله أول من جاء مصر من الخلفاء الفاطميين، وتناوبها خلفاؤه بعده حتى أصابهم ما أصاب الدولة العباسية في بغداد من الاستكثار من جند الأتراك والمغاربة والسودان ومن إليهم.
باب النصر من أبواب القاهرة.
وقد بدأ الفاطميون حكمهم في مصر بدءا طيبا وعرفت في أيام المعز لدين الله (341 / 952-365 / 975) والعزيز بالله (365 / 975-386 / 996) والحاكم بأمر الله (386 / 996-411 / 1020) رخاء عظيما واستقرارا لم تعرفه منذ سنوات طويلة، واتسعت حدودها حتى شملت الشام والحجاز واليمن وبرقة، بالإضافة إلى إفريقية (تونس) التي كانت تدين بالولاء للفاطميين، وقد استمر هذا الازدهار حتى منتصف خلافة المستنصر بالله (427 / 1035-487 / 1094)، ثم توالت عليها الأزمات والمتاعب بسبب سوء السياسية الاقتصادية التي جرى عليها الفاطميون من ناحية، ثم إسرافهم في استخدام جند الأتراك والمغاربة والسودان، وتنازع طوائفهم فيما بينهم، حتى انتهت البلاد إلى حال من الضعف والاضطراب لم تعرفه فيما سلف من عصورها الإسلامية، وأضيفت إلى ذلك كوارث طبيعية كانخفاض مستوى الفيضان سنين متوالية، مما ذهب بالرخاء جملة، فتوالى الغلاء والمجاعات، وعجز الناس عن دفع الضرائب وازدادت مطالب الجنود وفتك بعضهم ببعض، مما هوى بالبلاد إلى درك سحيق من الفوضى والفقر البالغ.
قلعة القاهرة
واحتاجت الدولة إلى من يضبط الأمر، فاستعان الخليفة المستنصر ببدر الجمالي والي عكا، وكان من أصل أرمني، فأقبل وتولى الأمور، وأظهر كفاية عظيمة، وضرب على أيدي الجند، وساعفته المقادير، فتحسنت حالة الفيضان، وبدأت البلاد تخرج بفضل حزمه وإدارته الرشيدة من الهاوية التي تردت فيها.
بيد أن الخلافة الفاطمية أخذت تتلاشى شيئا فشيئا؛ فقد انتقل السلطان بصورة نهائية إلى الوزير ومن يستعين بهم في ضبط الأمور، وتعاقب الوزراء على السلطان واتخذوا لقب الوزراء العظام، وأولهم الأفضل بن بدر الجمالي وآخرهم صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وكان معظم أولئك الوزراء على جانب كبير من المهارة والقدرة، ولكن أكبر جانب من اهتمامهم كان منصرفا إلى المحافظة على مراكزهم بالاستكثار من الجند المرتزقة، وإرهاق الأهالي بالضرائب حتى يستطيع دفع رواتب الجنود، ووجد خلفاء الفاطميين بعد المستنصر أن سلطانهم قد تلاشى تماما، فمضوا يكيدون للوزراء ويدبرون المؤامرات للقضاء عليهم كما فعل الخليفة الآمر، إذ دبر اغتيال الأفضل بن بدر الجمالي، واستعان بنفر من الباطنية على ذلك، وتم اغتياله عام 515 / 1121 وتولى الوزارة بعده كبير المتآمرين المأمون البطالحي، واستمر النزاع بين الخلفاء والوزراء إلى آخر أيام الدولة الفاطمية، وقد خسر الخلفاء المعركة وفقدوا كل سلطان ابتداء من عهد الخليفة الظافر 544 / 1149-549 / 1154، بل إن أحدهم وهو طلائع بن رزيك اتخذ لنفسه لقب الملك الصالح، وهو أمر له دلالته.
وآخر خلفاء الفاطميين هو العاضد الذي بدأ حكمه باغتيال طلائع بن رزيك سنة 556 / 1161 وأقام مقامه أبا شجاع العادل، وفي سنة 558 / 1163 نازعة في الوزارة شاور والي الوجه القبلي وغلبه وقتله وتولى الأمر مكانه، ولم يدم له الأمر، إذ نافسه فيه ضرغام، وكان أميرا لفرقة من الجند تسمى البرقية، وطال النزاع بين الرجلين، فاستنجد شاور بنور الدين محمود واستنجد ضرغام بعموري ملك بيت المقدس، وانتهى الأمر باستيلاء نور الدين على مصر وتعيينه أسد الدين شيركوه وزيرا، فلما مات خلفه ابن أخيه صلاح الدين، فوزر لنور الدين السني وللعاضد الشيعي في وقت واحد، ولكنه تمكن بحسن سياسته من التخلص من العاضد، واستخلاص مصر لنفسه بعد موت نور الدين المبكر، وقد مات العاضد في سنة 567 / 1171 وبذلك انتهت الدولة الفاطمية وبدأت الدولة الأيوبية.
وتعتبر الدولة الأيوبية من أقصر الدول التي حكمت مصر عمرا، فلم تتعد مدة حكمها واحدا وثمانين عاما (567 / 1671-648 / 1250) ولكنها تعد من أخطرها شأنا، لأن الذي أنشأها كان صلاح الدين الأيوبي أعظم شخصية سياسية وعسكرية في تاريخ مصر الإسلامية، ولأنها نجحت في الخلاص بمصر والدولة الإسلامية عموما من أكبر خطر تهددها خلال هذه العصور وهو خطر الصليبيين.
كانت الدولة الأيوبية دولة عسكرية في طبيعتها ووظيفتها، وقد قامت للغرض الواحد الكبير الذي ذكرناه وانتهت بتلاشي الخطر، وقد دفعتها الظروف التي عاشت في ظلالها إلى طلب الجند بأي ثمن والاستكثار من المماليك، وخاصة في أيام سابع سلاطينها الصالح نجم الدين أيوب، فقد اشترى منهم آلافا أسكنهم بجزيرة الروضة فسموا لذلك بالبحريين، وكان من الطبيعي أن يحوزوا الدولة عندما ضعف أمر السلاطين، وهذا هو الذي حدث بعد موت الصالح نجم الدين أيوب ومقتل ابنه توران شاه، إذ عجزت عصمة الدين أم خليل شجر الدر عن مدافعة المماليك، فغلبها أيبك التركماني وتولى السلطنة سنة 648 / 1250، وبدأت بذلك دولة المماليك الأولى المعروفين بالمماليك البحرية وقد حكموا 136 سنة (648 / 1250-784 / 1382) وأعظمهم عز الدين أيبك وسيف الدين قطز وركن الدين بيبرس والمنصور سيف الدين قلاوون، وكان البحريون على الجملة قوادا عسكريين ممتازين وإداريين قادرين، وقد علا اسم مصر في أيامهم واتسعت إمبراطوريتها وزاد رخاؤها وأصبحت مركز العلوم والآداب في العالم الإسلامي كله.
وأعقب المماليك البحرية على ملك مصر مماليكهم المعروفون بالبرجية، وأولهم الملك الظاهر أبو سعيد برقوق وآخرهم طومان باي الثاني، وقد حكموا مصر 139 سنة من 784 / 1382 إلى 923 / 1517 وكانوا قادة عسكريين ممتازين، ولكنهم لم يظهروا أي كفاية إدارية أو مالية، وقد ضعفت مصر في أيامهم شيئا فشيئا، واضطربت ماليتها بعد تحول التجارة إلى رأس الرجاء الصالح، وأظهروا قصر نظر مخجل فيما يتعلق بموقفهم من الخطر العثماني، مما انتهى بسقوط مصر في أيدي الأتراك العثمانيين سنة 923 / 1517.
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
ولو أردنا ذكر الدولة الإسلامية التي نشأت في العالم لطال بنا الكلام، فنكتفي بجدول نبين فيه أسماء الدولة الإسلامية وعواصمها وعدد ملوك كل منها وسني ولايتهم، وإليك هو:
جدول الدولة الإسلامية منذ ظهور الإسلام إلى سنة 1914.
اسم الدولة
كرسي ملكها
عدد ملوكها
سنة نشأتها ه
سنة انقضائها ه
الخلفاء الراشدون
المدينة
4
11
40
الدولة الأموية بالشام
دمشق
14
41
132
العباسية «في بغداد»
بغداد
37
132
656
العباسية «في مصر»
القاهرة
17
659
923
الأموية بالأندلس
قرطبة
16
138
422
بنود حمود العلويون
مالقة (الأندلس)
9
407
449
بنو حمود العلويون
الجزيرة (الأندلس)
2
431
450
بنو عباد
إشبيلية (الأندلس)
3
414
484
بنو زيري
غرناطة (الأندلس)
5
403
483
بنو جهور
قرطبة (الأندلس)
3
422
461
بنو ذي النون
طليطلة (الأندلس)
3
427
478
الصقالبة العامريون
بلنسية
5
412
483
بنو تجيب وبنو هود
سرقطسة ولاردة (الأندلس)
9
410
536
وتطيلة (الأندلس)
مجاهد العامري وأولاده
دانية والجزائر الشرقية (الأندلس)
2
408
468
بنو نصر «بنو الأحمر»
غرناطة (الأندلس)
21
629
897
بنو صمادح
ألمرية
2
433
480
الأدارسة
وليلى ثم فاس «بمراكش الحالية»
12
172
375
الأغالبة
القيروان والمهدية ورقادة
11
184
296
بنو زيري الصنهاجيون
القيروان
8
362
543
بنو حماد بالمغرب الأوسط
قلعة بني حماد
9
398
547
المرابطون
مراكش
6
448
541
الموحدون
شمالي إفريقية
13
524
668
بنو حفص
تونس
24
625
981
بنو زيان
تلمسان بالمغرب الأوسط «الجزائر الحالية»
25
633
962
بنو مرين
فاس
27
592
831
الشرفاء ثم السعديون
مراكش
25
955
لا تزال
الطولونيون
القطائع «مصر»
5
254
292
الإخشيدية
الفسطاط «مصر»
5
323
358
الفاطمية
القيروان والقاهرة
14
297
567
الأيوبيون في مصر
القاهرة
9
564
648
الأيوبيون في دمشق
دمشق
12
582
658
الأيوبيون في حلب
حلب
5
579
634
المماليك البحرية
القاهرة
25
648
792
المماليك البرجية
القاهرة
24
784
922
أسرة محمد علي
القاهرة
10
1220
1371
بنو زياد
زبيد «اليمن»
9
204
412
بنو يعفور
صنعاء «اليمن»
10
247
387
بنو نجاح
زبيد وجند «اليمن»
7
412
553 / 554
الصليحية
صنعاء وغيرها «اليمن»
3
429
492
الهمدانيون
صنعاء وغيرها «اليمن»
8
492
569
بنو مهدي
زبيد «اليمن»
3
554
569
الزريعية
عدن «اليمن»
8
476
569
الرسولية
زبيد وغيرها «اليمن»
13
626
858
بنو طاهر
عدن وزبيد «اليمن»
4
850
923
الأئمة من بني رسى
صعدة وصنعاء«اليمن»
17
280
700
الحمدانيون في الموصل
الموصل «سوريا»
9
293
323
المرداسيون في حلب
حلب «سوريا»
7
332
406
العقيليون
الموصل وغيرها «سوريا»
5
386
448
المروانية
ديار بكر «سوريا»
5
380
489
المزيدية
الحلة «سوريا»
8
403
545
بنو دلف
كردستان (فارس)
6
210
285
بنو الساج
الري (فارس)
2
306
314
العلوية «الزيدية»
آمل وسادية في طبرستان (فارس)
2
250
270
خراسان
6
205
261
بنو طاهر
نيسابور (فارس)
5
261
395
السامانية
الري وشيراز بخراسان
12
204
308
خانات أيلك «آل أفرازياب»
تركستان
27
315
607
الزيارية
جرجان وغيرها
10
315
471
بنو حسنوية
كردستان
3
348
406
بنو بويه
بغداد
11
334
513
بنو كاكويه
أصبهان وهمدان
5
398
443
السلاجقة وفروعهم
أصبهان وإيران والعراق والشام وكرمان
31
429
619
الدانشمندية
سيواس وملطية
12
455
567
الأتابكة من بني بوري
دمشق
6
497
564
الأتابكة الزنجيون
الموصل ودمشق وحلب
20
516
660
بنو بكتكين
أربل
3
539
630
بنوارتق
حصن كيفا وآمد وخرتيرت وماردين
30
495
811
شاهات أرمن
خلاط بأرمينية
8
493
604
أتابكة أذربيجان
أردبيل
5
531
622
بنو سلغر
فارس
11
543
686
بنو هزراسب
لورستان
14
543
740
شاهات خوارزم
خوارزم
8
470
628
الخانات القتلغية
كرمان
8
619
703
آل عثمان
الآستانة وغيرها
35
699
1922
خانات المغول
زنقارية وغيرها
34
603
1092
مغول الفرس
فارس
17
654
754
خانات العشائر الذهبية
قاراخيتاي
40
621
907
خانات القرم
القرم
45
823
1197
خانات جاغتاي
تركستان
44
624
978
آل جلائر
العراق وغيرها
9
736
827
المظفريون
فارس وكردستان وكرمان
7
713
795
السربداريون
خراسان ودامغان
13
737
783
آل كرت عمال دنيسابور
هراة وبلخ وسرخس
8
643
791
أمراء القراقيوتلو
أذربيجان (تبريز)
6
780
873
أمراء آق قيوتلو
الموصل وبغداد ثم أذربيجان
12
780
908
شاهات العجم
إيران وغيرها
31
907
لا تزال
التيموريون
سمرقند
13
771
906
الشيبانيون
سمرقند
13
832
1007
المنغيتيون
بخارى
10
1170
1329
خانات خيوه
خوارزم
35
921
1290
خانات خوقند
خوارزم
17
1112
1293
الجانيون
بخارى (استراخان)
11
1009
1200
الغزنويون
أفغانستان وبنجاب
21
351
582
الغوريون
أفغانستان وهندستان
14
493
658
سلاطين دهلي
هندستان
38
602
975
حكام البنغال وسلاطينها
البنغال (الهند)
55
599
984
ملوك الشرق بجونبور
بيهار أوذوقنوج، بهرايج، جونبور (الهند)
6
796
881
ملوك مالوا
مالوا (الهند)
10
804
968
ملوك كجرات
كجرات (الهند)
14
793
991
الفاروقيون ملوك خاندش
برهان بور (خاندش) (الهند)
13
801
1008
البهمنيون
الدكن (الهند)
18
748
933
بنو عماد شاه
برار (الهند)
5
890
980
بنو نظام شاه
أحمد نجر (الهند)
10
896
1004
بنو بريد شاه
بيدر (الهند)
7
895
1097
بنو العادل شاه
بيجابور(الهند)
8
895
1097
بنو قطب شاه
كولكندا (الهند)
7
918
1098
أباطرة المغول
هندستان (الهند)
17
932
1274
ولاة المغول العظام
بنغالة (الهند)
23
984
1088
أمراء وملوك أفغانستان
أفغانستان
15
1160
لا يزالون
وخلاصة ذلك أن الدول الإسلامية التي ظهرت من أول الإسلام إلى الآن نيف ومائة دولة عدد رؤسائها نحو 1200 رئيس، فيهم الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والأتابكة والإخشيدية والخديويون والشرفاء والبايات والدايات وغيرهم، ومن عواصمهم المدينة والكوفة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة والآستانة وصنعاء وعمان ودهلي وغيرها.
هذه مقدمات تاريخية في كيفية تأسيس الدولة الإسلامية وإنشاء التمدن الإسلامي، تمهيدا لما سيأتي من تاريخ ذلك التمدن.
وقد رأيت أنهم أنشأوا دولا كثيرة تمدنت في عصور مختلفة، ولما كانت الدولة العباسية أشهرها جميعا وأسبقها إلى المدنية فسنجعل ما يأتي من وصف التمدن خاصا بها على الأكثر.
الدولة الإسلامية
سعتها وأعمالها
تأسست الدولة الإسلامية في المدينة في السنة الأولى للهجرة والمسلمون قليلون وكل أرض خارج حدود المدينة لا تدخل في زمامهم وكل رجل من غير الصحابة والمهاجرين والأنصار عدو لهم، وحدود تلك الدولة محصورة بيثرب وبعض ضواحيها، وكانت دار الحكومة والقضاء يومئذ المسجد أو بيت النبي أو بيوت الصحابة، وما زال ذلك شأنها إلى السنة الرابعة للهجرة فأضافوا إليها أرض بني النضير، وفي السنة التالية أرض خيبر ثم فدك، فوادي القرى فتيماء، ثم فتحوا مكة فالطائف فتبالة فجرش، ثم مدوا حدودهم شمالا إلى تبوك وأيلة وجنوبا إلى نجران فاليمن فعمان فالبحرين فاليمامة.
ولما توفي النبي سنة 10 للهجرة كانت سطوة الإسلام قد أظلت كل جزيرة العرب، وشاهد النبي دولة الإسلام تمتد من تبوك وأيلة شمالا إلى شواطئ اليمن جنوبا ومن خليج العجم شرقا إلى بحر القلزم غربا. (1) سعتها في زمن الخلفاء الراشدين
فلما تولى أبو بكر وفرغ من الردة بعث الجند لفتح الشام والعراق، وأتم فتحهما عمر بن الخطاب وفتح مصر، وكانت أكثر الفتوح في عصره، وخلفه عثمان ففتح بلادا أخرى، وشغل المسلمون عن الفتوح بعد مقتله بالفتنة التي شبت بينهم، حتى إذا انقضى عصر الخلفاء الراشدين وضع معاوية يده على أزمة الخلافة ورايات المسلمين تخفق على الشام ومصر والنوبة وإفريقية والعراق وفارس وأرمينية وأذربيجان وجرجان وطبرستان والأهواز وغيرها.
وكان الخليفة يقيم في المدينة (أو الكوفة) ويرسل عماله إلى الأعمال (الولايات)، وأكبر أعمال المملكة الإسلامية يومئذ الشام وتحتها أجناد حمص وقنسرين والأردن وفلسطين والثغور، ثم العراق وأعظم أعماله السواد وهو ما بين دجلة والفرات وعاصمته الكوفة على الفرات، وما عدا السواد البصرة وقرقيسية والري وأصفهان ونهاوند وأذربيجان وحلوان وهمدان وغيرها، وفي بلاد العرب مكة والطائف والبحرين وعمان وصنعاء، وفي قارة أفريقيا مصر وما يتبعها من أفريقية في بلاد المغرب والنوبة في أعالي وادي النيل، وكان الخلفاء يرسلون عمالهم إلى هذه الأعمال رأسا من المدينة (أو الكوفة)، إلا الشام فقد كان عاملها يقيم في دمشق وهو يولي عمالا على ما تحتها من الأجناد، وكذلك مصر، كان عاملها في الغالب يرسل العمال من تحت إمرته إلى أفريقية والنوبة.
وكان عامل الشام في أيام عمر بن الخطاب إلى آخر عصر الخلفاء الراشدين معاوية بن أبي سفيان، ثم صار خليفة ونقل مركز الخلافة إلى دمشق كما تقدم، وتخلفت جزيرة العرب كلها عن بيعته وظلت على بيعة علي ثم أولاده، وبعد مقتل الحسين ظلت الجزيرة على بيعة ابن الزبير، حتى قتله الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان سنة 72ه فانضمت إلى دولة بني أمية. (2) سعتها في أيام بني أمية
شارل مارتل يحارب العرب بين تورس وبواتييه بفرنسا.
في أيام بني أمية زادت الدولة الإسلامية اتساعا ففتحت الأندلس وسائر المغرب غربا، وأوغل بنو أمية في أوربا من وراء إسبانيا فقطعوا جبال ألبرت - وهي المعروفة بالبرانس - ودخلوا فرنسا وأوغلوا فيها إلى نهر الرون سنة 114ه، فارتعد الإفرنج لذلك وخافوا أن يصيبهم ما أصاب إسبانيا، فتكاتفوا لدفعهم بكل جهدهم، فحصلت بين الفريقين وقائع دموية دامت بضعة أيام والحرب سجال، وانتهت بهزيمة العرب في مكان يسمى بلاط الشهداء بين بلدتي تور وبواتييه في وسط فرنسا الحالية، ولم يذكر العرب من أخبار هذه الوقائع إلا إشارات مختصرة، وأما الإفرنج فإنهم فصلوها مع ما يقتضيه المقام من إعجابهم بالعرب وبسالتهم، وإن كانت الوقائع كما سجلها مؤرخوهم مضطربة أسطورية الطابع، وكان يقود الفرنجة في معركة بلاط الشهداء ملكهم شارل مارتل جد الإمبراطور شارلمان، ولم ينسحب العرب من غالة (وهي فرنسا الحالية) بعد موقعة بلاط الشهداء، وإنما ظلوا مسيطرين على جزء كبير من الجنوب نحو 30 سنة بعد هذه الموقعة (سنة 732) وكانت عاصمتهم في هذه الناحية مدينة أربونة (نربون) حتى تخلوا عنها سنة 133 / 751.
وقد ورد في تاريخ ابن الأثير ذكر هذه الحروب فقال: إن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس خرج غازيا سنة 114ه (وهي تقابل سنة 732 تقريبا) ببلاد الإفرنج فقتل هو ومن معه شهداء. وهذه هي الحملة التي حاربها شارل مارتل المذكور.
ومما يستدعي الاعتبار والتأمل أن العرب لو فازوا في هذه الواقعة لانتشر الإسلام في فرنسا ثم سائر أوربا، لأن الفرنجة - سكان غالة إذ ذاك وهي فرنسا الحالية - كانوا أقوى أمم أوروبا النصرانية على مدافعة العرب يومئذ، ولانتشرت اللغة العربية في تلك القارة كما انتشرت في قارتي آسيا وأفريقيا وسائر العالم الإسلامي.
وامتدت فتوح الأمويين في بلاد فارس فخراسان وما وراءها إلى حدود الهند، وهاك أقسام المملكة الإسلامية في زمن بني أمية: (3) أعمال المملكة الإسلامية في زمن بني أمية (1)
الشام وتقسم إلى أربعة أجناد. (2)
الكوفة. (3)
البصرة وتشمل فارس وسجستان والبحرين وعمان. (4)
أرمينية. (5)
مكة. (6)
المدينة. (7)
إفريقية. (8)
مصر. (9)
اليمن. (10)
خراسان. (4) أعمالها في زمن العباسيين
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس ترتبت الولايات على هذه الصورة: (1)
الكوفة والسواد. (2)
البصرة ومهرجان قباد إلى كور دجلة وما وراءها جنوبا إلى البحرين فعمان. (3)
الحجاز واليمامة. (4)
اليمن. (5)
الأهواز (خوزستان). (6)
فارس. (7)
خراسان. (8)
الموصل. (9)
الجزيرة (بين النهرين وأرمينية وأذربيجان). (10)
الشام. (11)
مصر وإفريقية. (12)
السند في حدود الهند. (13)
الأندلس.
ثم اتسع نطاق المملكة الإسلامية على عهد العباسيين حتى صارت إلى أوسع ما بلغت إليه في زمن الإسلام حتى الآن، ولا عبرة بخروج بعض الأعمال من سيطرة العباسيين كالأندلس، لما تولاه بنو أمية، واستقلال بعض الدول الثانوية كالطاهرية والسامانية والأغلبية والطولونية ونحوها، فقد كان أمراء هذه الدولة كلها يخطبون للخليفة العباسي (إلا الأندلس) ومهما اختلفت الدول فالمملكة إسلامية وحكامها مسلمون.
وقد بلغت حدود هذه المملكة شمالا إلى أعالي تركستان في آسيا وجبال ألبرت (وهي المعروفة اليوم بالبرانس) في شمال إسبانيا، وجنوبا إلى بحر العرب والمحيط الهندي وقاصية الصحراء الإفريقية الكبرى، وشرقا إلى بلاد السند والبنجاب من بلاد الهند، وغربا المحيط الأطلنطي، وزادت مساحتها بذلك على ضعفي مساحة أوربا.
ولبيان عظمة تلك المملكة الواسعة نأتي بأسماء أعمالها ثم نبين مقدارها:
السواد
مهرجان قذق
الموصل
الأهواز
الأبغارين
ديار ربيعة
فارس
قم وقاشان
أرزن ومياقارقين
كرمان
أذربيجان
طوران
مكران
الري
طريق الفرات
أصبهان
قزوين
قنسرين والعواصم
سجستان
طبرستان
حمص
خراسان
تكريت
دمشق
همذان
شهر زور
الأردن
ماسبذان
الدامغان
فلسطين
مصر
حلوان
أرمينية
جيلان
الكوفة
آمد
برقة
البصرة
ديار مضر
إفريقية
زنجان
اليمن
الجزيرة والديارات
قومس
اليمامة والبحرين
والفرات وموقان وكرخ
جرجان
عمان
مكة والمدينة
هذه أعمال الدولة الإسلامية العباسية ما عدا مملكة بني أمية في الأندلس، وكانت معاصرة لها وقد فتحت صقلية ومالطة وغيرهما من جزر البحر المتوسط، وكان على كل عمل من هذه الأعمال وال أو عامل يوليه الخليفة أو وزيره أو نائبه كما سترى، فبلغ عدد هذه الأعمال - أو الولايات في اصطلاح هذه الأيام - 48 ولاية، لكل منها بيت مال وديوان خراج وقاض أو أكثر، وسكانها هم أمم العالم المتمدن في ذلك الحين، وفيهم العرب والفرس والأتراك والأكراد والمغول والتتر والأفغان والهنود والأرمن والسريان والكلدان والروم والقوط والقبط والنوبة والبربر وغيرهم، وكانوا يتكلمون العربية والفارسية والبهلوية والهندية والرومية والسريانية والتركية والكردية والأرمنية والقبطية والبربرية وغيرها، فمنهم من أصبحت اللغة العربية لغتهم وضاعت لغاتهم الأصلية كأهل الشام ومصر والمغرب والعراق، ومنهم من اختلطت العربية بلغاتهم الأصلية كأهل فارس وتركستان والهند والأفغان وغيرها، ولا تزال كثير من أمم آسيا وأفريقيا تكتب لغاتها بالحروف العربية إلى الآن، أثرا لذلك التمدن العظيم. (4-1) إحصاؤها
وكان يحسن بنا في هذا المقام النظر في إحصاء هذه البلاد في تلك الأيام، ولكن ذلك غير مستطاع، لأن العرب قلما اهتموا بتعداد سكان ممالكهم، وإنما ننظر في إحصاء سكان هذه البلاد اليوم فنأتي بما يقابلها واسم الدولة التي هي تابعة لها وعدد سكانها ثم نقابل بين أحوالها سنة 1914 وأحوالها في تلك الأيام، وهذا هو إحصاؤها:
أسماء البلاد
الدولة التابعة لها
عدد سكانها
95276000
إيران كلها
مستقلة
9500000
أفغانستان
مستقلة
4500000
السند وبلوخستان
إنجلترا
3500000
تركستان
روسيا
6000000
القوقاز
روسيا
11000000
أرمينية وكردستان
تركيا
2500000
العراق والجزيرة
تركيا
2500000
سوريا وفلسطين
تركيا
3765000
جزيرة العرب
تركيا
5000000
القطر المصري
تركيا
12000000
النوبة وبعض السودان
السودان
2000000
طرابلس الغرب
إيطاليا
1000000
جزائر الغرب
فرنسا
5231000
تونس
فرنسا
1500000
مراكش
مستقلة
5000000
إسبانيا
مستقلة
20000000
قبرص
إنجلترا
260000
كربد
تركيا
310000 (5) مقدار العمارة
هذا هو تعداد سكان تلك البلاد لغاية سنة 1914 ولكن كثيرا من المدن الإسلامية أصبح خرابا بعد ذلك، في أواخر العصور الوسطى بالقياس إلى ما كان عليه في عهد الدولة الإسلامية، وخصوصا العراق أو السواد، وعلى الأخص بغداد والبصرة والكوفة وسائر مدن العراق، وقد وصف الأصطخري مدينة البصرة وصفا يمثل ما كانت عليه أرض العراق من العمارة في عصره قال: (5-1) البصرة «البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم وإنما مصرها العرب ... وليس فيها مياه إلا أنهارا، وذكر بعض أهل الأخبار أن أنهار البصرة عدت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على مائة ألف نهر وعشرين ألف نهر يجري فيها الزوارق، وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال، حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددا من الأنهار صغارا تجري في كلها زوارق صغار، ولكل نهر اسم ينسب به إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها ... فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها».
فاعتبر المسافة التي تحفر فيها 120000 نهر أو ترعة كم يمكن أن يكون سكانها؟ وهذا مستغرب عند أهل هذا الزمان لكنه يدل على كل حال على عمران تلك الأرض. (5-2) بغداد
وناهيك ببغداد مدينة الخليفة ودار السلام، فقد ذكر الأصطخري أيضا في وصفها كما شاهدها في أيامه في القرن الرابع للهجرة، قال: «وتفترش قصور الخلافة وبساتينها من بغداد إلى نهر بين فرسخين على جدار واحد، حتى تتصل من نهر بين إلى شط دجلة، ثم يتصل البناء بدار الخلافة مرتفعا على دجلة إلى الشماسية نحو خمسة أميال، وتحاذي الشماسية في الجانب الغربي الحربية فيمتد نازلا على دجلة إلى آخر الكرخ، إلخ.
بغداد وجسرها ممتد فوق دجلة.
ثم قال: «وبين بغداد والكوفة (أو بين دجلة والفرات) سواد مشتبك غير مميز تخترق إليه أنهار من الفرات» ثم عدد الأنهر التي تمتد من الفرات إلى دجلة.
فأين هذه العمارة صارت إليه بغداد عند اضمحلالها إبان العصر التركي؟ فإن إحصاء ولاية البصرة كلها قبيل الحرب العالمية الأولى 200000 نفس، وتعداد ولاية بغداد 850000، ونظن إحصاء الولايتين جميعا كان إذ ذاك أقل كثيرا مما كانت تحويه مدينة بغداد وحدها.
وقس على ذلك مدينة دمشق وغيرها من المدن التي ضعف أمرها اليوم وهناك مدن أخرى كانت يومئذ في إبان مجدها فأصبحت الآن اسما بلا مسمى، مثل الفسطاط في مصر، والكوفة في العراق، والقيروان في إفريقية، وبصرى في حوران، وغيرها مما لا محل للكلام فيه هنا. (5-3) مصر
وأما مصر فيؤخذ من كلام مؤرخي العرب أنها لما فتحها المسلمون كان عدد الذكور فيها ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك «ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ» ثمانية آلاف ألف (8000000) منهم في الإسكندرية وحدها 300000، فإذا أضفنا إلى ذلك عدد الإناث والأطفال والشيوخ زادت جملته على 30000000 وهو نحو ثلاثة أمثال سكانها اليوم.
وقد يطعن في صحة هذه الرواية، ولكن يستدل من مجمل أقوالهم في مصر أنها كانت في رغد ورخاء، وكان عمرانها بالغا حد النهاية.
وذكر ياقوت في معجم البلدان «أن المقوقس قد تضمن مصر من هرقل بتسعة عشر ألف ألف دينار، وكان يجبيها عشرين ألف ألف دينار، وجعلها عمرو بن العاص عشرة آلاف دينار أول عام، وفي العام الثاني اثني عشر ألف ألف دينار، ولما وليها في أيام معاوية جباها تسعة آلاف ألف دينار، وجباها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أربعة عشر ألف دينار،
1
وقد أجمع المؤرخون المحدثون تقريبا على تقدير سكانها في تلك الأيام بنحو 20000000 نفس.
قال المقريزي: «إن هشام بن عبد الملك (سنة 107ه) أمر عبيد الله بن الحبحاب عامله على خراج مصر أن يمسحها، فمسحها بنفسه فوجد مساحة أرضها الزراعية مما يركبه النيل 30000000 فدان»
2
مع أن مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل (1914) مع ما تبذله الحكومة في العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستة ملايين فدان كثيرا، ومساحة وادي النيل كلها أي الوجه البحري والصعيد على جانبي النيل لا تزيد على هذا القدر إلا قليلا، فيستحيل أن تكون مساحتها في أوائل الإسلام خمسة أضعاف ذلك.
ولكن يظهر أن العرب زرعوا ما يجاور هذا الوادي من الشرق نحو البحر ومن الغرب إلى وادي النطرون، لأن مساحة مصر بما فيها من الواحات في صحراء ليبيا والأرض بين النيل والبحر الأحمر وبينه وبين بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) إلى العريش تزيد على 4000000 ميل مربع وذلك يساوي نحو 187 مليون فدان، فلا غرابة إذن أن يكون العامر منها 30 مليون فدان، وأن يكون سكانها 30 مليون نفس.
ويؤيد ذلك أن مؤرخي العرب كانوا يقدرون مساحة مصر نحو ما تقدم تقريبا، قال المقريزي: «وآخر ما اعتبر حال أرض مصر فوجد مدة حرثها ستين يوما ومساحة أرضها 180000000 فدان، يزرع منها في مباشرة ابن المدبر (في أواسط القرن الثالث للهجرة) 24000000 فدان، وأنه لا يتم خراجها حتى يكون فيها 480000 حراث يلزمون العمل بها دائما ...» إلخ.
3
واعتبر نحو هذا العمران أيضا في مدن الإسلام الكبرى في الأندلس، مثل قرطبة وغرناطة وطليطلة، وفي العراق والشام بلاد لا تحصى كانت في تلك الأيام مدنا كبرى وأصبحت الآن قرى صغيرة.
فإذا اعتبرنا كل ما تقدم لا نستبعد أن يكون إحصاء المملكة الإسلامية في إبان عمرانها نحو 250000000 نفس إلى 300 مليون وهو نحو تعداد سكان أوربا كلها الآن، وسنعود إلى ذلك في كلامنا عن ثروة المملكة.
مناصب الدولة الإسلامية
انتهينا من الكلام في نشوء الدولة الإسلامية وتكونها فننتقل إلى الكلام في تنظيمها الإداري ودواوينها وإدارات حكوماتها وتاريخ كل منها، وخصوصا الكلام في كيفية نموها وتفرعها إلى تلك المناصب. (1) نمو الدولة الإسلامية
نشأت الدولة الإسلامية في المدينة في السنة الأولى للهجرة، والمسلمون يومئذ من الصحابة لا يزيد عددهم على بضع عشرات، بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، فجعلوا أساسها المساواة والمؤاخاة والتعاون، فقد ذكرنا أن النبي آخى بين المسلمين ومكن المؤاخاة بأن جعل أموالهم واحدة ومصالحهم واحدة كما يستدل من قوله: «من ترك كلا
1
فإلينا ومن ترك مالا فلورثته»، وقد كان الاشتراك في المصالح داعيا إلى زيادة الاتحاد، وأعمال الدولة يومئذ محصورة في النبي وتشمل السياسة والإدارة والدين، ففرضت الصلاة والزكاة وغيرهما من الفروض التي تعد من قبيل الدين، ولا نبحث فيها إلا من حيث دخلها في تأسيس الدولة.
أما صلاة الجماعة فكانت تبعث على الاتحاد والنظام والطاعة للنظام العام من الناحية الاجتماعية، وأما الزكاة فقد كانت من أول الأمر مظهرا من مظاهر التساند الاجتماعي بين طبقات الأمة، ولم تعتمد عليها الدول الإسلامية كمصدر رئيسي من مصادر الدخل، فقد تركت الدول أمرها للناس ولم تجمعها للخزانة، إلا في حالات قليلة.
ولا يخفى أن للدول نظما مختلفة، ففيها الملكي والجمهوري والمطلق والمقيد، ولكل دولة قوانين تختلف عما للأخرى مما لا يحصره وصف، ولكنها ترجع كلها إلى أمرين أساسيين تشترك فيهما جميعها، وهما المال والجند، وما من دولة مهما كان نوع نظامها إلا وفيها الجندية والمالية، إذ لا قوام لها بدونهما، وربما كانت الحاجة إليهما في أوائل الدولة أشد مما بعدها، والمسلمون هم الجند، والزكاة والضرائب المختلفة التي تقررت شيئا فشيئا هي الموارد المالية التي تقوم بتكاليف الدولة فكان أساس الدولة الإسلامية هذه الآية:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . (1-1) الزكاة
الزكاة توطد عرى الاتحاد بين أفراد المجتمع الإسلامي، والاتحاد هو أساس الإسلام، وذلك لأنها تؤخذ من أغنياء المسلمين مما يزيد من أموالهم وتعطى للفقراء منهم، وتسمى الزكاة في كثير من الأحيان صدقة، وقد بدأ المصطلحان بمعنى واحد، ثم اختلف استعمالهما بعض الشيء فيما بعد، وللأئمة والفقهاء في ذلك آراء تعني من يدرسون الأصول، ولكن المؤرخ يهتم بناحية الزكاة الاجتماعية وبأهميتهما كمورد من موارد الدخل الاجتماعي للدول الإسلامية، وقد أشار إلى معناها الاجتماعي رسول الله عندما قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، إذ قال له «إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
وفي فرض الزكاة على الأغنياء وإعطائها للفقراء حكمة عالية، لأنها تسترضي الفقراء وهم الجمهور الأكبر وخصوصا في عصور الجاهلية أيام الاستبداد والاستئثار، وقد جاء الإسلام لنصرة الضعيف والمساواة بينه وبين القوي، ولذلك كان خصوم الدعوة المحمدية من كبار القوم الذين ساءهم أن يشاركوا فقراءهم بأموالهم وأن يكونوا إخوة لهم.
وبعد واقعة بدر الكبرى سنة 2ه حدثت الغنائم والجزية كما سيأتي، فأصبحت موارد الدولة في العهد النبوي وعهد أبي بكر منحصرة في الزكاة التي تجمع من أغنياء المسلمين وتفرق في فقرائهم، والغنائم المكتسبة بالغزو وتقسم في المحاربين، وما فرضوه على من دخل في ذمتهم من اليهود والنصارى في بلاد العرب من الجزية ونحوها، ويتولى ذلك كله النبي أو خليفته، وكانت الأموال التي ترد من الغنائم تفرق فيهم على السواء، الصغير والكبير، الحر والعبد، الذكر والأنثى، فإذا جاء المدينة مال من بعض البلاد أحضر إلى المسجد وفرق على ما يراه النبي أو الخليفة بلا قيد ولا ضبط ولا يبقى منه باق. (1-2) الديوان
ولما فتحت البلاد في زمن عمر بن الخطاب، واختلط العرب بالروم والفرس، واتسع سلطان المسلمين وكثرت وارداتهم وتعددت مصادر الدخل، اضطروا إلى ضبط ذلك وتقييده وتعيين ما يدخل وما يخرج منه، فرأى عمر أن يضبط الوارد في الدفاتر، فيدفع منه رواتب معينة في العام إلى كل على قدر استحقاقه، والذي يبقى من الأموال يحفظ للانتفاع به عند الحاجة، فشرع في ذلك في السنة العشرين للهجرة (وقالوا في السنة الخامسة عشرة) وهو ما يعبر عنه بالديوان، اقتداء بما كان عند الفرس والروم.
ونظر عمر فيمن حوله من المسلمين فإذا هم طبقات ودرجات، باعتبار أدوارهم في إنشاء هذه الدولة وتوسيع سلطانها، فرأى أن يجعل عطاء كل واحد منهم على قدر خدمته، ولكنه اعتبر أيضا القرابة من النبي فميز أهله بشيء خاص كما سنفصله، واستناب عنه في تدوين ذلك كاتبا يتولى ضبطه.
ولما تكاثرت موارد المال إلى المدينة أنشأ عمر خزانة أو دارا سماها «بيت المال»، وهو أول من فعل ذلك من الخلفاء، وإن كنا نرى ذكر بيت المال في عهد أبي بكر فما هو إلا من قبيل القياس، لأن أبا بكر لم يكن يفضل عنده مال يحفظه في خزانة أو بيت.
فانقضت دولة الخلفاء الراشدين (سنة 40ه) وأصحاب المناصب فيها: (1)
الخليفة. (2)
عماله في الأمصار. (3)
كاتب يكتب له الكتب ويتولى أمر الديوان. (4)
خادم خاص كانوا يسمونه الحاجب.
2 (5)
خازن يتولى بيت المال. (6)
قاض يقضي في الخصومات.
فلما أفضت الخلافة إلى بني أمية وأصبح الأمر ملكا سياسيا وكثرت مخالطة المسلمين للأعاجم، جعلت تلك الإدارات تتفرع وتتوسع، عملا بناموس الارتقاء العام، وأضافوا إليها مناصب اقتبسوها من الروم والفرس، وقضى عليهم الترف وأبهة الملك أن يتخذوا الخدم والحشم والحجاب والحراس، فحدث في عهد بني أمية الحرس وديوان الخاتم والبريد وديوان الخراج مما سيأتي بيانه.
ولما آل الأمر إلى بني العباس زادت عوامل الاختلاط وزاد ميل الخلفاء إلى الترف والرخاء، فاستنابوا من يقوم مقامهم في مباشرة الأعمال، فاستحدثوا منصبي الوزارة والحسبة وغيرهما، وتفرعت المناصب الأولى وتشعبت على مقتضيات الأحوال، ثم أحدثت كل دولة من دول الإسلام مناصب اقتضتها أحوالها ، فاختلفت في بغداد عما في قرطبة، وفيهما عما في القاهرة مما لا محل لتفصيله. (2) تشعب المناصب
كان الخليفة في عهد سذاجة الدولة هو الذي يراقب أعمال الدواوين بنفسه، وكان عماله لا يزالون من أهل الزهد والتقوى لا يحتاجون إلى من يراقب أعمالهم أو يستطلع خفاياهم، ولم يكن للخليفة أموال خاصة ولا ضياع تحتاج إلى كتاب أو حساب، وكان إذا كتب إلى أحد عماله كتابا ختمه بخاتمه بيده، وربما كتب الكتب بيده، فلما اتسع سلطانهم، وتبدلت وجهة الخلافة من الدين إلى السياسة، ومال الخلفاء إلى التقاعد وتقليد القياصرة والأكاسرة، استخدموا من يقوم بتلك الأعمال، فأقاموا من يباشر أمور الدولة عنهم وهم الوزراء، ومن يراقب تصرف العمال في الأمصار وهو صاحب ديوان البريد، ومن يتولى ختم الرسائل وتقييدها وهم أصحاب ديوان التوقيع أو الخاتم، ومن يتولى النظر في ضياعهم وأملاكهم وهم عمال ديوان الضياع، ومن ينظر في حسابات حاشيتهم وخدامهم وهم عمال ديوان الخاص، واقتضت حضارتهم أن يضربوا النقود ويتخذوا الطراز، فأنشأوا دار الضرب وديوان الطراز، ودواوين أخرى بعضها لعرض الرسائل وبعضها لغير ذلك، مثل ديوان الترتيب وديوان العزيز، وهذا ما كان يشبه الباب العالي.
وكان الكاتب في عهد الخلفاء الراشدين هو الذي يتولى الديوان على ما وضعه عمر، فيدون ما يرد من أموال الخراج والجزية وغيرهما، وما ينفق على الجند والعمال والقضاة وغيرهم، ويتولى مكاتبة العمال، فلما اتسعت أعمال الدولة تشعب ذلك الديوان إلى ما يختص بحسابات الخراج والجزية وهو ديوان الخراج، وإلى ما يختص بالنفقة على الجند وغيرهم وهو ديوان الزمام والنفقة، وإلى ما يتعلق بغير ذلك مثل ديوان الإقطاع وديوان المعادن، وإلى ما يختص بتدوين أسماء الجند وطبقاتهم ورواتبهم وهو ديوان الجند، وتفرع من ديوان الجند ديوان الأساطيل وديوان الثغور وغيرهما، وأفردوا لمراسلات العمال وغيرهم ديوانا خاصا هو ديوان الرسائل أو الإنشاء.
وكان بيت المال مخزنا عاما لكل أموال المسلمين، فتفرع في أيام الأمويين والعباسيين إلى عدة فروع، بعضها لأموال الصدقات، وبعضها لأموال المظالم، وبعضها لأموال الورثة، وبعضها لغير ذلك، وعلى هذا النمط تشعبت المناصب الأخرى، فتفرع من القضاء ديوان المظالم والحسبة والشرطة ونحو ذلك مما لا يمكن حصره.
وشأننا في هذا المقام النظر في نشأة الدواوين الأساسية وتاريخها وسائر أحوالها، ولا ينجلي ذلك إلا إذا نظرنا في أصولها وكيف تكونت وتفرعت، والأحوال التي دعت إلى ذلك، فنبدأ بالخلافة وتوابعها وملحقاتها ، فولاية الإقليم، فالوزارة، ثم نفرد لكل من الجند والمال وغيرهما بابا خاصا.
الخلافة
(1) ماهيتها
الخلافة ضرب من الملك خاص بالإسلام لم يكن في سواه من قبل، وهي من قبيل السلطة الملكية المطلقة، ولكنها تمتاز عن سلطة القياصرة والإمبراطورين والأكاسرة بأن الخلافة تشمل السلطتين الدينية والدنيوية، فتحمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وأما تلك فتنحصر في حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية.
وقد يظهر الفرق بين السلطتين كبيرا ومرجعهما إلى مبدأ واحد، لأن الذي يتأتى له أن يتولى أمور الناس ويحكم فيهم حكما مطلقا، إما أن يسير بهم على قانون مفروض، أو على مقتضى ميوله وأغراضه، وأكثر حكام العالم المتمدن يحكمون بقوانين سياسية وضعها عقلاء الأمة وأكابر الدولة، يطيعها الناس ويجرون على أحكامها، كذلك كان الفرس والروم قبل الإسلام، وكان هذا شأن الملوك المطلقين في أوربا إلى عهد قريب، بل كذلك شأن الديموقراطيات التي يتولى الحكم فيها ملك يرث العرش عن آبائه، أو رئيس جمهورية ينتخبه الشعب وفق قواعد مقررة في الدستور، ويقوم بالحكم في حدود يعينها الدستور أيضا.
وأما الخلافة فإنها مقيدة بقوانين دينية شرعية يسوس الخليفة بها أمته ويحمل الناس على أحكامها بالنيابة عن النبي صاحب تلك الشريعة، ومن هذا القبيل اشتمال الخلافة على الإمامة، وقد سموا الخليفة إماما، تشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به. (2) شروط الخلافة
للخلافة أربعة شروط يشترط توفرها في الخليفة، وهي: العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس، واختلفوا في شرط خامس هو النسب القرشي أي أن لا يقوم خليفة إلا من قبيلة قريش، فامتنع حينئذ أن يتولى أمور المسلمين أعجمي باسم الخليفة، وأصل هذا الشرط حديث، احتجت به قريش لما طلب الأنصار الخلافة لهم كما تقدم في الكلام على بيعة أبي بكر، وكان هذا الشرط مرعيا كل الرعاية في سائر أحوال الدولة الإسلامية، والخلافة لم يتطلبها غير القرشيين قط، ومع كل ما انتاب الخلفاء في أواخر الدولة العباسية من الضعف واستبداد الأمراء فيهم حتى جردوهم من كل قوة دنيوية وأنشأوا الدول دونهم ولقبوا أنفسهم بالسلاطين، رغم ذلك كله لم يخطر لأحد منهم أن يدعي الخلافة أو أن ينصب نفسه خليفة.
هذه دول بني بويه والسلاجقة والغزنوية والطاهرية والأيوبية وغيرهم، قد استقلوا في الأحكام، وفيهم من غلب على الخلفاء، ولكنهم لم يسموا أنفسهم إلا سلاطين، بل كانوا يتزلقون إلى الخلفاء، ليثبتوهم في الحكم وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي في مصر، فإنه تناول أزمة الملك في مصر من آخر خليفة فاطمي - وليس من يطالبه أو ينافسه على السلطة وبيده مقاليد البلاد - فلما أراد الاستقلال بالملك دعا على المنابر للخليفة العباسي، ولم يسم نفسه خليفة بل اكتفى بلقب السلطان، وأول من تولى الخلافة الإسلامية من غير قريش السلطان سليم الفاتح العثماني سنة 923ه، وحجة الأئمة الحنفية في صحة خلافة بني عثمان أن الخليفة يتولى الخلافة بخمسة حقوق وهي:
حقوق الخليفة عند الحنفية (1)
حق السيف:
ومعنى ذلك أن طالب الخلافة يجب أن يقوم بدعوته أنصار لا يقوى عليهم مناظر آخر على وجه الأرض، وقد كان ذلك شأن السلطان سليم يوم التمس الخلافة بعد فتح مصر. (2)
حق الانتخاب:
أي مصادقة أهل العقد، وهو مجلس من الأئمة والعلماء، وحجتهم في ذلك أن هذا المجلس كان في أول عهد الإسلام بالمدينة ثم نقل إلى دمشق، ثم إلى بغداد، ونقل من بغداد إلى القاهرة، فيجوز أيضا نقله من القاهرة إلى القسطنطينية، فلما فتح السلطان سليم مصر حمل معه جماعة من علماء الأزهر، وأضاف إليهم عدة من علماء الأتراك، وألف من الفئتين مجلسا صادق على انتخابه وسلموه السيف، وكانت هذه هي العادة الجارية في تقليد الخلفاء العثمانيين السيف من أيدي العلماء، وكانوا يفعلون ذلك في جامع أيوب بضواحي الأستانة. (3)
الوصاية:
وهي وصاية الخليفة لمن يخلفه بعد موته، وقد أوصى المتوكل آخر الخلفاء العباسيين بمصر يوم فتحها الأتراك للسلطان السليم بالخلافة. (4)
حماية الحرمين:
فقد كان السلاطين العثمانيون حماة الحرمين - إلا سبع سنوات تولاهما فيها أئمة صنعاء في القرن العاشر، وسبع سنوات أخرى تولاهما فيها الوهابيون. (5)
الاحتفاظ بالأمانات:
وهي المخلفات النبوية المحفوظة في الآستانة، وهم يقولون: إن الآثار النبوية سلمت من اغتيال التتر في بغداد، فحملها الخلفاء العباسيون معهم في القاهرة، ما زالت فيها حتى نقلها السلطان سليم إلى القسطنطينية، وهي محفوظة إلى الآن في صندوق من الفضة في غرفة بالسراي القديمة «طوبقبيو» سيأتي ذكرها.
مبايعة الخلفاء
(1) نوع المبايعة
لم تجر ولاية الخلافة على عهد الخلفاء الراشدين على نظام واحد، فقد كان المفروض أن تكون انتخابية، ولهذا لم يوص رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بمن يخلفه، بل ترك الأمر في ذلك للمسلمين، فاختاروا أبا بكر، ولم يشأ أبو بكر أن يدع الأمر للناس ليختاروا من يشاؤون، فأوصى لعمر بن الخطاب، وعندما حضرت عمر الوفاة لم يدعها شورى خالصة، ولا انتخابية خالصة، بل أوصى لستة نفر من كبار الصحابة ليجتمعوا ويختاروا الخليفة من بينهم، وسمى ابنه عبد الله في جملتهم ولكنه نهى عن انتخابه، فاختاروا عثمان بن عفان، فلما قتل دون أن يوصي اختار الناس عليا بلا شورى، فشق ذلك على كثيرين من كبار الصحابة، لأنهم كانوا وقت مقتل عثمان متفرقين في الأمصار لم يشهدوا بيعة علي، فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس، ثم كان ما كان من أمر الفتنة المشهورة.
فلما قتل علي أرادت شيعته حصر الخلافة في نسله، باعتبار أنهم بضعة من النبي، فسألوه وهو على فراش الموت «أنبايع الحسن؟» فقال: «لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»، أما هم فبايعوا ابنه الحسن، وهذا تنازل عنها لمعاوية بن أبي سفيان، فصارت في بني أمية.
فطريقة الخلفاء الراشدين في انتخاب الخلفاء من أفضل ما بلغ إليه جهد المتمدنين حتى الآن، وهي جامعة بين الجمهورية والملكية والشورى، أما الجمهورية فلأن الخليفة كان ينتخب من جمهور القرشيين بلا حصر ولا تعيين، وهي شورية، لأن الانتخاب يكون بالشورى، وهي مطلقة، لأن الخليفة إذا قبض على أزمة الملك كان مطلق التصرف، فإذا أضفت إلى ذلك شروطها الأربعة التي ذكرناها كانت أفضل أنواع الحكومات على الإطلاق، لأن الحاكم المطلق إذا كان عادلا مع علم وكفاية وسلامة الحواس لم يكن أقدر منه على النهوض بأعباء المملكة وتوسيع نطاقها والتوفيق بين رعاياه، هذا إلى جانب ما في طريقتهم هذه من أدلة التقوى والزهد في الدنيا، كما يتضح ذلك من مراجعة سير الخلفاء الراشدين.
فلما أفضى الأمر إلى بني أمية واختلطوا بالروم في الشام، واطلعوا على طرق الحكومات عندهم، وفي جملتها توالي الملك في الأعقاب، رأى معاوية أن يجعله كذلك في نسله، ولكنه تهيب، لعلمه بما فيه من مخالفة في سنة الراشدين، فاستشار بعض خاصته، فشجعه المغيرة بن شعبة.
وقد زاده إقداما ما خافه من افتراق الكلمة إذا ترك الأمر بعده فوضى فيتطلبه بنو هاشم، ولا يرضى بنو أمية تسليمه إلى سواهم، فيؤول ذلك إلى الفتنة بعد ذهاب دهشة النبوة، وتغلب طبيعة الملك ورجوع الناس إلى العصبية، فتجنبا للفتنة بايع ابنه يزيد، وخوفا من الافتنان عليه بعد موت معاوية طلب له البيعة في حياته، وتربص ليرى ما يبدو من الناس فلم ير شرا، وجرى على ذلك خلفاؤه بعده - إلا عمر بن عبد العزيز - فإنه أراد الرجوع إلى طريقة الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، لتغلب العامة عليه، فلم تطل مدته، فعادوا إلى طريقة معاوية.
وأراد مثل ذلك أيضا المأمون في الدولة العباسية، فعهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق من نسل الإمام علي وسماه «الرضا»، فعظم ذلك على بني العباس ونقضوا بيعة المأمون وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، ولو لم يبادر المأمون إلى ملافاة الأمر لخرجت الخلافة من يده، فعاد إلى الخلافة بالإرث، وجرى عليها العباسيون والفاطميون وغيرهم من خلفاء المسلمين. (2) البيعة
البيعة هي العهد على الطاعة ، فإذا بايع الرجل أميرا كأنه عاهده وسلم إليه النظر في أمر نفسه لا ينازعه في شيء من ذلك، وإنه يطيعه فيما كلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكان العرب إذا بايعوا أميرا جعلوا أيديهم في يده، تأكيدا للعهد بما يشبه فعل البائع والمشتري، فسمي «بيعة» مصدر «باع»، وصارت البيعة مصافحة الأيدي، وهو مدلولها بعرف اللغة أيضا، وأقدم بيعة في الإسلام بيعة العقبة، ومنها أيمان البيعة التي كان الخلفاء يستحلفونها على العهد ويستوعبون الأيمان كلها.
وكانت العادة إذا هموا بمبايعة خليفة بايعه أولا كبار الدولة، ثم من يليهم من أصحاب المناصب، وفي الدولة العباسية كان أول من يبايع الخليفة الجند والقواد وقضاة بغداد، وكان كاتب الجيش هو الذي يتولى استحلافهم على الغالب، ويدعوهم بأسمائهم، ويقف الوزير أو من يقوم مقامه فيعمم الخليفة بيده ويلبسه البردة، ومتى تمت المبايعة يعرضون على الخليفة ألقابا فيختار لقبا منها، وهذه الألقاب حادثة في الإسلام، وكانت في أوائل الدولة العباسية بسيطة، كالأمين والمأمون والرشيد، فلما كانت أيام المعتصم أضاف اسم الجلالة إلى لقبه فسموه «المعتصم بالله»، وصارت تلك عادة في من خلفه من بني العباس.
فإذا بويع في داره جاؤوه بموكب الخلافة، وهي أفراس مسرجة ولكل دابة سائس بالألبسة الفاخرة، فيركب الخليفة وحوله الفرسان من كبار الدولة، ويمشي بين يديه رجل بالحربة، ويصف الجنود في الطريق صفين يسير الموكب بينهما إلى دار الخليفة، وهي دار العامة في بغداد، ثم ترد عليه وفود المهنئين من الأمصار على مقتضى الأحوال. (3) يمين البيعة
يختلف نص يمين البيعة باختلاف الدول والأحوال، وإن كان مرجعها واحدا، فلما بايع الأنصار النبي بالعقبة قالوا «يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصير إلى دارنا، فإذا وصلت فإنك في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا». وهناك نص آخر تمت به البيعة بالعقبة يعرف ببيعة النساء، وهي «بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن خشيتم من ذلك شيئا، فأمركم إلى الله - عز وجل - إن شاء عذب، وإن شاء غفر».
ويمين بيعة بني العباس منذ طلبها لهم أبو مسلم الخراساني هي:
أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام على أن لا تسألوا رزقا ولا طعما حتى يبتدئكم به ولاتكم.
وقد اختلفوا في نص يمين البيعة وفي كيفية الاحتفال بالمبايعة باختلاف الدول، ولكن الجوهر واحد، وهو تبادل العهود بين الخليفة ورعيته بالسير على ما يقتضيه الكتاب والسنة ونحو ذلك، وكان شأنهم في المبايعة الاختصار كما تكون الدول في أبسط أحوالها، وكانت البيعة تتلى شفاها ثم صارت تكتب وتحفظ، وكانت كلمات قليلة فصارت سطورا عديدة بما أدخلوه فيها من الحشو والإطناب، لما اقتضاه استغراق القوم في الترف من الميل إلى التفخيم والتبجيل والتطويل، شأن الدول في أيام بذخها.
وقد تغيرت صورتها، فبعد أن كان الرجل يخاطب الخليفة بالبيعة، أصبح أحد الوزراء ممن يأخذون البيعة للخلفاء يخاطبون المبايع ويشترطون عليه الشروط، كما فعل أبو مسلم، وهذا نص بيعة الخلفاء العباسيين في أواسط دولتهم، وفي نشرها ما يغني عن الإسهاب:
نبايع عبد الله الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار، ورضا واختيار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويتك، وصدق من نيتك، وانشراح من صدرك، وصحة من عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرا بفضلها، مذعنا بحقها، ومعترفا ببركتها، ومعتدا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها، وفي توكيدها من صلاح الكافة، واجتماع كلمة العامة والخاصة، ولم الشعث وأمن العواقب، وسكون الدهماء، وعز الأولياء، وقمع الأعداء - على أن فلانا عبد الله وخليفته، المفترض عليك طاعته، الواجب على الأمة إمامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشك فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن بأمره ولا تميل. وإنك ولي أوليائه، وعدو أعدائه من خاص وعام، وقريب وبعيد ، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهود وذمة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وضميرك فيه وفق ظاهرك، على أن إعطاءك هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها في عنقك لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، في أن لا تتأول عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها ، ولا تقعد عن نصره في الرخاء والشدة، ولا تدع النصح له في كل حال راهنة أو حادثة، حتى تلقى الله موفيا بها، مؤديا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر خلفاء الله في الأرض إنما يبايعون الله، ويد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، عليك بهذه البيعة التي طوقت بها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت فيها صفقتك، وما شرط عليك فيها من وفاء وموالاة ونصح ومشايعة وطاعة وموافقة واجتهاد ومبالغة، عهد الله إن عهده كان مسؤولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله - عليهم السلام - وعلى من أخذ من عباده من مؤكدات مواثيقه ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها فلا تبدل، وتستقيم فلا تميل، وإن نكثت هذه البيعة، ومتى بدلت شرطا من شروطها، أو عفيت رسما من رسومها، أو غيرت حكما من أحكامها، معلنا أو مسرا أو محتالا أو متأولا، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يحقر الإمامة، ويستحل الغدر والخيانة، ولا يستجيز حل العقود وختل العهود، فكل ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع، أو غير ذلك من صنوف الأملاك والأموال المدخرة، صدقة على المساكين يحرم عليك أن ترجع شيئا من ذلك إلى مالك بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الإيمان، وكل ما تستفيده في بقية عمرك من مال يقل خطره أو يجل فصدقة في سبيل الله، إلى أن تتوفاك منيتك ويأتيك أجلك، وكل مملوك لك اليوم من ذكر أو أنثى وتملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله، ونساؤك يوم يلزمك الحنث ومن تتزوج بعده في مدة بقائك طوالق ثلاثا طلاق الحرج والسنة لا مبتوتة ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافيا راجلا لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله لك صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج إليه وبرأك من حوله وقوته وألجأك إلى حولك وقوتك، والله - عز وجل - بذلك شهيد وكفى بالله شهيدا.
1
وبلغت المبايعة التي كتبت للحاكم بأمر الله العباسي في أواسط القرن الثامن للهجرة بمصر ما يملأ أربع صفحات من هذا الكتاب، ونشر السيوطي في حسن المحاضرة مبايعة أحد الخلفاء العباسيين بمصر في سبع صفحات كبار.
2 (4) بيعة ولي العهد
ذكرنا في كلامنا على الخلافة بعد أن صارت وراثية أن الخلفاء كانوا يبايعون لأولادهم بولاية العهد أو لغيرهم من ذوي قرابتهم، وكانوا يحتفلون بذلك مثل احتفالهم بمبايعة الخلفاء، وكثيرا ما كانوا يعرضون عزمهم في ذلك على أهل الرأي، كما فعل المنصور لما أراد البيعة لابنه المهدي، وكان جعفر يعترض عليه في ذلك فأمر المنصور بإحضار الناس، وقامت الخطباء فتكلموا وقامت الشعراء فأكثرت في وصف المهدي فرجحت بذلك بيعة المهدي.
وكانوا إذا رأوا غير واحد من أولادهم أو إخوتهم أهلا للخلافة بايعوا لأحدهم وشرطوا أن يخلفه فلان أو فلان، كما فعل يزيد بن عبد الملك لما أراد أن يبايع بولاية العهد، وكان ابنه لا يزال صغيرا فبايع أخاه هشاما على أن يخلفه ابنه الوليد بن يزيد، وكثيرا ما كانوا يغيرون في شروط المبايعة بعد حين إذا رأوا لزوما لذلك، وقد يبايع الخليفة بولاية العهد لأحد أولاده ويذكر من يخلفه ويخيره في استخلافه، كما فعل الرشيد لما كتب بولاية العهد لابنه المأمون ومن بعده للقاسم وجعل أمره للمأمون إن شاء أقره وإن شاء خلعه.
والعهد كتاب يكتبه الخليفة أو من يكتب له، ويختمه بخاتمه وخواتم أهل بيته، ويدفعه إلى ولي العهد أو من يتولى أمره فيحفظه إلى حين الحاجة، وقد يحفظه في مكان أمين في خزانة أو مسجد أو في الكعبة، كما فعل الرشيد بالكتابين اللذين كتبهما لأولاده بولاية العهد، أحدهما للأمين والآخر للمأمون وبعد هذا للقاسم.
ويدعى لولي العهد على المنابر بعد الدعاء للخليفة، فيقولون بعد الدعاء للخليفة «اللهم وبلغه الأمل في ولده فلان ولي عهده في المسلمين، اللهم وال من والاه من العباد وعاد من عاداه في الأقطار والبلاد، وانصر من نصره بالحق والسداد، واخذل من خذله بالغي والعناد ، اللهم ثبت دولته وشعاره، وانبذ من نابذ الحق وأنصاره».
علامات الخلافة
علامات الخلافة ثلاث: البردة، والخاتم، والقضيب. (1) البردة
أما البردة فهي بردة النبي، وما زال النبي يلبسها حتى أعطاها إلى كعب بن زهير بن أبي سلمى الشاعر المشهور، وكان كعب قد هجا النبي وفر من وجه المسلمين، فلما فتح المسلمون مكة كتب له أخوه بجير بن زهير: «أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش قد هربوا في كل وجه، فإن كانت في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا»، فلم ير كعب مفرجا إلا رجوعه وتوبته، فجاء المدينة وسلم نفسه إلى النبي ومدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول».
فأكرمه النبي، وأراد بعض الصحابة قتله فمنعهم، وبالغ في إكرامه فخلع عليه بردته، فظلت البردة عند أهل كعب حتى اشتراها منهم معاوية بن أبي سفيان في أثناء خلافته بأربعين ألف درهم «1600 جنيه» وتوارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون، وذكر أبو الفداء أنها انتقلت من العباسيين إلى التتر، لكنها الآن في جملة المخلفات النبوية في السراي القديمة في الأستانة، ولعل أبا الفداء وهم بما علمه من غزو التتر بغداد وفرار العباسيين إلى مصر، فظن البردة كانت في جملة ما انتهبوه من قصر الخليفة، والظاهر أن العباسييون حملوا البردة معهم إلى مصر فأخذها السلطان سليم مع الخلافة. (2) الخاتم
وأما الخاتم فقد اتخذه الخلفاء تشبها بالنبي، لأنه لما أراد أن يكتب إلى قيصر وكسرى يدعوهما إلى الإسلام قيل له إن العجم لا يقبلون كتابا إلا أن يكون مختوما . فاتخذ خاتما من فضة ونقش عليه «محمد رسول الله»، وانتقل هذا الخاتم إلى أبي بكر، ثم إلى عمر، ثم إلى عثمان، ووقع من يد عثمان في بئر أريس ولم يعثروا عليه بعد ذلك، فاصطنع عثمان خاتما مثله، وكان كل من ولي الخلافة بعده يصطنع له خاتما يختمون به الكتب في أسفل الكتابة وفي أعلاها بالطين أو المداد، ثم صاروا يختمون به الرسائل بالشمع بعد طيها، وأول من فعل ذلك معاوية، تجنبا للتزوير، لأنه كتب مرة إلى زياد بن أبيه عامله بالكوفة أن يدفع لعمر بن الزبير مائة ألف درهم وسلم الكتاب إلى عمر ليحمله إلى زياد، فجعل عمر المائة مائتين فدفعهما زياد له، ولما رفع حسابه إلى معاوية بان التزوير، فأمر من ذلك الحين بحزم الكتب وختمها على طرفيها بعد طيها أو لفها.
وذكر البلاذري أن زيادا أول من اتخذ من العرب ديوان زمام وخاتم في أثناء ولاية العراق، امتثالا لما كانت الفرس تفعله، وإنه كان لملوك الفرس قبل الإسلام عدة خواتم يستخدم كل منها لغرض: خاتم للسر، وخاتم للرسل، وخاتم للسجلات والإقطاعات، وخاتم للخراج، وكان الذي يتولاها يسمى صاحب الزمام.
وما زال ديوان الخاتم معدودا من الدواوين الكبرى من أيام معاوية إلى أواسط دولة بني العباس فأسقط، لأن مباشرة الأعمال تحولت إلى الأمراء والوزراء والسلاطين وغيرهم، ولما أراد الرشيد أن يستوزر جعفر بن يحيى بدل الفضل أخيه قال لأبيهما يحيى: «يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي» فكني بالخاتم عن الوزارة.
وكان لخاتم الخلفاء عندهم مقام عظيم، إذا تناوله الوزير أو غيره ليختم به كتابا وقف على رجليه تعظيما للخلافة، وكانوا إذا ختموا كتابا دافوا الطين أو المداد وطبعوه على صفح القرطاس أو على جسم لين كالشمع حتى ترتسم صورة الختم عليه، وقد يكون ذلك في آخر الكتاب أو في أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو اسم الخليفة أو شيء يعنونه، ويكون ذلك إشارة إلى صحة ذلك الكتاب ويكون الكتاب بدونه ملغيا، ويسمون الختم أيضا علامة.
ولما نشأت السلطنات جعل السلاطين علامة السلطنة مثل علامة الخلافة، وسموها الطغراء، وهي نقشة تكتب بقلم غليظ وفيها ألقاب الملك، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب ويستغنى فيها عن علامة السلطان بيده، وكانت الدولة السلجوقية تسمي ديوان الإنشاء ديوان الطغراء.
والطغراء سمي بها الحسين أبو إسماعيل الطغرائي صاحب لامية العجم المشهورة، كان وزيرا للسلطان مسعود السلجوقي وكان خطه جميلا ويكتب تلك الطغراء بخط جميل فلقبوه بها، ويقال: إنه أول من كتبها (قتل 51ه).
ولم يكن الخلفاء ينقشون على خواتمهم أسماءهم، ولكنهم كانوا ينقشون عليها عبارات فيها مواعظ وحكم، فقد كان نقش خاتم أبي بكر «نعم القادر الله» وخاتم عمر «كفى بالموت واعظا يا عمر» وخاتم عثمان «لتصبرن أو لتندمن» وخاتم علي «الملك لله»، وجرى على نحو ذلك خلفاء بني أمية وبني العباس، ولكل منهم فقرة خاصة نقشها على خاتمه، والغالب أن يكون بينها وبين اسمه مناسبة معنوية، فقد كان نقش خاتم المأمون «عبد الله يؤمن بالله مخلصا»، وختم الواثق «الله ثقة الواثق»، وختم المتوكل «على الله توكلت»، والمعتمد «اعتمادي على الله وهو حسبي»، وقس على ذلك.
وكانوا يعبرون عن علامات الخلافة أيام الخلافة العثمانية بالمخلفات النبوية، وكانت محفوظة في الأستانة في صندوق من الفضة في غرفة بقصر طوب قبو، وهي: البردة، وسن من أسنان النبي، وشعرات من شعره، ونعاله، وبقية من العلم النبوي، وإناءان من حديد يقال: إن إبراهيم الخليل كان يشرب بهما من بئر زمزم، وجبة الإمام أبي حنيفة، وذراع سيدنا يحيى، ويحتفلون بزيارة هذه المخلفات في 15 رمضان من كل سنة، فيخرج السلطان بموكبه إلى السراي المذكورة، فيؤدي فروض الزيارة والتبرك بها ومعه كبار رجال الدولة، وقد وصفنا هذه الغرفة في السنة الثامنة عشرة من الهلال ورسمها في الصفحة المقابلة.
أما القضيب فهو ثالث علامات الخلافة، وإذا تولى الخليفة جاؤوه بالبردة والخاتم والقضيب، وظل الأمر على ذلك في بني أمية وبني العباس.
شارات الخلافة
وشارات الخلافة أيضا ثلاث: الخطبة، والسكة، والطراز. (1) الخطبة
هي الدعاء للخلفاء على المنابر في الصلاة، وأصلها أن الخلفاء كانوا يتولون إمامة الصلاة بأنفسهم فكانوا يختمون فروض الصلاة بالدعاء للنبي والرضا عن الصحابة، فلما فتحوا البلاد وبعثوا إليها العمال، صار الولاة يتولون إمامة الصلاة في ولايتهم، فكانوا إذا صلوا ختموا الصلاة بالدعاء للخلفاء، وأول من فعل ذلك منهم عبد الله بن عباس لما تولى البصرة على عهد الإمام علي، فإنه وقف على منبر البصرة وقال: «اللهم انصر عليا على الحق»
1
واتصل العمل على ذلك فيما بعد، وصار الدعاء للخليفة في بلاده علامة سلطانه عليها، ولما ضعف شأن الخلفاء في بغداد كان المتغلبون من السلاطين أو الأمراء يشاركون الخلفاء بذلك فيذكرون أسماءهم بعدهم، ثم صار السلاطين يستقلون في الدعاء لأنفسهم، ولا يزال الدعاء على المنابر لأولي الأمر إلى اليوم. (2) السكة والنقود
ومن شارات الخلافة - أو هي شارات الملك على الإطلاق - الختم على النقود بطابع من حديد ينقش فيه اسم الخليفة أو السلطان ويقال لها السكة، وهي لازمة للدولة وإليك خلاصة تاريخها. (2-1) نقود العرب قبل الإسلام
كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر، وهي الدراهم والدنانير، وكانت الدنانير على الإجمال نقودا ذهبية، والدراهم نقودا فضية بما يقابل الجنيه والريال عندنا، وكانوا يعبرون عن الذهب بالعين، وعن الفضة بالورق، وكان عندهم أيضا نقود نحاسية، منها الحبة والدانق، ومرجع قيمة هذه النقود إلى الوزن، لأن المراد بالدينار قطعة من الذهب وزنها مثقال عليه نقش الملك أو السلطان الذي ضربه، والمراد بالدرهم وزن درهم من الفضة، ويسمونه الوافي، ويقدرون الدينار اليوم بثمانية وأربعين قرشا مصريا، وكان الدينار عندهم عشرة دراهم، وربما اختلفت قيمته إلى 13 أو 15 درهما أو أكثر، على حسب الأحوال، فكان الدرهم يقابل أربعة قروش ونصف في المتوسط.
الدراهم
وقد ذكر صاحب الأحكام السلطانية أن الدراهم الفارسية كانت ثلاثة أوزان منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطا وهي الدراهم البغلية، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، وذكر غيره دراهم وزن الواحد منها ستة مثاقيل ويسمونها الدراهم السمرية الثقال، ودراهم وزنها خمسة مثاقيل وهي السمرية الخفاف، وكلها فارسية.
الدنانير
وكانت الدنانير عند العرب قبيل الإسلام صنفين: دنانير هرقلية أو رومية ودنانير كسروية أو فارسية، وكذلك كانت الدراهم، ولكن الغالب أن تكون معاملتهم بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية، ولذلك كانت الهرقلية أعز عندهم وأرغب، حتى ضربوا المثل بجمالها وزهوها.
الدينار الرومي.
والدينار لفظ لاتيني، والأصل فيه الدلالة على قطعة من الفضة تساوي عشرة آسات، والآس درهم من دراهم الروم، والدينار ضرب أولا لهذه الغاية، وهو مشتق عندهم من
Deni
أي عشرة، وكان وزنه سبع الأوقية الرومانية أو جزء من مائة من الرطل «الليبرة»، أي أنهم كانوا يقسمون الليبرة من الفضة إلى مائة دينار، ثم ضربوه مع الذهب، فصار عندهم ديناران: الواحد من الفضة، والآخر من الذهب، وعنهم أخذ الفرس فضربوا نقودا مثلها وسموها باسمها.
الدينار الفارسي. (2-2) النقود الإسلامية
وما زال العرب يتعاملون بالنقود الرومية والفارسية، حتى ظهر الإسلام وافتتحوا البلاد وأسسوا الدولة الإسلامية فعمدوا إلى إنشاء تمدنهم، فكان في جملة عوامله السكة، فضربوا الدراهم والدنانير أولا مشتركة بينهم وبين الروم والفرس، منها قطعة ضربها خالد بن الوليد في طبرية في السنة الخامسة عشرة للهجرة، وهي على رسم الدنانير الرومية تماما بالصليب والتاج والصولجان ونحو ذلك، وعلى أحد وجهيها اسم خالد بالأحرف اليونانية
Xaved
وهذه الأحرف (Bou) ، ويظن الدكتور مولر المؤرخ الألماني ناقل هذا الاسم أنها مقتطعة من «أبو سليمان» كتبه خالد بن الوليد.
نقود خالد بن الوليد.
وهناك قطعة أخرى ضربت باسم معاوية، ولكنها على مثال دينار من دنانير الفرس برسمه وشكله إلا اسم معاوية عليه، وقد نقلنا رسمه عن الدكتور مولر المشار إليه أيضا.
نقود معاوية بن أبي سفيان.
وذكر الدميري في كتاب «حياة الحيوان» ضربا من النقود يقال لها البغلية، قال إن «رأس البغل» ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي: كل هنيئا.
وذكر المرحوم جودت (باشا) أنه رأى نقودا ضربها الأمراء والولاة في عهد الخلفاء الراشدين، أقدمها ضرب سنة 28ه في قصبة هرتك طبرستان، وعلى دائرها بالخط الكوفي «بسم الله ربي»، ورأى نقدا مضروبا سنة 38ه على دائرته هذه العبارة أيضا، ونقدا ضرب سنة 61ه في يزد على دائرته «عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين» بخط بهلوي، وقال المقريزي:
وأول من ضرب المعاملة في الإسلام عمر بن الخطاب في سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها «الحمد لله محمد رسول الله»، وفي بعضها «لا إله إلا هو» وعلى جزء منها اسمه «عمر»، وعبد الله بن الزبير ضرب بمكة دراهم مستديرة، وهو أول من ضرب هذه الدراهم ونقش بدائرها «عبد الله» وبأحد الوجهين «محمد رسول الله» وبالآخر «أمر الله بالوفاء والعدل». (2-3) عبد الملك والنقود
على أن هذه المسكوكات لم تكن تعتبر رسمية في الدول الإسلامية، بل كانت أكثر معاملاتهم بالنقود الرومية والفارسية، فاتفق في أيام عبد الملك بن مروان «سنة 65-86ه» أن هذا الخليفة أراد تغيير الطراز من الرومية إلى العربية كما سيجيء، فشق ذلك على ملك الروم، فبعث إليه يهدده بأن ينقش على دنانيره شتم النبي فعظم هذا الأمر على عبد الملك، فجمع إليه كبار المسلمين واستشارهم، فأشار عليه أحدهم بمحمد الباقر أحد الأئمة الاثني عشر من الشيعة وكان يقيم في المدينة، فلم يشأ عبد الملك أن يستنجد أحد أئمة بني هاشم - وهم مناظروه في الملك - لكنه لم ير بدا من استقدامه فكتب إلى عامله في المدينة أن «أشخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكرما ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه و30000 لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج من أصحابه»، فلما قدم محمد إلى دمشق استشاره عبد الملك فيما ينويه ملك الروم في الإساءة بالإسلام، فقال محمد «لا يعظم هذا عليك، ادع هذه الساعة صناعا فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد وذكر رسول الله «ص» أحدهما في وجه الدرهم أو الدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا - من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا واحدا وعشرين مثقالا - فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة مثاقيل، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل».
ففعل ذلك عبد الملك، وبعث نقوده إلى جميع بلدان الإسلام، وتقدم إلى الناس في التعامل بها، وهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل تلك وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكة الإسلامية.
هذا ما قاله الدميري، ولكن ابن الأثير ينسب هذا الرأي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، وغيره ينسبه إلى غيره، وتسمى دنانير عبد الملك الدنانير الدمشقية، وأمر الحجاج عامله في العراق أن يضرب الدنانير على 15 قيراطا من قراريط الدنانير، ثم صار أمراء العراق يضربون النقود لبني أمية في الأكثر. (2-4) نقش النقود
ونقش نقود بني أمية على أحد الوجهين في الوسط «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وحول ذلك «بسم الله ضرب هذا الدرهم في بلد كذا سنة كذا» وفي الوجه الآخر بالوسط «الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» وحولها «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون» وكانت هذه الكتابة تنقش على الدينار والدرهم على السواء.
نقود عبد الملك بن مروان.
وأبطل المسلمون استخدام النقود الرومية والفارسية وغيرها من ذلك الحي، وأجود نقود بني أمية الهبيرية التي ضربها لهم عمر بن هبيرة، والخالدية نسبة إلى خالد بن عبد الله البجلي، واليوسفية التي ضربها يوسف بن عمر، وكلهم من عمال العراق لبني أمية، فلما أفضت الخلافة لبني العباس لم يكن المنصور يقبل في الخراج من نقود بني أمية سواها.
نقود إسلامية صقلية.
وللنقود الإسلامية تاريخ طويل لا محل له هنا، وفي كتابنا «تاريخ مصر الحديث» رسوم أكثر النقود الإسلامية وأسماء ضاربيها، ولكننا نقول بالإجمال إن المسكوكات الإسلامية ضربت في كل عواصم الإسلام وفي أشهر مدنها في العراق والشام والأندلس وخراسان وصقلية والهند وغيرها، وهي تختلف رسما وسعة ونصا باختلاف الدول والعصور.
وكانت الكتابة على النقود تنقش بالحرف الكوفي، ثم تحولت إلى الحرف النسخي الاعتيادي سنة 621ه في أيام العزيز محمد بن صلاح الدين الأيوبي بمصر.
نقود العزيز بن صلاح الدين.
ويظهر أنهم لم يكونوا يذكرون اسم البلد الذي ضربت النقود فيه إلى أوائل القرن الثاني للهجرة، وكانوا إذا ذكروا تاريخ الضرب سبقوه بلفظ «الستة» ثم أبدلوها بلفظ «عام»، وكثيرا ما كانوا يقولون شهور سنة كذا أو شهور عام كذا أو في أيام دولة فلان، وكان يكتب التاريخ أولا بالحروف على حساب الجمل ثم كتب بالأرقام، وأقدم ما عثروا عليه مؤرخا بالأرقام سنة 614ه. (2-5) دار الضرب
وكانت دار الضرب ضرورية للدولة كما نراها ضرورية في هذه الأيام، إذ لا تخلو دولة من دول الأرض المتمدنة من دار تضرب فيها النقود، وكان ذلك شأن الدول الإسلامية في كل أدوارها، ولم تكن تخلو عاصمة أو قصبة من دار للضرب، في بغداد والقاهرة ودمشق والبصرة وقرطبة وغيرها شيء كثير، وكان لدار الضرب ضريبة على ما يضرب فيها من النقود يسمونها ثمن الحطب وأجرة الضراب، ومقدار ذلك درهم عن كل مائة درهم أي واحد في المائة، وربما اختلفت هذه الضريبة باختلاف المدن، فكان للدولة من ذلك دخل حسن.
وأما مقدار ما كان يضرب في الدولة من النقود فيختلف كثيرا، ويتعذر تقديره لاختلاف أحوال السكة عندهم، فقد يمر على الدولة أعوام وهي تتعامل بنقود دولة أخرى ولا دار للضرب عندها، أو ربما كانت تضرب نقودا في عاصمتها وتتعامل بنقود غيرها أيضا مما لا يمكن ضبطه، ولكننا نأتي بما اتصل بنا من هذا القبيل على سبيل المثال، فقد ورد في نفح الطيب للمقري أن دار السكة في الأندلس بلغ دخلها من ضرب الدراهم والدنانير على عهد بني أمية في القرن الرابع للهجرة 200000 دينار في السنة وصرف الدينار 17 درهما، فإذا اعتبرنا هذا الدخل باعتبار واحد في المائة عن المال المضروب، بلغ مقدار ما كان يضرب في الأندلس وحدها من ممالك الإسلام 20000000 دينار أو نحو عشرة ملايين جنيه، وذلك نحو ضعفي ما كانت تضربه إنجلترا قبل الحرب العالمية الأولى وهي في إبان قوتها الاقتصادية وثبات عملتها، فإذا أضيف إليها ما كان يضرب في القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية، وفي بغداد عاصمة الدولة العباسية، وفي غيرها من المدن الإسلامية يومئذ، كان مبلغ ذلك شيئا كثيرا.
وكانت صناعة ضرب النقود في تلك العصور لا تزال في أبسط أحوالها، وهي عبارة عن طابع من حديد تنقش فيه الكلمات التي يراد ضربها على النقود مقلوبة، ثم يقسمون الذهب أو الفضة أجزاء بوزن الدنانير أو الدراهم، ويضعون الطابع فوق تلك القطعة ويضربون عليها بمطرقة ثقيلة حتى تتأثر وتظهر الكتابة عليها، وكانت هذه الحديدة تسمى أولا «السكة»، ثم نقل هذا المعنى إلى أثرها في النقود وهي النقوش، ثم نقل إلى القيام على ذلك العمل والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علما عليها، ويدخل في دار الضرب كثير من الوظائف، وفيها عدد كبير من العمال، من الوازن والضارب وصاحب العيار وغيرهم. (3) الطراز
ومن شارات الخلافة أيضا الطراز، وهو قديم في الدول من عهد الفرس والروم، وذلك أن يرسم الملوك والسلاطين أسماءهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم، كأنها كتابة خطت في نسيج الثوب لحاما وسدى بخيط من الذهب، أو بما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب، ما يحكمه الصياغ بحيث تصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز، للدلالة على أن لابسها من أهل الدولة من السلطان فما دونه، كما هي الحال في لباس أجناد هذه الأيام، فترى على بعضهم شرائط القصب والأزرار الصفراء ونحوها من علامات الرتب، كرسوم التيجان والسيوف والنجوم ونحوها.
وكان ملوك الفرس والروم يجعلون رسم ذلك الطراز بصور ملوكهم وأشكالهم، أو صور أخرى تشير إلى الملك، فلما استقر المسلمون على عرش الأكاسرة والقياصرة وعظمت دولتهم أحبوا الاقتداء بهم، ولم يستحسنوا اتخاذ الصور فاعتاضوا بكتابة أسمائهم وكلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو الدعاء. (3-1) الطراز العربي
وأول من نقل الطراز إلى العربية من ملوك المسلمين عبد الملك بن مروان الأموي، لأن الخلفاء الراشدين ظلوا على سذاجة البداوة كما تقدم، فلما أفضت الخلافة إلى بني أمية وخالطوا الروم، وساروا على خطواتهم في أكثر شؤون دولتهم، وكان في جملة ذلك الطراز على أثوابهم وستور منازلهم وقراطيسهم «والقراطيس برد مصرية كانوا يحملون بها الآنية والثياب» فاتخذ المسلمون الطراز كما كان عند الروم والكتابة عليه بالرومية، وظلوا على ذلك أيام عبد الملك بن مروان فجعله في العربية، وبدأ بالقراطيس وكانت تنسج بمصر، وأكثر من في مصر لا يزال على النصرانية، فكانوا يطرزونها بالرومية وطرازها «بسم الآب الابن والروح القدس»، فظهر الإسلام وفتحت مصر والشام والطراز باق على ما كان عليه، وكيفية تنبه عبد الملك لذلك، أنه كان يوما في مجلسه فمر به قرطاس فرأى عليه الطراز بالرومية، فلاح له أن يستطلع فحواه فأمر أن يترجم بالعربية، فلما وقف على الترجمة أكبر أمرها وقال «ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل مصر تدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت على هذه الصورة»، ثم كتب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان عامله على مصر بإبطال ذلك الطراز، على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وغير ذلك، وأن يستبدلوا تلك العبارة بصورة التوحيد «لا إله إلا هو» ففعل، وظل هذا طراز القراطيس في سائر أيام الدول الإسلامية، ولم يغير شيء من جوهره، وكتب عبد الملك إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من يخالف ذلك بالضرب الوجيع والحبس الطويل.
فلما حملت هذه القراطيس إلى بلاد الروم، وعلم الإمبراطور بخبرها وعلم ترجمة ما فيها أنكره واستشاط غيظا، فكتب إلى عبد الملك «إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ولم يزل يطرز بطرازهم، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر إحدى الحالتين» وبعث إليه بهدية يسترضيه بها للرجوع إلى الطراز، فرد عبد الملك الهدية وأخبر الرسول أن لا رد عنده، فأعاد إليه أضعافها وطلب الجواب، فلما لم يرد عليه جوابا غضب الإمبراطور وبعث يهدد بنقش سب النبي على النقود، فكان ذلك داعيا إلى تنبه عبد الملك إلى ضرب النقود الإسلامية الحقيقية كما تقدم.
ذلك ما كان من أمر القراطيس، والظاهر أن المسلمين تنبهوا للطراز على الأثواب من ذلك الحين، فجعلوا على ملابس أجنادهم ورجال دولتهم شارة الخلافة، وهي اسم الخليفة أو لقبه أو نحو ذلك، وبقاء هذا الطراز على شارات الدولة وبنودها وكسائها يدل على بقاء سلطانها، فإذا أراد أحد الولاة الخروج من طاعة الخليفة قطع الخطبة له وأسقط اسمه من الطراز، كما فعل المأمون لما بلغه وهو على خراسان أن أخاه الأمين نكث بيعته. (3-2) دور الطراز أو الكسوة
وأنشأ الخلفاء للطراز دورا في قصورهم تسمى دور الطراز، لنسج أثوابهم وعليها تلك الشارة، وكان القائم على النظر فيها يسمى «صاحب الطراز»، وهو ينظر في أمور الصياغ والآلة والحاكة فيها ويجري عليهم أرزاقهم ويشارف أعمالهم، وبلغت تلك الدور أفخم أحوالها في أيام الدولتين الأموية والعباسية، وكانوا يقلدون أعمال هذه الدور لخاصة دولتهم وثقات مواليهم، وكذلك كانت الحال في دولة بني أمية بالأندلس، وفي الدولة الفاطمية بمصر، ومن كان على عهدهم من ملوك العجم.
ومن هذا القبيل ما كان يسمى في الدولة الفاطمية بدار الكسوة، وكان يفصل فيها جميع أنواع الثياب والبز وقيمة ما كان يخرج منها من الكسي 600000 دينار في العام، وكانت خلعهم على الأمراء الثياب الديبقي والعمائم بالطراز الذهب، وكانت قيمة طراز الذهب والعمامة خمسمائة دينار، وكانوا يفرقون الكسوات مرتين في العام، مرة لتفريق كسوة الصيف، ومرة لتفريق كسوة الشتاء، على جميع أهل الدولة من الخدم والحواشي من العمامة إلى السراويل، وقدروا عدد القطع التي صدرت منها سنة 516ه فبلغت 14305 قطع، وفي المقريزي فصل خاص في تعداد ضروب الألبسة التي كانت تفرق في تلك الدار.
وما زالت دور الطراز في الدول الإسلامية على نحو ما تقدم، حتى ضاق نطاق تلك الدولة وضعف أمرها وتعددت فروعها، فتعطلت هذه الوظيفة من أكثرها، ولكن الطراز نفسه لم يبطل في ملابسهم، على أنهم لم يعودوا يصنعونه في دورهم، بل صاروا ينسجون ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير أو من الذهب الخالص، ويسمونه المزركش ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه، كذلك فعل السلاطين المماليك بمصر، ويشبهه في الدولة العثمانية رسم الطغراء العثمانية، والشرائط المزركشة على ألبسة الضباط وغيرهم من رجال الدولة، والعلامات الأخرى في الدول الأخرى.
وأما الهلال في الدولة العثمانية فلم نقف على ما يقابله في دول الخلفاء سوى ما كان يؤخذ من ألوان الرايات عندهم، واختصاص كل لون بدولة كما سيجيء، والظاهر أنهم كانوا يطرزون أسماء الخلفاء أو ألقابهم على راياتهم وأسلحتهم، كما كانوا يضربونها على نقودهم.
فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة العزيز بالله الفاطمي، أن مملكته اتسعت وفتحت له حمص وحماه وشيزر وحلب، وخطب له المقلد بن المسيب صاحب الموصل بالموصل وضرب اسمه على السكة والبنود. وفي كلام أبي الفداء عن استيلاء بجكم على بغداد أنه اتصل بخدمة ابن رايق وانتسب إليه حتى كتب على رايته «الرايقي»، فالظاهر أن تطريز الاسم على الرايات والبنود بعد أن كان خاصا بالخلفاء في أوائل الإسلام شاع في أواخر الدولة بين الأمراء وكل ذي سلطان.
اسم السلطان بيبرس.
وكانوا يعدون من قبيل شارات الملك أيضا السرير والمنبر والتخت والكرسي، وذكروا من شارات الخلافة الآلة وهي الألوية «وهي الأعلام» الرايات والموسيقى. سيأتي الكلام عليها في باب الجند.
ولاية الأعمال
(1) الولايات قبل الإسلام
يراد بالولاية الإمارة على البلاد، فيولي السلطان أو الملك من يقوم مقامه في حكومة الولايات، وهي الأعمال في اصطلاحهم، وهذا النوع من الحكومة قديم، وكانت الشام لما فتحها المسلمون واحدة من ولايات الروم يسمونها ولاية الشرق، وتقسم إلى 11 إقليما تحت كل إقليم عدة بلاد ولكل إقليم قصبة، وهاك أسماءها وأسماء قصباتها وعدد المدن التابعة لها:
أسماء الأقاليم
عدد بلادها
اسم قصبتها (1) سوريا الأولى
9
أنطاكية (2) سوريا الثانية
7
حماه (3) سوريا الثالثة
13
منبج (4) فينيقية الأولى أو البحرية
12
صور (5) فينيقية الثانية
13
دمشق (6) بلاد العرب حوران
14
بصرى (7) الجزيرة أو بين النهرين
13
ديار بكر (8) أسروانا
12
أورفا (9) فلسطين الأولى
قيسارية (10) فلسطين الثانية
6
بيسان (11) فلسطين الثالثة
بطرا
وكان لكل إقليم حاكم أو عامل، والغالب أن يكون بطريقا، والبطريق
عند الروم غير البطريرك، وإنما هو لقب جماعة من شرفاء المملكة الرومانية نشأوا بنشوء مدينة رومية، وكان لهم نفوذ عظيم في دولة الرومان قد انحط شأنهم ولم يعد لهم عمل في الحكومة، فلما امتدت تلك المملكة إلى إفريقية وسائر المشرق، رأت الحكومة أن هذه الولايات البعيدة تحتاج إلى من يتولاها ويكون له هيبة وسطوة، فجعلوا يولونهم الحكومات في تلك المستعمرات، وفي جملتها الشام ومصر وما يليها.
فكان على كل إقليم من أقاليم الشام حاكم يقيم في قصبته ومعه الجند في القلاع، وكان على كل من هذه الأقاليم حاكم عام يقيم في أنطاكية، ولهذا الحاكم أن يولي ويعزل من يشاء من حكام الأقاليم، وهو يتولى جباية الخراج والإنفاق على الجند وسائر أعمال الولاية، وكانت مصر أيضا على نحو هذا النظام من حيث الانقسام إلى أقاليم وبلاد، وحاكمها العام كان يقيم في الإسكندرية.
وكانت العراق وبلاد فارس هكذا أيضا، وربما كان ولاتها أكثر تقيدا من ولاة الشام ومصر، لقرب دار الملك منهم. (2) الولايات في الإسلام
فلما ظهر الإسلام ونهض المسلمون للفتح، كانوا إذا أرسلوا قائدا إلى فتح بلد ولوه عليه قبل خروجه لفتحه، أو شرطوا عليه إذا فتحه فهو أمير عليه، وكان ذلك شأنهم من أيام النبي، فإنه أرسل في السنة الثامنة للهجرة أبا زيد الأنصاري وعمرو بن العاص ومعهما كتاب منه يدعو الناس إلى الإسلام وقال لهما «إن أجاب القوم إلى شهادة الحق وأطاعوا الله ورسوله فعمرو الأمير وأبو زيد على الصلاة وأخذ الإسلام على الناس وتعليمهم القرآن والسنن»، وكان كذلك.
1
فلما تولى أبو بكر وبعث البعوث لفتح الشام، كان إذا عقد لأحدهم لواء على بلد أو إقليم ولاه قبل ذهابه لفتحه، هكذا فعل في أول بعث بعثه وولى عليه ثلاثة من كبار قواد الدولة إذ ذاك، فعقد لواء لعمرو بن العاص وأمره أن يسلك طريق أيلة عامدا إلى فلسطين، وعقد لواء آخر ليزيد بن أبي سفيان وأمره أن يسلك طريق تبوك إلى دمشق، وعقد لشرحبيل بن حسنة على أن يسير في طريق تبوك أيضا إلى الأردن، وولى كل واحد منهم البلد الذي هو سائر لفتحه وقال لهم «إذا كان بكم قتال فأميركم الذي تكونون في عمله».
ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة ولى أبا عبيدة بن الجراح أمر الشام كله وإمرة الأمراء في الحرب والسلم، فأشبه عمله هذا ما كانت عليه الشام قبل فتحها، وهي أن يكون على كل إقليم عامل، وعلى عمال الأقاليم وال عام كما رأيت، ولكن حاكم الروم العام كان يقيم في أنطاكية، فاختار المسلمون دمشق بدلا منها، لبعدها عن البحر، وقربها من بلاد العرب، عملا برغبة عمر بن الخطاب أن لا يقيم المسلمون في مكان يحول بينه وبينهم ماء كما تقدم. (2-1) الاحتلال العسكري
وكانت ولاية الأعمال في بادئ الرأي أشبه بالاحتلال العسكري منه بالتملك، وكان العمال، أو الولاة، عبارة عن قواد الجند المقيم بضواحي البلاد المفتوحة بما يعبرون عنه بالرابطة أو الحامية، وكانت الجنود الإسلامية تنقسم إلى قوات تقيم في قواعد عسكرية بأماكن أقرب إلى طريق الصحراء منها إلى السواحل للأسباب التي قدمناها.
وكانت كل قاعدة عسكرية تسمى جندا، فيقال جند دمشق وجند قنسرين وجند الأردن، وكان سلطانها يشمل زماما واسعا يعادل زمام الولاية الرومانية أو البيزنطية التي تقع فيها القاعدة، ومن هنا فقد أطلق على هذه الولايات التي يحكمها قائد قاعدة عسكرية: الجند، فالجند على هذا الاعتبار هي الولاية العسكرية، وكانت أكثر ما تكون على الحدود.
فكانت عساكر الشام أربعة أجناد تقيم في دمشق وحمص والأردن وفلسطين ومنها تسمية هذه الأقاليم بالأجناد ، وقوات العراق كانت تقيم في الكوفة والبصرة، وقوات مصر في الفسطاط وضواحي الإسكندرية ... ولم يكونوا يسكنون القرى ولا المدن ولا يختلطون بالأهلين أول الأمر، وقد منعهم الخليفة عمر بن الخطاب من اتخاذ الزرع، وشدد عليهم في ذلك، فكانوا يقيمون في معسكراتهم إلى زمن الربيع، فيسرحون خيولهم بالمرعى في القرى يسوقها الأتباع ومعهم طوائف من السادات، وكانوا كثيري العناية بتربية خيولهم وأسمائها، ومن أقوال عمرو بن العاص لجنده في مصر «لا أعلمن - ما أتى - رجلا قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك». (2-2) انتشار الإسلام في البلاد المفتوحة
وكان عمرو بن العاص إذا جاء الربيع كتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا، فتتفرق العرب في القرى على حسب راياتهم وقبائلهم، وخصوصا في منوف وسمنود وأهناس وطحا، وكانت قرى مصر كلها في جميع الأقاليم يسكنها القبط والروم، ولم ينتتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة الأولى من تاريخ الهجرة، ثم تضاعف في أواسط المائة الثانية، ولم يقووا إلا في المائة الثالثة - يؤيد ذلك أن المسلمين لم ينشئوا في القرى مساجد قبل ذلك الحين، وأن القبط كانوا إذا انتقضوا أتعبوا المسلمين ولا يهون على هؤلاء إخضاعهم، وما زالوا في ذلك حتى أوقع المأمون بهم سنة 216ه وجعل الإسلام ينتشر في القرى.
وقس على ذلك حال الأندلس لما فتحها المسلمون سنة 92ه، فإنهم أقروا أهلها على ما كانوا عليه إداريا وسياسيا ودينيا، وتركوا لهم أعمال الحكومة وإدارة شؤونها، وإنما أبقوا لأنفسهم الرئاسة العامة وقيادة الجند. هكذا كانت حال الأعمال الإسلامية في أوائل الإسلام، إلا ما قرب منها من مركز الخلافة كالشام في أيام بني أمية، والعراق في أيام بني العباس.
فكان العمال في عهد الخلفاء الراشدين قواد الجند الذين افتتحوا تلك الأعمال، وواجباتهم الرئيسية مراقبة سير الأحكام في البلاد التي افتتحوها وإقامة الصلاة واقتضاء الخراج، وقد رأيت في غير هذا المكان أن أعمال الحكومة في البلاد المفتوحة في مصر والشام والعراق ظلت سائرة على ما كانت عليه قبل الفتح، إلى أواسط أيام بني أمية، وبدأت ولايات الأعمال تتحول إلى حكومات محلية من أواخر دولة الراشدين، حتى كانت أيام عبد الملك بن مروان، فأتم السيطرة الإسلامية بنقل الدواوين إلى اللغة العربية، وأخرج منها من لم يعرف لغة العرب فاجتهد أهل البلاد في تعلم اللغة العربية حتى يحتفظوا بهذه الوظائف، وبذلك كان هذا الإجراء الذي قام به عبد الملك بن مروان من أهم ما قام به خلفاء الإسلام، فقد كان له أثر حاسم في تعريب إدارة الدولة الإسلامية وفي نشر اللغة العربية، ثم تنوعت الولايات وصارت درجات متفاوتة، على ما اقتضاه الزمان والمكان، ولكنها ترجع إلى إمارتين: إمارة عامة، وإمارة خاصة، والإمارة العامة ضربان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. (3) الإمارة العامة (3-1) إمارة الاستكفاء
فإمارة الاستكفاء أو إمارة التفويض، هي التي كان يعقدها الخليفة لمن يختاره من رجاله الأكفاء، فيفوض إليه إمارة الإقليم على جميع أهله، ويجعله عام النظر في كل أموره، ويشتمل نظره فيه على سبعة أمور: (1)
تدبير الجيوش، وترتيبهم في النواحي، وتقدير أرزاقهم (إلا إذا كان الخليفة قدرها). (2)
النظر في الأحكام، وتقليد القضاة والحكام. (3)
جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتقليد العمال فيهما وتفريق ما استحق منهما. (4)
حماية الدين والدفاع عن الحريم. (5)
إقامة حدود الشرع. (6)
الإمامة في الصلوات. (7)
تيسير الحج.
وإذا كان الإقليم المشار إليه متاخما لعدو، ترتب على العامل أمر ثامن هو جهاد ذلك العدو، وقسمة الغنائم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس، كما هو مفصل في باب الجند والمال.
وكان أكبر ولايات الإسلام على هذه الصورة، وخصوصا لما بعد منها عن مركز الخلافة، كالعراق في بني أمية ومصر والشام في بني العباس وخراسان في كليهما.
عمال الاستكفاء في زمن بني أمية
ومن عمال الاستكفاء في أيام بني أمية في العراق زياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، وبشر بن مروان، والحجاج بن يوسف، ويزيد بن المهلب، ومسلمة بن عبد الملك، وعمر بن هبيرة، وخالد بن عبيد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عمر بن هبيرة، وكانت تسمى إمارة كل منهم «إمارة العراقين»، لاشتمالها على الكوفة والبصرة.
فكان كل أمير من هؤلاء يتصرف في إمارته تصرف الملوك المستقلين بالكيفية التي قدمناها، فيعين العمال على البلاد تحت إمارته وسائر عمال حكومته، ويجبي الأموال فينفق منها على جنده وفي ما تقتضيه العمارة من إصلاح الجسور وحفر الترع ونحو ذلك ، ويرسل ما يبقى عنده إلى بيت المال في الشام.
وكانت الحال نحو ذلك في مصر، فقد كان عاملها من عمال الاستكفاء من عهد عمرو بن العاص فما بعده، وربما كان عامل مصر أكثر استقلالا من سواه، وخصوصا عمرو بن العاص لما تولاها المرة الأخيرة بأمر معاوية بعد أن نصره على علي، وربما فعل معاوية مثل ذلك بزياد بن أبيه لما ولاه خراسان، وبالمغيرة بن شعبة لما ولاه الكوفة، رغبة منه في إرضاء أطماع هؤلاء كما تقدم.
عمال الاستكفاء في أيام العباسيين
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس ساروا على نحو هذه الخطة، لكنهم قلما كانوا يجعلون أمر العراق مفوضا للعمال، لقربه من مركز الخلافة، على أنهم كانوا يفوضون العمال في الأقاليم البعيدة، كالشام ومصر وخراسان وسائر ما وراء العراق نحو الشرق إلى أقصى بلاد الترك وما وراء النهر، ولما تمكن البرامكة من الدولة وغلب نفوذهم فيها، ولى الرشيد أحدهم - جعفر بن يحيى - الغرب كله، من الأنبار إلى إفريقية، وقلد أخاه - الفضل بن يحيى - الشرق كله، من شروان إلى أقصى بلاد الترك سنة 176ه، فأقام جعفر بمصر، وأرسل العمال بأمره إلى الشام وإفريقيا وغيرهما، وأما الفضل فإنه سار إلى عمله حتى وصل إلى خراسان، فأصلح وبدل واستخلف عمالا، وعاد إلى العراق.
وكثيرا ما كان الخلفاء يفوضون إلى بعض خاصتهم عملا من الأعمال، فيرسل هذا من يقوم مقامه في ذلك العمل، ويبقى هو في بلاد الخليفة، وأكثر ما كان يقع ذلك في الدولة العباسية، في عصرها الثاني.
وكانت إمارة الاستكفاء هذه من جملة الأسباب التي ساعدت على تشعب المملكة العباسية إلى دول مستقلة ... لأن الوالي كان يقيم في ولايته كأنه ملك مستقل، إلا فيما يتعلق بإرسال فضلات الخراج إلى الخليفة، والخطبة له، وضرب النقود باسمه، وأمور أخرى لا تضغط على إرادته، فإذا كان الوالي ذا دهاء وآنس من الخليفة ضعفا، جمع أهل الإقليم على ولائه واستقل بعمله، إما استقلالا تاما وإما على مال معين يبعث به إلى الخليفة ببغداد، أو على شروط أخرى ، وعلى نحو هذا النمط استقل الأغالبة في إفريقية، وبنو طاهر في خراسان، وابن طولون في مصر، ولكن تلك الأقاليم ظلت تعد إمارات عباسية من الناحية النظرية على الأقل. (3-2) إمارة الاستيلاء
ويراد بإمارة الاستيلاء أن يعقد الخليفة لأمير على إقليم اضطرارا، بعد أن يستولي الأمير على ذلك الإقليم بالقوة، فكان الخليفة يثبته في إمارته، ويفوض إليه تدبير سياسته فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير، ويكون الخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين، ولهذه الإمارة شروط تفرض على الأمير في مقابل ذلك وهي: (1)
حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة وتديبر أمور الملة. (2)
إلزام الناس بالتزام أشراط العقيدة. (3)
جمع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون للمسلمين يد على من سواهم. (4)
أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة والأحكام فيها نافذة. (5)
أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها. (6)
أن تكون الحدود مستوفاة بحق وقائمة على مستحق. (7)
أن يهتم الأمير في حفظ الدين.
ولأمير الاستيلاء أن يستخدم الوزراء وغيرهم، ومن هذه الإمارات ما انتهت إليه الدولة العباسية من التشعب وظهور الدول الصغرى فيها، كالدولة الحمدانية والبويهية والغزنوية والإخشيدية وغيرها، وكلها كانت إمارات مستقلة تدعو للخليفة على المنابر، وتضرب السكة باسمه، وترسل إليه مالا معينا في السنة يتم الاتفاق عليه، وهو الذي يثبت أمراءها، ويكون الحكم متسلسلا في أعقابهم. (4) الإمارة الخاصة
وأما الإمارة الخاصة، فهي أن يكون الأمير فيها مقصورا على تدبير الجيش، وسياسة الرعية، وحماية البيضة، والدفاع عن الحرية ضمن حدود معينة، وليس له أن يتعرض للقضاء أو الأحكام أو لجباية الخراج أو الصدقات في شيء حتى الإمامة في الصلاة، فربما كان القاضي أولى بها منه، والخليفة يعين لهذه الإمارة قضاة وجباة من عنده، فالجباة يجمعون الخراج لحساب بيت المال المركزي، وهم يؤدون أعطيات الجند وغيرها مما يجمعونه، والإمارات الخاصة كانت قليلة في إبان الدولة العباسية. (5) رواتب العمال
أما رواتب العمال فقد قدرها عمر بن الخطاب، بعد تدوين الدواوين وتعيين أرزاق الجند، وأول ما فعل ذلك لما وجه عمار بن ياسر إلى الكوفة وولاه صلاتها وجيوشها ، فجعل له ستمائة درهم في الشهر، وعين الرواتب لولاته وكتابه ومؤذنيه ومن كان يقوم بالأمر معه، فبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وعبد الله بن مسعود على قضاء الكوفة، وشريحا على قضاء البصرة، وأجرى على عثمان ربع شاة وخمسة دراهم كل يوم، وجعل عطاءه خمسة آلاف درهم في السنة، وأجرى على عبد الله مائة درهم في الشهر وربع شاة في اليوم، وأجرى على شريح مائة درهم وعشرة أجربة في الشهر، فترى مما تقدم أنه فضل عمار بن ياسر عليهم أجمعين، لأنه كان على الصلاة والجند وهي الإمارة يومئذ، ولما ولى عمر معاوية بن أبي سفيان على الشام، جعل له ألف درهم كل سنة، وكان عمر يشدد في محاسبة العمال، فإذا رآهم ربحوا مالا من شيء قاسمهم وأخذ النصف لبيت المال.
وأما بنو أمية فقد نال عمال الأقاليم في أيامهم امتيازات كثيرة، منحهم إياها معاوية، ترغيبا لهم في البقاء على ولائه، فولى زياد بن أبيه البصرة وخراسان وسجستان ووسع له بما يريد، وفعل نحو ذلك مع عمرو بن العاص بمصر.
وجرى العباسيون على نحو ذلك، فلما ولى المأمون الفضل بن سهل على الشرق جعل له 3000000 درهم في السنة، وكانت رواتب العمال تختلف باختلاف نوع العمل وسعته وأهميته.
الوزارة وما يتبعها
(1) الوزارة
الوزارة أسمى الرتب السلطانية، وليست من محدثات الإسلام بل هي فارسية الأصل اتخذها المسلمون في عهد الدولة العباسية، أما إذا أريد بالوزارة استعانة الخليفة بمن يشد أزره أو يعاونه في الحكم، فهي تتصل بصدر الإسلام، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويختص أبا بكر بخصوصيات أخرى، حتى إن العرب الذين خالطوا الروم والفرس قبل الإسلام كانوا يسمون أبا بكر وزيره، وكذلك كان شأن عمر مع أبي بكر، وشأن علي وعثمان مع عمر، ولكن لفظ الوزير لم يكن يعرف بين المسلمين في سذاجة الدولة.
على أن بني أمية لما جعلوا الخلافة ملكا، وأصبح معولهم في استبقاء ملكهم على السياسة والدهاء، احتاجوا إلى من يستشيرونهم ويستعينون بهم في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم واصطناع الأحزاب منهم، فاستخدموا أناسا لنحو ذلك الغرض وهي الوزارة بمعناها ولكن يظهر أنهم لم يكونوا يسمون صاحب هذه الرتبة الوزير، فانقضت دولة بني أمية دون أن يتخذ الخلفاء وزراء، ودون أن تظهر الوزارة في نظم الإسلام.
ولكن دولة بني أمية عرفت نظام الكتاب أو كتاب الخلفاء، ووظيفة الكاتب هي الأصل الذي تطور فيما بعد إلى وظيفة الوزير، وقد عرف الإسلام الكتاب من أول أمره، وكتب لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
نفر من الصحابة وكان لكل واحد من الخلفاء الراشدين كاتب أو أكثر يكتب عنه، وعلى هذا النظام مضى بنو أمية.
ولم يكن الكاتب أول الأمر كاتب الدولة بل كاتب الخليفة، أي أمين سره وصاحب ديوانه وسجلاته، ثم صار مع الزمن كاتبا للدولة أي أمينا عاما لها، وقد حدث هذا التطور على أيام عبد الملك بن مروان.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، واستفحل الملك وعظمت مراتبه، عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد، وأضيف إلى الوزارة النظر في ديوان الحساب، ثم النظر في المكاتبات، لصون أسرار الخليفة، فأصبحت الوزارة شاملة لخطتي السيف والقلم.
وأول وزراء بني العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال وزير أبي العباس السفاح وهو أول من سمي وزيرا في الإسلام، قال ابن خلكان: «ولم يكن قبله من يعرف بهذا النعت لا في دولة بني أمية ولا في غيرها»، وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، كما يسمى أبو مسلم الخراساني أمير آل محمد، وكلاهما فارسيان، والعباسيون أول من عول على الوزراء، فسلموا إليهم أمور الدولة، وأكثرهم من الفرس، وأشهر وزرائهم البرامكة، وقد استفحل أمرهم في الدولة حتى اضطر الرشيد إلى الفتك بهم في نكبتهم المشهورة.
وتقلبت على الوزارة أحوال شتى في أيام بني العباس، ففي القرن الرابع للهجرة أضيف إلى اسم الوزير لقب «صاحب»، وأول من لقب به منهم أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس، وكان أولا وزير مؤيد الدولة بن بويه وعرف بالصاحب، وصار كل من تولى الوزارة بعده يسمى الصاحب ...
وأخذ نفوذ الوزارة في بني العباس يتقلص بتقلص نفوذ الخلفاء، حتى استبد العمال في الأعمال، وتفرعت المملكة العباسية، فأصبحت الوزارة كالخلافة اسما بلا مسمى، فأسقطوها وأبدلوها بإمرة الأمراء. (2) أمير الأمراء
عندما عجز خلفاء بني العباس عن ضبط الأمور، بسبب استبداد أمراء النواحي بما تحت أيديهم وضعف الخلفاء عن السيطرة على جندهم، بسبب قلة الجباية والتوقف عن دفع الأعطيات، أخذوا يستبدلون الوزراء واحدا بواحد، باحثين عن شخصيات تستطيع القيام بشئون الدولة ومواجهة المشاكل العسيرة التي واجهتها، وقد عين الخليفة الراضي سنة (322 / 934-329 / 940) خمسة وزراء واحدا بعد الآخر، وكان آخرهم سليمان بن الحسن بن مخلد، وعندما ضاقت به الحيل اتجه ببصره إلى أكبر القواد العسكريين في أيامه، وهو ابن رائق، وكان واليا على واسط والبصرة، فاستدعاه وسلم إليه مقاليد الأمور ولقبه أمير الأمراء.
فاستحدث بذلك وظيفة كبرى كانت قاضية على الوزارة، وكان لها أثر بعيد في الهبوط بمستوى الخلافة، وفي ذلك يقول ابن طباطبا: «واستبد ابن رائق أمير الأمراء بالأمور، ورد الحكم في جميع الأمور إلى نظره، ولم يبق للوزير سوى الاسم» - (الفخري، ص253).
ويقول مسكويه إن الراضي «عرفه أنه قلده الإمارة ورياسة الجيش، وجعله أمير الأمراء، ورد إليه تدبير أعمال الخراج، والضياع وأعمال المعادن في جميع النواحي، وفوض إليه تدبير المملكة، وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر في الممالك ...» - (تجارب الأمم، ج1 ص356).
ويبدو أن ابن رائق لم يكن أول من تلقب بأمير الأمراء، فقد ذكر مسكويه أن الخليفة المقتدر منح هذا اللقب لمولاه مؤنس الخادم، ولقبه بمؤنس المظفر، ولكن هذه الوظيفة لم تأخذ مظهرها الحقيقي إلا في أيام ابن رائق، وعندما استبد بنو بويه بأمور الخلافة على يد معز الدولة بن بويه ابتداء من سنة 320 / 932 انتقل إليهم هذا اللقب.
وما زال هذا اللقب في بني بويه إلى سنة 449ه، فانتقل إلى السلاجقة الأتراك وأولهم طغرل بك، ثم صار خلفه ألب أرسلان من أعظم ملوك زمانه، وظل هذا اللقب في السلاجقة إلى سنة 547ه وسقط بسقوط دولتهم في بغداد.
وكان بنو بويه لما استفحل أمرهم يولون أمير الأمراء من عند أنفسهم، ولم يتركوا للخلفاء إلا نائبا يسمى «رئيس الرؤساء»، ثم عاد الخلفاء في أيام السلاجقة إلى تولية أمير الأمراء.
ومن يتدبر تاريخ منصب الوزارة في الدولة العباسية، يتبين له أنها كانت من جملة أسباب انحلال هذه الدولة، لأن الخلفاء سلموا مقاليد الحكومة إلى وزرائها وتقاعدوا عن أمور السياسة، فأصبحوا بتوالي الأجيال عاجزين عنها.
وأما الدول الأخرى، فالدولة الفاطمية بمصر أول وزرائها يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله سنة 363ه، والدولة الأموية في الأندلس كانت الوزارة فيها كما كانت في أيام أمويي الشام: كانت مشتركة في جماعة يعينهم الخليفة للإعانة والمشاورة، ويخصهم بالمجالسة ويختار منهم شخصا لمكان النائب المعروف بالوزير في دولة بني العباس، فيسميه الحاجب ثم سمي الوزير، وكانت هذه الرتبة عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة، كما كان شأن البرامكة في بغداد. (3) وزارة التفويض
كانت الوزارة وزارتين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ مثل إمارة الأعمال، فوزارة التفويض أن يستوزر الخليفة رجلا يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، فيتولى الوزير كل شيء يمضيه عن الخليفة إلا ثلاثة أشياء: (1)
ولاية العهد فإن للخليفة أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير. (2)
للخليفة أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الخليفة. (3)
للخليفة أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير.
ومن وزراء التفويض آل برمك، ويحيى بن أكثم، وابن الفرات وغيرهم في الدولة العباسية، وأمير الجيوش في الدولة الفاطمية، وقد بلغ من تفويض بني العباس لوزرائهم أنهم كثيرا ما كانوا يسلمون إليهم خاتم الخلافة يختمون به الكتب دونهم، وفي حكاية الرشيد مع جعفر والفضل يوم أخذ الخاتم من جعفر وسلمه إلى الفضل دليل على مقدار نفوذهم.
وناهيك بحكاية جعفر بن يحيى البرمكي مع عبد الملك بن صالح دليلا على ذلك كان جعفر في مجلس فدخل عبد الملك بن صالح (ابن عم الرشيد) عليه وهم في الطرب، فقال له جعفر «هل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة على ما صنعت؟»، قال «بلى، إن في قلب أمير المؤمنين تغيرا علي فتسأله الرضا عني»، فقال جعفر «قد رضي عنك أمير المؤمنين»، قال «وعلى عشرة آلاف دينار» فقال جعفر «هي حاضرة لك من مالي، ولك من مال أمير المؤمنين مثلها»، قال «وأريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة أمير المؤمنين»، قال «قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية»، قال «وأحب أن تخفق الولاية على رأسه»، قال «قد ولاه أمير المؤمنين مصر»، ثم انصرف عبد الملك، وقد أقدم جعفر على ذلك كله من غير استئذان!
وفي الغد دخل جعفر على الرشيد فقال له الرشيد «كيف يومك يا جعفر بالأمس؟»، قال جعفر «فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح، وكان الرشيد متكئا فاستوى جالسا وقال «لله أبوك! ما سألك؟»، قلت «سألني رضاك عنه يا أمير المؤمنين»، قال «قد رضيت عنه، ثم ماذا؟»، قلت «وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار فأجبته قد قضاها عنك أمير المؤمنين»، قال «قد قضيتها عنه، ثم ماذا؟»، قلت ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه، فقلت له قد زوجه أمير المؤمنين ابنته الغالية»، قال «قد أجبته إلى ذلك، ثم ماذا؟»، قلت «قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه، فقلت قد ولاه أمير المؤمنين مصر»، قال «لقد وليته إياها»، ثم أنجز له جميع ذلك من ساعته.
وكثيرا ما كان الخلفاء يقلدون وزراءهم مع الوزارة منصبا آخر مهما، كما تقلد الفضل بن سهل رئاسة السيف مع الوزارة، فسموه ذا الرئاستين. (4) وزارة التنفيذ
أما وزارة التنفيذ فالنظر فيها مقصود على تنفيذ ما يراه الخليفة، فيكون الوزير واسطة بين الخليفة وبين الرعية، فيمضي ما يأمره الخليفة به من تقليد الولاة، وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم، خلافا لوزير التفويض، فإنه يولي ويعزل كما يشاء، يقضي ويمضي بلا حد ولا قياس، ويجوز للخليفة أن يستوزر وزيري تنفيذ: أحدهما للحرب مثلا والآخر للخراج، ولكنه لا يستوزر إلا وزيرا واحدا تفويضيا. (4-1) راتب الوزير
أما راتب الوزير فقد كان يختلف باختلاف العصور واختلاف الأشخاص، ولكن الوزراء لم تكن نفقاتهم تقتصر على رواتبهم، لأن الخلفاء كانوا يفرضون الرواتب لإخوتهم وأولادهم وحواشيهم، وقد فرض المقتدر بالله العباسي لوزيره علي بن عيسى خمسة آلاف دينار في الشهر، وإليك راتب الوزير في الدولة الفاطمية وما يلحقه من رواتب أهله وأتباعه:
الوزير راتبه في الشهر 5000 دينار.
لكل واحد من أولاده وإخوته راتبه في الشهر من 200-300 دينار.
لكل واحد من حواشيهم راتبه في الشهر من 300-500 دينار.
ما عدا الإقطاعات وما كان يدفع إليهم في المواسم من الهدايا وما يخلع عليهم من الخلع في الأعياد ونحوها فربما بلغ راتب الوزير وتوابعه بما يلحقهم من الإقطاع نحو 100000 دينار في السنة، وسنعود إلى الرواتب في الجزء الثاني من هذا الكتاب في الكلام عن مالية الدولة. (4-2) السلطان
كان هذا المنصب في أوائل أمره لقبا لوزراء الدولة العباسية، يلقبون به على سبيل التفخيم بأمر الخلفاء كما تقدم، وذكر ابن خلدون أن جعفر بن يحيى دعي سلطانا، ويظهر من مجمل ما نقرأه من كتبهم أنهم يطلقون لفظ السلطان على والي بغداد أو والي الشام، ولعله رئيس الشرطة أو ما يشبه المحافظ اليوم، وقد يريدون بالسلطان الخليفة نفسه، وكل ذلك على سبيل المجاز، ولم تصر السلطنة رتبة رسمية إلا في أيام محمود الغزنوي ابن سبكتكين، وهو أول سلطان في الإسلام، سمي به في أواخر القرن الرابع للهجرة بدلا من لقب أمير الأمراء الذي ذكرناه، وكأنه ابتذل كما ابتذل اسم الوزير قبله، فأبدلوه بلقب سلطان، وصار بعد ذلك لقبا لملوك الأتراك والأكراد والجراكسة، وغيرهم من السلاجقة والأيوبية والمماليك والعثمانيين، والوزارة لم يكن الإرث شرطا فيها، فلما صارت إلى السلطنة صار الإرث شرطا فيها، والسلطان يعهد إلى ولي عهده قبل موته.
وذكر ابن خلكان في ترجمة الرازي الطبيب أن الملوك السامانية كانوا يسمون ملكهم «سلطان السلاطين»
1 - والملوك السامانية قبل الغزنوي - فالظاهر أن هذا اللقب كان معروفا من قبل، فإذا صح ذلك كان لقب الغزنوي موروثا عنهم، ولكننا رأينا لبعض الباحثين كلاما في شأن هذا اللقب يرجح قولنا الأول، وإلا فربما كان ذلك اللقب عند السامانية قبل اعتناقهم الإسلام، فيكون محمود أول سلطان في الإسلام، والله أعلم.
وكان الخلفاء هم الذين يولون السلاطين، وإن كانت القوة في أيدي هؤلاء، ولكنهم كانوا يعتبرون ذلك من وجهه الديني، وكانوا يحتفلون بتولية السلطان احتفالا شائقا، فيخلع عليه الخليفة سبع خلع، ويلبسه طوقا وتاجا وسوارين، ويعقد له اللواء، ويقلده السيف، ويخطب له.
ومن أمثلة ذلك احتفال الخليفة المستظهر بالله بتولية محمد بن ملكشاه في بغداد بحضور أخيه سنجر،
2
فإن الخليفة جلس لهما في قبة التاج على سدته، وعلى كتفه بردة النبي، وعلى رأسه العمامة، وبين يديه القضيب، وأفاض على محمد بالخلع وألبسه الطوق والتاج والسوارين، وعقد له اللواء بيده وقلده سيفين وأعطاه خمسة أفراس بمراكبها، وخطبوا له بالسلطنة في جامع بغداد.
وكانوا يلقبون السلاطين يوم الاحتفال بتوليتهم ألقابا تشير إلى تأييد الخلافة بهم، مثل ناصر الدولة وسيف الدولة وعضد الدولة ونحو ذلك.
الجند وتوابعه
تاريخ الجند (1) أصل الجند ونظامه
كان الناس في أوائل أدوار تمدنهم قبائل جندها رجالها، إذا احتاجت إلى قتال اجتمع الرجال من كل قبيلة بلا نظام ولا ترتيب، وينال كل واحد من الغنيمة ما يستطيع الحصول عليه بنسبة شجاعته وقوة بطشه، فلما تحضر الناس وتقاسموا الأعمال ونشأت الدول كان من أقدم المهن عندهم الكهانة والجندية.
وأول دولة نظمت الجند الدولة المصرية الفرعونية، فقد جندت جيشا من الزنوج والأحباش حوالي القرن العشرين قبل الميلاد، أخضعت بهم سكان سواحل البحر الأحمر، ثم انتشر أمر التجنيد في الدول القديمة في آشور وبابل وفينيقية واليونان والرومان والإسلام.
فالفراعنة أسبق الأمم إلى تنظيم الجند، وكان نظامه عندهم الصفوف المتعاقبة المتراصة، وعلى آثارهم كثير من صور هذه الصفوف، والمشهور أن رمسيس الثاني هو منظم الجند المصري على النظام المعروف، لأنه كان يحب الحرب، وبلغ عدد جنده إلى 600000 راجل و24000 فارس و27000 مركبة وعمارة بحرية، واقتبس البابليون والفرس هذا النظام مع بعض التعديل على مقتضيات الأحوال، وبه تغلب قورش وقمبيز في حروبهما مع اليونان وغيرهم. (2) جند الروم
وأما اليونان فإنهم اقتبسوا نظام الجند المصري ونوعوه، فأنشأوا الكتائب ويعبر عنها في لسانهم بلفظ
وهو أن تتراص الجنو صفوفا متعاقبة، وكانت الكتيبة تتألف من 4000 رجل، يصطف رجالها الواحد بجانب الآخر على بضعة أقدام في صفوف متعاقبة، الواحد وراء الآخر ... فجعلها فيليب المقدوني ضعفي ذلك، ثم جعلها ابنه الإسكندر أربعة أضعافه، وقارب ما بين الرجال حتى كادت تتماس أكتافهم وتترابط تروسهم، واصطنع لهم رماحا طول بعضها 23 قدما، وتكون رماح الصف الأمامي قصيرة، ورماح ما وراءه أطول فأطول، حتى تبرز رماح الصف الخامس ثلاثة أقدام نحو الأمام، وكان فيليب قد نظم فرقة من الفرسان، فأضاف ابنه إليها آلات الحرب وفي جملتها المنجنيق، وبهذا النظام تغلب الإسكندر على العالم في القرن الرابع قبل الميلاد.
كتيبة الإسكندر في أثناء المعركة وقد فتكت رماحها بالأعداء. (3) جند الرومان
فلما نشأت دولة الرومان اقتبست نظام الكتائب عن اليونان وأدخلته في جندها، وكان الجيش الروماني في إبان الدولة مؤلفا من فرق عدد رجال كل منها 6000 تتألف من ثلاث طبقات من الرجال: (1)
الشبان ومنهم يتألف الصف الأول من الكتيبة في الحرب. (2)
الكهول في الصف الثاني. (3)
أهل الدربة والحنكة ويتألف منهم الصف الثالث.
وكان يلحق كل فرقة عندهم كوكبة من الفرسان تتقلد السهام والمقاليع والمزاريق لمشاغلة الأعداء عن حرب المشاة.
قواد الروم وأجنادهم وآلاتهم وأسلحتهم.
ثم قسم الرومان الفرق إلى كراديس بلا تقييد بالصف، فجعلوا الفرقة عشرة كراديس، والكردوس ثلاثة أقسام ، وكل قسم فصيلتين عدد رجال كل منهما مائة رجل، وهذا النظام يخالف نظام الكتائب المتقدم ذكره بأن لا يتقيد الجند بصف واحد أو كتيبة واحدة، بل يكون عدة كتائب كل كتيبة منها كردوس، وظل نظام الجند الروماني في حروبه على هذه الصورة إلى الفتح الإسلامي.
ولما ظهر الإسلام كانت جنود الروم 120000 يقود كل عشرة آلاف منها قائد يغلب أن يكون بطريقا، وتحت البطريق ضابطان يسمى كل منهما طومرخان يتولى قيادة 5000، وتحت الطومرخان خمسة طرنجارية
Drungari
كل واحد يقود ألف رجل، وتحته خمسة قوامس واحدهم قومس
Comes
يتولى قيادة 200 جندي، وتحت القومس قمطرخ
Centuriones ، وتحته الدمرداخ، وهذا تحته عشرة رجال، وترى في هذا النظام مشابهة كلية بنظام جند هذه الأيام.
وأما الفرس فقد كان جندهم أربع طبقات: الأولى طبقة القواد العظام ويسمى واحدهم ميرميران، تحته أربعة قواد يسمى كل منهم أصفهبذ، وتحت كل أصفهبذ أربعة مرازبة، وتحت كل مرزبان أربعة سالارية، وتحت كل سالار عشرة أساورة (وهم الفرسان المفردة) وخمسة من الرجال المشاة ويسمونهم البيادة. (4) جند العرب
أما العرب قبل الإسلام فقد كانوا أهل بداوة لا نظام للجند عندهم، وإنما كانوا قبائل إذا أرادت إحداها حربا جردت رجالها، وفيهم الفرسان، والمشاة ومعهم الأسلحة المعروفة في الجاهلية، كالقوس والرمح والسيف ... إلا ما كان من نظام الجند في الدول العربية التي تمدنت قبل الإسلام، كالتبابعة ملوك حمير والمناذرة ملوك الحيرة، فقد ذكروا للمناذرة كتيبتين من الجند تسمى إحداهما الدوسر والأخرى الشهباء، وأما عرب الحجاز فقد كانوا قبل الإسلام على الفطرة البدوية كما قدمنا.
فلما ظهر الإسلام انفرد المسلمون عن سائر العرب، واتحدوا بجامعة الدين يدا واحدة في محاربة أعدائهم، فكانوا كلهم جندا كبيرهم وصغيرهم، وأول جنود المسلمين المهاجرون، فلما جاءوا المدينة اتحدوا بالأنصار وصاروا جميعا جندا واحدا قائدهم النبي بنفسه، ورابطتهم المعاهدة والمؤاخاة وعددهم يومئذ قليل جدا. (4-1) جند العرب في دولة الراشدين
ثم جعلوا يزدادون بالفتح والغزو في أيام النبي وأبي بكر، بمن انضم إليهم من قبائل العرب في الحجاز واليمن ونجد واليمامة كبارا وصغارا، تجمعهم جامعة الإسلام، حتى تكاثروا فتكاتفوا وحملوا على الشام والعراق ومصر، ففتحوا البلاد ومصروا الأمصار، وانقسموا إلى أجناد يقيم بعضها في مصر وبعضها في الشام وبعضها في العراق، في محطات خاصة بهم، وكان جند كل محطة ينقسم باعتبار القبائل والبطون، فكان جند البصرة مثلا خمسة أقسام تسمى الأخماس، يقيم في كل خمس منها قبيلة من قبائل المسلمين وهم: الأزد وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية «قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة » وكانوا يسمون أهل العالية والكوفة أهل المدينة، وكان على كل خمس أمير من أمراء تلك القبائل، وقس على ذلك سائر أجناد المسلمين في الكوفة والفسطاط مما مصره المسلمون، أو في غيرهما من مدن العراق والشام ومصر، فقد كان لهم في كل إقليم جند ينقسم على نحو هذه الكيفية.
كل ذلك والمسلمون كلهم جند محارب لا يعمل أحد منهم عملا، وقد نهاهم عمر بن الخطاب عن الزرع، كأنه رآهم بعد أن فتحت لهم الأمصار ورأوا خصب الأرض قد مالوا إلى الرخاء والتقاعد عن الحرب، فأمر مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدمون إلى الرعية أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائر فلا يزرعون، ولعله أراد بذلك أن لا يتوطنوا في بلد، إذ ربما مست الحاجة إلى تجنيدهم لنجدة إخوانهم في بلاد أخرى أو لحماية بعض الأمصار فلا يثقل عليهم ذلك. (4-2) تنظيم جند العرب في أيام بني أمية
أما تنظيم الجند فئة خاصة دون سائر فئات المسلمين، فقد بدأ في أيام عمر عند تدوين الدواوين كما سيأتي، وتم في أيام بني أمية، ويظهر أن التجنيد الإلزامي بدأ في أواسط هذه الدولة، وكان الناس من قبل يذهبون إلى الحرب جهادا في سبيل الله فيصيبون الغنائم والفيء، فلما قامت الفتنة بعد مقتل عثمان (سنة 35ه) اشتغلوا بالحرب فيما بينهم مدة، وكل طائفة تندفع إلى ذلك دفاعا عن رأيها واعتقادا بأنها تدرأ عن الحق، فلما أفضى الأمر إلى بني أمية، وصار المسلمون دولة واحدة، وضعفت قوة الأحزاب بتغلب العنصر الأموي، لم يعد الناس يرون ما يدفعهم إلى الحرب طوعا، فجعلوا يتقاعدون فاضطر الخلفاء إلى التجنيد بالإلزام.
ولعل أول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف على عهد عبد الملك بن مروان، وكانت الدولة الأموية قد بلغت ذروة مجدها، وكثر المسلمون ومالوا إلى العمل في الأرض وأطلق لهم السراح، وكانوا قد هموا بالتقاعد عن الحرب في أيام معاوية، فغلبهم بدهائه وعطائه، فلما تولى ابنه يزيد، ثم معاوية الثاني، ثم مروان بن الحكم - ولم يكن فيهم من يملك القلوب أو الأعناق - تجرأ الجند على التقاعد، فتولى عبد الملك الخلافة والجند على ما تقدم لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع صاحب شرطته فقال له «يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلا لو قلده أمير المؤمنين عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج بن يوسف» فأطاعه عبد الملك وقلد الحجاج أمر العسكر.
وكان الحجاج شديدا عاتيا، فلم يعد أحد يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف الحجاج عليهم يوما وقد رحل الناس وهم على طعام، فقال لهم «ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟» فقالوا له «انزل يا ابن اللخناء فكل معنا!» فقال «هيهات! ذهب ما هنالك!».
ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوقهم في العسكر وأمر بفساطيط روح نب زنباع فأحرقت بالنار، فدخل روح بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيا فقال له «ما لك؟» فقال «يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي»، قال «علي به»، فلما دخل عليه قال «ما حملك على ما فعلت؟»، قال «ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين»، قال «ومن فعله؟»، قال «أنت والله فعلته! إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين إلا أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين وللغلام غلامين ولا يكسرني فيما قدمني له» فأخلف الخليفة لروح بن زنباع ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف عن كفايته.
فيشبه أن يكون ذلك أول تاريخ التجنيد الإلزامي، ثم صار التجنيد سنة وأصبح الجند الإسلامي فئتين: المرتزقة والمتطوعة، وكلاهما عرب يرجعون في أنسابهم إما إلى قحطان وهم اليمنية، أو إلى عدنان وهم المضرية، وفيهم جماعة من الموالي أو العبيد. (5) جند الأعاجم في الإسلام (5-1) في الدولة العباسية
فلما تولى بنو العباس واحتاجوا إلى مؤازرة الأعاجم في تأييد سلطانهم، دخل في جند العرب جماعات منهم، وأول من دخل في الجند الإسلامي منهم آل خراسان، لأنهم هم الذين نصروا العباسيين في دعوتهم ، وسلموا إليهم أزمة الخلافة بقيادة أبي مسلم الخراساني، فكانت فرق الجند في أيام المنصور ثلاثا: اليمنية، والمضرية، والخراسانية، ثم أضيف إليها فرقة رابعة هي فرقة الحرس الخاص، اتخذها الخلفاء خوفا مما كانوا ينصبونه لهم من الحبائل أو يقيمونه عليهم من الثورات، ومن غريب هذه الأعمال أن الأمر الذي أراد الخلفاء أن يحفظوا سلطانهم به كان علة خروج ذلك السلطان من أيديهم ...
ولما أفضت الخلافة إلى المعتصم بالله (سنة 218ه) كانت العناصر الأجنبية قد تمكنت من الدولة، وزاد الخلفاء خوفا على أنفسهم، فخاف المعتصم من جنده على نفسه، فاصطنع قوما من الحوف بمصر (الشرقية والدقهلية) استخدمهم في حاشيته، وسماهم المغاربة - لأن مصر غربي بغداد - ولعل فيهم بعض أهل المغرب، وجمع خلقا من أشروسنة وسمرقند وفرغانة ابتاعهم من أسواق بغداد تدريجا وجند منهم جندا سماه جند الفراغنة ثم سموا الأتراك، وقد كانوا أشد خطرا على الدولة العباسية من سائر فرق الجند، وآل الأمر بهم إلى الاستبداد بأهل الدولة، واحتقار الجند العربي الأصلي وإساءة سائر أهل بغداد، حتى إنهم كثيرا ما كانوا يركبون الدواب في شوارع بغداد ويركضونها، فيصدمون الرجل والمرأة والصبي، فتأذى الناس وشكوا أمرهم إلى المعتصم، فلم ير سبيلا إلى تلافي ذلك إلا بإخراج جنده من بغداد، فبنى لهم سامراء (سنة 221) وأقام معهم فيها.
وكانت خلافة المعتصم بدء نفور العرب من خلفائهم وشكواهم منهم، وكانوا يعبرون بالجند يومئذ عن الأتراك وغيرهم من الأعاجم، «وبالحربية» عن جند العرب وكلهم مشاة، ثم المتطوعة وهم الذين يقدمون على الحرب من تلقاء أنفسهم، ويغلب أن يكون المتطوعة في الحروب خارج حدود المملكة الإسلامية، وكان من فرق الجند عند الخلفاء النشابون الذين يرمون النشاب، والنفاطون الذين يرمون النفط لإحراق حصون الأعداء، والمنجنيقيون رماة المنجنيق وهم مثل مدفعية هذه الأيام، والعيارون وهم رماة الحجارة من المخالي، وكان للجند أطباء وصيادلة يرافقونهم في الحرب والسلم، كما تفعل الدول المتمدنة اليوم.
جند من المسلمين بأعلامهم وأبواقهم في القرن الثامن للهجرة نقلا عن مخطوط قديم.
ثم نشأت فرق أخرى من جند الأتراك وجعلوا يتنازعون النفوذ في الدولة، وكان في جملة تلك الفرق فرقة الشاكرية ... ظهرت في أيام المهتدي واستفحل أمرها في أيام المستعين بالله، ونشأ في أثناء ذلك ضرب من الحرس الخاص في قصور الخلفاء يسمونهم الغلمان الحجرية، وكان في دولة الفواطم بمصر فرقة منهم، وتحول قسم كبير من جند المشاة العرب إلى فرقة عرفت بالرجال المصافية، ثم تشكلت فرقة عرفت بالفرقة الساجية، نسبة إلى ابن الساج أحد عمال المقتدر بالله، وهناك فرق أخرى من الأتراك وغيرهم تقرأ أسماءهم عرضا في تاريخ الدولة العباسية كالبلالية والسعدية وغيرهما، وكانت كل فرقة تستعمل نفوذها في الدولة على ما يبلغ إليه جهدها، وكثيرا ما كانت تقوم الفتن فيما بينها أو بينها وبين حرس الخلفاء، حتى آل الأمر إلى خروج الأحكام من العرب على الإجمال، ونسي أمر قريش والعرب - كما سيأتي - وصارت الأحكام إلى الأتراك ونحوهم، فنشأت منهم الدولة المشهورة، وتقلبت نظم الجند بعد قيام دول الأتراك الكبرى على أحوال شتى، نذكر منها نظامهم في زمن السلاطين المماليك بمصر ثم العثمانيين. (5-2) جند السلاطين المماليك بمصر
كان جند المماليك أخلاطا من الأتراك والجركس والروم والأكراد، وأكثرهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات أعلاها الأمراء ومن يليهم إلى الجندي البسيط، وأما الأمراء فهم كالضباط في هذه الأيام، ومنهم من له إمرة مائة فارس أو أكثر إلى ألف فارس، وهؤلاء من الأمراء يسمون أكابر النواب، وتحتهم أمراء الطبلخانات ولكل منهم إمرة أربعين فارسا إلى السبعين، ولا تكون الطبلخانة لأقل من 40 فارسا، يليهم أمراء العشرات من عشرة إلى أربعين، ثم جند الحلقة وهؤلاء لكل أربعين منهم مقدم ليس له حكم عليهم إلا إذا خرج العسكر، وكانت قيادتهم إليه وكانت رواتبهم تعطى بالإقطاع كما سيجيء.
خوذة أحد السلاطين المماليك بمصر.
وكان لهم في الجند مناصب تتفاوت رفعة ونفوذا، أهمها أمير السلاح وصاحبها يتولى حمل السلاح للسلطان، والدوادار لتبليغ الرسائل عن السلطان وهو من أمراء المئين، والحاجب يقف بين الأمراء والأجناد، وأمير جاندار كالمتسلم للباب ومن أراد السلطان قتله كان على يده ، والأستاذ دار يتولى أمر بيوت السلطان ونفقاتها، ونقيب الجيش لإحضار من يطلب السلطان إحضارهم، والوالي وهو صاحب الشرطة،
1
وقد تولدت هذه المناصب في دولة المماليك بالتدريج حسب الأحوال، ومن أكثر السلاطين عملا في ذلك السلطان ركن الدين بيبرس البندقداري، فإنه من كبار المؤسسين لهذه الدولة.
ولهم في تدريب ذلك الجند طرق خاصة بهم، يبدأون به منذ دخول المملوك في ملك السلطان: إذا قدم تاجر عرض مملوكا على السلطان يشتريه ويجعله في طبقته، ويسلمه إلى الطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن، وكانت كل طائفة لها فقيه يأتيها كل يوم، ويأخذ في تعليمها القرآن ومعرفة الخط، والتمرن بآداب الشريعة الإسلامية وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الشائع إذ ذاك أن لا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك علمه الفقيه شيئا من الفقه وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذ في تعليمه فنون الحرب من رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كل طائفة معلم حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم، فينقل عند ذلك إلى الخدمة وينتقل في أطوارها رتبة بعد رتبة، إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتد ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح ومرن على ركوب الخيل.
ولما فتح السلطان سليم مصر سنة 923 ضعف أمر المماليك، لكنهم ما زالوا محافظين على جنديتهم يتوارثون تقاليدها أجيالا، حتى تولى محمد علي ففتك بالمماليك في قلعة القاهرة سنة 1811 وأباح قتلهم حيثما وجدوا، فلم ينج من أمرائهم إلا مملوك اسمه أمين بك وثب بجواده من أمام باب القلعة في أثناء المذبحة فقتل جواده ونجا هو، وانقرض المماليك وجندهم من ذلك الحين،
2
وكان جند محمد علي من الألبانيين، ثم اتخذ الجند النظامي من المصريين. (5-3) الجند العثماني الإنكشارية
وللجند العثماني تاريخ طويل ، يبدأ منذ تأسيس الدولة العثمانية، وقد بني على نظام جند السلاجقة، ثم نشأ جند الإنكشارية المشهور، أنشأه قره خليل أحد كبار رجال الدولة العثمانية في زمن السلطان أورخان، وقد نظر في تنظيمه إلى خلوه من عصبية تبعثه على التمرد
3
وكان العثمانيون يومئذ يفتحون البلاد وأكثر أهلها مسيحيون، فيدخل في حوزتهم جماعة من غلمان النصارى الذين قتل آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم ولا مرجع لآمالهم، فارتأى أن يربى أولئك الغلمان تربية إسلامية، ويدربهم على الفنون الحربية، ويجعلهم جندا دائما لا يخشى منه التمرد، لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة، ولا عملا غير الجندية، ولا دينا غير الإسلام، فجندهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية، ليدعو لهم، فدعا لهم وسماهم «يكى جرى» أي الجند الجديد.
ولم يكن قره خليل هذا أول من جند غلمان النصارى، كما يظن أكثر مؤرخي الأتراك، فإن الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر فعل ذلك قبل تأسيس الدولة العثمانية، وهو متوجه إلى دمشق سنة 565ه لملاقاة عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، فنزل بلدا اسمه قارا بين دمشق وحمص، فأمر بنهب أهلها النصارى وقتل كبارهم، لأنهم كانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم سرا للصليبيين، وأخذ صبيانهم مماليك رباهم بين الأتراك في الديار المصرية، فنشأوا على الإسلام وتجندوا في الجيش التركي.
على أن قرة خليل جعل شروطا للإنكشارية لم يسبق لها مثيل، فقسمهم إلى وجاقات، واحدها وجاق، والوجاق يقسم إلى أورط، إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به، ولبعضها أسماء خاصة، ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب العصور من 100 إلى 500، ويختلف عدد الأورط في الوجاق، وعدد الوجاقات بمقتضى ذلك، وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «آغا»، تحته سكبان باشي، تحته غيره فغيره، على هذه الصورة:
الآغا:
قائد الوجاق، يقابل اللواء في هذه الأيام.
سكبان باشي:
ينوب عن الآغا في الآستانة، ويقابل القائمقام اليوم.
قول كخيا أو كخيا بك:
نائب الآغا أو السكبان باشي.
سمسونجي باشي:
قائد أورطة رقم 71.
زغرجي باشي:
قائدالأورطة رقم 64.
محضر أغا:
ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
خصكي:
ينوب عن الأغا في القيادة على الحدود.
باشجاويش:
قائد الأورطة الخامسة.
كخيايري:
ينوب عن الوجاق لدى الأغا.
الأفندي:
الكاتب.
ولكل أورطة ضباط يقتسمون قيادتها وإدارة شئونها على هذه الصورة: (1)
الجوربجي:
رئيس الأورطة، يشبه الكولونيل. (2)
أوده باشي:
نائب الجوربجي في المناورات العسكرية وغيرها. (3)
وكيل الخرج:
يولى أمر الطعام والشراب. (4)
بيرقدار:
يتولى الإعلام والبيارق. (5)
باش اسكي:
يتولى قيادات القراقولات. (6)
اشجي:
الطاهي.
قوانين الإنكشارية
قد رأيت أن جند الإنكشارية تشكل في زمن السلطان أورخان، لكن الفضل الأكبر في تنظيمه وترتيبه للسلطان مراد الأول (تولى سنة 761ه) وهذه خلاصة قوانينهم: (1)
الطاعة المطلقة لقوادهم وضباطهم أو من ينوب عنهم. (2)
الاتحاد بين سائر الفرق كأنها فرقة واحدة وتكون مساكنها متقاربة. (3)
التجافي عن كل ما لا يليق بالجندي الباسل من الإسراف أو الانغماس، ويكون معولهم على البساطة في كل شيء. (4)
الإخلاص في الانتماء إلى الحاج بكطاش من حيث الطريقة، مع القيام بفروض الإسلام. (5)
لا يقبل في سلك الإنكشارية إلا الذين يشبون من غلمان الأسرى على التربية الخاصة بين الغلمان الأعاجم.
إبراهيم بن محمد علي في ثوبه العسكري عند أول تشكيل الجند النظامي. (6)
أن الحكم عليهم بالإعدام ينفذ بشكل خاص. (7)
يكون الترقي في المراتب على حسب الأقدمية. (8)
لا يجوز أن يوبخ الإنكشارية ولا يعاقبهم غير ضباطهم. (9)
إذا عجز أحدهم عن العمل يحال على المعاش. (10)
لا يجوز لهم إرسال لحاهم. (11)
لا يجوز لهم أن يتزوجوا. (12)
لا يجوز لهم الابتعاد عن ثكناتهم. (13)
لا يجوز لهم أن يتعاطوا عملا غير الجندية. (14)
يقضون أوقاتهم في الرياضة البدنية والتمرين بالحركات العسكرية.
فإذا تدبر هذه القوانين، هان عليك تصور الأعمال العظيمة التي أتاها هذا الجند في مصلحة الدولة العثمانية من الفتوح العظام، وقد يتبادر إلى الذهن، لأول وهلة، ترفع الناس عن الانتظام في هذا الجند، لأنه مجموع لقطاء لا يعرف لأحد منهم أب ولا أم، لكنك تفهم من البند الخامس من قوانينهم أنهم كانوا يحظرون على غير اللقيط أو المملوك الانتظام في جندهم، وكان السلاطين يتوخون تعظيم هذا الأمر في عيونهم.
وما زال جند الإنكشارية معول الدولة العثمانية في حروبها، حتى صار عقبة في سبيل أعمالها لتمكنه من النفوذ، وقاسى السلاطين منه عذابا شديدا، إلى أن فتك به السلطان محمود الثاني في أوائل القرن الماضي، وتم تشكيل الجند النظامي.
ديوان الجند
تأسس ديوان الجند في المدينة، أسسه عمر بن الخطاب ودون فيه أسماء الرجال وفرض أعطياتهم، ولم يكن هذا الديوان يومئذ يعرف بديوان الجند، لكنه كان يسمى «الديوان» فقط، وكان يشمل أسماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ومن تابعهم، ومقدار أعطياتهم تبعا للنسب النبوي والسابقة في الإسلام، وكان لكل مسلم راتب يتناوله لنفسه، ورواتب لأهله وأولاده، فكأنه ديوان المسلمين، باعتبار أن المسلمين كانوا كلهم جندا في ذلك الحين، وظل العطاء باعتبار النسب والسابقة، حتى انقرض أهل السوابق، وصار الجند فئة من المسلمين قائمة بنفسها، فترتب الجند باعتبار الشجاعة والبلاء في الحرب.
وكان عندهم لاختيار الجند من بين الناس شروط، منها أن من أراد الانتظام في الجندية يقدم طلبا إلى صاحب ديوان الجند، وهو ينظر في أهليته لها، ولا يكون أهلا لذلك إلا إذا كان حرا، بالغا، مسلما، سليما، مقداما، فإذا استوفى هذه الشروط قبل، ودون اسمه في دفاتر الجيش، مع نسبه وقده ولونه وملامحه وسائر ما يتميز به على غيره، لئلا تتفق الأسماء. (1) طبقات الجنود
أما ترتيب الجنود في الديوان، فظلوا يراعون فيه ما وضعه عمر من السابقة والنسب، فيترتب الجند أولا باعتبار القبائل والأجناس، حتى تتميز كل قبيلة من غيرها، وكل جنس من غيره، فلا يخلو الجند من أن يكونوا عربا أو عجما، فإن كانوا عربا تترتب قبائلهم على حسب القربى من النبي، فيبدأ بالترتيب بأصل النسب النبوي، ثم بما يتفرع عنه، فالعرب مثلا عدنان وقحطان، فيقدمون عدنان على قحطان، لأن النبوة فيهم، وعدنان يجمع ربيعة ومضر، فتقدم مضر على ربيعة، لأن النبوة فيهم، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فتقدم قريش، لأن النبوة فيهم، وقريش تجمع بني هاشم وبني أمية وغيرهم، فيقدم بنو هاشم لأن النبوة فيهم، فكان بنو هاشم قطب الترتيب ، ثم من يليهم من أقرب الأنساب كما تقدم، وإن كانوا عجما لا يجتمعون على نسب، فكانوا يجمعونهم على الجنس، كالترك والهند، أو على البلد كالخراسانيين والفراغنة والمغاربة، ثم إذا كان لهؤلاء الأعاجم سابقة، ترتبوا عليها في الديوان، وإلا فيترتبون بالقرب من ولي الأمر، فإن تساووا في ذلك، ترتبوا بالسبق إلى طاعته، وكان لديوان الجند فروع، بعضها للمراسلة وبعضها للعطاء وبعضها للنفقات، أو لغير ذلك مما يختلف باختلاف الأحوال والأزمان. (2) أعطيات الجند (2-1) في دولة الراشدين
ويراد بأعطيات الجند رواتبهم التي يستولون عليها في أوقات معينة من العام، وكانت تلك الأعطيات في أيام النبي غير محدودة، فتتبع ما يقع في أيديهم من الغنائم أو الفيء، فكان يفرد خمسه لله، ويتولى رسول الله إنفاقه في مصالح الجماعة الإسلامية حسبما يرى، ويفرق الأربعة الأخماس الباقية في الصحابة على السواء، بلا تمييز في السابقة أو النسب، وجرى على ذلك أبو بكر، فلما تولى عمر ووضع الديوان، ميز الناس في العطاء باعتبار النسب والسابقة، فرتبهم طبقات، وقد ميز راتب كل منهم باعتبار نسبه من النبي، أو سابقته في الإسلام، أو غير ذلك على ما تراه في هذه الجريدة، وهي عبارة عن رواتب الجند السنوية في صدر الإسلام:
درهم
لكل من المهاجرين والأنصار الذين شهدوا واقعة بدر الكبرى
5000
لكل من المهاجرين والأنصار الذين لم يشهدوا بدرا
4000
لكل من أزواج النبي
12000
العباس عم النبي
12000
الحسن والحسين
5000
عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن الخليفة
3000
كل من أبناء المهاجرين والأنصار
2000
كل واحد من أهل مكة
800
كل واحد من سائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم
300-500
لكل من نساء المهاجرين والأنصار
200-600
تلك هي أعطيات المسلمين، أو رواتب الجند - على عهد عمر - مع اختلاف طفيف ببعض الروايات،
1
فإذا اعتبرت مقادير هذه الرواتب وقابلتها برواتب هذه الأيام، رأيت الفرق عظيما، فإذا قدرنا الدرهم بأربعة قروش ونصف القرش - وهي قيمة على وجه التقريب - كان راتب أعظم رجال الإسلام لا يزيد على خمسة آلاف درهم، أي نحو مائتي جنيه في السنة، وإذا اعتبرنا المسلمين كلهم جندا ، كان المهاجرون والأنصار ضباط ذلك الجند ومنهم عمر نفسه، وأما الجنود فهم الذين عبرنا عنهم «بسائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم»، ورواتب هؤلاء أقل كثيرا من رواتب أولئك، فإنها تختلف من ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، باختلاف بعض الاعتبارات من حيث القبيلة وجهادها ومقدار فضلها في الإسلام، وبناء عليه تكون رواتب ضباط الجند الإسلامي - على عهد عمر - من أربعة آلاف إلى خمسة آلاف درهم في العام، ورواتب العساكر من ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، غير ما كان يدفع لنسائهم وأولادهم، وما فرض لهم من الحنطة، وهو جريبان لكل واحد في الشهر، والجريب 3600 ذراع مربع، ويراد به ما ينبت في تلك المساحة. وخلاصة ذلك أن رواتب صغار الجند في أوائل الإسلام كانت تزيد على رواتب أنفار جنود هذه الأيام، وبعكس ذلك رواتب ضباطهم. (2-2) أعطيات الجند في الدولة الأموية
وظلت أعطيات الجند على هذا القدر في أيام الراشدين، فلما طمع بنو أمية في الملك واحتاج معاوية إلى الاعتزاز بالعرب، كان في جملة ما استخدمه في سبيل اجتذابهم إلى جانبه المال، فزاد أعطيات الجند، وكان جنده ستين ألفا، ينفق عليهم ستين مليون درهم في العام، فيلحق كل رجل ألف درهم، وذلك أكثر من ضعفي ما فرضه عمر.
وكان في مقدمة القبائل التي أخذت بيده وحاربت عنه وأيدت دعوته قبائل اليمن، وهي إنما فعلت ذلك رغبة في العطاء، لأنه كان يحارب بهم عربا آخرين، فلم يكن الجهاد دافعهم إلى الانضمام إليه، فجعل معاوية اليمنية فرقة قائمة بنفسها وعدتهم ألفا فارس ، وفرض لهم عطاء مضاعفا، وجعلهم جندا مستقلا لا يختلطون بسواهم، وكان يستشير أمراءهم ويقربهم، فاستفحل أمر اليمنية حتى عرضوا بذكر فضلهم على دولة بني أمية، وأنهم لو شاءوا لأخرجوا المضرية من الشام (وفيهم بنو أمية) فندم معاوية على اختصاصهم بذلك الامتياز، وقرب منه القيسية وأعطاهم مثل عطائهم، وصار يغزو البحر باليمنية والبر بالقيسية، فشق ذلك على اليمنية، لأن القيسية من مضر، فعاتبوه فجمع بين القبيلتين وأغزاهم معا.
ولم يكن معاوية يعتمد على المال في استرضاء الجند فقط ، بل كان يستخدمه في اصطناع الأحزاب وتخفيف ويلات المتعصبين عليه، فكان كثيرا ما يأمر عماله بزيادة أعطيات أناس يعرض أنهم على غرض علي، وكان عماله لا ينفذون أوامره لقصور إدراكهم عن غرضه، ومن هذا القبيل أن أهل الكوفة كانوا من أشد الناس تعصبا لعلي، فأمر معاوية عامله عليها - النعمان بن بشير - أن يزيد في أعطيات أهلها عشرة دنانير، فأبى النعمان أن ينفذها لهم فلم ينفعه ذلك.
وظل هذا شأن العطاء أيام يزيد ومروان وعبد الملك، وكان عبد الملك يبالغ في الإنفاق، تأييدا لأحزابه في مقاومة دعاة الخلافة في أيامه، فإن الحجاج سير الجند إلى رتبيل بإذن عبد الملك، وكان عددهم أربعين ألفا أنفق عليهم مليوني درهم سوى أعطياتهم، فضلا عما أعطاه لكبارهم، ولما تولى الوليد بن يزيد زاد العطاء عشرة دراهم يوم خلافته، ولعله فعل ذلك إرضاء للجند، لما كان هو فيه من الاعوجاج والإسراف، وفي أواخر دولة بني أمية قلت الرواتب، حتى صارت في آخرها خمسمائة درهم. (2-3) أعطيات الجند في الدولة العباسية
فلما آلت الخلافة إلى بني العباس جعل السفاح رزق الجندي ثمانين درهما في الشهر (960 درهما في السنة) فكأنه أرجعه إلى ما كان عليه في أوائل بني أمية، وكان للفارس ضعفا هذا الراتب لينفق نصفه على فرسه، ويظهر أن الرواتب لم ترتفع بارتقاء الدولة العباسية بل هي أخذت في التناقص، فصارت في أيام المأمون عشرين درهما في الشهر للراجل وأربعين للراكب، فكان جيش عيسى بن محمد بن أبي خالد عام 201ه 125 ألف فارس، فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين، وزد على ذلك أن قيمة الذهب كانت قد ارتفعت عما كانت عليه في أوائل الإسلام، وكان الدينار في أيام عمر يساوي عشرة دراهم فأصبح في أيام المأمون يساوي 15 درهما.
فرأيت مما تقدم أن الرواتب زادت في دولة بني أمية عما كانت عليه في أيام الراشدين، ثم نقصت في أيام بني العباس، والسبب في ذلك أن بني أمية زادوها ترغيبا لقبائل العرب في خدمتهم، لتأييد سلطانهم كما تقدم، وأما في أيام بني العباس فكان العرب قد انتشروا في أنحاء البلاد واختلطوا بالأعاجم، وعمل العباسيون على الاستكثار من هؤلاء، لأنهم ساعدوهم على إنشاء دولتهم، فأصبحت الدولة العباسية مخيرة في استخدام من شاءت من الفئتين في جندها، وكان الأعاجم يرضون بالراتب القليل، ومع ذلك فهو أضعاف ما كان يدفعه الروم لجندهم إذا صح ما نقله ابن خرداذبه، فقد ذكر أن راتب الجندي عندهم كان يختلف من 18 إلى 12 دينارا في السنة، وكانوا لا يستولون على رواتبهم إلى كل ثلاث سنوات أو أربع، وأما رواتب الجند العرب فقد كانت تدفع في أوقاتها، إلا في أواخر الدولة العباسية فقد كانت تتأخر وتتراكم، ويفوز بالخلافة من يتمكن من إرضاء الجند، شأن الدول في دور انحطاطها. (2-4) عطاء الجند في الدولة التركية
وما زال العطاء يدفع نقدا إلى أيام الدولة السلجوقية، فصار يعطى إقطاعا، وأول من فعل ذلك نظام الملك الطوسي وزير آل سلجوق (توفي سنة 485ه) وكان رجلا عظيما وزر للدولة السلجوقية وأدخل فيها إصلاحات جمة، وهو أول من أنشأ المدارس في بغداد، وله فيها المدرسة التي تعرف باسمه (المدرسة النظامية)، وكان وزيرا لألب أرسلان ثم لابنه ملك شاه المشهور، فصار أمر الدولة كله لنظام الملك وليس للسلطان إلا التخت والصيد، فأقام على ذلك عشرين سنة، وكان عاقلا حسن القصد، ورأى الدولة السلجوقية قد اتسع نطاقها فأحب أن يحفظها بالإقطاع، فحولها إلى إقطاعات سلمها إلى الجند، لاعتقاده أن تسليم الأرض إلى المقطعين يضمن عمارتها لاعتناء مقطعيها بأمرها، بخلاف ما إذا شمل جميع أعمال المملكة ديوان واحد، فإن الخرق يتسع ويدخل الخلل في البلاد، ففعل نظام الملك ذلك، وعمرت المملكة وكثرت الغلات، واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك والسلاطين، إلى أوائل القرن الماضي.
واختلفت غلات الأمراء من إقطاعاتهم، فقد بلغت غلة إقطاع بعض أكابر أمراء المئين في دولة المماليك نحو 200000، ويليهم من غلتهم نصف ذلك أو ربعه، وأما أمراء العشرات فنهايتها سبعة آلاف دينار، إلى ما دون ذلك، أما جند الخليفة فمنهم من يبلغ إقطاعه 1500 دينار وما دون ذلك إلى 250 دينارا،
2
وسيأتي الكلام في الإقطاع. (3) عدد الجند
قلنا إن المسلمين كانوا في صدر الإسلام كلهم جندا، فعددهم يومئذ هو عدد الجند الإسلامي، فالجند كانوا في السنة الأولى للهجرة لا يزيد على بضع عشرات يقيمون في المدينة، ثم ازدادوا بمن اعتنق الإسلام من قبائل العرب، وفي حديث أخرجه البخاري أن النبي قال «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتبنا له ألفا وخمسمائة».
وفي غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة - وهي آخر الغزوات - بلغ عدد المسلمين ثلاثين ألفا، ومعهم عشرة آلاف فرس، فذلك عدد جند العرب في أواخر أيام النبي، ثم تزايد عددهم في أيام أبي بكر وعمر، حتى زادوا على مائة وخمسين ألفا، وتضاعف ذلك العدد في أواخر أيام الراشدين.
وفي أوائل بني أمية بلغ عدد من في البصرة والكوفة من الرجال فقط 140000، منهم 80 ألفا في البصرة و60 ألفا في الكوفة، ومعهم من العيال 200000 بين نساء وأولاد، وكان في مصر أربعون ألفا ما عدا العيال، وكان جند الشام نحو ذلك، غير من في فارس وغيرها. (3-1) الإحصاء في الإسلام
وكان للخلفاء في صدر الإسلام عناية في إحصاء المسلمين، اقتداء بما فعله النبي، فجعلوا على كل قبيلة من قبائل العرب رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول «هل ولد الليلة فيكم مولود، وهل نزل بكم نازل؟» فيقال «ولد لفلان غلام، ولفلان جارية» فيكتب أسماءهم. ويقال «نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله» ويسميه وعياله، فإذا فرغ من ذلك عاد إلى الديوان وأثبت الأسماء فيه.
وكانوا يجددون التدوين (الإحصاء) كل مدة في كل ولاية على حدة، وأول تدوين في مصر مثلا دونه عمرو بن العاص، ثم دون عبد العزيز بن مروان (تولى إمارة مصر من سنة 65-86ه)، ثم دون قرة بن شريك (سنة 90-96ه)، ثم بشر بن صفوان (سنة 101ه)، وآخر إحصاء أحصوا به العرب في الأمصار على ما تقدم كان في خلافة هشام بن عبد الملك (سنة 105-127ه)، ولكن تلك الإحصاءات لم تصل إلينا، فقد ضاعت في جملة ما ضاع من آثار بني أمية.
فلما تولاها بنو العباس أهملوا أمر العرب، وبذلوا عنايتهم في اصطناع الأعاجم في الفرس والترك وغيرهما - كما قدمنا - حتى إذا بويع المعتصم بالله سنة 218ه بعث إلى عماله في الأمصار أن يسقطوا من في دواوينهم من العرب ويقطعوا العطاء عنهم، فشق ذلك على العرب وثاروا، ولكنهم لم ينالوا وطرا، فانقضت دولة العرب من ذلك الحين، وصار جند الدولة العجم والموالي، ولذلك لما مات المعتصم وتولى بعده الواثق، كان دعبل الخزاعي الشاعر المشهور في الصميرة، فلما جاءه نعي المعتصم وقيام الواثق أنشد هذين البيتين:
الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد
وأما عدد الجند في أثناء دولة بني أمية وبني العباس فمما لا يتيسر الوقوف عليه، لكننا نستدل من عدد ما كانوا يجندونه إلى الحرب أنه كان كثيرا، فلما حمل يزيد بن المهلب على جرجان وطبرستان جرد إليهما 120000 من الجند المرتزقة، سوى الموالي والمتطوعة، وحمل الرشيد على هرقلة بجند عدده 135000 من المرتزقة، ما عدا الأتباع والمتطوعة، وكان جند محمد بن طغج مؤسس الدولة الإخشيدية بمصر (سنة 323-334ه) 400000 جندي وثمانية آلاف مملوك، يحرسه منهم ألفان كل ليلة على التناوب، وروى ابن خلدون أن المعتصم نازل عمورية في جند عدده 900000، ولا غرابة في ذلك إذا اعتبرنا عدد الحامية في الثغور الدانية والقاصية شرقا وغربا، فضلا عن المصطنعين والموالي والخاصة، فقد أحصيت خاصة المأمون من بني العباس وحدهم فبلغوا 33 ألفا. (3-2) رتب الجند وأصنافهم
لم يكن للعرب في الجاهلية جند، فلم تكن له عندهم رتب، ولكنهم كانوا يولون على القبيلة أكبر رجالها سنا أو أعظمهم حسبا، ويسمونه الشيخ أو الأمير، فإذا احتاج الأمير إلى من ينوب عنه على فصيلة يرسلها إلى غزو أو نحوه، ولى رجلا كانوا يسمونه المنكب، وتحت المنكب العريف، والمنكب يكون على خمسة عرفاء، والعريف يكون على نفير أو نفر.
وظل العرب في أوائل الإسلام على نحو ما كانوا عليه في الجاهلية، فقسموا الجند إلى عرفاء، تحت كل عريف عشرة رجال، وسلموا القيادة إلى أناس من أهل السابقة، وكذلك كان نظامهم في أثناء الفتوح، ثم جعلت العرفاء أسباعا، وجعلوا مائة عريف بعضهم على ثلاثين أو أربعين رجلا، وبعضهم على عشرين على حسب طبقات الجند من حيث السابقة ونحوها، وكان على العرفاء أمراء يقال لهم أمراء الأسباع، يتولون تفريق العطاء في العرفاء، والعرفاء يفرقونه في الجند.
وقلما حدث تغيير في رتب الجند في أيام بني أمية، أما في الدولة العباسية فكانت رتب الجند أن على كل عشرة رجال «عريفا»، وعلى كل خمسين «خليفة»، وعلى كل مائة «قائد»، ثم تنوع الترتيب فصار العريف على عشرة، وعلى كل عشرة عرفاء (أو مائة نفر) «نقيب»، وعلى كل عشرة نقباء (أو 10000 رجل) «أمير»، ولا يخلو الأمر من وقوع التبديل في هذا النظام بالنظر إلى الدول.
ولا بد من أن يكون لكل رتبة علامة تميزها عن سواها، كما يتميز الضباط اليوم بعضهم عن بعض وعن العساكر، لكننا لم نعثر على شيء صريح بهذا الشأن، وقد تقدم لنا كلام بهذا الموضوع في بحثنا عن الطراز، ومن هذا القبيل ما كانوا يسمون به الخيل لتمتاز خيول الدولة عن سواها، وكان لكل دولة سمة خاصة، وسمة خيل بني أمية لفظ (عدة) كانوا يطبعونها على الخيول كيا بالنار، كما كان العرب يفعلون بإبلهم في عصور جاهليتهم، فقد كان عندهم لكل قبيلة ميسم يميز إبلها عن إبل غيرها، ووسم الدواب شائع في الدول المتمدنة اليوم . (4) استعراض الجند
استعراض الجند قديم في الدول المتمدنة قبل الإسلام: كان الإسكندر يستعرض جنده بنفسه ويتفقدهم ويتفقد سلاحهم وخيولهم، ولما ظهر الإسلام كان الفرس يعرضون جنودهم في مواقيت معينة من السنة، وكان رسمهم في ذلك أن يمر الفارس الذي هو في الطبقة الأولى على حصانه، ومعه الغلام والدرع والمغفر والكفوف الزرد والرانات والتجافيف للخيل ويسمى بركستوان والترس والرمح والسيف والدبوس والسكين الكبيرة والحبل والمخالي والسكك الحديد والمقاود وكبة خيوط ومخصف ومقص ومطرقة وكاز ومسل وإبر وخيوط وزناد وطرطور ولباد وقوسان موتوران ووتران زائدان، خوف الانقطاع، وجعبتان للنشاب، إحداهما معه، والأخرى مع غلامه.
ولما تمدن العرب وجندوا الجنود اتخذوا هذه العادة على نحو ما كانت عند الفرس، لكن يظهر أنهم كانوا يستعرضون رجالهم قبل تمصير الأمصار وتجنيد الجنود، فإن النبي نفسه كان يستعرض أصحابه، وقد جاء في السير أنه استعرضهم يوم بدر الكبرى (سنة 2ه) فجعلهم صفوفا، وأخذ يعدل صفوفهم وفي يده سهم بلا ريش، فمر برجل اسمه سواد كان مستنثلا من الصف فطعنه النبي في بطنه وقال له «استو يا سواد بن غزية» وبعد أن عدل الصفوف عاد إلى العريش الذي كانوا نصبوه له هناك.
3
وكان الخلفاء الراشدون يعرضون الجند على نحو ذلك، ثم بنو أمية، وكان الحجاج إذا عرض الجند يسأل عن رجل رجل من هو، وما هي قبيلته، وعن حاله وسلاحه.
وكان الاستعراض في الدولة العباسية أقرب إلى عادة الفرس، لأن العباسيين اقتبسوه منهم، فكان الخليفة، أو وزيره، يجلس لعرض الجند، وربما جلس الخليفة وعليه الدرع والخوذة كأنه في استعداد للحرب، فينادي المنادي بأسماء القواد فيمرون أولا، فيتفقد أفراسهم وعدتهم، فإذا رأى كل شيء حسنا تاما صرف لهم أرزاقهم، وهي جائزة يمنحونها يوم العرض، وقد يستنكف القائد الكبير أن ينتفع بتلك الجائزة فيهبها لبعض أتباعه.
ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله عمرو بن الليث على عهد الخليفة المعتمد (سنة 271ه) فإنه نال حظوة لدى الخليفة، وتمكن من قوانين المملكة، وتولى النظر في الجند، وكان ينفق لهم مرة كل ثلاثة أشهر ويحضر بنفسه على ذلك، وكان عارض الجيش يقعد والأموال بين يديه والجند كلهم حاضرون، وينادي المنادي أولا باسم عمرو بن الليث، فتقدم دابته إلى العارض بجميع آلة الفرس، فيتفقدها ويأمرون بوزن ثلاثمائة درهم باسم عمرو فتحمل إليه في صرة، فيأخذ الصرة فيقبلها ويقول «الحمد لله الذي وفقني لطاعة أمير المؤمنين حتى استوجبت منه الرزق»، ثم يضعها في خفه فتكون لمن ينزع خفه ثم يدعى بعد ذلك بأصحاب الرسوم على مراتبهم، فيتعرض لآلاتهم التامة ولدوابهم الفره، ويطالبون بجميع ما يحتاج إليه الفارس والراجل من صغير آلة وكبيرها ، فمن أخل بإحضار شيء منها حرموه رزقه، فاعترض يوما فارس كانت له دابة في غاية الهزال فقال له عمرو «يا هذا! تأخذ مالنا تنفقه على امرأتك فتسمنها وتهزل دابتك التي عليها تحارب وبها تجد الأرزاق؟ امض فليس لك عندي شيء!».
فقال له الجندي «جعلت لك الفداء ... لو اعترضت امرأتي لاستسمنت دابتي!».
فضحك عمرو وأمر بإعطائه وقال: «استبدل بدابتك». (5) مساكن الجند
كان المسلمون في صدر الإسلام (وهم الجند) إذا فتحوا بلدا جعلوا مساكنهم في بعض ضواحيه، وكانوا لا يقيمون في مكان بينه وبين المدينة بحر أو نهر، عملا يوصيه عمر بن الخطاب كما تقدم، ولذلك لم يقم جند مصر في الإسكندرية عاصمة الديار المصرية، بل أقاموا في الخيام قرب حصن بابل، في بقعة عرفت بعد ذلك بالفسطاط، ولم يقم جند العراق في المدائن عاصمة كسرى، بل أقاموا على ضفاف الفرات مما يلي بادية الشام، في البصرة والكوفة، وفعل ذلك غيرهم في سائر الأقاليم التي فتحت في صدر الإسلام، فأقاموا في ضواحي البلاد المفتوح لمجرد حمايتها كما قدمنا في كلامنا عن ولاية الأعمال، ولكنهم كانوا ينتقلون للحرب يومئذ بنسائهم وأولادهم، فإذا فتحوا بلدا أقاموا فيه جميعا، فأصبحت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال مدنا عامرة.
ولما تمدن العرب صاروا يذهبون إلى الحرب دون نسائهم، ولكنهم ظلوا على إنشاء المعسكرات خارج المدن، وكثيرا ما كانت هذه المعسكرات تتحول إلى مدن بتوالي الأجيال، كما حصل في الفسطاط والكوفة والبصرة: كانت الفسطاط مضرب خيام حول فسطاط عمرو بن العاص، ثم عمرت وصارت مدينة سميت الفسطاط، وبعد عمرانها بقرن وبعض القرن، لما قام العباسيون للمطالبة بالخلافة، فر مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ولجأ إلى مصر، فتعقبه العباسيون بقيادة صالح بن علي وعسكروا بضواحي الفسطاط وسموا مقامهم «العسكر» أي المعسكر، ثم بنى الناس هناك وصار المكان مدينة مثل الفسطاط اسمها العسكر.
وبعد ذلك بقرن وبعض القرن سنة 257ه تولى مصر أحمد بن طولون وأكثر من الجند والحاشية والآلات، فضاقت الفسطاط دونه، فأنشأ معسكرا بجوار جبل المقطم، وبنى لنفسه فيه قصرا وميدانا، وتقدم إلى غلمانه وأتباعه أن يبنوا، فبنوا حتى اتصل البناء بالفسطاط وصار المكان مدينة سميت القطائع، وفعل مثل ذلك جوهر قائد الفاطميين، لما جاء لفتح مصر بعد قرن وبعض القرن سنة 365ه فإنه أنزل جنده بسفح المقطم خارج القطائع والفسطاط، ولما فتح البلاد أنشأ في ذلك المعسكر مدينة القاهرة الباقية إلى الآن، ويقال نحو ذلك في سائر المدن الإسلامية، فإن المنصور إنما بنى بغداد حصنا له ولجنده، وكذلك فعل ابنه المهدي ببناء العسكر خارجها.
وقس عليه غيره من المعسكرات الإسلامية، فإنهم كانوا ينشئونها خارج المدن بعيدا عن بيوت الناس، ولذلك لما أنزل الحجاج جنده في بيوت أهل الكوفة، بعد واقعة الجماجم، نقم عليه أهلها وعدوا ذلك عتوا منه، وخصوصا لأن الأمراء الذين جاءوا بعده كانوا كثيرا ما يعملون عمله. (6) اللواء أو الراية (6-1) تاريخ الألوية
اللواء والراية شيء واحد، وربما كان اللواء أصغر من الراية، أو أن الراية تسمى لواء إذا عقدت للحرب، وهي الأعلام، أو البنود، أو البيارق في اصطلاح هذه الأيام، والراية قديمة في التاريخ، اتخذها المصريون القدماء ومن عاصرهم أو أخذ عنهم، وكانت شائعة في العرب الجاهلية قبيل الإسلام، وكان لكل قبيلة راية تجتمع تحتها.
وللراية شأن كبير في الحرب، لأن الناس إنما يؤتون من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، وقد رأيت، في كلامنا عن حكومة الجاهلية، أنه كان في جملة مناصب قريش منصب اللواء، ويسمونه «العقاب» باسم رايتهم يومئذ، وكانوا إذا خرجوا إلى حرب أخرجوا الراية، فإذا اجتمع رأيهم على أحد سلموه إياها، وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها، وكان مرة من بني أمية ومرة من بني عبد الدار، ولعلهم سموا رايتهم «العقاب» اقتباسا من الروم، لأن العقاب أو النسر شارة الرومان، يرسمونها على أعلامهم وينقشونها على أبنيتهم، فاقتبسها العرب منهم.
وفي السيرة الحلبية أن المسلمين في غزوة بدر الكبرى كانت لهم ثلاث رايات: إحداها بيضاء دفعها النبي إلى مصعب بن عمير، والأخريان سوداوان إحداهما حملها علي بن أبي طالب، ويقال لها العقاب صنعت من مرط لعائشة (والمرط كساء من صوف أو خز تضعه المرأة على رأسها أو تأتزر به) والأخرى مع رجل من الأنصار، وأن أبا سفيان كان يحمل راية الرؤساء في تلك الواقعة، واسمها أيضا راية العقاب، فالظاهر أن العقاب كان اسما لصنف من الرايات، فقلدوا الروم بها وليس اسم واحدة منها.
ولما جاء الإسلام، وانتشر العرب في أنحاء الشام وفارس ومصر، وتعددت دولهم وقبائلهم، كثرت ضروب الألوية عندهم، وتنوعت أشكالها وتعددت ألوانها وأطالوها، وسموها بأسماء مختلفة: عقد أبو مسلم الخراساني عند قيامه بالدعوة العباسية لواء بعث به إليه إبراهيم الإمام يدعى «الظل» على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد راية كان قد بعث بها إليه اسمها «السحاب» على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، إرهابا للناس، ولما عقد المتوكل البيعة لبنيه سنة 235ه عقد لكل واحد منهم لواءين أحدهما أسود وهو لواء العهد والآخر أبيض وهو لواء العمل، ولما ولى المأمون الفضل بن سهل على المشرق كله وسلم إليه رئاسة الحرب والقلم وسماه ذا الرئاستين عقد له لواء على سنان ذي شعبتين. وجملة القول أن أشكال الألوية تعددت بتوالي الأزمان وتفاخر الخلفاء والسلاطين بتعدادها، فقد بلغ عدد رايات العزيز بالله الفاطمي لما خرج إلى فتح الشام 500 راية و500 بوق، وربما نقشوا على الرايات أسماء الخلفاء أو السلاطين أو الأمراء الذين يتولون قيادة الجند، كما كتب ابن بجكم على رايته «الرائقي» نسبة إلى ابن رائق . (6-2) ألوان الرايات
لا نعرف ماذا كانت ألوان الرايات في الجاهلية سوى راية «العقاب»، فقد تقدم أنها كانت سوداء، وكذلك كانت راية النبي، وذكر صاحب «آثار الأول» أنه كانت له أيضا ألوية بيضاء، أما الراية الإسلامية، فقد كانت ألوانها تختلف باختلاف الدول، فكانت أعلام بني أمية حمراء، وكل من دعا إلى الدولة العلوية فعلمه أبيض، ومن دعا إلى بني العباس فعلمه أسود، والسواد شعار العباسيين على الإطلاق، اتخذوه حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بني أمية في قتلهم، ولهذا سموا المسودة، ولما افترق الهاشميون وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك، فاتخذوا الرايات بيضاء وسموا المبيضة، والظاهر أن شعار دعاة بني هاشم من الشيعة كان الخضرة، لأن المأمون لما بايع لعلي بن موسى بولاية العهد أمر جنده بطرح السواد ولبس الثياب الخضر، حتى إذا رجع عن البيعة عاد إلى السواد.
راية الناصر الموحدي في موقعة العقاب.
وأما ملوك البربر في المغرب، من صنهاجة وغيرها، فلم يختصوا في راياتهم بلون واحد بل وشوها بالذهب، واتخذوها من الحرير الخالص ملونة، وفي دير بظاهر مدينة برغوس في الأندلس راية من الحرير الأحمر المطرز بالنقوش الجميلة، وعليها كتابات كثيرة وآيات قرآنية، وقد نشرها غستاف لوبون في كتابه «تاريخ تمدن العرب» وسماها: راية الموحدين، لكن صديقنا المأسوف عليه روحي بك الخالدي بعث إلينا بنسخة من صورة هذه الراية سنة 1907 وقال في جملة وصفها: «وأظن هذه الراية كانت بابا لخيمة المنصور، لأنها أشبه بباب الخيمة منها بالراية».
وأما دول الأتراك في المشرق فكانوا يتخذون راية واحدة للسلطان، في رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم، ثم تعددت الرايات، ويسمونها سناجق واحدها سنجق وهو الراية في لسانهم، والراية العثمانية حمراء عليها صورة الهلال، واختلفوا في أصل هذه الشارة بين أن يكون الأتراك اقتبسوها من الروم بعد فتح القسطنطينية، أو أنهم جاءوا بها من بلادهم من تركستان. (6-3) عقد اللواء
كان الخلفاء في صدر الإسلام إذا وجهوا جيشا إلى حرب عقدوا له الألوية وسلموها إلى الأمراء، لكل أمير راية قبيلته، ويدعون لهم بالنصر ويوصونهم بالصبر والجلاد، وكان عمر بن الخطاب إذا عقد لواء يقول وهو يعقده «بسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله، وما النصر إلا من عند الله ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات».
وكان لكل خليفة أسلوب في الدعاء والوصاية، والمرجع واحد فيها كلها، وكانوا يعقدون الألوية أيضا للعمال إذا ولوهم الأمصار، وخصوصا في أوائل الإسلام، لأن العامل كان قائد الجند، وكانوا يعقدونها على حساب النجوم، فيختارون أحد الاقترانات على زعمهم، وكان العباسيون إذا عقدوا لواء لقائد أو صاحب جند أو صاحب ثغر، خرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو من داره، في موكب من أصحاب الرايات والطبول، حتى لا يميز بين موكب العامل وموكب الخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها، أو بما اختص به الخليفة من الألوان لراياته.
وكان للدولة الفاطمية بمصر دار يقال لها «خزانة البنود» كانوا يختزنون فيها الأعلام والرايات والدرق، وكانوا ينفقون عليها 80 ألف دينار كل سنة، ظلوا على ذلك قرنا كاملا، وكل ما صنع من الأعلام بقي متراكما فيها ومعه الأسلحة بأنواعها، والسروج واللجم، وفيها المفضض والمذهب، ثم احترقت الخزانة فاحترق كل ما كان فيها من هذه الأمتعة والآلات، وكان يقدر بثمانية ملايين دينار، ولم يستطيعوا إخراج غير القليل منها، وفي جملة ذلك لواء كانوا يسمونه «لواء الحمد». (7) الموسيقى
واتخاذ الموسيقى في الجند قديم، والأصل في اتخاذه إثارة حاسات الجند في أثناء الحرب، أو صرف أذهانهم عن الاشتغال بالأخطار التي يتوقعونها، ومن هذا القبيل الغناء أو النشيد أمام الجند، فإنه من قبيل الموسيقى وكان العرب في جاهليتهم لا يعرفون من هذه الآلات غير الطبل، وكان المسلمون في صدر الإسلام يتجافون عن اتخاذ الأبواق والطبول، تنزها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله، فلما انقلبت الخلافة ملكا، وتبحبحوا في زهرة الدنيا، ولابسهم الموالي من الفرس والروم وأهل الدول السالفة، وأروهم ما كان أولئك يتحلون به من مذاهب البذخ والترف، كان في جملة ما اقتبسوه منهم الموسيقى، وأذنوا لعمالهم في اتخاذها، تنويها بالملك وأهله، ثم جعلوا يستكثرون منها، وهي مقصورة على الطبل والبوق، وربما كان في الجند مئات من الأبواق والطبول. (8) السلاح
أشهر أسلحة العرب في جاهليتهم السيف والرمح والقوس والترس، وكانت لهم عناية كبرى في استخدامها، لأنهم كانوا يحمون بها أعراضهم ويستجلبون بها معاشهم ، وخصوصا القوس. (8-1) القوس
كان لهم بالقوس مهارة عظمى، لحدة أبصارهم، نتيجة لسكنى البادية ولأنهم أحوج إليها من سائر الأسلحة، فقد كانوا يستخدمونها في صيد الغزلان، فضلا عن الحرب والطعان، وبلغ من مهارتهم في النزع بالقوس ما يكاد يفوق طور التصديق، حتى ولو أراد أحدهم أن يرمي إحدى عيني غزال دون العين الأخرى لرماها، ولذلك سموا مهرة الرمي «رماة الحدق» وكان أحدهم يعلق ضبا بشجرة، ثم يرميه بالنبال فيصيب أي عضو شاء من أعضائه، حتى يرمي فقراته فقرة فقرة فلا يخطئ واحدة منها.
4
فلما جاء الإسلام كانت مهارتهم هذه من جملة ما ساعدهم على غلبة الروم، لأن هؤلاء لم يكونوا يحسنون رميها، وقد بينا ذلك في كلامنا عن الفتوح الإسلامية، ولم يكن قواد المسلمين يجهلون فضل النبال في نصرتهم، فكانوا يحرضون رجالهم على إتقان الرمي بها، وكان النبي يقول «اركبوا وارموا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»، ومن أقواله «كل لهو المؤمن في ثلاث تأديبه فرسه، ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته فإنه حق، إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد عامله المحتسب والرامي في سبيل الله»، ومن أقواله وهو قائم على المنبر «أعدوا ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».
وكان الخلفاء والقواد بعد النبي يستحثون رجالهم على إتقان الرماية، كما يحرضونهم على العناية بخيولهم، لأن العرب أهل فروسية ، وخيول العرب مشهورة بخفتها وسرعتها وسهولة قيادها، وكان القواد يوصون رجالهم أن يعتنوا بأفراسهم مثل عنايتهم بنسائهم، وقد تقدم لنا كلام في ذلك.
وتفنن المسلمون بالرمي في العصور الوسطى، حتى اصطنعوا من الأقواس آلات مركبة، ولعلهم أخذوا بعضها عن الفرس، كالمجراة التي استنبطها العجم لما حاربوا التتر، وهي عبارة عن أنبوب من حديد أو خشب، فيه شق يوضع السهم فيه ويقذف قذفا شديدا، كما نقذف الرصاصة بالبندقية اليوم، وتكون الأسهم قصيرة، واصطنعوا لرمي السهام ضروبا من المجانيق، توضع في الواحد منها عدة سهام، وترمى عنها بالأقواس. (8-2) السيف
وكان العرب يعدون السيوف أشرف الأسلحة، وكانوا يستجلبونها من الخارج، وأشهرها السيوف اليمانية والهندية والسليمانية والخراسانية، وتعرف كلها بالسيوف العتيقة، وكان لكل منها شكل مخصوص أو علامة يمتاز بها: فاليمانية العتق مثلا التي صنعت في الجاهلية، كانت تمتاز بثقبين في سنبل السيلان (والسيلان أصل مقبض السيف)، وثقب السنبل من إحدى وجهتيه أوسع من الوجهة الأخرى، أو الوجهتان متساويتان ووسطه أضيق، وكان من السيوف اليمانية سيوف يقال لها المحفورة، وشطبها شبيه بالأنهار، وقد حفر بمبرد مدور، ومنها ذات حفر مربع، ومنها ذات شطب، وقلما تسلم اليمانية من العروق، وقد تنقش عليها تماثيل، أو يكتب عليها، أو يصور عليها صورة.
غير أن هذه السيوف أكثر قطعها في اللين، فإذا صادفت الحديد أو اليابس تقصفت، وكانت أسياف الروم أمتن منها، لأنهم كانوا يجيدون سقايتها حتى تبري الحديد، ولذلك كان العرب إذا أصابوا سيفا قاطعا تناقلوا خبره وأطروه، وقد اشتهر في أوائل الإسلام سيف ذي الفقار لعلي بن أبي طالب، وسيف الصمصامة لعمرو بن معدي كرب وغيرهما، ولعلهما في الأصل من أسياف الروم، ولذي الفقار شأن كبير في تاريخ الإسلام، توارثه آل أبي طالب، ثم أخذه المهدي العباسي، ثم صار إلى الهادي فالرشيد، ويقال إنه سمي ذا الفقار، لأنه كان به ثماني عشرة فقرة. وفي المتحف البريطاني أمثلة من السيف الهندي والسيف الدمشقي، شاهدناه في رحلتنا إلى لندن سنة 1912. (8-3) الرماح
أكثر ما يكون استخدام الرمح على الخيل ، ولكنهم لم يكونوا يأمنون له خوف انكساره، ومن وصاياهم في استخدام الرمح في الحرب قول صاحب «آثار الأول» في طرائق حركات الرمح وتصرفاته، قال «واللعب به في الميادين وبين يدي الملوك غير التحرك به في الحروب منها المواجهة، وهي أن تحمل على مبارزك وقد أخذت الرمح تحت إبطك وجعلته بين أذني فرسك، وتقصده مستويا حتى تقرب منه، فإن رأيته قد طرح رمحه يمنة فاطرح رمحك يسرة، وإن طرحه يسرة فاطرح رمحك يمنة، واجتهد أن تبدأ بالحمل عليه وأنت مسدد، وتحول الرمح يمنة أو يسرة كي تدهشه، فلا يدري من أين يجيئه، فإذا دنوت منه دخلت عليه من الخلل الذي لا يكون رمحه فيه، وإذا أردت أن تبتدئ بالخروج، فخذ أسفل الرمح بيدك اليمنى ورأسه إلى الهواء وهو على عاتقك الأيمن، وتحمل على قوتك وأنت كذلك، وإن شئت قربت منه حتى لا يدري من أي وجه يلقاك ... وإن خرجت إلى فارسين وتفرقا فاحمل على الأدنى، وإذا كان قريبين فأر أحدهما أنك تريد رفيقه، واحمل عليه ولا تتم حملتك ثم اعدل إلى الآخر واصدقه الحملة، وإن حذقا ورأيتهما يفترقان عليك فتطرف ولا تتوسط واحمل على الأدنى إليك، فإن تساويا فأدهش الأضعف، واحمل على الأقوى، فإن تساووا وكانوا جماعة فامتد أمامهم حتى يتبعوك، ثم كر على الأدنى منك فاطعنه، وإن دخلت مضيقا فتلقاك فارس برمح، فإياك والمصادمة بل انزل إلى الأرض واطعنه، وإن كان خلفك فارس وقدامك فارس في مضيق، فانزل وتحيل واقصد أقربهما إليك، وتترس من الآخر بدابتك ... إلخ».
الترس الغرناطي.
وكانت أسنة الرماح عندهم تختلف شكلا، بين المشعب والعريض والرفيع والمستوي والمموج وغير ذلك. (8-4) الترس
وكان الترس عند العرب على أصناف، كل منها يصلح لشيء: فمنها المسطح والمستطيل المحفر الوسط، والمقبب، فالمقبب المنحني الأطراف. ولكل ترس فائدة: فالمقبب المنحني الأطراف لا يتقى به الرمح، لأنه متى طعن ثبت الرمح فيه، وإنما يتقى به النشاب والحجارة والسيف، والترس المسستطيل يتقى به النشاب، لأن رأسه يستر رأس الفارس، وطوله يقيه لأنه ينظر بإحدى عينيه من التخصير، ولا يكشف رأسه، والمسطح ينقى به الرمح، وقد يشترك رجلان في الطعان فيترس أحدهما للآخر.
وتفنن المسلمون في اصطناع الأتراس، ونقشوا عليها الآيات والحكم والأشعار، وتميزت أتراس كل بلد بشكل خاص، ومنها الترس الدمشقي والترس العراقي والغرناطي وغيرها. (8-5) الدرع
الدروع كثيرة عند العرب، ومنها الحديد والفولاذ والكتان، يسمون درع الكتان «دلاص»، ولم يكن يقتني الدروع من العرب غالبا إلا الفرسان، وهي من صنع الروم أو الفرس في الغالب، وعندهم دروع مشهورة بأسماء معينة، مثل درع خالد بن جعفر، فقد كانوا يسمونها ذات الأزمة، لأنها كانت لها عرى تعلق إذا أراد لابسها أن يشمرها.
درع أبي عبد الله آخر ملوك الأندلس.
وكانت الدروع مؤلفة من الجزء الذي يقي الصدر وهو الجوشن، والبيضة، والخوذة، والمغفر للرأس، ومنها أجزاء للساعدين، والساقين، والكفين.
تلك كانت أسلحة العرب في أوائل الإسلام، ثم أضافوا إليها شيئا من أسلحة الأعاجم، كالخناجر والطبر والفاس وغيرها، وتفننوا في صنعها تبعا للزمان والمكان، فترى السيف الدمشقي يختلف عن السيف العراقي، والدرع المصرية تختلف عن الدرع الأندلسية. (9) آلات الحصار
لم يكن للعرب آلات للحصار، لأنهم لم يكونوا يحاصرون، وإنما كانت منازلهم الخيام مطلقة لا يحميها سور ولا خندق، وأول خندق بناه العرب خندق المدينة يوم حرب الأحزاب (سنة 5ه) أشار به سلمان الفارسي كما قدمنا، فلما اختلطوا بالأعاجم كان في جملة ما اقتبسوه منهم آلات الحصار، وأهمها المنجنيق والدبابة والكبش والنار اليونانية. (9-1) المنجنيق
هو آلة قذافة استخدمها الفنيقيون قديما، ومنهم أخذها اليونان والإسرائيليون، وورد ذكرها غير مرة في سفر المكابيين، وانتشرت بواسطة اليونان في سائر دول الأرض، فاستخدمها الفرس وعنهم أخذها العرب بعد الإسلام.
والمشهور أن العرب لم يستخدموا هذه الآلة إلا في أواسط القرن الأول للهجرة، بعد مخالطتهم الروم والفرس، ولكننا رأينا في السيرة الحلبية أنهم استخدموها في حصار الطائف، أرشدهم إليها سلمان الفارسي في جملة ما أرشدهم إليه من فنون الحرب الفارسية، ويقال إنه صنعه لهم بيده، وذكر صاحب هذه السيرة أيضا أن المسلمين لما فتحوا حصن الصعب في خيبر، وجدوا فيه منجنيقات ودبابات.
والمنجنيق أصناف كثيرة، منها الكبير والصغير، ومنها ما يشد بلوالب وأقواس، أو ما يدار شبه المقلاع، وهي تستخدم إما لرمي السهام أو الحجارة أو قدر النفط أو العقارب، أو نحوها من آلات الأذى، فإن كانت المقذوفات خفيفة ثقلوها بالرصاص، وإن كانت من السوائل كالنفط ونحوه، اتخذوا لها كفة كالكأس علقوها بسلاسل.
وفي الشكل صورة منجنيق روماني كانوا يرمون به السهام، فترى السهام مشكوكة في القائمتين (ب وج) ورؤوسها متجهة نحو العدو، وترى الرجلين يديريان البكرة (د) وهي تدير البكرة المسننة (ن) ويلف عليها حبل ممتد من طرف القائمة (أ) بالبكرة (س) والبكرتين (ف) بحيث تشد طرف القائمة (أ) نحو الوراء، وهي مصنوعة من قطع متصلة بجلد أو حديد، حتى تصير مرنة كالأقواس، بحيث إذا أطلقت بعد شدها ارتدت على أطراف السهام بعنف، فترسلها إلى مسافة بعيدة.
منجنيق روماني لرمي السهام.
وفي الشكل الآخر صورة منجنيق لرمي الحجارة، عبارة عن عمود في رأسه معلق شبه المقلاع، يوضع فيه الحجر ويشد العمود بالأمراس نحو الوراء، وهو متصل من أسفله بقوس مرنة، فإذا شد العمود جيدا ثم أطلق بغتة وقع على السطح المائل بعنف، وانطلق الحجر من المقلاع إلى مسافة بعيدة، وهناك أشكال أخرى للمنجنيق تندرج تحت هذين.
منجنيق لرمي الحجارة.
فكانوا يستخدمون المنجنيق لهدم الحصون بالحجارة الضخمة، أو لرمي الأعداء بالنبال، أو لإحراق أماكن العدو بالنفط ونحوه، فيرسلون به نفطا مشتعلا بالنار، يقذفونه بواسطة كفة من الزرد، يجعلون بها الأوعية المملوءة بالنفط كالقدور ونحوها، أو يرسلونها بمنجنيق رمي الحجارة أو غيرها.
وكانت المجانيق تتفاوت في أقدارها، وكثيرا ما كانوا يسمون كلا منها باسم يدل على بعض أوصافه، على نحو ما يسمون السفن والمدافع الكبرى في هذه الأيام، فقد كان عند الحجاج بن يوسف منجنيق اسمه «العروس»، كان يمد به خمسمائة رجل، أرسله محمد بن القاسم لمحاربة ملك الهند سنة 89ه وهدم به صنما من أصنامهم. (9-2) الدبابة
هي آلة متحركة تتخذ من الخشب السميك، وتغلف باللبود أو الجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستديرة، وتحرك فتنجر، وقد يجعلونها برجا من خشب بمثل هذا التدبير، ويدفعها الرجال فتندفع على البكر، ويصعد الرجال في أعلاها ويستعلون على السور وينزلون فوقه، وهي أقدم من المنجنيق، استخدمها المصريون القدماء والآشوريون فاليونان فالرومان والفرس فالمسلمون، وهي عبارة عن قلعة سائرة على العجل، يهجمون بها على الأسوار لمحاربة المحاصرين من أعلى السور.
وقد يستخدمون الدبابة لهدم الأسوار، فيسيرونها ويحتمون بجدرانها ويجعلون رأسها محددا يصدمون به الأسوار حتى تهدم. (9-3) الكبش
هو كالدبابة، لكن رأسه في مقدمته مثل رأس الكبش، ويتحصن الرجال في داخله ويستخدمون الكبش لهدم الأسوار، والرأس المذكور متصل في داخل الدبابة بعمود غليظ، معلق بحبال تجري على بكر معلقة بسقف الدبابة لسهولة جرها، فيتعاون الرجال من داخل الدبابة وورائها على ضرب السور بها حتى يخرقوه.
رأس الكبش.
كبش روماني في فتح القدس.
وفي الشكل صورة كبش روماني يهاجم أسوار البرطيين وقد خاف البرطيون وأتوا بأعلامهم يلتمسون الأمان ويسلمون.
واستخدم المسلمون الدبابة والكبش في كثير من حروبهم، لتسلق الأسوار وهدمها أو خرقها، وكانوا يجعلون في الجيش عدة دبابات، أكثرها صغير الحجم تسع الواحدة بضعة رجال تتفرق حول الأسوار، واستخدم الخليفة المعتصم بالله الدبابات في فتح عمورية، فعمل منها دبابات تسع كل واحدة عشرة رجال.
وكيفية استخدام الدبابات في تسلق الأسوار أنهم كانوا يركبون الدبابة ويدحرجونها إلى السور، فإن كان هناك خندق يمنعهم من الوصول إليه طرحوا الأخشاب على الخندق مثل الجسور، فإذا كان الخندق عريضا، طرحوا فيه الحطب والزرجون والتراب وغيره، مما يحملونه معهم في الدبابة لهذه الغاية حتى يمتلئ الخندق، كل ذلك وأهل الدبابة يحمون الصناع بالجفان، فيجرون الدبابة إلى السور وينقبونه ويدعمونه بالأخشاب، ثم يخرقونه ويلتصقون بالسور، فإذا لم يدركوا سطحه صعدوا إليه بالسلالم، ونزلوا منه إلى المدينة إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا وإلا تحاربوا.
دبابة لتسلق الأسوار.
وكان عندهم ضرب من الدبابات أو الأبراج المسيرة على العجل، في أعلاها مواقف للرجال، إذا اقتربت من السور ولم تستطع خرقه، ألقى أصحابها من أعلى الدبابة سلالم مشوا عليها إلى داخل السور. (10) النار اليونانية
عرب يستخدمون النار اليونانية (نقلا عن مخطوط قديم).
ومما اقتبسه العرب من الروم النار اليونانية، وهي في الأصل من اختراع المشارقة، فقد كان هؤلاء يستخدمون في حروبهم مزيجا سريع الاشتعال لم يعرفه أهل أوربا إلا في القرن السابع عشر للميلاد، والمظنون أن رجلا من أهل الشام اسمه كالينكوس نقله إليهم، وكان الروم يومئذ في إبان حاجتهم إليه ليردوا به هجمات العرب عن القسطنطينية وغيرها من مدنهم في أوربا وآسيا، وقد فازوا بغرضهم منه، لأن العرب حاصروا القسطنطينية مرارا ولم يستطيعوا فتحها، وبالغ الروم في كتمان أسماء المواد التي يتألف منها ذلك المزيج، فظل سر هذه النار مكتوما حتى اطلع عليه العرب، فإذا هي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والأدهان، في شكل سائل يطلقونه من أسطوانة نحاسية مستطيلة كانوا يشدونها إلى مقدم السفينة، فيقذفون منها السائل مشتعلا، أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتاب المتلوث بالنفط، فيقع على السفن أو البيوت فيحرقها، والظاهر أن المقذوفات التي احترقت بها الكعبة في حصار الحصين بن نمير لعبد الله بن الزبير سنة 64ه كانت من هذه النار.
وفي المكتبة الأهلية بباريس مسودة خطية قديمة عليها صور رجال من العرب بعضهم على الخيول والبعض مشاة، وفي أيديهم خرق مبسوسة بالنار اليونانية يرمون بها الأعداء، وكانوا يسمون النار اليونانية «النفط القاذف». (11) اختراع البارود
وهناك اختراع ذو بال ينسب فضله إلى الإفرنج، وهو للعرب - نعني اختراع البارود - فالمشهور عند الإفرنج أن مخترع البارود اسمه شوارتز سنة 1320م (719ه) ولكن راهبا إنكليزيا اسمه (Roger Bacon)
روجر باكن من أهل القرن الثالث عشر للميلاد أشار إلى مزيج من قبيل البارود كان شائعا في أيامه، الصحيح أن العرب أسبق الناس إلى استخدام البارود وإذا لم يكونوا اخترعوه فلا أقل من أنهم أوصلوه إلى ما عرف به في الأجيال الوسطى، فقد ذكر كوندي المستشرق الإسباني المتوفى سنة 1820 أن أهل مراكش استخدموا الأسلحة النارية في محاربتهم سرقوسة سنة 1118م.
وزد على ذلك أن تواريخ العرب تشير إلى استخدام هذه الأسلحة في القرن الثالث عشر للميلاد في حرب المسلمين بالمغرب، ونرى ذلك صريحا في كلام ابن خلدون عن قدوم أبي يوسف سلطان مراكش لفتح سجلماسة سنة 762ه 1273م، قال:
ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب ... وجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فنازلها، وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزنة أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة باريها، فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال ويراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوه عنوة من تلك الفرجة.
وفي هذا القول شاهد صريح على أن البارود كان معروفا عند العرب، وكانوا يستخدمونه في حروبهم قبل شوارتز بنحو نصف قرن.
اختراع العرب للأسلحة النارية.
أدوات النفط.
وفي مكتبة بطرسبرج مسودة عربية قديمة، فيها صور رجلين من العرب يشتغلان في الأسلحة النارية، أحدهما إلى اليمين يحمل ما يشبه البندقية وفيها القنبلة والبارود داخلها، وقد أدناها من لهيب أمامه حتى يولع البارود ويقذف القنبلة.
وهناك أيضا صورة فارس يحمل قناة ملفوفة بقماش، ذات أهداب تلت بالنفط وترمى على الأعداء حين الاقتضاء، وبجانبي الفارس رجلان ماشيان، على بدنيهما وبدنه وبدن فرسه نسيج ذو أهداب يستخدم للنفط عند الحاجة. (12) المدافع
هي أنابيب ترسل بها المقذوفات كما ترسل بالمنجنيق، لكنها في هذا ترسل بحركات ميكانيكية كالمقاليع والأتار ونحوها، وأما في المدافع فإنها تقذف بالبارود.
وأول من أتقن استخدام المدافع في الدول الإسلامية الدولة العثمانية، وبها استعانوا على فتح القسطنطينية سنة 1453، وفي كثير من الفتوح والحروب، فأصبح الجند المحاصر لبلد ينصب حوله المدافع بدل المجانيق، يفرقها مع جنده حول المكان المراد محاصرته، وكانوا في أول شيوع المدافع يستخدمون معها سائر آلات الحصار القديمة، من الأبراج والدبابات وغيرها، لأن المدافع لم تكن في أول أمرها تقذف قنابلها إلى مسافات بعيدة، وكان المحاصرون من الجهة الأخرى يحيطون معسكراتهم أو قلاعهم بالأسوار العالية والخنادق العميقة، على أشكال مختلفة، ويجعلون السور مضاعفا أو مثلثا ينصبون عليه آلات الدفاع كالمدافع وغيرها.
وكان المحاصرون يبنون على الأسوار أبراجا، يجمعون فيها الحامية للدفاع بآلات القذف المختلفة، ويبذل المحاصرون جهدهم في أخذ الأبراج. (13) تعبئة الجيوش
قلنا في كلامنا عن تاريخ الجند أن نظامه كان عند الأمم المتمدنة الصفوف والكتائب، وأما العرب في جاهليتهم فقد كانوا على غير نظام، وكانت حروبهم من النوع الذي يعبرون عنه بالكر والفر، واسمه يدل عليه، وذلك أنهم كانوا إذا هموا بالقتال كروا على عدوهم، فإذا أحسوا بضعف فروا، ثم يعودون فيكرون وهكذا، بلا نظام ولا قاعدة، فلما ظهر الإسلام كان في جملة أوامره ترتيب الناس صفوفا في الحرب، عملا بالآية:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، وفي الحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». وبناء على ذلك كانت حروب المسلمين في أيام النبي صفوفا، وهو ما يعبرون عنه بالزحف فكانوا يسوون كما تسوى الصفوف للصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما واحدة.
فحاربوا البدو بنظام لا يعرفونه، وكان ذلك من جملة أسباب نصرتهم على قبائل العرب أهل الكر والفر، واعتبر ذلك في تراجم الفاتحين العظام كالإسكندر والسلطان سليم العثماني وبونابرت وغيرهم، فإنهم إنما غلبوا العالم بنظام جديد أدخلوه في جنودهم، أو بأسلحة جديدة تفردوا بها دون أعدائهم.
وكان أهل الكر والفر يمنعون رجالهم عن الفرار بإبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، فيصفونها وراءهم فتكون فيئا لهم ويسمونها «المجبوذة»، وهي التي تثبت أقدامهم في الحرب، أما المسلمون فكانوا مع ثباتهم بالزحف يجعلون وراءهم الإبل والنساء والولدان والأحمال، فيزيدهم ذلك استماتة في الحرب وصبرا على القتال.
كان الجند في أيام النبي يترتب صفا أو صفين، تبعا للكثرة والقلة، فلما تكاثر المسلمون في أيام الخلفاء الراشدين صاروا يجعلونه صفوفا يرتبونها باعتبار أسلحتها والأحوال المحيطة بها، وإليك طرفا من وصية علي بن أبي طالب لجنده، يوم واقعة صفين سنة 37ه فإنها تنطوي على خلاصة نظام الجند في الحرب أيام الراشدين، قال: ... فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر. (13-1) الكراديس
ثم تكاثر جند العرب واختلطوا بالأعاجم في أيام بني أمية، فعمدوا إلى «التعبئة»، وهي ترتيب الكتائب كراديس، كما بيناه في تاريخ الجند، وذلك أن الروم كانوا إذا نشبت الحرب قسموا جنودهم إلى أقسام يسمونها كراديس
Koortis (كورتيس في اليونانية ومعناها الكتلة أو الكتيبة)، ويسمون كل كردوس كتيبة بصفوفها، فيجعلون الملك أو القائد العام وحاشيته وراياته وشعاره كتيبة تقوم في الوسط ويسمونها القلب، وأمامها كتيبة يغلب أن تكون من الفرسان وهي المقدمة، ويقيمون كتيبة أخرى عن يمين كتيبة الملك يسمونها الميمنة، وأخرى إلى يساره يسمونها الميسرة، وكتيبة وراءه يسمونها ساقة الجيش على هذه الصورة:
المقدمة
الميمنة
قلب الجيش
الميسرة
الساقة
وترى التعبئة على هذه الكيفية خمسة أجزاء، ومنها تسمية الجيش بالخميس، ويتقدم الخميس كوكبة من الفرسان يقال لها: «الطليعة»، لأجل الاستكشاف على مواقف العدو، فإذا ترتب الجيش على هذه الصورة زحف على العدو زحفا، وربما جعلوا وراءهم ما يثبتهم في زحفهم كما كان الفرس يفعلون، فإنهم كانوا يتخذون الفيلة في الحروب، يحملون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصروح، مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات، ويضعونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بها نفوسهم، وربما جعلوا ملجأهم الأسرة، فينصبون للملك سريره في حومة الحرب وراء المقاتلة، ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه، وترفع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة، يعظم هيكل السرير ويصير فيئا للمقاتلة وملجأ لهم.
وكثيرا ما كانت العجم تحارب بالكر والفر، وتجعل مثل ذلك الملجأ وراء جندها مما لا يقع تحت حصر، فاضطر العرب في كثير من وقائعهم مع الفرس والروم في صدر الإسلام أن يحاربوا بالكراديس، كما فعل خالد بن الوليد في واقعة اليرموك سنة 13ه فعبأ تعبئة لم تعبئ العرب مثلها قبلها، فجعل جيشه 36 كردوسا إلى الأربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وأقام عليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبي سفيان إلخ ... وكذلك فعل سعد بن أبي وقاص في القادسية سنة 14ه.
ولكن يظهر أنهم فعلوا ذلك اضطرارا، لمحاربة الروم بمثل نظامهم، ولم يجعلوا التعبئة قاعدة حروبهم إلا سنة 128ه على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فإنه أبطل الصفوف ونظم الكراديس، فحارب بها الضحاك الخارجي ثم الخبيري، ولما بطلت الصفوف تنوسي الزحف، ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما دخل الدولة من الترف، ولم يعودوا يحملون نساءهم وأولادهم معهم إلى الحرب.
وهاك ما قاله عبد الحميد كاتب محمد بن مروان يوصي ولي عهد الخلافة بتعبئة الجيوش، وهي صورة من صورها في زمن بني أمية، قال:
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربا وقد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجزة وأعد إعداد الحذر واكتب خيولك وعبئ جنودك، وإياك والمسير إلا مقدمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة ونشروا البنود والأعلام، وعرف جندك مراكزهم، سائرين تحت ألويتهم، قد أخذاو أهبة القتال واستعدوا للقاء، ملحين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم عن مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترجلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم ومراكزهم، وعرف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة، لازمين لها غير مخلين بما استنجدتهم له ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه، حتى تكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها كأنه عسكر واحد، في اجتماعها على العدة وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها، إن ضلت دابة عن موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها، فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها، فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له اطراح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة، ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضاء في العامة وإنصافا من نفسه للرعية وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته، آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال وشبيها بك في الشرف وعديلا في المواضع ومقاربا في الصيت، ثم اكتشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح، ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن زحفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة، من غير أن تأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة، ثم تقدم إليه محذرا ومره زاجرا وانهه مغلظا بالشدة على من مر به منصرفا عن عسكرك من جندك بغير جوارك شادا لهم أسرا وموقرهم حديدا ومعاقبهم موجعا، أو موجههم إليك فتنهكهم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة ... إلخ.
على أن بعض دعاة الخلافة من أهل البيت اعتبروا العدول عن الصف إلى الكراديس بدعة في الإسلام، فظلوا على الزحف صفوفا ولو أدى بهم إلى الخطر، كما فعل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، لما بعث المنصور عيسى بن موسى لمحاربته، فالتقيا عند باخمرا على 16 فرسخا من الكوفة، فأشار عليه بعض أصحابه أن يجعل جنده كراديس، «لأن الكراديس أثبت في الحرب، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، أما الصف فإذا انهزم بعضه تداعى سائره»، فقال إبراهيم وسائر من معه: «لا نصف إلا صف أهل الإسلام»، يعني الآية:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا
إلخ، فدارت الدائرة على إبراهيم ...
وبعد رسوخ المسلمين في المدنية تفننوا في تعبئة الجيوش، بما اقتبسوه من فنون الحرب عند القدماء بعد ترجمة كتبهم أو دراستها، وتعددت ضروب التعبئة عندهم حتى صارت سبع تعبئات، وإن كانوا لا يستعملونها كلها، ولكنهم أدخلوها في فنونهم الحربية: التعبئة الأولى أن ترتب الجيوش بشكل الهلال، قالوا إن الفرس المتقدمين ذكروه. وهو نوعان: الهلال المرسل أو الحاد وهو البسيط مثل هلال السماء والهلال المركب وهو أن يكون إلى جانبي الهلال شبه هلالين كأنهما جناحان، وهي التعبئة الثانية، والتعبئة الثالثة المربع المستطيل، والتعبئة الرابعة الهلال المقلوب، والخامسة أن ينظم الجيش في شكل المعين أو المربع المنحرف، والسادسة المثلث، والسابعة الدائرة المزدوجة، وهي: دائرتان إحداهما داخل الأخرى، وكانوا يعمدون إلى هذا الضرب من التعبئة إذا كان جندهم قليلا وجند عدوهم كثيرا، وهو يشبه آخر ما بلغ إليه المتمدنون من التفنن في التعبئة - نعني مربع بونابرت الذي دوخ به الممالك، وهو عمدة الجنود المنظمة إلى اليوم، فكان المسلمون إذا عبأوا الجيش إلى الحرب، نظموه إما كراديس أو مربعات أو مثلثات أو جعلوا بعضه كراديس وبعضه مربعا أو هلاليا أو معينا أو مثلثا، على ما تقتضيه الأحوال. (14) المعسكر
أما تنظيم المعسكر فلم يكن له علم خاص في أوائل الإسلام، بل كان العرب يجرون في نصب خيامهم وترتيبها على ما كانوا في جاهليتهم فيكون فسطاط الأمير في الوسط، وحوله فساطيط الأمراء والخاصة، وإذا كانت النساء والأولاد معهم، جعلوها وراء المعسكر، ولما أبطلوا حمل العيال معهم - كما تقدم - جعلوا يقلدون الروم والفرس في مضاربهم، وتفننوا في ذلك على ما اقتضته الأحوال، فلما تعددت فرق الجند، وكثرت الحاشية والمماليك والخدمة، صار المعسكر أشبه ببلد، فيه الكتاب والفقهاء والأطباء والكحالون وأصحاب الطبول والأتباع وغيرهم، فضلا عن أصناف الجند، كما ترى في الصفحة التالية، وهو أرقى ما بلغ إليه نظام المعسكر في الإسلام.
معسكر روماني (له أربعة أبواب:
A في مقدمه و
R في مؤخره و
C و
D في الجانبين، كل باب منها خاص بطبقة من الجند. وقد ترتبت الكتائب أو الكراديس في ستة صفوف مزدوجة بينها طرق طولية، ويقطعها عرضا شارع واحد. وأمام الكتائب خيم كبار القواد 1 و2 و3 وإلى جانبها 4 و5 خيم المتطوعين. وأمامها في أول المعسكر 6 و7 جند المتطوعة وبعدها على الزاويتين 8 المساعدون من جند الأجانب). (15) مناداة الجند
كانوا في أوائل الإسلام إذا تهيأ الجيش للقتال نادى قواده «النفير النفير» وهي علامة الهجوم عندهم، تقابل نداء قواد الجند الآن في مصر «هجوم حاضر ال» ثم «هجوم!» وإذا أرادوا إرجاعهم قالوا «الرجعة الرجعة!» وهي مثل قولهم اليوم «جريه!»، وكانوا إذا أرادوا أن يركب الفرسان للحرب نادوا «الخيل الخيل!» ويقال لمثل ذلك في الجيش المصري: «بين ما به حاضر ال!» ثم «بين!» وإذا أرادوا أن يترجلوا قالوا «الأرض الأرض!»، ومثلها في مصر «أين مايه حاضر ال!» ثم «أين!».
ولما تمدن المسلمون وتعددت أجزاء جندهم وتنوعت حركاتهم، جعلوا لكل حركة نداء خاصا يدل لفظه على المراد به، وهذه أسماؤها: (1)
الميل. (2)
الانقلاب. (3)
الانفتال. (4)
تسوية الانفتال. (5)
استدارة صغرى.
معسكر إسلامي كامل نحو القرن الثامن للهجرة في أرقى ما بلغ إليه نظام الجند عندهم. (6)
استدارة كبرى. (7)
تقاطر. (8)
اقتران. (9)
رجوع إلى الاستقبال. (10)
استدارة مطلقة. (11)
أضعاف. (12)
أتباع الميمنة. (13)
أتباع الميسرة. (14)
جيش منحرف. (15)
جيش مستقيم. (16)
جيش مورب. (17)
رض. (18)
تقدم. (19)
حشو. (20)
رادفة. (21)
ترتيب بعد ترتيب.
فكانوا إذا أراد قائد الجند أن يميل جنده إلى جهة، أو يتخذ شكلا خاصا من هذه الأشكال، أو حركة من هذه الحركات، ناداه بكلمة من هذه الكلمات، وهم قد تدربوا على المراد من كل منها، فيميلون كما يشاء على مثال الحركات العسكرية في جنود هذه الأيام، ثم اختصروا ذلك في كلمتين هما: «هوا جوا!» و«هو برا!» واستعانوا على إتمام المراد بالإشارات، ولذلك كان على الجند أن يراعوا الرئيس بأعينهم، حتى إذا مال إلى جهة مالوا معه، وفسروا هذين اللفظين بأن المراد بهو جوا أن تقبل الوجوه تجاه بعضها بعضا، وعكس ذلك هو برا. (16) شعار الجند
كان للعرب في جاهليتهم ألفاظ يتعارفون بها في أثناء الحرب يسمونها الشعار، وليست هي ألفاظا معينة، ولكنهم كانوا يصطلحون عليها على مقتضى الأحوال، كان شعار الأحزاب في غزوة أحد «يا للعزى يا لهبل»، وكان شعار تنوخ في الحيرة «يا آل عباد الله»، وجعل النبي لكل من المهاجرين والأنصار شعارا، فكان شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن»، وشعار الأوس «يا بني عبيد الله»، وشعار الخزرج «يا بني عبد الله»، وسمى خيله «خيل الله»، وكان المسلمون بعد ذلك يجعلون لجنودهم شعارا يتعارفون به، على نحو ما تقدم. (17) الثغور والعواصم
ويراد بها حدود المملكة الإسلامية برا وبحرا، فقد رأيت فيما تقدم أن العرب لما جاءوا لفتح الشام إنما بدأوا ببرها من جهة حوران مما يلي الصحراء، لأن قوات الروم كان معظمها في مدن السواحل، فجعلوا فتوحهم تمتد من البر نحو البحر، ومن العرب وأهل البلاد الأصليين إلى الروم، فبعد أن فتحوا دمشق ساروا نحو السواحل، وفي مقدمتهم يزيد بن أبي سفيان وأخوه معاوية، وكان ذلك في أيام أبي عبيدة عامر بن الجراح على دمشق، جاءوا بيروت وصيدا وجبيل ففتحوها فتحا يسيرا، ثم عاد الروم بعدئذ فاسترجعوها، لأن قواتهم في البحر كانت كبيرة، وما زالت في أيدي الروم حتى تولى الخليفة عثمان، ومعاوية عامله على الشام، ففتحوا طرابلس وغيرها، وكانت لمعاوية رغبة في غزو البحر، وعثمان يخافه كما كان عمر يخافه من قبل، وما زال معاوية يلح على عثمان حتى أذن له، فسلمت ثغور الشام عندئذ للمسلمين، فجعل الناس ينتقلون إليها من كل ناحية، فعمرت بهم.
وكانت ثغور الشام في أيام الخللفاء الراشدين أنطاكية، وغيرها من السواحل التي سماها الرشيد عواصم، فكان المسلمون يغزون ما وراءها، وكان للروم بقية في بعض المسالح بين الإسكندرونة وطرسوس، فلما تولى بنو أمية أتموا فتحها، وزادت عمرانا في أيام بني العباس، وجعلوا فيها الحامية والسلاح لدفع غارات الروم، لأنهم كانوا لا ينفكون عن مناداة العرب، فبنى العرب حصونا هناك، ورمموا الحصون التي كان الروم قد بنوها، وجعلوا لأهلها عطاء كبيرا وأمروهم بالغزو.
وفعلوا نحو ذلك في حدود المملكة الإسلامية من جهة البر، فاتخذوا مدنا حصينة جعلوها ثغورا يقيمون فيها الجند والسلاح في قلاع لدفع العدو أو لغزو بلاده.
وبناء على ذلك فإن تخوم المملكة الإسلامية بعضها من جهة البر، والبعض الآخر يتصل إليه بالبر والبحر معا.
والحدود البحرية هي على الإطلاق ثغور الشام ومصر، فإذا عددنا الثغور الشامية من الشمال كان أولها طرسوس فأدنة فالمصيصة وعين زربة والكنيسة والهارونية وإياس ونقابلس، وارتفاعها - أي دخلها - نحو 100000 تنفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها، من نفقات الحامية والترميم والمخائض والحصون وغير ذلك، لا يرد منها شيء إلى بيت المال، بل قد ينفق عليها بيت المال ورواتب الجنود، وثغور مصر منها رفح والعريش ودمياط والإسكندرية.
ويلي ثغور الشام من الشمال الثغور التي سموها الجزرية، نسبة إلى جزيرة العراق، وأولها مرعش ثم الحدث ثم حصون متتابعة إلى ثغر شميشاط ثم ملطية، وارتفاع هذه الثغور مع ملطية 70000 دينار، يصرف في مصالحها 40000 ويبقى 30000، ويحتاج لنفقة الأولياء والصعاليك 170000 دينار تضاف إلى تلك البقية، فيكون المجموع مئتي ألف دينار سوى نفقات المغازي، والثغور المذكورة هي الواسطة التي منها كانت المغازي، وعواصم هذه الثغور دلوك ورعبان ومنبج، ناهيك بالثغور التي تحاذي بلاد الهند في الشرق، مما يطول شرحه. (18) الغزوات
فالثغور المذكورة هي حدود المملكة الإسلامية، وهي التي عزلها هارون الرشيد سنة 170ه عن الجزيرة وقنسرين وسماها العواصم، وكان المسلمون يخرجون منها كل سنة للغزو في البحر والبر، جهادا في سبيل الإسلام، وكان الجهاد فرضا على المسلمين يحرضهم الخلفاء عليه، كما رأيت في قول أبي بكر يوم تولى الخلافة «لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل»، أما غزو البحر فقد كانت مراكبهم تجتمع في سواحل الشام ومصر، حتى تلتقي في جزيرة قبرص، وعددها ما بين 80-100 مركب، ويسمى ما يجتمع منها هناك الأسطول، وكان يتولى قيادة الأسطول صاحب مراكب الثغور الشامية، وكانت تبلغ النفقة على هذه المراكب، إذا غزت مصر والشام، مائة ألف دينار.
وكانت غزواتهم تعين باعتبار الفصول، فمنها غزوة صيفية وتسمى صائفة، أو شتوية وتسمى شاتية، أو ربيعية تقع في العاشر من شهر أيار (مايو) أي بعد أن يكون المسلمون قد أربعوا دوابهم وحسنت أحوال خيولهم، فيقيمون في الغزوة ثلاثين يوما أي إلى العاشر من حزيران (يونيو) فكأنهم يجدون الكلأ حينئذ في بلاد الروم ممكنا، فترتبع دوابهم ربيعا ثانيا، ثم يقفلون فيقيمون 25 يوما أي إلى 5 تموز (يوليو) حتى تقوى الخيول فيجتمون لغزو الصائفة أي الصيف، ثم يغزون لعشر تخلو من تموز، فيقيمون إلى وقت قفولهم ستين يوما، وكانوا في بعض السنين يغزون صائفتين، يسمونهما الصائفة اليمنى والصائفة اليسرى.
أما في الشتاء فغزواتهم قليلة ولا يبعدون فيها أكثر من عشرين ليلة، ويكون ذلك في آخر شباط (فبراير) فيقيم الغزاة إلى أوائل أذار (مارس) ثم يرجعون ويربعون دوابهم.
فترى مما تقدم أن الخلفاء لم يقتصروا على حفظ مملكتهم، بل جعلوا غزو الممالك الملاصقة لها فرضا واجبا عليهم، وهو من قبيل الجهاد في سبيل الله - كما قدمنا - وكان من أكثر الخلفاء رغبة في ذلك بنو العباس، فإنهم لما استتب لهم الأمر ودانت لهم المملكة الإسلامية تحولوا إلى الغزو، فكانوا في أوائل دولتهم يرسلون بعض القواد لغزو الروم كل سنة، كما يرسلون من يحج بالناس، ثم صاروا يغزون بأنفسهم، فقد غزا المهدي سنة 163ه الروم بنفسه، وسير ابنه الرشيد سنة 165ه لغزوهم ومعه 95930 رجلا، فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا خليج القسطنطينية، بعد أن مروا بمسالح الروم في طريقهم، فاسترضاهم صاحبها بمال مقداره: 193450 دينارا و21140800 درهم.
فلما وصل الرشيد إلى القسطنطينية خافه أهلها، وكان على كرسي القسطنطينية الإمبراطورة إيريني، فصالحته على فدية مقدارها سبعون ألف دينار تدفعها له كل سنة، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق، وطول الهدنة ثلاث سنين، وبلغ مقدار ما غنمه المسلمون في أثناء تلك الغزوة غير ما تقدم 5643 رأسا من السبي، وعشرين ألف رأس من الدواب، ومائة ألف رأس غنم وبقر، وقتلوا من الروم في تلك الغزوة وحدها 54 ألف نفس، ما عدا الأسرى، ومن ذلك يتبين لك ما كان يزيد المسلمين رغبة في الغزو. (19) الأساطيل (19-1) ركوب البحر
لم يركب العرب البحر قبل الإسلام، إلا ما كان من سفائن حمير وسبأ في أيام التبابعة، لأنهم كانوا أهل تجارة في البر والبحر، وأما عرب الحجاز فإنهم كانوا يخافون البحر ولا يجسرون على ركوبه - وذلك شأن البدو إلى هذا اليوم، فلما ظهر الإسلام وخفقت أعلام المسلمين على سواحل الشام ومصر، رأوا سفن الروم وشاهدوا حروبها فيها فتاقت أنفسهم للغزو في البحر، وأول من ركب البحر منهم العلاء بن الحضرمي، وكان عاملا على البحرين في أيام عمرو بن الخطاب، فأحب أن يفتح سواحل فارس وبينه وبينها خليج فارس، فعبر إليها في المراكب ولم يستأذن عمر، ولم يفلح في غزوته.
فشق ذلك على عمر، فجعل قصاصه أن يكون تحت إمرة سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة يومئذ، وشدد عمر في منع المسلمين من ركوب البحر، وكان معاوية قد تولى جند دمشق والأردن، وهو رجل المطامع البعيدة، فراقه ركوب بحر الروم لغزو ما وراءه، فبعث إلى عمر يستأذنه فأبى، فألح عليه ورغبه في الكسب، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص أمير مصر يطلب إليه أن يصف له البحر فأجابه «يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ... ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه دود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق»، فلما جاءه الكتاب بعث إلى معاوية «والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا».
أسطول عربي يحارب الروم وهم يرمونه بالنار اليونانية.
فلما كانت خلافة عثمان أطاع معاوية لشدة إلحاحه، ولكنه شرط عليه أن يجعل الغزو في البحر اختياريا، فمن اختار ركوبه حمله وأعانه، فركب معاوية في البحر إلى قبرص سنة 28ه فصالحه أهلها على 7200 دينار يدفعونها له كل سنة، وهي أول غزوة غزاها المسلمون في البحر، وراقهم النصر فازدادوا رغبة في غزوه فجعلوا ذلك في أوقات معينة من الصيف والشتاء كما تقدم. (20) الأساطيل في الإسلام
ولم يكن للعرب معرفة في الملاحة، فاستخدموا أولا من كان في حوزتهم من الروم، وفيهم أهل الصناعة والنواتية، فأنشأوا لهم السفن والشواني، وشحنوها بالرجال والسلاح، وأركبوها العساكر والمقاتلة لغزو ما وراء البحر، وسموا مجمع السفن أسطولا، وهو لفظ يوناني (Stolos)
عربوه، وجعلوا مقر أساطيلهم بحر الروم خاصة، واشترك في ملاحة البحر منهم أهل الشام وأفريقية والأندلس، وأنشأوا دور الصناعة (الترسانة) في تلك البلاد لبناء السفن وإعداد معداتها، وأول دار للصناعة في الإسلام بنيت في تونس على عهد عبد الملك بن مروان، فأمر عامله على إفريقية حسان بن النعمان بذلك ففعل، وأنشأ السفن وجهزها بالعدة والسلاح، وبعث فيها المقاتلة لغزو صقلية (سيسيليا) فلم يتيسر لهم فتحها إلا في أيام الأغالبة، ففتحها أسد بن الفرات على عهد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وفتح أيضا قوصرة فازداد المسلمون رغبة في غزو البحر، فبالغوا في إنشاء الأساطيل في إفريقية والأندلس، فبلغ عدد سفن أسطول الأندلس في أيام عبد الرحمن الناصر في أواسط القرن الرابع للهجرة مائتي سفينة، وكان أسطول إفريقية نحو ذلك، وأشهر مرافئ الأندلس بجانة وألمرية، وكانت دور الصناعة قد تعددت هناك، وكل دار تبني أسطولا عليه قائد ورئيس، فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتليه، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجاديف، فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو أو غرض آخر عسكرت بمرفئها المعلوم، وجعلوا النظر فيها كلها لأمير واحد من أعلى طبقات المملكة.
وأما مصر فقد أنشئت فيها دور الصناعة في أواخر القرن الأول للهجرة كما سيأتي، وأول من أنشأ الأسطول فيها عنبسة بن إسحق أميرها من قبل الخليفة المتوكل على الله العباسي، وسبب ذلك أن الروم نزلوا دمياط سنة 238ه وملكوها، وقتلوا وسبوا، فعظم الأمر على أمير مصر فأمر بإنشاء الشواني للأسطول، وجعل للبحر غزاة مثل غزاة البر، وجعل أرزاقهم مثل أرزاقهم، فاجتهد الناس في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القواد العارفين وشحنه بالرجال والسلاح، وأرسله لغزو الروم في جملة أساطيل إفريقية والأندلس والشام، فكانت الحروب بين المسلمين والروم سجالا، يأسر بعضهم بعضا، فاحتاج الخلفاء إلى افتداء أسراهم بالمال، فوضعوا ما يسمونه الفداء. (21) الفداء
وأول من افتدى أسرى المسلمين بالمال هارون الرشيد العباسي سنة 189ه، وكان الفداء قبله يقع بالمبادلة: النفر بالنفر، وأشهر الأفدية 13، وكلها في أيام بني العباس، آخرها جرى في أيام المطيع لله سنة 335ه، وبلغ عدد الذين افتداهم الخلفاء في هذه المدة نحو 50 ألف نفس، وكان الفداء يقع غالبا على ضفتي نهر اللامس من سواحل بحر الروم قريبا من طرسوس، ويحضر الفداء جمهور من المسلمين والروم فيقضون في الافتداء بضعة عشر يوما إلى بضع عشرات، وشهد الفداء الأول نحو 50000 نفس من المسلمين، بأحس ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة، حتى ملأوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء، وجاءت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزي ومعهم الأسرى، وكان عدد الذي فودوا فيه 3700 نفس، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يخاطب الرشيد من أبيات:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها
محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها
وقالوا سجون المشركين قبورها (22) الأساطيل المصرية
ولما دخلت مصر في حوزة العبيديين (الفاطميين) ملوك إفريقية، بذلوا عنايتهم في إنشاء الأساطيل في الإسكندرية ودمياط ومصر، وبلغت الجنود البحرية في أيامهم خمسة آلاف لهم الرواتب المعينة، منهم عشرة قواد راتب كل واحد منهم من 10 إلى 20 دينارا، ومنهم أقل من ذلك إلى دينارين وهي أقلها، ولهم إقطاعات كانوا يسمونها أبواب الغزاة، وكانوا ينتخبون أحد هؤلاء القواد رئيسا للأسطول، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو آمرهم وناهيهم، ومع هذا الرئيس أمير كبير من أمراء الدولة، وأما النفقة على غزاة الأساطيل فكان الخليفة يتولى تفريقها بنفسه بحضور الوزير، مبالغة في إكرام رجال البحر ورفع منزلتهم، وبلغت المراكب في أيام المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين بمصر 600 قطعة، ثم نقصت بعده حتى أصبحت مائة قطعة.
وكانوا يحتفلون في إخراج الأسطول إلى الغزو احتفالا شائقا يحضره الخليفة، فيجلس في منظرة معدة له على ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة لوداع الأسطول، فيجيء القواد بالمراكب إلى هناك، وهي مزينة بأسلحتها وبنودها، وفيها المنجنيقات فيرمي بها فتنحدر المراكب وتقلع، وتفعل ما تفعله لو كانت في حرب، وهو ما يعبرون عنه اليوم بالمناورة، ثم يحضر الرئيس والمقدم بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو لهما، ويعطى المقدم 100 دينار والرئيس 20 دينارا، ويحتفلون مثل هذا الاحتفال عند عودتهم من الغزو، وفي أيام صلاح الدين أنشئ للأساطيل ديوان خاص سموه ديوان الأسطول، وعينوا الأموال للنفقة عليه. (23) فتوح المسلمين البحرية
وكان للأساطيل تأثير كبير في توسعة المملكة الإسلامية، لأنهم فتحوا بها أشهر جزر بحر الروم، ومنها سردينية «سردينيا» وصقلية «سيسيليا» ومالطة وأقريطش «كربد» وقبرص وغيرها، وفتحوا كثيرا من شواطئ هذا البحر مما يلي أوربا، وسارت أساطيلهم فيه جائية ذاهبة، وعليها العساكر الإسلامية تجوز البحر من صقلية إلى بر إيطاليا في الشمال، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، وخصوصا في أيام بني الحسين الكلابيين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوى الفاطميين، فانحاز الإفرنج بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من هذا البحر، وملك المسلمون سائره بمراكبهم وأساطيلهم، وصاروا سلاطين البحر كما كانوا سلاطين البر، وضعف أمر الإفرنج إلى أن أدرك الدولة العبيدية بمصر والأموية بالأندلس الفشل، وطرقها الاعتلال بحكم ناموس الاجتماع، وأفاق الإفرنج وعادوا إلى استرجاع بلادهم فاسترجعوها، وسطوا على بلاد المسلمين نفسها، وكان ما كان من الحروب الصليبية على ما هو مشهور.
وكان المسلمون قد أهملوا أمر الأساطيل، وقل تجنيدهم لها وبطل ديوانها، وبعد أن كان جند البحر عندهم يلقبون بالمجاهدين في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله ويتبرك بدعائهم الناس، أصبح «أسطولي» بمصر لقب إهانة، وصارت خدمة الأساطيل عارا عندهم، وظل ذلك شأنهم حتى تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلطان المماليك الشهير، فأعاد شأن الأساطيل، لكنها لم تعد إلى ما كانت عليه في عز الإسلام، على أنهم بذلوا جهدا كبيرا في دفع الصليبيين عن مصر، وكان الصليبيون يأتون غالبا من جهة النيل، وكان المماليك يبنون على ضفتي النيل أبراجا من الخشب يوصلون بينها بسلاسل الحديد، لتمنع سفن الإفرنج من المرور في النيل.
بربروسا أو خير الدين باشا.
انحط شأن الأساطيل في مصر والشام، وبقي في الأندلس وإفريقية، وبقيت دولة المغرب مختصة بها، وظل ذلك شأنهم إلى أواخر دولتهم وكان عدد أساطيلهم في العدوتين «أوربا وإفريقية» - على ما رواه ابن خلدون - مائة أسطول، وفي أثناء ذلك نبغ أحمد الصقلي قائد أساطيل المغرب في القرن السادس للهجرة، وانتهت أساطيل المسلمين في أيامه إلى ما لم تبلغ قبله ولا بعده، ثم انحطت بانحطاط الدولة حتى انقضت بانقضاء الإسلام في الأندلس، ثم عاد الأسطول الإسلامي إلى الظهور في عهد الدولة العثمانية، واشتهر من قواده بربروسا خير الدين باشا في القرن التاسع للهجرة. (24) دار الصناعة
يراد بدار الصناعة عندهم ما نعبر عنه اليوم بالترسانة أو الترسخانة، وهما منقولتان عن تلك الكلمة، لأن الإفرنج لما فتحوا بلاد العرب كان في جملة ما اقتبسوه عنهم صناعة المراكب، كما اقتبسها العرب من أسلافهم ، وسمى الإسبان دار الصناعة
Darsina ، وأخذتها عنهم سائر لغات أوربا، فتقلبت بالنحت حتى صارت أرسنال
Arsenal ، وأخذها العرب عن الإسبان
Tarsanah
بطريق التركية، فظنوها تركية فعربوها ترس خانة أو ترسانة، وهي أولى أن تسمى دار الصناعة، وقد يقال ذلك في اشتقاق لفظ «أميرال»
Amiral
الإفرنجية عن «أمير البحر» العربية.
وكانت دور الصناعة في بلاد الإسلام كثيرة في الأندلس وإفريقية وفي الشام ومصر، وأول دار بنيت بمصر لهذه الغاية أنشئت في جزيرة الروضة تجاه الفسطاط في القرن الأول للهجرة، ثم عني أحمد بن طولون بتوسيعها وتحسينها، ثم نقلت إلى الفسطاط في أيام الإخشيد في أول القرن الرابع للهجرة، حتى لا يكون بينها وبين الفسطاط بحر، ثم أنشأ الفاطميون دارا للصناعة في المقس بقرب مدينتهم «القاهرة» وكانت تصنع في هذه الدور المراكب على أنواعها ومنها النيلية والبحرية، فالنيلية كانوا ينشئونها لتمر في النيل من أعلى الصعيد إلى مصاب النيل تحمل الغلال وغيرها، والحربية هي مراكب الحرب لحمل المقاتلين للجهاد، وهي التي يقال لمجموعها: الأسطول. (25) أشكال السفن ومعداتها
وكانت المراكب الحربية أنواعا تتفاوت شكلا وجرما وقوة، منها «الشونة» وهي مراكب كبيرة كانوا يقيمون فيا أبراجا وقلاعا للدفاع، و«الحراقة» كانوا يحملون فيها منجنيقات يرمى بها النفط المشتعل على الأعداء - ويسمون المنجنيق عرادة - و«الطرادة» سفينة صغيرة سريعة الجري، و«العشاريات» مراكب يسار بها في النيل، وهناك سفن أخرى لأغراض أخرى مثل الشلنديات والمسطحات وغيرها، وكانوا يبنون سفنهم على مثال سفن اليونان والرومان، لأنهم أخذوا هذه الصناعة عنهم وعدلوها.
سفينة عربية (نقلا عن نسخة مخطوط قديمة من مقامات الحريري في مكتبة المستشرق شيفر).
وكان من معدات السفن الحربية عندهم الزرد والخوذات والدرق والتروس والرماح والقسي والكلاليب والباسليقات - وهي سلاسل في رؤوسها رمانة حديد - والعرادات، وكانوا يجعلون في أعلى الصواري صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها التوابيت، يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بالأحجار وهم مستورون بالصناديق، وقد يكون مع بعضهم بدل الحجارة قوارير النفط للإشعال، أو جرار النورة - وهو مسحوق ناعم من مزيج الكلس والزرنيخ - يرمون بها في مراكب الأعداء فتعمي الرجال بغبارها، وقد تلتهب عليهم إذا تبددت، أو يرمون عليهم قدور الحيات والعقارب أو قدور الصابون اللين فإنه يزلق أقدامهم، وكان يعلقون حول المراكب من الخارج الجلود أو اللبود المبلولة بالخل أو الماء والشب والنطرون لدفع أذى النفط، وقد يحتاطون لذلك بالطين المخلوط بالبورق والنطرون أو الخطمي المعجون بالخل، فإن هذه مواد تقاوم فعل النفط.
وكان من احتياطاتهم في أثناء الحرب أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارا ولا يتركون فيها ديكا، وإذا أرادوا المبالغة في الاختفاء أسدلوا على المراكب قلوعا زرقا كي لا تظهر عن بعد.
وكانوا يجعلون في مقادم المراكب أداة كالفأس يسمونها «اللجام»، وهي حديدة طويلة محددة الرأس جدا وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها «الإسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز من مقدم المركب فيحتالون في طعن المراكب به، فإذا أصاب جانب المركب بقوة خرقه حتى يخشى غرقه بما ينصب فيه من الماء فيطلب أصحابه الأمان.
وأما الكلاليب ففائدتها أنهم إذا دنوا من مركب العدو ألقوا الكلاليب عليه فيوقفونه، ثم يشدونه إليهم ويرمون عليه الألواح كالجسر ويدخلون إليه ويقاتلون، وإذا كان العدو قويا أبطل فعل الكلاليب بفأس ثقيلة من فولاذ يضربون به تلك الكلاليب فتنقطع.
بيت المال
البحث في بيت المال يشمل النظر في كل ما يتعلق بأموال الدولة من خراج وصدقة وأعشار وأخماس وجزية وغير ذلك، ويسمى الديوان السامي، وهو أصل الدواوين ومرجعها عندهم، ووظيفته أن يثبت في جرائده جميع أصول الأموال السلطانية على أصنافها، من عين وغلال وفيء وغنائم وأعشار وأخماس، ويثبت ما تحصل من ذلك ويتخذ بيوتا لأصناف الأموال ويجعل عليها دواوين وحرسا، فالأموال والقماش لها ديوان الخزانة، ويجب أن يكون مباشروه قضاة المسلمين بأنفسهم بلا نواب عنهم، ومعهم خزندارية أمناء أكفاء من أقوى الناس ديانة، والغلال لها ديوان الأهراء، يجب أن يكون مباشروه من أكبر العدول الدينيين الأعفاء، والأسلحة والذخائر لها ديوان خزائن السلاح، يجب أن يكون مباشر هذه الجهة محتسب البلد، لأنه يعرف أمور الاستعمالات وأجور الصناع وأسعار الآلات، وكل ما استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين ثلاثة أقسام: الصدقة، والغنيمة، والفيء، ولكل منها أحكام سيأتي بيانها، والأموال المستحقة على بيت المال أرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح، وغير ذلك مما ينفق في سبيل المصلحة العامة. (1) الصدقة
الصدقة والزكاة لفظان مترادفان، وهي تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرق على فقرائهم، وقد ذكرنا أصلها فيما تقدم، وللصدقة ديوان في مركز الخلافة له فروع في سائر الولايات والبلدان، ويستقل والي الصدقة في كل بلد بالاستيلاء على أموال الصدقة من أغنياء ذلك البلد وتفريقها على فقرائه، ومصادر الزكاة أربعة: زكاة الماشية وزكاة الذهب والفضة وزكاة الأثمار وزكاة الزروع. (1-1) زكاة الماشية
فزكاة الماشية تؤخذ على الإبل والبقر والغنم، ولها أحكام وضعها رسول الله نفسه: يستدل على ذلك من كتاب كتبه أبو بكر إلى أنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، وهاك نصه «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة، إذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمسة وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على مائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرحل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها» وللفقهاء تفاصيل في ذلك لا محل لها هنا، وأما الخيل والبغال والحمير فلا زكاة عليها. (1-2) زكاة الذهب والفضة
وزكاة الفضة ليس فيما دون 200 درهم صدقة، وأما المائتان فعليها خمسة دراهم كل سنة، وذلك على تعديل 2,5 في المائة أي 1 من 40، وعلى هذا التعديل تؤخذ زكاة الذهب عن كل عشرين مثقالا منه نصف مثقال، وليس على ما دون العشرين مثقال زكاة، وإذا زادت على العشرين تضاعفت زكاتها على هذا المقياس، ويعد من قبيل الفضة والذهب أموال التجارة ونحوها. (1-3) زكاة الأثمار
وأما الأثمار فزكاتها تختلف باختلاف نوع سقايتها، فإذا كانت مما يسقى سيحا، أي أن الماء يأتيه من المطر أو الأنهر بلا تعب أو حمل، فزكاتها العشر، وإذا كانت مما يسقى بالتعب والرجال فنصف العشر، وفي كل حال لا تستحق الزكاة على الأثمار إلا إذا بلغت خمسة أوسق فما فوق، والوسق ستون صاعا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، ويدخل في حكم الأثمار النخل والكرم ونحوها. (1-4) زكاة الزروع
وأما الزروع، ويريدون بها الحبوب بأنواعها كالحنطة والأرز واللوبيا والحمص وغيرها، فلا تؤخذ عليها زكاة إلا بعد أن تبلغ خمسة أوسق، وحكمها في الزكاة مثل حكم الأثمار. (2) الجهات التي تصرف فيها الزكاة
وأما الجهات التي تصرف فيها أموال الزكاة فقد جاء ذكرها صريحا في القرآن، وهو:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ، وبناء عليه كانوا يقسمون أموال الزكاة إلى ثمانية أسهم، يدفعون سهما إلى الفقراء وهم الذين لا شيء لهم، والثاني للمساكين، وهم الذين لهم ما لا يكفيهم وهم أرفق حالا من الفقراء، وكانوا يجعلون نصيب كل واحد من هؤلاء بالنظر إلى حاله أو ما يكفيه، على ما يتراءى لولي الصدقات، بشرط أن لا يزيد ما يأخذه الواحد على 200 درهم، لأنه إذا أخذ أكثر من ذلك وجبت عليه الزكاة.
وقد جاء في تفسير البيضاوي أن الفقير من لا مال له يقع موقعا من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون، كأن العجز أسكنه.
والسهم الثالث يعطى للعاملين عليها، وهم القائمون بجبايتها وتفريقها، وفيهم الأمين والمباشر والمتبوع والتابع فيأخذون أجورهم، فإذا زاد سهمهم على ما يستحق لهم رد الباقي على السهام الباقية. والسهم الرابع يفرق للمؤلفة قلوبهم، وهم الذين كان النبي وخلفاؤه يتألفونهم لكف أذاهم عن المسلمين، أو لرغبتهم في الإسلام أو لترغيب قومهم وعشائرهم فيه كما تقدم، وإذا كان أحد المؤلفة قلوبهم غير مسلم لا يدفع له من الزكاة بل يدفع له من الغنائم أو الفيء. والسهم الخامس ينفق في شراء العبيد وعتقهم. والسادس للغارمين، وهم المدينون، فيعطى لهم ما يقضون به ديونهم. والسهم السابع في سبيل الله، يعطى الغزاة وأهل الجهاد نفقة ما يحتاجون إليه في حروبهم. والثامن لأبناء السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون نفقة سفرهم.
ويمتاز عمال الصدقات عن سائر عمال المال الآخرين أن عامل الصدقة يجوز له أن يقسم ما جباه بغير إذن، إلا إذا نهي عن ذلك عمدا، بخلاف أموال الفيء أو الغنيمة فإن عمالها ليس لهم أن يتصرفوا بالمال إلا بأمر الخليفة أو من يقوم مقامه من الولاة أو الوزراء. (3) الغنيمة
الغنيمة ما يكسبه المسلمون بالقتال، وتشتمل على أربعة أقسام: أسرى وسبي وأرضين وأموال، فالأسرى هم الرجال المقاتلون الذين يقعون في الأسر، ولهم في الشريعة الإسلامية شروط وأحكام اختلف الأئمة في تحديدها مما لا محل له هنا، وفي جملتها قبول الفدية وهي مال يفتدى به الأسير، فالمال المأخذوذ على هذه الصورة يضاف إلى باقي الغنيمة، وأما السبي فهم النساء والأطفال الذين يقعون في أيدي المسلمين، فلا يجوز قتلهم وإنما هم يفرقون في جملة الغنائم ويجوز قبول الفدية عنهم.
والأرض التي تؤخذ في الحرب إما أن تكون قد فتحت عنوة فأصبحت ملكا للمسلمين على أنها فيء، أو أن تدخل في حكم المسلمين صلحا على شروط فهي من قبيل الفيء، وباختلاف هذه الأحوال وما يشترك بينها اختلفت أنواع الضرائب عليها كالخراج والعشور ونحوهما. (4) الأموال
أما الأموال المنقولة فهي ما يمكن نقله كالماشية والمال، وهي تفرق في المقاتلة، وكانت تفرق في أول الإسلام بلا قاعدة، فكان النبي يقسمها على ما يراه، وأول غنائمهم غنائم بدر في السنة الثانية للهجرة، فتنازل المهاجرون والأنصار في اقتسامها، ففرقها النبي فيهم على السواء وهو كواحد منهم، ثم جاء الأمر بالتخميس في الآية:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأول غنيمة خمست على هذه الصورة غنيمة غزوة بني قينقاع بتلك السنة، فقسمت أموالها إلى خمسة أقسام تفرقت أربعة منها في المقاتلة، والخمس الخامس - وهو خمس النبي - قسم إلى خمسة أسهم: السهم الأول ينفقه على نفسه وأزواجه وفي مصالح المسلمين، والثاني يفرق على ذوي القربى، وهم بنو هاشم رهط النبي، وبنو عبد المطلب بن عبد مناف خاصة، ولا حق لأحد سواهم من قريش، والثالث لليتامى من ذوي الحاجات، ويستوي فيه حكم الغلام والجارية، والرابع يفرق في المسلمين الذين لا يجدون ما يكفيهم، والسهم الخامس لأبناء السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون ما ينفقون.
ويعد من قبيل الأموال أيضا الأسلاب، وهي ثياب القتلى وأسلحتهم، فهذه كانوا يفرقونها في المقاتلين، فيأخذ كل رجل أسلاب الذي قتله. (5) الأراضي
وأما الأراضي التي كانت تقع في أيديهم عنوة أو صلحا، فقد أراد بعضهم في صدر الإسلام أن يجعلها غنيمة تقسم بين الفاتحين مثل قسمة أموال الغنيمة، فأبى عمر بن الخطاب عليهم ذلك كما يتبين من كتاب كتبه إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح العراق ونصه: «أما بعد ... فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم الأرض بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به من العسكر من كراع ومال فاقسمه بين من حضر، واترك الأرضين والأنهار بعمالها لا يكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء».
فاعترض عليه بعضهم بأن الأرض حق لهم، لأنهم فتحوها بأسيافهم، فجادلهم وأقنعهم بأن يضع الخراج عليها والجزية على أهلها، ويكون كلاهما فيئا للمسلمين على ممر الأجيال، وبناء عليه وضع عمر الجزية والخراج على أرض العراق وغيرها من البلاد المفتوحة، ودون ذلك في السجلات على مثال ما كان الفرس والروم يدونون، وهو ما يعبرون عنه بتدوين الدواوين كما تقدم. (6) الفيء
هو سائر ما بقي من أموال بيت المال، وفي الشرع: «الفيء كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب»، ويدخل فيه الجزية والخراج والأعشار وغيرها، وكان للنبي خمس الفيء يقسم كما يقسم خمسه من الغنائم، فأصبحت حصته بعد موته من الفيء أيضا من حق بيت المال، وكانت الأربعة الأخماس الباقية من الفيء تقسم في صدر الإسلام على الجيش، وهم المهاجرون والأنصار، يفرق فيهم على السواء، حتى وضع عمر الديوان وقدر أرزاق الجند على ما ذكرناه، فأصبح الفيء يوضح في بيت المال، وينفق منه على الجند وغيرهم حقوقهم المعينة.
وقد رأيت فيما تقدم أن أهل الصدقات هم غير أهل الفيء والغنيمة، فلا تصرف الصدقات في أهل الفيء، ولا يصرف الفيء في أهل الصدقات، فإن الفيء والغنيمة لأهل الحرب والمجاهدين في سبيل الإسلام، وأهل الصدقات ليسوا من المقاتلة ولا هجرة لهم، وكان اسم الهجرة يطلق في الصدر الأول على من هاجر من وطنه إلى المدينة لطلب الإسلام، وكانت كل قبيلة أسلمت وهاجرت بأسرها تدعى «البررة»، وكل قبيلة هاجر بعضها تدعى «الخيرة»، فكان المهاجرون بررة وخيرة، ثم سقط حكم الهجرة بعد الفتح، وصار المسلمون مهاجرين وأعرابا، لأن أهل الصدقة كانوا يسمون على عهد النبي أعرابا، ويسمى أهل الفيء المهاجرين، ومن ذلك قول الشاعر:
قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الذربي
مهاجر ليس بأعرابي
وكان الخلفاء في صدر الإسلام يدققون في التمييز بينهما، فإذا أراد الخليفة أن يعطي طالبا لا يعطيه من مال الفيء إلا إذا كان العطاء عائدا إلى مصلحة المسلمين العامة، وإلا فإنه يعطيه من مال الصدقة، ويروون عن عمر بن الخطاب غير حكاية تدل على شدة تمسكه بهذه القاعدة، منها أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنه
اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنه
أقسم بالله لتفعلنه
فقال عمر: «إن لم أفعل يكون ماذا؟»، قال:
إذن أبا حفص لأذهبنه
قال «وإذا ذهبت يكون ماذا؟»، فقال:
يكون عن حالي لتسألنه
يوم يكون لا عطايا هنه
وموقف المسؤول بينهنه
إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال «يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، أنا والله لا أملك غيره!»، فجعل ما وصل به الأعرابي من ماله لا من مال المسلمين، لأن صلته لم تعد تقع على غيره فخرجت من المصالح العامة.
وكان مما نقمه الناس على عثمان أنه جعل الصلات من مال الفيء ولم ير الفرق بين الأمرين، ولما مضى زمن الهجرة وصار الإسلام دولة جوزوا صرف كل واحد من المالين في كل واحد من الفريقين، على حسب الاقتضاء، وازدادت موارد الفيء باتساع المملكة الإسلامية وتعددت أبوابها، وصاروا يعبرون عن الفيء بجباية الأعمال، وهو ما يجبى من أصناف الأموال، كالجزية والخراج والصدقات وأعشار السفن وأخماس المعادن والمراعي وغلة دار الضرب والمراصد والضياع والمستغلات إلخ ... وقد تقدم الكلام في الصدقات، وسنذكر أهم ما بقي من مصادر الفيء. (7) الجزية
الجزية والخراج متشابهان بأنهما يؤخذان من غير المسلمين، وهما من جملة أموال الفيء ويجبيان بأوقات معينة كل سنة، ولكنهما يختلفان بأن الجزية موضوعة على الرؤوس وتسقط بالإسلام، وأما الخراج فيوضع على الأرض ولا يسقط. (7-1) تاريخ الجزية
والجزية ليست من محدثات الإسلام، بل هي قديمة من أول عهد التمدن القديم، وقد وضعها يونان أثينا على سكان سواحل آسيا الصغرى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين، وفينيقية يومئذ من أعمال الفرس، فهان على سكان تلك السواحل دفع المال في مقابل حماية الرءوس، والرومان وضعوا الجزية على الأمم التي أخضعوها، وكانت أكثر كثيرا مما وضعه المسلمون بعدئذ، فإن الرومان لما فتحوا غاليا (فرنسا) وضعوا على كل واحد من أهلها جزية يختلف مقدارها ما بين 9 جنيهات و15 جنيها في السنة، أو نحو سبعة أضعاف جزية المسلمين، ولم تكن الجزية كبيرة بهذا المقدار في كل البلاد التي افتتحها الرومان، ولكنهم يعللون كبرها في غاليا ونحوها أنها كانت تؤخذ من الأشراف، عنهم وعن عبيدهم وخدمهم، وكان الفرس أيضا يجبون الجزية من رعاياهم، ويؤيد ذلك ما أورده ابن الأثير في كلامه عما فعله كسرى أنوشروان في الخراج والجند، قال «وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والمرازبة والكتاب ومن في خدمة الملك، كل إنسان على قدره اثني عشر درهما وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم»، فالظاهر أن العرب أخذوهها عن الفرس لفظا ومعنى، فعربوا لفظها حتى صار «جزية» وعدلوا في كيفية جمعها كما رأيت، وقد رفعوها عن المسلمين كما فعل كسرى أيضا، لأن المسلمين عندهم هم الجند والعظماء وأهل البيوتات الذين استثناهم كسرى من الجزية، وأهل اللغة يعدون لفظ الجزية مشتقا من جزاه به وعليه، كافأه. (7-2) مقدار الجزية
أما الجزية في الإسلام فقد كان النبي يقدرها بحسب الأحوال، وعلى مقتضى التراضي الذي كان يقع بين المسلمين وأعدائهم، فلما صالح أهل نجران تراضوا على جزية مقدارها 2000 حلة في صفر و1000 في رجب، ثمن كل حلة أوقية والأوقية أربعون درهما وصالح أهل أذرح على مائة دينار كل رجب، وصالح أهل مقنا على ربع أخشابهم وغزوهم وكراعهم ودروعهم وثمارهم، وصالح غيرهم من يهود جزيرة العرب على نحو ذلك.
وما زالت الجزية بلا تعيين إلى آخر أيام أبي بكر، فلما تولى عمر وكثرت الفتوح عين مقدارها، فكتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه الموسى، وأن يجعلوها على أهل الفضة كل رجل أربعين درهما، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير ، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدان حنطة، وثلاثة أقساط زيتا كل شهر لكل إنسان في الشام والجزيرة.
ثم تعدلت فتعينت باعتبار درجات الناس ومقدرتهم، فوضعوا على الظاهر الغنى 48 درهما تدفع أقساطا 4 دراهم في كل شهر، وعلى أوسط الحال 24 درهما كل شهر درهمان، وعلى الفقير 12 درهما كل شهر درهم، ولا يؤخذ شيء من النساء والصبيان ولا من أهل العاهات ولا من الرهبان الذين لا يخالطون الناس، إلا البلاد التي عقدت شروط الجزية عليها باتفاق خاص، كما عقد صلح مصر مع عمرو بن العاص، على أن يدفع القبط دينارين عن كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وعليهم إضافة من ينزل عليهم من المسلمين ثلاثة أيام، وغير ذلك.
وكثيرا ما كانوا يقدرون الجزية باعتبار ما يبقى في أيدي الناس من دخلهم بعد نفقاتهم، كما وقع لأهل الجزيرة بالعراق، فقد كان الذي فتحها عين جزيتها دينارا على كل رأس، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك فبعث إلى عامله هناك فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها، وطرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها، فوجد الذي يحصل بعد ذلك أربعة دنانير لكل واحد، فألزمهم دفعها وجعل الناس طبقة واحدة.
والجزية تضرب كما قلنا على غير المسلمين، فمن أسلم سقطت عنه، إلا في أيام عبد الملك بن مروان فإن الحجاج وضعها على من أسلم من أهل الذمة، وخاطب عبد الملك أخاه عبد العزيز عامله على مصر يومئذ أن يضعها على من أسلم، فشاور عبد العزيز ابن حجيرة أحد خاصته فأعظم الأمر وقال «أعيذك بالله أن تكون أول من سن ذلك بمصر، فوالله إن أهل الذمة ليتحملون جزية من ترهب منهم، فكيف تضعها على من أسلم منهم؟» فتركهم، فلما تولى عمر بن عبد العزيز التقي الشهير أبطل ذلك من العراق، ولم توضع الجزية على مسلم بعد ذلك.
وتقبل الجزية من غير المسلمين أيا كانوا، إلا إذا كانوا من العرب عبدة الأوثان أو من المرتدين، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، أما النصارى واليهود والمجوس وعبدة الأوثان من العجم فيقبل منهم الإسلام أو الجزية أو السيف.
والقصد من ذلك توحيد أمة العرب، فأباد النبي الوثنية من جزيرة العرب في حياته، ولما تولى عمر أخرج من كان باقيا فيها من النصارى اليهود، وقد قلنا: إن الجزية لا توضع إلا على من بلغ الحلم من الأصحاء، ومعنى ذلك أنها بدل من القتال، أي أن دافعها لا يدعى إلى القتال، ويشبهها من هذا القبيل ما كان يدفعه نصارى المملكة العثمانية من الضريبة المعروفة بالعسكرية قبل إعلان الدستور، وكانت تدفع في مقابل إعفاء النصارى من الجندية. (8) الخراج (8-1) تاريخه
الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، وهو أقدم أنواع الضرائب، والأصل في وضعه أن الناس كانوا يعتبرون الأرض ملكا للسلطان أو الملك، وهذا الاعتقاد قديم جدا، وفي التوراة أقوال صريحة في كيفية دخول الأرض في ملك الفراعنة، وردت في حكاية المجاعة الشهيرة في الفصل السابع والأربعين من سفر التكوين، لما جاع المصريون في أثناء القحط فباعوا يوسف كل ما اقتنوه من فضة وذهب وماشية، ولم يبق لهم إلا الأرض فباعوه إياها بالخبز.
وهكذا كان شأن الأرض في كل الممالك القديمة، فالأرض للملك والأهالي إنما يتمتعون بريعها، وللحكومة حصة من ذلك الريع وهو الخراج، ومن عادات التتر أن الإنسان يستأثر بملك الماشية، وأما الأرض فأنكروا حق تملكها على الأفراد، وكان الجرمان القدماء لا يعترفون بملك الأرض إلا لحكامهم أو رؤسائهم، فكان رئيس القبيلة يوزع أراضيها على أفرادها، وفي السنة التالية توزع عليهم بالتناوب، بحيث إن القطعة الواحدة لا يستغلها الرجل الواحد سنتين متواليتين، ومثل هذه العادة لا تزال إلى اليوم شائعة في بعض شعوب الصقالبة.
وعلى هذا المبدأ كان الرومان يضعون الضرائب على أراضي مملكتهم، وفي جملتها مصر والشام وغيرهما مما فتحه المسلمون من بلادهم، وكان لهم في كل ولاية ديوان خاص بالخراج تدون فيه أعماله ودخله وخرجه، وله كتاب وجباة وعمال من أهل البلاد أو من الحكام، وكان نحو ذلك حال الفرس في العراق وفارس، لأن الفرس اقتبسوا كثيرا من قوانين اليونان والرومان. (8-2) ديوان الخراج
فلما ظهر المسلمون وفتحوا الشام ومصر والعراق وغيرها، أقروا الدواوين على ما كانت عليه من قبل ولم يغيروا فيها شيئا، وظل كتاب الدواوين من أهل البلاد أنفسهم من النصارى والمجوس، كما كانوا في عهد الدول السابقة، فكان عمال ديوان الخراج في مصر الأقباط، ويكتبون ديوانهم بالقبطية، وعمال ديوان الشام الروم، وكانوا يكتبونه بالرومية، وديوان العراق يكتبه الفرس بالفارسية، والعرب يراقبون أعمال الدواوين ويستولون على جبايتها، كأنهم لم يريدوا بفتح البلاد امتلاكها لرغبهم يومئذ في الدين عن الدنيا، فلما صار الأمر إلى بني أمية، وانتقل المسلمون من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتابة والحساب، غيروا الدواوين إلى لسانهم، وسلموا أمورها إلى رجال من المسلمين، وأول من فعل ذلك منهم عبد الملك بن مروان (نحو سنة 81ه) فصارت الدواوين عربية من ذلك الحين، وربما كان عبد الملك البادئ بذلك التغيير، ثم أتمه من جاء بعده، لأن ديوان مصر تم نقله إلى العربية على عهد الوليد بن عبد الملك سنة 87ه.
وأما الحجاز فقد كان ديوانه في المدينة على ما وضعه عمر بن الخطاب، كما ذكرناه في محله، وهو أشبه أن يكون ديوان الجند أو ديوان الأعمال والجبايات، لأنه دون فيه أسماء الصحابة وعين أعطياتهم وطبقاتهم، وضبط ما يرد على المدينة من بقايا الخراج والجزية، بعد دفع نفقات الجند في مصر والعراق.
وكان الخلفاء هم الذين يتولون النظر في أمر الخراج، ويراقبون سير الجباية، فلما أفضى الأمر إلى الدولة العباسية وضعوا ديوانا مركزيا للخراج يشمل ما تحته من دواوين الأعمال - وضعه السفاح وعهد أمره إلى خالد بن برمك جد البرامكة، وكان ذلك أول خطوة لتداخل البرامكة في شئون الدولة وتصرفهم في أموالها، وكان في جملة تصرفهم فيها أنهم كانوا يضمنون مبلغ الخراج لأولادهم وأهليهم، كما ضمن يحيى بن برمك في أيام المهدي خراج فارس وانكسر عليه المال، وأصبح ديوان الخراج في أيدي الوزراء مثل غيره من الدواوين، حتى إذا ضعفت الدولة العباسية وصارت أمورها إلى الأمراء أبطلت الدواوين في أيام الراضي بالله. (8-3) تقدير الخراج
قلنا فيما تقدم إن العرب أقروا الخراج دواوينه وسائر أحواله على ما كان عليه في أيام الدول السابقة (الروم والفرس) ويؤخذ مما ذكره المقريزي أن جباية خراجهم كانت بالتعديل، وهو ما يعبرون عنه بالمقاسمة - إذا عمرت القرى وكثر أهلها زيد خراجهم، وإن قل أهلها وخربت نقصوه.
وكانت جباية الشام على نحو ذلك أيضا، وأما الفرس فكانوا يأخذون خراج أرضهم بالمقاسمة، حتى مسحه قباذ بن فيروز قبل الإسلام وجعله بالمساحة، فضرب على الجريب الواحد درهما وقفيزا (الجريب 3600 ذراع مربع) مهما يكن حاله من الخصب أو الجدب، فلما فتح المسلمون البلاد عدلوا في الخراج على ما اقتضته الأحوال في سائر البلاد، ولهم قوانين عامة في الأرضين فالأرض في الإسلام أربعة أقسام: (1)
أرض استأنف المسلمون إحياءها، فهي أرض عشر، للإمام عشرها وتعد من قبيل إحياء الموات. (2)
أرض أسلم أهلها عليها، فهم أحق بها، وهي أيضا أرض عشر. (3)
أرض ملكها المسلمون عنوة، فهي غنيمة لهم، وتعد أيضا من أرض العشر. (4)
أرض صولح أهلها عليها، وهي الأرض المختصة بالخراج، وخراجها لا يبطل ولو أسلم أهلها.
وقدر الخراج على هذه الأرض يعتبر بما تحمله، فلما فتحت العراق وضع عمر على سواده مثل ما كان الفرس قد وضعوه عليه، وهو عن كل جريب من الأرض قفيز ودرهم، والقفيز عشر الجريب أي 360 ذراعا مربعا، وضرب عمر على ناحية أخرى بطريقة أخرى، فجعل مقدار الخراج تابعا لنوع المحصول، فأمر عثمان بن حنيف بالمساحة فمسح، ووضع على كل جريب من الكرم والشجر الملتف عشرة دراهم، ومن النخل ثمانية دراهم، ومن قصب السكر ستة دراهم، ومن الرطبة خمسة دراهم، ومن القمح أربعة دراهم، ومن الشعير درهمين، فقبل عمر بذلك، وظلت أرض العراق بالمساحة أو التوظيف أو الوظيفة، إلى أيام المنصور العباسي فعدل إلى المقاسمة، لأن السعر نقص فلم تكن الغلات تفي بخراجها، وخرب السواد فجعله مقاسمة إذا زادت الغلة زاد الخراج، وتقدير خراج المقاسمة مفوض إلى الخليفة، لكنه لا يزيد على نصف الغلة ولا يقل عن خمسها.
ملكية الأرض
أما ملكية الأرض فظلت كما كانت عليه في أول الإسلام، أي أن الأرض ملك الإمام وأن الناس يستغلونها وللحكومة حق من غلتهم، ما عدا بعض الأراضي الممتازة مما يسمونه الأواسي أو الرزقة أو نحوهما، مما لا محل لتفصيله هنا، حتى دخل القرن التاسع عشر وجرت الإصلاحات السياسية في المملكة العثمانية وفي جملتها مصر، فإنها لما دخلت في حوزة محمد علي في أوائل القرن الماضي رأى أن الأحوال لا تستقيم والفلاح لا يعمل في أرضه إلا إذا كانت ملكا له، وكانت لما تولاها محمد علي قد أصبحت التزامات يلتزمها بعض وجهاء الناس وأهل الغنى والنفوذ، ويستخدمون الفلاحين فيها ويستغلونها فيدفعون مال الحكومة ويستأثرون بما بقي، فقسم محمد علي مصر إلى مديريات، والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواح، وعين فيها موظفين لإدارة أمورها، وجباة لجمع الضرائب، وأبطل الالتزامات ووزع أراضي كل ناحية بين أهل تلك الناحية نفسها، بحيث إن كل فلاح قادر على الشغل أصابه قسم من الأرض بقدر قسم الآخر.
فلما تولى الخديو سعيد أصدر لائحته الشهيرة المؤرخة في 5 أغسطس سنة 1858 فتمم ملكية الأرض للأهالي وجعلها إرثا شرعيا في ذرياتهم، وأصبحت الأرض المصرية ملكا للمصريين من ذلك الحين، وجرى نحو ذلك في سائر بلاد الدولة العثمانية، لأن الخليفة العثماني صادق على لائحة سعيد بخط همايوني في هذا المعنى.
ارتفاع الخراج
ويراد به مقدار ما يجتمع من خراج البلاد في كل عام، وهو أمر يعسر تعيينه لاختلافه باختلاف الزمان والمكان، ولأن مؤرخي العرب كثيرا ما يجمعون بين الجزية والخراج في تقدير الخراج، فيقولون ارتفاع الخراج، ويريدون به الخراج والجزية جميعا، والجزية أقل من الخراج وأقل ثباتا منه، لما يدخل من أهل الذمة في دين الإسلام بتوالي الأزمان، وربما أدخلوا في الخراج أيضا العشور ونحوها، ونحن ذاكرون فيما يلي أمثلة من جباية أعمال المملكة الإسلامية في عصر بني أمية:
فالسواد بلغ ارتفاع خراجه في أيام عمر بن الخطاب (سنة 20ه) 120000000 درهم، وفي أيام عبيد الله بن زياد (نحو سنة 62ه) 135000000 درهم، وفي أيام الحجاج بن يوسف (سنة 85ه) 188000000 درهم، وجباه عمر بن عبد العزيز (سنة 100ه) 120000000 درهم، وكان ابن هبيرة بعده يجبيه 100000000 درهم سوى طعام الجند وأرزاق المقاتلة، ثم كان يوسف بن عمر يحمل منه إلى دار الخلافة 60000000 درهم إلى 70000000 وينفق على من معه من جند الشام 16000000، وعلى البريد 4000000، وعلى الطوارق 2000000 درهم، ويبقى عنده للنفقة على بيوت الأحداث والعواتق 10000000، فكان مجموع جباية السواد على أيامه نحو 100000000 درهم.
أما مصر فقد جباها عمرو بن العاص 12000000 دينار، ولكن يظهر من عبارة المقريزي أنها مبلغ الجزية وحدها على الجماجم، على فريضة دينارين من كل رجل، قال: وجباها بعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح 14 مليونا، وقل خراجها في أيام بني أمية، حتى إذا كانت أيام هشام بن عبد الملك (105-127ه) انتبه لها، فبعث إلى عامله على خراجها وأمره أن يمسحها، فخرج بنفسه فمسح العامر والغامر مما يركبه ماء النيل، فوجد مساحة ذلك 30000000 فدان
1
سوى ارتفاع الجرف ووسخ الأرض، فعدلها فعقدت معه 4000000 دينار، وكان السعر راخيا، وجباها أسامة بن زيد في خلافة سليمان بن عبد الملك (سنة 97ه) 12000000 درهم، واختلف مقدار الجباية بمصر بعد ذلك، وضعف أمرها خصوصا لما صارت إلى بني العباس، وبعد مركز الخلافة عن وادي النيل، حتى انحط خراجها إلى 800000 دينار، فلما تولاها ابن طولون (سنة 257ه) استقصى عمارتها فبلغت جبايتها 4300000 دينار، مع رخص الأسعار، فقد كان القمح كل عشرة أرادب بدينار، وظل خراجها نحو ذلك في سائر أيام بني العباس.
وأما الشام فقد بلغ خراجها في أيام عبد الملك بن مروان 1700000 دينار، منها 180000 من الأردن، و350000 من فلسطين، و400000 من دمشق، و800000 من حمص وقنسرين والعواصم.
تضمين الخراج
تضمين الخراج نوعان: (1)
تضمينه للعمال، أي الولاة الذين يتولون الأمصار، وهو باطل في الشرع الإسلامي، لأن العامل مؤتمن يستوفي ما وجب ويؤدي ما حصل، فهو كالوكيل الذي أدى الأمانة، لم يضمن نقصانا ولم يملك زيادة، وكان الصحابة في صدر الإسلام يشددون في منع هذا التضمين: حكي عن ابن عباس أن عاملا أتاه يتقبل منه الأبلة بمائة ألف درهم فضربه مائة سوط وصلبه حيا تعزيرا وأدبا، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكا أغضوا عن هذا الأمر، وصار الخلفاء يضمنون الخراج لعمالهم أحيانا، فيعطون بخراج أعمالهم مالا معينا، ثم يجبون البلاد ويستولون على ما يفضل مهما كان مقداره، كما فعل يحيى بن برمك وغيره، وتطرقوا بعده إلى تضمين القضاء والحسبة والشرطة كما سترى. (2)
تضمين الخراج للملتزمين، وهم أناس من أهل الغنى أو النفوذ كانوا يتقبلون الأراضي، أي يضمنونها من متولي الخراج بمال معين يقع عليه بالمزايدة، فيضمن الواحد قرية أو بلدا أو كورة فيزرعها ويستغلها، ويدفع ما عليها من الخراج ويستولي على الباقي، وضمانة الأراضي أو التزامها على هذه الصورة ليس من مخترعات الإسلام، بل هو قديم من أيام اليونان، وقد شاع في المملكة الرومانية وكان في جملة ما اقتبسه العرب عنهم، وظل ضمان الأراضي على هذه الصورة شائعا في المملكة الإسلامية إلى عهد قريب، وقد مرت عليه أدوار تقلب فيها على أشكال وضروب، ومن هذا القبيل ضمان الأعشار في المملكة العثمانية. (8-4) ضرائب أخرى
توابع الخراج
وكان من موارد الأموال في الإسلام، غير خراج الأراضي وعشورها والصدقات والجزية، أعشار السفن وأخماس المعادن والمراعي وغلة دار الضرب والمراصد والضياع وأثمان الماء وضرائب الملاحات والآجام، وغيرها مما يعد من قبيل الخراج.
أما أعشار السفن فكانوا يضربونها على السفن التي تمر ببعض الثغور، فيأخذون عشرا مما تحمله إما عينا أو نقدا، فقد كان عمال اليمن يأخذون هذه الضريبة من السفن التي تمر بسواحلهم قادمة من الهند، تحمل الأعواد المختلفة والمسك والكافور والعنبر والصندل والصيني فيأخذون الضريبة عينا، وقد بلغت أعشار السفن في أيام الواثق بالله مالا كثيرا.
وكان الأندلسيون يضربون على السفن التي تمر ببوغاز جبل طارق في ذهابها وإيابها، فكان الإفرنج أو غيرهم إذا مروا بسفنهم أدوا الضريبة في مدينة هي في أقصى بلاد الأندلس جنوبا يقال لها طريف واسمها الآن طريفة
Tarifa ، ويزعم الإفرنج أن كلمة
Tarrif - التي تدل عندهم على الضرائب أو الرسوم التي تؤخذ على البضائع في دخولها البلاد وخروجها، أو الكتاب المتضمن بيان لائحة الأثمان - أنها تحريف «طريف»، ثم أهمل اللفظ الأول وبقي اللفظ الثاني، مع أن لفظ «تعريفة» في العربية يدل على نحو معناها الإفرنجي، فيجوز أن اللفظ الإفرنجي منقول عن لفظ تعريفة العربي أو تحريف «طريف» كما يقولون.
وأما أخماس المعادن فهي ما كانوا يضربونه على ما يستخرج من باطن الأرض من معدن أو نحوه، وهي نوعان: معادن ظاهرة، ومعادن باطنة، والمعادن الظاهرة كالكحل والملح والقار والنفط، فهذه المعادن مباحة في الشرع الإسلامي كالماء الجاري من العيون لا يجوز احتكارها، والناس فيها سواء يأخذها من ورد إليها، وأما الباطنة، فهي ما كان جوهرها مستكنا فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، فهذه المعادن كانوا يقطعونها لأناس يستخرجون ما فيها على أن يؤدوا الخمس لبيت المال.
وغلة دار الضرب هي ما يخصص لبيت المال من دار الضرب، باعتبار شيء في المائة كما ذكرنا في كلامنا عن دار الضرب من هذا الكتاب، وقد بلغت غلة دار الضرب في عهد بني مروان بالأندلس 200000 دينار في السنة.
ومن الضرائب التي كانت تؤخذ في الإسلام المكوس، واحدها مكس، وهو ضريبة تضرب على أصناف التجارة من قبيل ما يعرف اليوم بالجمرك أو الفردة (الفرضة) أو نحوها، وكان المكس، أو المقس، شائعا في الجاهلية، فكان يؤخذ من تجار القبط والفرس في المدينة عشر متاجرهم، فلما ظهر الإسلام أقره عمر بن الخطاب
2
وكانت هذه الضريبة لا تؤخذ من التاجر إلا إذا انتقل من بلاده إلى بلاد أخرى، فالشامي إذا طاف بلاد الشام كلها بتجارته لا يؤخذ منه عشر أو مكس، وأما إذا انتقل إلى مصر أو العراق فيؤخذ منه المكس، والمكس على ما فرضه عمر ثلاث درجات : يؤخذ من أهل الذمة (النصارى واليهود) نصف العشر، أي من كل عشرين درهما درهم، ومن المسلم ربع العشر، أي من كل 40 درهما درهم، وليس فيما دون المائتين شيء، ويؤخذ من العربان الذين ليسوا من الرعايا العشر كاملا، ولم يرج المكس في الإسلام، لأن أهل الورع كانوا يكرهونه، وقس على ذلك ما بقي من أنواع الضرائب. (8-5) الإقطاع
ومما يلحق بالخراج أيضا مال القطائع، والإقطاع قديم في الأول، وأصله أن الملك إذا فتح بلادا وأراد استبقاءها واستغلالها، فرقها على قواده في مقابل حربهم وأتعابهم كأنها أجرة لهم، ويؤيد ذلك أن أصل لفظ الإقطاع في الإفرنجية معناه الأجرة، والقواد يفرقون تلك الأرض في ضباطهم، وهؤلاء يفرقونها في العساكر أو من يقوم مقامهم، ويشترط الملك على قواده عند إعطائهم هذه الهبات أن يكونوا أمناء له في الحرب والسلم، فإذا خان أحدهم ونكث رجعت الأرض إلى واهبها، وإن كان الخائن جنديا صغيرا رجعت إلى ضابطه، أو كان ضابطا رجعت إلى قائده، وهكذا حتى ترجع إلى الملك، فكان من عواقب هذا المبدأ أن تبقى الأرض في أيدي الملوك، بشروط وأساليب وضعوها لذلك لا محل لاستيفائها هنا ، وبمقتضاها يكون الملك ورعيته وجنده يدا واحدة في الدفاع عن البلاد لاشتراك مصالحهم وتبادلها فيها، وانتشر مذهب الإقطاع في ممالك أوربا.
أما في الإسلام فالإقطاع كان على كيفية أخرى، ويؤخذ مما كتبه الإمام أبو يوسف، أن الأرض التي تقع في أيدي المسلمين وليس لها مالك يطالب بها - كالأرض التي تكون لحاكم البلاد قبل فتحها، أو تكون لرجل قتل في الحرب، أو أن تكون من مغيض ماء أو نحو ذلك - فهذه الأصناف من الأرض كان الخلفاء الراشدون يجيزون إقطاعها لمن شاءوا، على أن يؤدي عشر مالها لبيت المال أو أكثر أو أقل، على ما يتراءى للخليفة، فبلغ خراج البقاع التي دخلت تحت هذه الشروط من أرض السواد في أيام عمر 7000000 درهم، وجرى على نحو ذلك من جاء بعده من الخلفاء والأمراء، فبلغت غلتها في أيام عثمان 50000000 درهم، فلما كان عام الجماجم سنة 82ه في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث أحرق الديوان، فاستولى كل قوم على ما كان في أيديهم.
وكان بنو أمية وبنو العباس يقطعون الأرضين لبعض خواصهم وأهلهم، فلا يأخذون عليها خراجا، فتؤخذ أعطيات الجند وسائر النفقات من مال الخراج، ويحمل ما فضل إلى بيت المال، والقطائع تبقى في أيدي أصحابها.
فلما خرجت السلطة من الخلفاء وأفضت إلى السلاطين السلجوقية، جعلوا الإقطاع عاما على يد نظام الملك، كما تقدم في الكلام عن أعطيات الجند، واقتدى به سائر السلاطين بعده وفي جملتهم الأكراد، دولة بني أيوب بمصر، فإن السلطان صلاح الدين جعل البلاد كلها إقطاعا لأمرائه وجنده، وخصوصا مصر، ثم تعدل الإقطاع بعد ذلك وتبدل، فصارت بعض الأرض إقطاعا وبعضها مبيعا وبعضها موقوفا، ووصف المقريزي أرض مصر في أيامه (في القرن التاسع للهجرة) فقال: إنها تقسم إلى سبعة أقسام: قسم يجري في ديوان السلطان، وقسم أقطع للأمراء والأجناد، وقسم جعل وقفا محبسا على الجوامع والمدارس والخوانك وعلى ذراري واقفي تلك الأرض، وقسم يقال له الأحباس وهي أراضي في أيدي قوم يأكلونها عن قيامهم بمصالح مسجد أو نحوه، وقسم صار ملكا يباع ويشرى ويورث ويوهب، لأنه مشترى من بيت المال، وقسم لا يزرع للعجز عن زراعته، وقسم لا يشمله ماء النيل فهو قفر.
والإقطاع ضربان: إقطاع استغلال، وإقطاع تمليك، وهما يختلفان باختلاف نوع الأرض من الخراب والخصب، وحالها من الحرب والصلح والفتح ورأي الخليفة في كل ذلك.
وسنفصل الكلام في مقدار جباية الدولة في أيام العباسيين، وعلاقة ذلك بثروة المملكة في كلامنا عن ثروة المملكة الإسلامية، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
البريد
يراد بالبريد في الدول الإسلامية غير ما يراد به الآن، فقد كان صاحب البريد أو صاحب الخبر أشبه برئيس البوليس السري، أو رقيب أصحاب الأعمال، أو هو عبارة عن جاسوس الخليفة أو الأمير، أو عينه الباصرة وأذنه السامعة، ينقل إليه أخبار عماله أو مساعي أعدائه، فالبريد من هذا القبيل أشبه بقلم المخابرات.
وكان الخلفاء لا يولون البريد إلا ثقتهم من أهل التعقل والدراية، لأن على ما ينقلونه من الأخبار تتوقف علاقات الخلفاء بعمالهم أو بمعاصريهم، وكان كسرى لا يولي البريد إلا أولاده. (1) ولاية البريد
وولاية البريد قديمة، كانت عند الفرس والروم، وأول من اتخذها من المسلمين معاوية بن أبي سفيان، اقتداء بما كان قبله في الشام أو ما أشار عليه به عماله في العراق، وكان الغرض منه في أول وضعه، سرعة إيصال الأخبار بين الخليفة في الشام وعماله في مصر العراق وفارس، ثم توسعوا فيه حتى جعلوه عينا للخليفة على عماله وسائر رجال دولته، فإن طاهر بن الحسين لما قطع الخطبة للمأمون على منبر خراسان، عاتبه صاحب البريد فاعتذر أنه سهو وقع منه، وتقدم إليه أن لا يكتب إلى الخليفة به، وتكرر ذلك منه ثلاث مرات وطاهر يتقدم إليه أن لا يكتب، فقال له صاحب البريد «إن كتب التجار لا تنقطع من بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيرنا لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي»، فقال «اكتب إليه»، فكتب.
وكان البريد واسطة العلاقة بين الولاة والخليفة، ينقل أوامر الخلفاء إلى ولاتهم وأخبار الولاة إلى خلفائهم، وكان أصحاب البريد رقباء أو مفتشين من قبل الدولة، يرفعون التقارير عن أحوال الجند أو المال أو غير ذلك من أمور المملكة، فإذا تكدرت العلائق بين العامل (الوالي) والخليفة، وأراد العامل أن يستقل أو يتمرد، قطع البريد عن الخليفة، كما فعل المأمون لما سمع وهو وال في خراسان أن أخاه الأمير نقض بيعته وبايع ابنه موسى بولاية العهد بعده، فإنه أسقط اسم الأمين من الطراز وقطع البريد عنه.
وكان بنو العباس أكثر الناس عناية في أمر البريد، وبالغوا في استخدامه حتى نسب إلى بعضهم مباشرة ذلك بنفسه للاطلاع على أحوال ولاته ونوابه ورعيته، وربما تطلعوا به على أحوال العوام وآحاد الناس، وقد رتب بعض الخلفاء ذلك جهارا، فعين مع وزيره صاحب خبر من الثقات ينهي إليه ما يجري في مجلسه، فلا يحسن الوزير لأحد ولا يجتمع به أحد من الناس إلا بحضور ذلك الشخص، وكذلك فعل مع القاضي والنائب وجمع ولاة الأعمال، وكان أبو جعفر المنصور يقول «ما أحوجني أن يكون على بأبي أربعة نفر لايكون على بابي أعف منهم، وهم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية» ثم عض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة «آه! آه!»، قيل «ما هو يا أمير المؤمنين؟»، قال «صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة».
فأصحاب الأخبار هنا بمعنى جواسيس هذه الأيام، ولم يكن بين صاحب البريد والخليفة أو السلطان أو الأمير واسطة، فإذا جاء صاحب البريد بخبر لا يطلع أحدا عليه قبل إنهائه إلى الخليفة، ليكون هو الذي يشيعه أو يكتمه على ما يراه.
وقد يجعل الملوك أو الأمراء بينهم وبين صاحب بريدهم علامة يتفقون عليها سرا، فلا يعتمد أحدهم كتاب صاحب بريده إلا إذا كانت فيه تلك العلامة - ولو كان الكتاب بخط صاحب البريد نفسه وخاتمه - إذ قد يفعل ذلك بالرغم عنه، نحو ما فعل أبو مسلم الخراساني لما دعاه المنصور إليه من خراسان إلى بغداد، وخاف أبو مسلم عاقبة تلك الدعوة فاستخلف أبا نصر مالك بن الهيثم على عسكره وقال له «أقم حتى يأتيك كتابي، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا ختمته، وإن أتاك بالخاتم كله فلم أختمه»، فلما جاء أبو مسلم إلى المنصور في المدائن وكان ما كان من قتله، كتب المنصور إلى أبي نصر عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ما خلف عنده وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه.
ومصلحة البريد ولاية جليلة خطيرة، يحتاج صاحبها إلى عمال عديدين وإلى نفقات طائلة للتوسعة عليهم حتى يظلوا على أمانتهم، وكان في جملة واجبات صاحب البريد حفظ الطرق وصيانتها من القطاع والسراق، وطرق الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر، وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف، وهو يوصلها في أسرع ما يمكن من اختصار الطرق واختيار المراكب. (2) طرق البريد
وكان للبريد طرق تتشعب من مركز الخلافة إلى أطراف المملكة، حتى تتصل بطرق الممالك الأخرى، وتنقسم كل طريق إلى محطات أو مواقف فيها أفراس أو هجن، فيستبدل عمال البريد أفراسهم بأفراس مستريحة في كل موقف، التماسا للسرعة، وكان الغالب في العرب أن يتخذوا الجمال لبريدهم، وأما الفرس فكانوا يستخدمون الخيل.
وبلغ عدد سكك البريد في إبان الدولة العباسية 930 سكة، ونفقات الدواب وأثمانها وأرزاق رجالها 159100 دينار في السنة، وقد رأيت في كلامنا عن خراج السواد في أيام بني أمية أنه كان ينفق على البريد أربعة ملايين درهم، أي نحو ضعفي ذلك، وهو يؤيد ما قلناه غير مرة عن بذل بني أمية الأموال في سبيل تأييد سلطانهم.
وكان قطار البريد يتألف من دابة فأكثر، حتى تبلغ أربعين أو خمسين دابة، وكثيرا ما كانوا يستخدمون خيل البريد لحمل بعض الناس إلى الخليفة أو الأمير، التماسا لسرعة قدومهم، وتختلف سرعة البريد باختلاف الطرق ونوع المراكب، بين أن تكون إبلا أو خيلا، وكانوا يعلقون في أعناق الدواب جلاجل أو سلاسل، إذا تحركت سمعت لها قرقعة تعرف عندهم بقعقعة البريد، وقد ترسل البريد على السفن في البحار.
ومن طرق المخابرة بالبريد، غير نقل الخرائط على الدواب أو في البحار، إرسالها مع السعاة، وهم رجال خفاف تعودوا الجري والصبر على السير ثلاث مراحل في رحلة، وأهل البراري أنشط لذلك، وأول من أنشأ السعاة في الدولة العباسية معز الدولة، أنشأها في بغداد لإعلام أخيه ركن الدولة بالأحوال سريعا، ونبغ في أيامه ساعيان، اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش فاقا سائر السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفا وأربعين فرسخا، أي نحو 140 ميلا واتصل استخدام السعاة في سائر الدول الإسلامية. (3) حمام الزاجل
ومن وسائل المخابرة بالبريد حمام الزاجل، فقد كان له شأن عظيم عندهم، والمخابرة به قديمة جدا عند الأمم القديمة، ولكن المسلمين كانوا أكثر عناية من سواهم فيه ، ويقال: إن أول استخدامه كان في الموصل، ثم في مصر على عهد الفاطميين فالعباسيين، وكانت بين الإسكندرونة في سوريا وبين مدينة بغداد مخابرات متواصلة بحمام يسمونه حمام حلب، على أنهم لم يعتنوا به العناية الكافية، ولم ينشئوا له الإدارات الخاصة، إلا في العصور الإسلامية الوسطى، فإنهم بذلوا في ذلك عناية كبرى، ولا سيما مصر، فقد كان للمخابرة بالحمام أبراج في قلعة القاهرة على عهد الأيوبيين في القرن السابع للهجرة، وقد بلغ عدد الحمام المستخرج لهذه الغاية فيها ألفا وتسعمائة طائر، لها عمال يناط بهم أمر العناية بها، وكانت الطيور المذكورة لا تبرح الأبراج بالقلعة، وكان بكل مركز حمام في سائر نواحي المملكة بمصر والشام والعراق من أسوان إلى الفرات، فلا تحصى عدة ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية، وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات.
1 (4) طرق أخرى للمخابرة
ومن طرق المراسلة عندهم أن تكتب ورقة تعلق بقصبة، وتغرس القصبة في باقة حشيش وتلقى في الماء، فيعوم الحشيش ولا يزال جاريا بمجرى النهر حتى يراه المرسل إليه، ومنها أن تكتب الأخبار على السهام وترمى إلى المكان المراد إرسال الخبر إليه، ويغلب أن يكون ذلك في أيام الحصار وانقطاع السبل.
ومن طرق المخابرة بناء المناظر أو المنائر كالأبراج العالية على المرتفعات، ونقل الإشارات عليها بإشعال النار أو نحوه، فينتقل الخبر بها من منظرة إلى منظرة حتى تبلغ المكان المطلوب، وكان ذلك معروفا عند اليونان وغيرهم، واستخدمه الحجاج بن يوسف في الإسلام، فاتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهارا، وإن كان ليلا أشعلوا نارا، وكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فيصل الخبر في وقت قصير.
ومن عمال البريد - ما عدا السعاة - الشعوذي وهو رسول الأمراء على البريد، والكوهبانية وهم أصحاب الأخبار الذين يرسلون للاستطلاع، ورجال يتولون فض الخرائط بين يدي الخليفة، والخرائط أجربة أو أكياس من جلد توضع الكتب فيها وتختم بختم المرسل وتحمل إلى المرسل إليه، فيفض ختمها بيده أو بيد من يتولى ذلك عنه.
القضاء
(1) القضاء قبل الإسلام
القضاء - ويراد به منصب الفصل بين الناس في الخصومات - قديم، لأن الإنسان لم يستغن عمن يفصل في قضاياه من أول أزمان وجوده، وكان قضاة القبائل عقلاءها وكبراءها، وهم أيضا حكامها وأمراؤها، فكان الرجل إذا نبغ في عقله وقوته تولى حكومة قبيلته وحكم في قضاياها، وهو حال البدو على فطرتهم، وكذلك كان العرب في جاهليتهم، فقد كانوا يتقاضون إلى وجهائهم وعقلائهم، واشتهر من هؤلاء القضاة قبل الإسلام جماعة كبيرة يحكم كل منهم في قبيلته، فمن تميم حاجب بن زرارة والأقرع بن حابس وربيعة بن مخاشن، ومن ثقيف غيلان بن مسلمة، ومن قريش هاشم بن عبد مناف وعبد المطلب بن هاشم وأبو طالب بن عبد المطلب عم النبي والعاص بن وائل، ومن أسد ربيعة بن جدار، ومن كنانة سلمى بن نوفل، وغير هؤلاء ممن اشتهر في كل القبائل مثل أكثم بن صيفي وعامر بن الظرب وغيرهما، وكان العرب يتقاضون إلى الكهان والعرافين. (2) القضاء في الإسلام
وأما في الإسلام فأول من تولى القضاء رسول الله نفسه، ثم تولاه خلفاؤه، لأن القضاء من المناصب الداخلة تحت الخلافة، فكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلونه إلى من سواهم، حتى إذا اتسع سلطانهم وكثرت مهام مناصبهم، اضطروا إلى استنابة من يقوم عنهم بالقضاء في مركز الخلافة وفي الأعمال، وأول من فعل ذلك منهم عمر بن الخطاب، فولى أبا الدرداء معه في المدينة، وولى شريحا في البصرة، وولى أبا موسى الأشعري في الكوفة، وكتب إليه كتابا هو قاعدة الفقه الإسلامي، وعليه تدور أكثر أحكام القضاة إلى اليوم، وهذا نصه:
أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ساو بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قويم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماء، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإن الله - سبحانه - عفا عن الإيمان ودرأ بالبينات، وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم، فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم به الله الأجر ويحسن به الذكر والسلام.
1
أما مصر فالقضاء فيها كان موكولا إلى أمرائها، وهم الذين كانوا يولون قضاتها، وكان عمر بن الخطاب قد أراد أن يولي قاضي مصر، كما ولى قضاة المدينة والبصرة والكوفة، فكتب إلى عمرو بن العاص أن يولي القضاء كعب بن يسار بن ضنة، وكان ممن قضى في الجاهلية، فأبى كعب أن يقبل ذلك وقال «قضيت في الجاهلية ولا أعود إليه في الإسلام» فولى عمرو عثمان بن قيس بن أبي العاصي، وما زال أمير مصر هو الذي يولي القضاة حتى أفضت الخلافة إلى بني العباس، فأرادوا توطيد سلطانهم على مصر فجعلوا تولية القضاة إليهم، وأول قاض ولاه الخلفاء على مصر مباشرة عبد الله بن لهيعة الحضرمي، ولاه أبو جعفر المنصور سنة 155ه، ثم صارت تولية قضاة مصر إلى الخلفاء.
وكان القضاة أول الأمر يولون على الأقاليم قضاة من قبلهم، فيولون لكل ناحية قاضيا، فلما عمرت المملكة واتسعت، تعدد القضاة حتى صاروا يولون في المدن الكبرى عدة قضاة، كل قاض في جانب من جوانبها، والخليفة هو الذي يولي كلا منهم بنفسه، إلى زمن الرشيد وقد اتسعت بغداد في أيامه، ونبغ يومئذ القاضي أبو يوسف الشهير، وكان الرشيد يكرمه ويجله فدعاه قاضي القضاة، وهو أول من دعي بذلك ، وكان أبو يوسف عالي الهمة فخدم هذا المنصب خدمة جليلة وميز العلماء بلباس خاص بهم، وكانوا من قبله يلبسون مثل سائر الناس، وصار قاضي القضاة بعده هو الذي يولي قضاة مدينة بغداد، ثم صار يولي قضاة الأقاليم، واقتدى بالعباسيين من عاصرهم وخلفهم من الخلفاء في الأندلس ومصر، وصاروا يولون قاضي القضاة وهو يولي القضاة. (3) عمل القاضي
وكانت وظيفة القاضي في صدر الإسلام محصورة في الفصل بين الخصوم، ثم صاروا يتعاطون أمورا أخرى على ما تقتضيه الأحوال بحسب اشتغال الخلفاء بأمور السياسة، فأضيف إلى أعمال القاضي استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين، كالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم، وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء ... ثم امتدت سلطتهم أحيانا إلى النظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح، وتوسع بعض الخلفاء حتى جعل للقضاة قيادة الجهاد في عساكر الصوائف، منهم يحيى بن أكثم، فقد كان يخرج في أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، كذلك منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس، وولى العزيز بالله الفاطمي القاضي علي بن النعمان القضاء بمصر، وأضاف إليه قضاء الشام والحرمين والمغرب وجميع مملكة العزيز، والخطابة والإمامة والعيار في الذهب والفضة والموازين والمكاييل، ثم تولى القضاء أبو محمد البازوري سنة 441ه، وأضيفت إليه الوزارة، وهو أول قاض جمع بينهما ثم أضيفت إلى غيره بعده.
فترى مما تقدم أن منصب القضاء كان واسعا جدا، على أنه لم يكن كذلك في كل العصور، وإنما اختلف باختلاف الدول كما رأيت، ثم إن الخلفاء كانوا في أوائل الإسلام لا يولون القضاء إلا أهل عصبيتهم، من العرب أو مواليهم بالخلف أو بالرق أو بالاصطناع، ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، فلما تحولت الخلافة الإسلامية من الغرض الديني إلى الغرض السياسي، وصار الأمر كله ملكا أو سلطانا، ضعف هذا الشرط، ثم تحولت أزمة الأحكام إلى الأعاجم، فتقاصرت واجبات القاضي بالتدريج إلى الفصل بين الخصوم والحكم في الأحوال الشخصية، ثم انحصرت في الأحوال الشخصية بالمحاكم الشرعية كما هو اليوم.
وكان القضاة يجلسون في المساجد للحكم بين الناس فإذا جاءهم الخصوم حكموا بينهم هناك، وكانوا يعدون القضاء من الأعمال الشاقة الخطرة بالنظر إلى الدين، لما فيه من تحمل التبعة فيما قد يخطئ به القاضي، فيحكم على صاحب الحق فيظلمه وهو مسؤول عنه، فكثيرا ما كان العلماء ورجال التقوى يأبون ولايته، كما رأيت في أمر كعب بن يسار لما ولاه عمر قضاء مصر، وكما فعل الإمام أبو حنيفة النعمان لما أراد أبو جعفر المنصور أن يوليه القضاء فإنه قال له «اتق الله ولا ترع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو تلغي الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، ولا أصلح لذلك»، وكانوا إذا ولوا القاضي جاءوا به الجامع، واحتفلوا هناك بقراءة السجل الصادر له بذلك.
مجلس القضاء في غرناطة.
وكان قضاء مصر على مذهب الإمام الشافعي منذ ظهور هذا المذهب، ولكن القاضي كان يستنيب من شاء من قضاة المذاهب الأخرى، وفي سنة 525ه عين أبو أحمد بن الأفضل أربعة قضاة يحكم كل منهم في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم توالى ذلك على هذا المنوال في أيام المماليك.
وكان منصب قضاء الجند تارة يضاف إلى القاضي الحنفي، وتارة يضاف إلى القاضي الشافعي، وتارة ينفرد به قاض حنفي، وما ذاك إلا لأن قاضي العسكر إنما ينتفع به في الجهاد ووقت خروج العسكر، وتقع وصايا من الأمراء وشهادات بينهم ولا يوجد في العسكر الجالسين في المراكز أحد، يحتاج إلى إثبات ذلك عند القاضي الشافعي فلا يسمع شهادة العسكر فيتعطل إثبات ذلك، فتبطل وصاياهم وشهاداتهم، فلهذا السبب ولى الملك الظاهر بيبرس القاضي الحنفي لما اتفق له في الجهاد مثل ذلك، وامتنع القاضي الشافعي في ذلك الوقت من شهاداتهم، ثم بتداول الأيام ودخول أكثر الممالك الإسلامية في قبضة الدولة العثمانية المقلد جمهور حكامهم لأبي حنيفة النعمان، انتهى الأمر إلى أن صار حصر القضاء على مذهب إمامهم.
2 (4) راتب القاضي
وأما راتب القاضي فيختلف باختلاف الدول والأزمان، فقد رأيت في غير هذا المكان أن عمر بن الخطاب ولى شريحا قضاء البصرة وفرض له مائة درهم في كل شهر ومؤونة من الحنطة، وظلت رواتب القضاة على نحو ذلك في سائر أيام الراشدين، ثم تصاعدت في أيام بني أمية مثل تصاعد رواتب الجند وسائر العمال، فلما كانت أيام العباسيين أصبح راتب قاضي مصر ثلاثين دينارا في الشهر، وأول من اقتضى هذا الراتب ابن لهيعة الذي ولاه المنصور - كما تقدم - ثم تصاعد الراتب تصاعدا عظيما في أيام المأمون، فبلغ عطاء عيسى بن المنكدر قاضي مصر يومئذ 4000 درهم أو نحو 270 دينارا، وهو راتب فاحش، وربما جعل كذلك لغرض خاص، لأنه أجيز فوق هذا الراتب بألف دينار، وعاد راتب قاضي مصر بعد ذلك ببضع وعشرين سنة إلى ألف دينار في السنة، وأول من تقاضى هذا الراتب بكار بن قتيبة الذي تولى قضاء مصر على عهد أحمد بن طولون سنة 245ه، وزاد ذلك في الدولة الفاطمية فأصبح راتب القاضي وهو قاضي القضاة يومئذ، 1200 دينار في السنة ما عدا المؤونة والهدايا، ولعلها استمرت على ذلك في دولة الأيوبيين ومن تلاها.
قاضي العسكر في الدولة العثمانية في القرن السادس عشر.
أما بغداد فاختلف راتب القاضي فيها باختلاف الأزمان، وكان في زمن المعتضد نحو 500 دينار في الشهر، بما فيه أجور عشرة من الفقهاء وخليفة القاضي، ثم دخل القضاء في الالتزام، فصار القضاة يضمنون دخل القاضي بمال يؤدونه إلى الخليفة أو السلطان، وأول من ضمن القضاء عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب سنة 350ه في أيام معز الدولة بن بويه، فقد سمي قاضي قضاة بغداد، والتزم القضاء على أن يؤدي 200 ألف درهم كل سنة، ثم صار ذلك أمرا مألوفا، وصاروا يضمنون الحسبة والشرطة. (5) ديوان المظالم
وهو من توابع القضاء، ويشبه ما نسميه اليوم «مجلس الاستئناف» بعض الشبه، والغرض منه استماع ظلامات الناس من القضاة أو غيرهم، وكان العرب في جاهليتهم يلتفتون إلى هذا الأمر فيتحالفون على رد المظالم، كما فعلت قريش قبل الإسلام، وذلك أنهم لما تعدد فيهم الزعماء وكثر التغالب والتجاذب، اجتمعت بطونهم وعقدوا حلفا على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم، وهو حلف الفضول المشهور الذي عقد في مكة والنبي عمره 35 سنة، وموضوعه ألا يظلم أحد في مكة إلا أنصفوه وأخذوا له حقه.
ولم يجلس للمظالم أحد من الخلفاء الأربعة، لأن الناس في الصدر الأول كانوا بين من يقوده التناصف إلى الحق أو يزجره الوعظ عن الظلم، إلا عليا فإنه احتاج إلى النظر في المظالم، ولم تكن في الحقيقة كما صارت إليه بعدئذ، على أنه لم يفرد لسماع الظلامات يوما معينا أو ساعة معينة، وإنما كان إذا جاء متظلم أنصفه، ثم أفردوا يوما خاصا للنظر في أقوال المتظلمين وتصفح قصصهم، وأول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان، ولكنه كان إذا وقف منها إلى مشكل واحتاج فيه إلى حكم رده إلى قاضيه ابن إدريس الأزدي، فكان ابن إدريس هو المباشر وعبد الملك الآمر، وأول من ندب نفسه لمباشرة المظالم عمر بن عبد العزيز الشهير، ثم أهملت بعده إلى أيام الدولة العباسية فجلس لها خلفاء بني العباس، وأول من جلس منهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون، وآخر من تولاها منهم المهتدي بالله محمد بن الواثق.
وكانوا يسمعون ظلامات الناس وينصفونهم، وفيهم من يتظلم من الولاة أو من العمال أو من جباة الأموال أو من كتاب الدواوين، في تقصيرهم بشيء من رواتبهم أو من أحد أبناء الخلفاء أو الأمراء أو نحوهم من أهل الوجاهة ممن يغتصبون الأموال أو الضياع، أو من القضاة، لأنهم لم ينصفوهم في أحكامهم، أو من أي إنسان كبيرا كان أو صغيرا، فهو أوسع دائرة من مجلس الاستئناف، وأطول باعا وأشد وقعا وأسرع نفوذا، ومن أمثلة ما ردوه من المظالم على هذه الصورة أن عمر بن عبد العزيز خرج ذات يوم إلى الصلاة فصادفه رجل من اليمن فاستغاثه فقال «ما ظلامتك؟» فقال «غصبني الوليد بن عبد الملك ضيعتي» فقال «يا مراجم ائتني بدفتر الصوافي» فوجد فيه «أصفى عبد الله الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان» فقال «أخرجها من الدفتر وليكتب برد ضيعته إليه ويطلق له ضعف نفقته».
وحكي عن المأمون أنه كان يجلس للمظالم يوم الأحد، فنهض ذات يوم من جلس نظره فلقيته امرأة في ثياب رثة وتظلمت إليه في ابنه العباس، فأوقفه بجانبها ورد ظلامتها، وبعد المهتدي لم يجلس الخلفاء العباسيون للمظالم، على أنهم كانوا كثيرا ما يعهدون بهذا المنصب إلى وزرائهم، كما فعل المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي دؤاد، فلما غلب السلاطين على بني العباس صار النظر في المظالم إلى السلاطين.
أما في مصر فأول من نظر في المظالم أحمد بن طولون لما استقل بحكم مصر سنة 357ه فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع، ثم صار خلفاؤه يولون من يقوم بها دونهم، حتى فتح الفاطميون مصر وبنوا مدينة القاهرة فاهتموا في أمر المظالم، وجلس لها أولا قائدهم جوهر فاتح مصر، وكان يوقع على قصص المتظلمين بيده، ثم صار الخلفاء بعده يعهدون بذلك إلى قاضي القضاة، أو إلى بعض علماء الدولة، فلما ضعف أمر الفاطميين واستبد وزراؤهم بالحكم، صارت المظالم إلى الوزراء وأشهرهم في ذلك الأفضل بن شاهنشاه، فقد كان يجلس للمظالم بنفسه، واقتدى به من جاء بعده، وكانوا يجعلون بباب الديوان مناديا ينادي «يا أرباب الظلامات!» فيحضرون إليه فيأمر بإنصافهم. (6) دار العدل
ولما أفضت الحكومة في مصر إلى السلاطين الأيوبيين، بنوا دارا للنظر في المظالم سموها «دار العدل»، وكان قد سبقهم إلى بناء مثل هذه الدار في دمشق الملك العادل نور الدين زنكي، وكان الأيوبيون يجلسون في دار العدل للنظر في المظالم، وجرى سلاطين المماليك بعدهم على ذلك، وكانت لهم عناية كبرى بإنصاف الناس، وكانوا يحترمون مجلسهم للمظالم فلا يقعدون فيه على تخت الملك، ولكنهم يجلسون على كرسي بجانبه حتى تلحق أرجلهم الأرض، فإذا جلس السلطان على ذلك الكرسي يجلس قضاة من المذاهب الأربعة على يمينه، ووكيل بيت المال وغيرهم من أرباب الوظائف والحرس والخاصة بين يديه، وفيهم من يقرأ الظلامات للسلطان، فيراجع القضاة أو أمراء العسكر فيما يرى مراجعتهم فيه ثم يمضي بما يراه.
وكان لسلاطين المسلمين وأمرائهم عناية كبرى بالنظر في مظالم الرعية، وكانوا يبذلون الجهد في رفعها، ولو كان المتظلم منهم أو من أولادهم، وأمثلة هذه الحوادث كثيرة في تاريخ الإسلام، فتعود الناس أن يرفعوا شكواهم إلى خلفائهم وسلاطينهم في أيام معينة، وساروا يحسبون ذلك فرضا واجبا، فإذا أمسك الخليفة عن النظر في المظالم يوما أو بضعة أيام ضجروا وملوا، وكان بعض الخلفاء يقسم المظالم إلى فروع، بعضها للنظر في مظالم الجند، وبعضها للنظر في مظالم العمال، وبعضها لغير ذلك. (7) الحسبة
هي منصب ديني من قبيل القضاء، وصاحب الحسبة (المحتسب) يبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدن مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين ومنع أهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب إذا بالغوا في ضربهم للصبيان، وله النظر في الغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي المكاييل والموازين، والأصل في الأمور التي ذكرناها أن تكون من واجبات القاضي، لكنهم جعلوها عملا مستقلا، تنزيها للقاضي عن استقصاء هذه الأمور بنفسه، على أنها كثيرا ما كانت تجعل في جملة أعمال القضاة في عهد الفاطميين بمصر والأمويين في الأندلس، فلما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في السياسة اندرجت الحسبة في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
ولا يتولى الحسبة إلا رجل من وجهاء المسلمين، لأنها خدمة دينية، وكان صاحب الحسبة يولي عنه نوابا في سائر الكور والأعمال، وله الجلوس في الجوامع كل يوم، ويطوف نوابه على أرباب الحرف، والمعايش، فكان صاحب الحسبة في مصر يجلس في جامعي القاهرة والفسطاط يوما بعد يوم، ويبعث نوابه في الشوارع لتفقد اللحوم والمطبوخات، ومراعاة أحمال الدواب فلا يأذنون لأحد أن يحملها فوق طاقتها، ويأمرون السقايين بتغطية الروايا بالأكسية ويلزمونهم بمراعاة المعيار المقدر للروايا وهو أربعة وعشرون دلوا وكل دلو أربعون رطلا، ويأخذونهم بلبس السراويلات الزرقاء القصيرة الضابطة لعوراتهم، وينذرون معلمي المكاتب بألا يضربوا الصبيان ضربا مبرحا ولا في مقتل، وكذلك معلمي العوام بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس، وللمحتسب النظر في إدارة العيار.
أما في الأندلس فكانوا يسمون هذا المنصب «خطة الاحتساب» ويتولاه قاض، وكانت العادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا إلى الأسواق وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حلله المحتسب في الورقة، ولا تكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدس عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر المحتسب الوزن فإن وجده ناقصا قاس على ذلك حاله مع الناس، ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما يتدارس الفقهاء أحكام الفقه. (8) الشرطة
والشرطة في الأصل في توابع القضاء، لأن المراد بها تنفيذ أحكام القضاة أو فرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، وإقامة التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة، فكانت الشرطة خادمة للقضاء تساعد القاضي في إثبات الذنب على مرتكبه وتساعد الحكومة على تنفيذ الحكم، ويتولى صاحبها أيضا إقامة الحدود على الزنا وشرب المسكر، وكثيرا من الأمور الشرعية التي يجلون مقام القاضي عنها.
ثم صار النظر في الجرائم، وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية في الأندلس والفاطمية بمصر، راجعا إلى صاحب الشرطة وأفردوها من نظر القاضي، ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم ثم تفرعت الشرطة في الأندلس إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى، تحكم الكبرى في الخاصة والزعماء وأهل المراتب والسلطان، فتضرب على أيديهم في الظلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه، وأما الصغرى فتنحصر في الأحكام على العامة والرعاع، ونصبوا لصاحب الشرطة الكبرى كرسيا بباب دار السلطان، وله رجال يتبوأون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا من تصريفه، وكانت تعد ولايتها ترشيحا للوزارة أو الحجابة، وكان صاحب الشرطة يسمى عندهم صاحب المدينة أو صاحب الليل، وفي دول السلاطين كانوا يسمون صاحب الشرطة الوالي، وفي إفريقية يسمونه الحاكم، فكأن الشرطة نشأت مع القضاء، لكنها لم تنفرد بنفسها وتتميز عنه إلا في أيام بني أمية.
ديوان الإنشاء
(1) الكتابة
لم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون الكتابة إلا نفرا قليلين، ولم تكن كتابتهم بالأحرف العربية المعروفة اليوم، وإنما كانوا يكتبون بالأحرف العبرانية، اقتباسا من اليهود في جملة ما اقتبسوه منهم، وكان ممن كتب العربية بالقلم العبراني ورقة بن نوفل، ابن خال خديجة زوج النبي، أو بالأحرف النبطية، نقلا عمن هاجر إليهم من الأنباط في القرون الأولى للميلاد، فرارا من سلطان الروم، والأرجح عندنا أن الحرف العربي الذي نكتب به اللغة العربية اليوم، متخلف عن الحرف النبطي الذي كان يكتب به الأنباط في بطرا ومدائن صالح
1
وأما الحرف الكوفي فقد تخلف عن القلم الإسطرنجيلي، الذي كان يكتب به السريان أو الكلدان في العراق، واستخدمه العرب في أول الأمر لكتابة اللغة العربية، فحدث فيه بعض التبديل حتى صار إلى ما هو عليه، ويؤيد قولنا أنه من العراق وأنه حدث بعد الإسلام، لأن الكوفة من المدن التي بناها المسلمون في العراق، وسنعود إلى تاريخ الخط في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ولما ظهر الإسلام لم يكن يكتب بالعربية إلا بضعة عشر إنسانا، كلهم من الصحابة وفيهم علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وطلحة وعثمان وأبو سفيان وولداه معاوية ويزيد وغيرهم، فكان علي وعثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم ممن كتب للنبي، لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ، فكتبوا له سور القرآن والكتب التي خاطب بها الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكان بعضهم يكتب له حوائجه، والبعض الآخر يكتبون بين الناس في المدينة، والبعض الآخر يكتبون بين القوم في مياههم وقبائلهم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
ولما تولى أبو بكر كان عثمان بن عفان كاتبه يكتب له الكتب إلى العمال والقواد، وصارت الكتابة منصبا من مناصب الحكومة لا يستغنى عنه، فلما تولى عمر كتب له أولا زيد بن ثابت ثم حل محله غيره، ولما فتحت الأمصار وتدونت الدواوين عين عمر كاتبا لكل ولاية يكتب في ديوانها، وكان الكاتب يكتب في أول الأمر لديوان الجند وبيت المال، فتولى عثمان وعلي وانقضت دولة الخلفاء الراشدين والكتابة منحصرة في واحد يضبط حساب الديوان من أعطيات الجند وأسمائهم ويكتب المراسلات، وربما كانا اثنين يتولى الثاني كتابة بيت المال.
ولما انتقلت الخلافة إلى بني أمية، وتعددت مصالح الدولة على ما مر بك، تعدد الكتاب فصارت الكتابة خمسة أصناف: كاتب الرسائل لمخاطبة العمال والأمراء والملوك وغيرهم، وكاتب الخراج يدون حساب الخراج داخله خارجه، وكاتب الجند يقيد أسماء الأجناد وطبقاتهم وأعطياتهم ونفقات الأسلحة وغير ذلك، وكاتب الشرطة يكتب التقارير عما يقع من أحوال القواد والديات وغيرها، وكاتب للقاضي يكتب الشروط والأحكام. (2) ديوان الإنشاء
وأهم أصناف الكتاب، كاتب الرسائل وهو أقدمها، وقد يسمى كاتب السر، وهو يد الخليفة وكاتبه ومستودع أسراره، كما كان عمر لأبي بكر، وعثمان لعمر، وكان الخلفاء في أول عهد الإسلام لا يولون هذا المنصب إلا أقرباءهم أو خاصتهم، لما فيه من الخطورة، وظلوا على نحو ذلك إلى أيام بني العباس، فكان كتابهم في أول الأمر يستبدون في الأمر دونهم، ثم صارت الكتابة إلى وزرائهم، ولم يكن الوزير يكتب الرسائل أو الرقاع بيده، ولكنه يمضيها أي يوقع عليها كما يفعل اليوم الوزراء والرؤساء، وأول من وقع على الرقاع عندهم يحيى بن جعفر البرمكي، لما أطلق الرشيد يده في أمور الدولة ومقاليدها، فصار إذا رفع أحد كتابا في ظلامة أو طلب رزق أو نحو ذلك وقع يحيى عليه بيده، وصار الوزراء بعده يوقعون على الرقاع أو القصص، وربما انفرد بعضهم في ولاية ديوان السر أو ديوان الرسائل أو الإنشاء.
وفي أخريات دولة بني العباس استقلت الكتابة وعهد فيها إلى غير الوزراء وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء أو صاحب ديوان الإنشاء أو كاتب السر وكل أمور هذا الديوان إلى الوزير، وكانوا يسمونه أيضا الديوان العزيز، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء بما يشبه ديوان الرياسة أو وزارة الخارجية في هذه الأيام. (3) التوقيع
يريدون بالتوقيع في دوائر الحكومة اليوم «الإمضاء»، أما في أيام الخلفاء فكان يراد به ما يعلقه الخليفة على القصص أو الرقاع «العرضحالات» المعروضة عليه لطلب أو شكوى أو نحو ذلك، فيكتب عليها بما يجب إجراؤه أو ما يفيد الجواب على فحواها بما يشبه التأشير أو التعليم في دوائر حكومتنا، وهو من واجبات صاحب ديوان الإنشاء أو من يتعين للتوقيع خاصة، فيجلس الكاتب بين يدي الخليفة أو السلطان في مجالس حكمه وفصله، فإذا نظر الخليفة في الرقاع أمر الكاتب أن يوقع عليها فيتوخى الكاتب أبلغ ما يستطيعه، وكانوا يختارون للتوقيع كتابا من أهل العارضة والبلاغة ليستقيم توقيعه، فكان جعفر بن يحيى يوقع في القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، وكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف منها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قالوا: إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار. (4) توقيعات الخلفاء وغيرهم
وكان الخلفاء في صدر الإسلام هم الذين يوقعون في القصص والرقاع بأنفسهم أو يأمرون كتابهم بتدوينه، والغالب في توقيعهم أن يكون اقتباسا من آية أو حديث أو حكمة مشهورة أو شعر حكمي، ومن أمثلة ذلك أن سعد بن أبي وقاص عامل العراق كتب إلى عمر بن الخطاب كتابا يستأذنه فيه ببناء دار، فوقع عمر في أسفل الكتاب «ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر»، ووقع عمر أيضا لعمرو بن العاص عامله على مصر، جوابا على كتاب كتبه إليه «كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك».
وتشكى قوم لعثمان بن عفان من مروان بن الحكم، وذكروا أنه أمر بوجئ أعناقهم فوقع في ذلك الكتاب:
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
وأرسله إليه. ومن توقيعات علي بن أبي طالب في كتاب جاءه من ابنه الحسن «رأي شيخ خير من جلد غلام»، وكتب سلمان الفارسي إلى علي يسأله «كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟» فوقع على كتابه «يحاسبون كما يرزقون».
ومن توقيعات معاوية بن أبي سفيان أن عبد الله بن عامر كتب إليه يسأله أن يقطع مالا في الطائف فوقع «عش رجبا تر عجبا» وكتب زياد بن أبيه إلى معاوية يخبره أن عبد الله بن عباس يطعن في خلافته فوقع في أسفل الكتاب «إن أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد، وذلك حلف لا يحله سوء رأيك»، ووقع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الحجاج يخبره فيه بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم «إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون ومن شؤمه أن يختلف به المتآلفون»، ووقع في كتاب جاءه من الأشعث وهو ثائر عليه:
فما بال من أسعى لأجبر عظمه
حفاظا وينوي من سفاهته كسري
وكتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك يهدده بالخلع، فوقع سليمان على الكتاب:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
وكتب إليه قتيبة مرة أخرى بالتهديد فوقع في الكتاب
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ، وكتب أحد العمال إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في مرمة مدينة، فوقع في أسفل كتابه «ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم»، وكتب إليه عامله على العراق يخبره بسوء طاعة أهلها، فوقع لهى «ارض لهم ما ترضى لنفسك وخذ بجرائمهم بعد ذلك»، وكانت توقيعات عمر بن عبد العزيز كثيرة، ووقع يزيد بن عبد الملك على رقعة رجل يتظلم من عامل
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ومن توقيعات بني العباس أن بعض أهل الأنبار كتبوا إلى السفاح يشكون أن منازلهم أخذت وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها فوقع «هذا بناء أسس على غير تقوى» وأمر بإعطائهم الأثمان، وشكا أهل الكوفة إلى أبي جعفر المنصور سوء معاملة عاملهم، فوقع على كتابهم «كما تكونون يؤمر عليكم»، ووقع على قصة رجل شكا عيلة «سل الله من رزقه» وجاءه من عامله على حمص كتاب فيه خطأ فوقع في أسفله «استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك»، وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو سوء طاعة رعاياه، فوقع في الكتاب
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
وشكا بعضهم إهمال عامله في خراسان فوقع على شكواهم «أنا ساهر وأنت نائم» وأرسله إليه، ومن توقيعات هارون الرشيد إلى عامله في خراسان «داو جرحك لا يتسع»، وإلى عامله على مصر «احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف فيأتيك منه ما لا قبل لك به ومن الله أكثر منه»، وقس على ذلك سائر توقيعات الخلفاء.
على أن التوقيع لم يكن خاصا بالخلفاء، ولكنه كان شائعا بين الأمراء والكبراء أيضا مثل زياد بن أبيه وأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، ولجعفر شهرة طائرة في بلاغة توقيعاته كما تقدم، من ذلك توقيعه لمحبوس «ولكل أجل كتاب»، ووقع في كتاب جاءه في شكوى بعض عماله «لقد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت»، وفي رقعة رجل يستأذن في الحج «من سافر إلى الله أنجح»، وفي كتاب رجل طلب ولاية «لا أولي بعض الظالمين بعضا»، وفي قصة رجل يستمنحه وقد كان منحه مرارا «دع الضرع يدر لغيرك كما در لك»، وغير ذلك شيء كثير، ومثله للفضل بن سهل وطاهر بن الحسين وغيرها. (5) اختصار الكتابة
وكان لهم ولع غريب في اختصار الكتابة في المراسلات اختصارا يصح أن يتخذ مثالا للبلاغة، من أمثلة ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يستمده الحنطة والمؤونة من مصر على أثر ما أصاب أهل المدينة من الجهد، فكتب ابن الخطاب يقول «من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي بن القاصي، سلام، أما بعد فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي، فيا غوثاه ثم يا غوثاه!» فكتب إليه عمرو «لعبد الله أمير المؤمنين من عبد الله عمرو بن العاص، أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك! قد بعثت إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي والسلام». أمثال ذلك كثير في مراسلاتهم، فلتطلب في كتب الأدب والتاريخ.
ولم يكن هذا الاختصار قاصرا على المكاتبات بينهم وبين عمالهم، لكنه كان شأنهم في كل مكاتباتهم، من أمثال ذلك جواب هارون الرشيد إلى نقفور «نيسوفورس» ملك الروم، وكان قد كتب إليه كتابا يهدده فيه ويطلب إليه أن يرد ما كان أخذه من الخراج من الإمبراطورة التي كانت قبله، فلما قرأ الرشيد الكتاب احتدم غيظا فلم يتمالك عن أن أخذ دواة وكتب على ظهر الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم! قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه».
ومثل ذلك جواب يوسف بن تاشفين صاحب مراكش على كتاب الأذفونش ملك الإفرنج الذي يهدده فيه، وكان الكتاب طويلا فلما قرأه يوسف كتب على ظهره: «الذي يكون ستراه». (6) مكاتبة الخلفاء
وكان من القواعد المرعية في مكاتبة الخلفاء أن يبدأوا بأسمائهم قبل مخاطبيهم، ويكلفوا مكاتبيهم أن يراعوا ذلك ... كما رأيت فيما دار بين عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ويعدون العدول عنه ذنبا، وقد كان في جملة ما حمل المنصور على قتل أبي مسلم الخراساني - مع ما له على دولتهم من الفضل - أنه كتب مرة إلى المنصور وبدأ بنفسه، وإذا رأيت في بعض المراسلات ما يخالف هذه القاعدة فإنه سهو من النساخ.
ولم يزل الأمر كذلك إلى أن استولى بنو بويه على الأمر وغلبوا على الخلفاء واستبدوا بهم، فاحتجب الخلفاء ولم يبق إليهم في ما يكتب عنهم غالبا سوى الولايات، وفوض الأمر في غالب المكاتبات إلى وزرائهم، وصارت إذا اقتضت الحال ذكر الخليفة كني عنه بالمواقف المقدسة والمقامات الشريفة والسدة النبوية والدار العزيزة والمحل الممجد، يعنون بالمواقف الأماكن التي يقف الخليفة فيها، ثم انتقلوا إلى تعظيم الأمراء والوزراء بالتلقيب بالمجلس العالي والحضرة السامية وما أشبه. (7) الإشارة أو الرمز
ومن تفننهم في المكاتبات الإشارة بحرف واحد إلى مقالة طويلة، كما وقع للسلطان محمود الغزنوي بن سبكتكين بعد أن استقل بالسلطنة، فإنه كتب إلى الخليفة ببغداد يطلب إليه أن يذكر اسمه في الخطبة وينقش اسمه على النقود فامتنع الخليفة من ذلك، فبعث محمود إليه كتابا يهدده فيه قال في جملته «لو أردت نقل حجارة بغداد على ظهور الفيلة إلى غزنة لفعلت»، فبعث إليه الخليفة كتابا مختوما، فلما فتحه محمود لم يجد فيه غير البسملة، وبعدها ألف ممدودة، وفي وسط الكتاب لام، وفي آخره ميم، ثم الصلاة والحمد لله! فتحير السلطان وأهل مجلسه من ذلك، حتى دخل عليهم أبو بكر القهستاني، وكان من كبار العلماء ففكر في ذلك حتى فقه له فقال: «عندي شرحه»، فقال السلطان «قل ولك ما تريد» فقال «إنكم بعثتم تهددون الخليفة بالفيلة فبعث إليكم هذا الكتاب وفيه ألف لام ميم إشارة إلى قوله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
إلى آخر الآية فارتاع السلطان لذلك وتشاءم وندم وعاد إلى أحسن الأحوال.
ومن هذا القبيل حكاية لطيفة وقعت لسديد الملك علي بن مقلد، صاحب قلعة شيزر في أواسط القرن الخامس للهجرة، وكان شجاعا مقداما موصوفا بقوة الفطنة، وكان قبل تملكه قلعة شيزر يتردد إلى حلب وصاحبها يومئذ تاج الملوك محمد بن صالح، فوقع بينهما أمر أخاف سديد الملك من تاج الملوك، فخرج سديد الملك إلى طرابلس الشام، وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار فأقام عنده، فعلم تاج الملوك بذلك، فأراد الاحتيال في استقدام سديد الملك إليه للفتك به، فأوعز إلى كاتبه أبي النصر محمد بن الحسين أن يكتب إليه كتابا يشوقه فيه ويستعطفه ويستدعيه إليه، وفهم أبو النصر الغرض الحقيقي من ذلك الكتاب، وكان صديقا لسديد الملك، لكنه لم ير مندوحة عن كتابة الكتاب، فكتبه كما أمر به تاج الملوك، حتى إذا بلغ إلى قوله: «إن شاء الله تعالى» شدد النون في إن وفتحها فجعلها «إن» وأنفذ الكتاب، فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك قرأه، ثم عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن في مجلسه من الخواص، فاستحسنوا عبارة الكاتب واستعظموا ما فيه من رغبة تاج الملوك في سديد الملك وإيثاره قربه، فقال سديد الملك «إني أرى في الكتاب ما لا ترون»، ثم أجابه على الكتاب بما اقتضاه المقام، وكتب في جملة ذلك «أنا الخادم المقر بالإنعام» وكسر همزة «أنا» وشدد نونها فصارت «إنا» فلما وصل الكتاب إلى تاج الملوك ووقف عليه أبو نصر الكاتب سر بما فيه وقال لأصدقائه: «قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك»، وكان أبو نصر قد قصد بتشديد نون «إن» الإشارة إلى الآية
إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فأجابه سديد الملك بتشديد «إنا» إشارة إلى الآية:
إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها .
ومن تفننهم من هذا القبيل ما كتبه عضد الدولة بن بويه إلى أبي منصور أفتكين متولي، وكان أفتكين قد كتب إليه كتابا مضمونه «إن الشام قد صفا وصار في يدي وزال عنه حكم صاحب مصر، وإن قويتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم»، فكتب إليه عضد الدولة جوابا في كلمات متشابهة لا تقرأ إلا بعد الشكل والتنقيط والضبط وهي: «غرك عزك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدا» إلخ. أراد أن لا يقع الكتاب بيد أحد فيطلع على ما فيه، ففهم أفتكين مراده وعمل به. (8) أدوات الكتابة
القلم كانوا يصنعونه من القصب نحو ما نفعل اليوم، وأما الحبر وهو المداد فالظاهر أنهم كانوا يصنعونه من مسحوق الفحم أو من الهباب مذابا في سائل لزج كالصمغ أو نحوه.
وأما القرطاس فأقدم ما كتب فيه العرب من أول الإسلام الرق وهي الجلود، وكتبوا أيضا على الأقمشة وأشهرها نسيج مصري كانوا يسمونه القباطي، وعليه كتبت المعلقات السبع قبل الإسلام، وإذا تعذر ذلك كتبوا على الخشب أو العظام أو على قطع الخزف أو على الأحجار أو نحو ذلك.
ولما فتحوا مصر اتخذوا البردي فكان أكثر مكاتبات الأمويين على البردي والقباطي، وفي دار الكتب المصرية في القاهرة آثار مخطوطة بالعربية عثروا عليها في بعض أنحاء القطر المصري، شاهدنا بينها صفحة من البردي وقطعا من القباطي، وقد ظهري البلى فيها والكتابة لا تزال ظاهرة عليها، ورأينا قطعا من الفخار عليها كتابة عربية أيضا، وتلك المخطوطات لا يتجاوز تاريخها آخر القرن الأول للهجرة، وكلها معروضة في معرض دار الكتب المصرية.
فلما كانت أيام الدولة العباسية اتخذوا الكاغد، والذي أشار به الفضل بن يحيى البرمكي فاصطنعوه، والأرجح أنهم أخذوه عن صناعة الصين، لأن الصينيين برعوا في صناعة الورق قبل الميلاد، وكانت هذه الصناعة منتشرة في بلادهم، فلما فتح المسلمون سمرقند أخذوها عنهم، لكنهم لم يجتهدوا في تعاطيها إلا في إبان الدولة العباسية، إذ ضاقت الرقوق والجلود عن المكاتبات والمراسلات والسجلات، فأشار الفضل باصطناعه فأنشأوا له المصانع في بغداد والشام وغيرهما من عواصم الإسلام.
وعن العرب أخذ العالم صناعة الورق، لأن أهل أوربا لما أفاقوا من سباتهم في الأجيال الوسطى استخدموا الكاغد الشامي وكان اسمه عندهم
Charta Damascena ، وانتقلت صناعة الورق إلى أوربا بطريق الأندلس، فقد كان للعرب مصانع لصناعة الورق في شاطبة وبلنسية وطليطلة، فلما دخلت الأندلس في حوزة الإفرنج استبقوا تلك المصانع، ثم نقلت من إسبانيا إلى سائر ممالك أوربا، ومن أقدم المخطوطات العربية على الكاغد نسخة من كتاب «غريب الحديث» في مكتبة ليدن الجامعة يظن أنها كتبت في أوائل القرن الثالث للهجرة، وكتاب «ديوان الأدب» في مكتبة المتحف البريطاني كتب في أوائل القرن الرابع.
الحجابة
يراد بالحاجب في دول الإسلام ما يراد بالتشريفاتي في هذه الأيام، وهو الذي يتولى الإذن للناس في الدخول على الملك أو السلطان أو الأمير، ولا بد منه في الدولة، حفظا لهيبة الملك، وكلما أعرقت الدولة في المدنية واستغرقت في الترف تكاثف الحجاب بين ملكها ورعاياه، فكان الخلفاء الراشدون يفتحون أبواب مجالسهم لأي من كان، ويخاطبون الفقير والغني والصعلوك والقوي بلا حجاب ولا كلفة.
فلما تحولت الخلافة إلى الملك كان في جملة ما أدخلوه على الدولة التدقيق في الحجاب، وترتيب الناس في الدخول على الخلفاء بحسب طبقاتهم وأنسابهم، وأول من انتبه لذلك معاوية بن أبي سفيان، نبهه إليه زياد بن أبيه، فكانوا يفضلون في الدخول أهل البيوتات، أي أهل النسب، فإذا تساوت الأنساب فضلوا أهل السن، فإذا تساوت فضلوا أهل الأدب والعلم، لكنهم كانوا يبيحون الدخول لأربعة في أي وقت شاءوا وهم المؤذن، وطارق الليل، ورسول الثغر، وصاحب الطعام، ومن هذا القبيل قول زياد لحاجبه «وليتك حجابتي وعزلتك عن أربعة هذا المنادي إلى الهل في الصلاة والفلاح لا تفرجنه عني فلا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء به في تلك الساعة، ورسول الثغر فإن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد».
فلما جاءت دولة بني العباس وصارت إلى ما هو معروف من العز والترف، زادوا في منع الناس عن ملاقاة الخليفة إلا في الأمور الهامة، وهذا ما يسميه ابن خلدون بالحجاب الثاني، وصار بين الناس والخليفة داران: دار الخاصة ودار العامة، يقابل كل فئة في مكان على ما يراه الحجاب، وتطرقوا عند انحطاط الدولة إلى حجاب ثلاث أحصن من الأولين، ولا يكون هذا إلا عند الحجر على صاحب الدولة، وذلك أن أهل الدولة كانوا إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وأرادوا الاستبداد عليهم، فأول ما يتوخونه حجب البطانة وسائر الأولياء عنهم، ويوهمونهم أن في مباشرتهم خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب، كما حدث في آخر أيام العباسية، ولا يكون ذلك إلا في أواخر الدولة.
النقابة
النقابة، ونعني نقابة الأشراف، سموها بذلك إشارة إلى أنها تتعلق بأشراف المسلمين وهم أهل بيت رسول الله، وذلك أنهم كانوا يجلون حرمة أهل البيت فكانوا يجعلون منهم رئيسا يتولى أمورهم ويضبط أنسابهم ويدون مواليدهم ووفياتهم، وينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم من ارتكاب المآثم ويطالب بحقوقهم ويدعوهم إلى أداء الحقوق، وينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم في سهم ذوي القربى من الفيء والغنيمة، ويقسمه بينهم ويمنع الأيامى منهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء، وغير ذلك مما يشبه الوصاية العامة، وكان نقيب الأشراف وصيهم.
وكانت نقابة الأشراف من المناصب السامية، ولها الشأن الأول من الشرف بعد الخلافة - ولذلك قال الشريف الرضي نقيب الأشراف يخاطب الخليفة القادر بالله العباسي من قصيدة:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
وكان الخلفاء يكتبون لنقباء الأشراف عهودا وتقاليد تدل على جلالة قدرهم ورفعة منزلتهم، وكانوا كثيرا ما يعهدون إليهم بسقاية الحاج وديوان المظالم من الخطط السامية، وما زالت الدول الإسلامية تحترم نقابة الأشراف في كل أدوار تاريخها حتى الدولة العثمانية، وكان نقيب الأشراف في أيام العثمانيين يقدم في التشريفات الرسمية على سائر رجال الدولة العلية حتى الصدر الأعظم وشيخ الإسلام.
مشيخة الطرق الصوفية
مشيخة الطرق الصوفية من المناصب الدينية التي حدثت بعد حدوث الصوفية، ولصاحبها التكلم عن جميع الطرق الصوفية، والشأن في هذه الطرق أن لكل طريقة شيخا، ولكل شيخ خلفاء في القرى والأمصار، ولكل خليفة مريدين، فالشيخ يدير أمر الخلفاء، الخليفة يدبر أمر المريدين من حيث إرشادهم ومراقبتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتربيتهم ونحو ذلك، ولشيخ المشايخ الولاية العامة على الجميع، ولم يكن للصوفية مشيخة عامة ترجع لها أعمالهم وتتوحد بها مقاصدهم، بل كانت كل طريقة أو زاوية مستقلة بنفسها، فكانت تكثر بسب ذلك الفتن، فلما أنشأ السلطان صلاح الدين الأيوبي خانقاه سعيد السعداء وسماها دويرة الصوفية، جعل لشيخها شبه تقدم على غيره من المشايخ، وكان لا يولي عليها إلا أعاظم رجال الدولة من الأكابر والأعيان، كأولاد شيخ الشيوخ ابن حمويه مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش، ووليها ذو الرياستين الوزير الصاحب تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز وغيره، وما زالت الحال كذلك إلى أن توحدت رئاسة الصوفية بمصر في القرن التاسع للهجرة، فجعلت الولاية فيها للسيد محمد شمس الدين البكري، وكان من أعظم رجال عصره علما ودينا، قال الشعراني عنه «ولو قلت إنه أعلم أهل زمانه لم أبعد عن الصواب»، ثم تولاها بعده ابنه الإمام شيخ الإسلام المفسر الشهير أبو السرور البكري، وانتقلت بعده إلى ذريته ولا تزال إلى الآن في البيت البكري الصديقي بمصر.
مقدمة
ظواهر التمدن وحقيقته
ثروة الدولة الإسلامية
ثروة الدولة العباسية في العصر العباسي الأول
أسباب الثروة العباسية
ثروة الدولة العباسية في عصر الاضمحلال
أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني
ثروة المملكة العباسية أي البلاد وأهلها
مقدمة
ظواهر التمدن وحقيقته
ثروة الدولة الإسلامية
ثروة الدولة العباسية في العصر العباسي الأول
أسباب الثروة العباسية
ثروة الدولة العباسية في عصر الاضمحلال
أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني
ثروة المملكة العباسية أي البلاد وأهلها
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الثاني)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الثاني)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
في مثل هذا اليوم من العام الماضي صدر الجزء الأول من هذا الكتاب، وكان لصدوره تأثير في عالم الأقلام لأهمية موضوعه وحداثة عهده في هذا اللسان، فقرظته الصحف وكتبت فيه المقالات الانتقادية، ووردت إلينا كتب الفضلاء من رجال العلم في مصر وسوريا وأوربا وأمريكا وفارس والهند، مشحونة بعبارات التنشيط والاستحثاث على المثابرة في هذا السبيل، وفيهم من لم يكن يظن تأليف هذا الكتاب ممكنا لقلة المصادر المساعدة على ذلك ، فزادنا هذا كله نشاطا وإقداما على هذا العمل الجليل.
ومن غريب ما اتفق لنا في أثناء تأليف هذا الكتاب أننا أعلنا عزمنا على تأليفه ونحن لا نتوقع أن يجتمع عندنا من مواده ما يزيد على مثل هذا الجزء، فلما شرعنا في درس الموضوع والتنقيب عما ينطوي تحته من الأبحاث الفلسفية التاريخية مما يتعلق بعوامل التمدن الإسلامي، انكشف لنا من أحوال ذلك التمدن ما لم يكن يخطر بالبال، فاتسع المجال للقلم فرأينا الموضوع يشغل أربعة أضعاف ما قدرناه، فأصدرنا الجزء الأول وفيه مقدمات تمهيدية عن حال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة، ثم ظهور الإسلام وانتشاره ونشأة الدولة الإسلامية وتواريخ مصالحها وجندها وبيت مالها، وقلنا في مقدمة ذلك الجزء إننا سننشر بقية الكتاب في ثلاثة أجزاء أخرى في مثل حجمه.
فلما بدأنا كتابة الجزء الثاني زاد المجال اتساعا ولم يعد يكفي الباقي منه أربعة أو خمسة أجزاء غير هذا، بحيث تزيد أجزاء الكتاب كلها على ستة أو ربما سبعة أجزاء مما لا يمكن تحديده إلا بعد الفراغ من كتابته.
أما هذا الجزء فموضوعه «ثروة المملكة الإسلامية» وهي ركن عظيم من أركان ذلك التمدن، وقد قسمنا البحث فيها إلى «ثروة الدولة الإسلامية»؛ أي ثروة الحكومة ورجالها، وإلى «ثروة المملكة الإسلامية»؛ أي ثروة البلاد وأهلها، وبحثنا في ثروة الدولة بحثا تاريخيا فلسفيا، فابتدأنا بتاريخ تلك الثروة من أيام النبي فالخلفاء الراشدين فبني أمية فالعباسيين، وبينا الأسباب التي دعت إلى تقلب هذه الثروة واختلافها باختلاف تلك الدول، وعلاقة ذلك بطبيعة كل دولة ونظامها وقوانينها، حتى وصلنا إلى ثروة الدولة الإسلامية في العصر العباسي، فقسمناه إلى عصرين: «الأول» وهو العصر الزاهر، و«الثاني» وهو عصر الاضمحلال، وفي العصر العباسي الأول نضجت الثروة وبلغت أوجها، ففضلنا الكلام فيه تفصيلا وصدرناه بتمهيد في تاريخ ذلك العصر وما ساعد على قيام هذه الدولة، ثم عمدنا إلى النظر في ثروة الدولة العباسية، وقبل الشروع فيه أتينا بفذلكة في جغرافية المملكة الإسلامية في القرن الثالث للهجرة، شفعناها بخريطة لبيان نسبة الولايات الإسلامية بعضها إلى بعض، ثم ذكرنا ثروة العباسيين من أيام السفاح والدولة في طفولتها حتى بلغت أشدها في أيام الرشيد والمأمون، فأتينا بثلاث قوائم مالية عن ارتفاع جبايتها في أيام المأمون وبعيده، وقابلنا بينها، فكان مقدار ما يبقى في بيت مال الحكومة نحو 300 مليون درهم في السنة وهي بقية لم تتفق لدولة من الدول، فعمدنا إلى النظر في أسباب تلك الثروة، فأفضى ذلك إلى النظر في مصادر الجباية ونفقاتها وأسباب كثرة الخراج وقلة النفقة، فأسباب كثرة الخراج أربعة: (1)
سعة المملكة الإسلامية. (2)
اشتغال الناس في الزراعة وتعمير البلاد. (3)
ثقل الخراج المضروب. (4)
صدق العمال في توريد المال المجموع.
وأسباب قلة النفقة ثلاثة: (1)
قلة الموظفين. (2)
عدم وجود الدين على الحكومة. (3)
اقتصاد الخلفاء الأولين.
ولما فرغنا من الثروة العباسية في العصر الأول نظرنا في أحوالها في عصر الاضمحلال، وقدمنا الكلام بفصل في علة ذلك الاضمحلال ثم مقدار الجباية في ذلك العصر، وبحثنا في سبب تناقصها فحدا ذلك بنا إلى النظر في أسباب قلة الجباية وكثرة النفقات، وأسباب قلة الجباية خمسة: (1)
ضيق المملكة. (2)
تخفيض الخراج المضروب. (3)
استئثار العمال بالجباية. (4)
انشغال الناس بالفتن عن العمل. (5)
تحول أكثر البلاد إلى ضياع.
وأسباب كثرة النفقات خمسة أيضا: (1)
إسراف الخلفاء ونسائهم، وفيه بحث فيما بلغت إليه ثروة نساء الخلفاء. (2)
كثرة أبواب النفقة في الدولة. (3)
زيادة الرواتب، وتحت هذا الباب تفصيل عن تاريخ رواتب موظفي الحكومة من العمال والكتاب والوزراء والقضاة، ثم أهل الخلفاء وحاشيتهم فالجند، ورواتب أخرى. (4)
النفقة على البيعة. (5)
استئثار رجال الدولة بالأموال لأنفسهم، ويتفرع من ذلك بحث عن حال الوزراء في عصر الاضمحلال وتفشي داء الرشوة فيهم، وما يجتمع إليهم من الأموال وبيت مال الحكومة فارغ والخلفاء يشكون الفقر، وما آل إليه ذلك من مصادرة الوزراء وأخذ أموالهم بالقوة، وبحثنا مثل هذا البحث أيضا في العمال والكتاب والحجاب، وختمنا هذا القسم بخلاصة إجمالية للموضوع.
ثم عمدنا إلى النظر في القسم الثاني وهو «ثروة المملكة الإسلامية» أي ثروة البلاد وأهلها، فتكلمنا إجمالا عن حالة البلاد في ذلك العصر، وعن اختصاص المدن بالثروة وأسباب انحصارها في الفئة الحاكمة ومن ينتمي إليهم من أهل الوجاهة والنفوذ وسائر أهل البلاد في فقر مدقع، وختمنا الكلام بوصف أشهر المدن الإسلامية في مصر والشام والعراق والمغرب والأندلس، كالبصرة والكوفة والفسطاط وبغداد وغيرها، وما بلغت إليه من الثروة والعمران في عهد ذلك التمدن.
ولما صدر الجزء الأول من هذا الكتاب عرف الفضلاء أهمية موضوعه ووعورة مسلكه، فعمد أرباب الأقلام إلى تقريظه وانتقاده في الجرائد والمجلات فضلا عن الكتب الخاصة، فرأينا في مجمل ذلك ما نشطنا، لكننا رأينا لبعضهم انتقادا لمواضع من الكتاب عدها خطأ لأنها لا تطابق ما يعلمه هو من مصادر هذا الموضوع، فرددنا عليه وبينا له أن التبعة في ذلك على قلة ما وصلت إليه يده من تلك المصادر وأسندنا كل قول من أقوالنا إلى مصدر وثيق أجمع المؤرخون على صحته
1
وقرأنا نحو ذلك الانتقاد في جرائد أخرى تعجل فيها الكاتب إلى الحكم علينا بالخطأ في بعض المواضع، والخطأ في تعجله؛ لأننا لم ننقل حقيقة تاريخية عن غير الثقات من المؤرخين، وقد أوردنا أكثر أسمائهم في مقدمة الجزء الأول، فلو اطلع المنتقدون على تلك المصادر لكفوا أنفسهم مؤونة الانتقاد، وكان قد خطر لنا ونحن نكتب ذلك الجزء أن نذيل صفحاته بالمآخذ التي نقلنا عنها تلك الحقائق، ولكننا أمسكنا عن ذلك ضنا بصفحات الكتاب؛ لأننا لم نبد رأيا ولا قلنا قولا إلا وسندنا فيه كتاب أو عدة كتب، فالإشارة إلى تلك الكتب في ذيل الصفحات تستغرق جانبا منها، على أننا لو فعلنا ذلك لكفينا أنفسنا وكفينا حضرات المنتقدين مؤونة العناء في الأخذ والرد بلا طائل. •••
وقد توسمنا في مجمل ما قرأنا من التقاريظ والانتقادات رغبة حضرات الكتاب في ذكر المصادر، وكتب إلينا جماعة من أهل الفضل الغيورين على العلم يستحثوننا على ذلك، وبينهم بضعة من علماء الهند وفارس نذكر منهم عالما كبيرا من علماء الهند عرف قراء العربية فضله من بعض ما نشر بينهم من آثار علمه، نعني صديقنا شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني ناظر العلوم والفنون في حيدر أباد الدكن، فإنه من أوسع الناس اطلاعا على التاريخ الإسلامي وآدابه، فلما اطلع على الجزء الأول كتب إلينا كتابا يسفر عن تقديره هذا الموضوع حق قدره، ولكنه انتقد إغفالنا ذكر المصادر في ذيول الصفحات، قال: «استلمت كتاب تاريخ التمدن الإسلامي بغاية الشوق؛ لأن موضوع الكتاب يهمني بنوع خاص، ولم أعرضه على أحد إلا أعجب به غاية الإعجاب، وظني أن تأليفكم هذا يترجم إلى لساننا الأردو (الهندستاني) ولا شك أنه يقع موقع القبول في البلاد الإسلامية كلها، ولكنني أنتقد عليكم أمرا لا يسعني كتمانه، وهو أن دأبكم في التأليف أنكم تكتفون بذكر مصادر الكتاب في أوله إجمالا من غير التزام الاستشهاد في كل محل وموضوع، وفيه مفاسد كثيرة، منها أننا رأينا كثيرين من مستشرقي أوربا يذكرون أمورا مهمة من المسائل العلمية أو الاختراعات وينسبونها إلى العرب، فنغتر بذلك ويذهب بنا الفخر كل مذهب ثم إذا راجعنا الأصل وحققنا الأمر يظهر أنهم استنوقوا الجمل وما كان هناك شيء يذكر ولا مأثرة تنقل، لا نقول إنهم يتعمدون الكذب، ولكنهم يغلطون في الاستنباط، فلو كانوا يذكرون مصادر الرواية ومآخذها لكان يسهل لنا المراجعة إذا مست الحاجة، ومنها أن كتب التواريخ لها مدارج ومراتب، فما لم تذكر أسماء الكتب بالخصوص لا يتميز جيد الرواية من رديئها، ولا أقواها من أضعفها.» ا.ه. •••
فلما عمدنا إلى كتابة هذا الجزء رأينا أن نعود إلى رأينا الأول فنذيل صفحاته بالمصادر التي اعتمدنا عليها مع تعيين الكتاب والجزء والصفحة.
واختصرنا في ذلك جهد الطاقة ضنا بالمكان، ولا يخفى ما يقتضيه هذا العمل من التدقيق والمراجعة، وفي تقليب صفحات هذا الجزء قبل تصفحها دلالة كافية على مقدار ما بذلناه من العناء في تأليفه، وخصوصا لأنه أول كتاب في هذا الموضوع كتب على هذا النسق.
وليس تاريخ التمدن الإسلامي من الكتب التي يلهو بها العامة للتسلية، ولا من الكتب الفكاهية كالروايات ونحوها، وإنما هو موضوع تاريخي اجتماعي يبين أسباب نشوء المدنية وأسباب انحطاطها، ويتخلل ذلك أبحاث فلسفية في علاقة تلك الأسباب بعضها ببعض، وما ينجم عنها من العبرة والموعظة، فهو من الكتب التي يقرؤها الخاصة أهل الاطلاع، ولم نعمد إلى تأليفه إلا بعد أن أعددنا أذهان القراء لهذا الموضوع بما نشرناه بين ظهرانيهم من الروايات التاريخية الإسلامية منذ عدة أعوام، مما تلذ قراءته للخاصة والعامة بما تحويه من الحقائق التاريخية في سياق الحكاية الغرامية، فلما تهيأت الأذهان ولمسنا عند القراء شوقا إلى مطالعة التاريخ الإسلامي، عمدنا إلى تأليف هذا الكتاب وهو تاريخ الإسلام الحقيقي؛ لأن تاريخ الأمة لا يقوم بسرد حروبها وفتوحها، وإنما هو تاريخ نشوئها وتنظيم حكومتها وتاريخ ثروتها وعلومها وآدابها ونظامها الاجتماعي ومصيرها، أو هو تاريخ تمدنها، ولنا فيما بسطناه من وعورة هذا المسلك عذر على ما قد يعتور مشروعنا من النقص، والكمال لله وحده.
هوامش
ظواهر التمدن وحقيقته
لخصنا في الجزء الأول من هذا الكتاب نشأة الدولة الإسلامية وتاريخ مصالحها الإدارية والسياسية والمالية تمهيدا للنظر في تمدنها، ولكل تمدن ظواهر يبدو بها للناظرين وحقيقة تتجلى منه للباحثين، أما الظواهر فهي ما نراه من ثمار ذلك التمدن كالثروة والأبهة والعلم والأدب والصناعة والتجارة ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها، وأما حقيقة التمدن فهي ما ينتج عنه من الخير أو الشر، من السعادة أو الشقاء للمستظلين بظله أو سواهم من بني الإنسان، ومن ظواهر التمدن الإسلامي الثروة والعلم والأدب والصناعة والتجارة، ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها، وسنحصر بحثنا في هذا الجزء في ثروة المملكة الإسلامية دون سواها.
والبحث في ثروة المملكة يقتضي النظر في مصادر تلك الثروة وأسبابها وأوجهها باعتبار الدول والعصور والنظر في ثروة كل عصر مع دراسة ما إذا كانت الثروة مفرقة بين الأهالي أو محصورة في فئة منهم أو في الحكومة أو في رجالها، ودراسة ما يتصل بذلك من وصف ثروة المدن والأبنية وغيرها.
ومعلوم أن المملكة الإسلامية بلغت أوجها من الغنى والثروة في العصر العباسي، فلو كان غرضنا مجرد وصف تلك الثروة لاكتفينا بالإشارة إلى مقدار ما كان يحمل إلى بيت المال من الجبايات، وما كان عليه الخلفاء وأتباعهم من الغنى والبذخ وعددنا موارد الثروة ومصادرها، ولكننا عولنا منذ أخذنا في تأليف هذا الكتاب أن نسند كل حادث إلى أسبابه بالبحث عن العلل الحقيقية وتتبع الأسباب إلى أصولها وعلاقة ذلك كله بالمجموع العام، مع اعتبار الأحوال واختلافها باختلاف العصور.
والمملكة الإسلامية عند التخصيص هي غير الدولة الإسلامية؛ لأن هذه العبارة عن الحكومة ورجالها، وأما المملكة فهي البلاد وأهلها، فيحسن والحالة هذه أن نقسم الكلام في الثروة المذكورة إلى: ثروة الدولة الإسلامية، وثروة المملكة الإسلامية، ونتكلم في كل منهما باعتبار العصور المتقدم ذكرها.
وبناء على ذلك سنجعل الكلام في ثروة الدولة الإسلامية باعتبار العصور، فنبدأ بعصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، فالخلفاء الراشدين، فبني أمية، فالعباسيين، ونقسم كل عصر إلى أبواب، بعضها للبحث في ثروة الحكومة أو بيت المال، والبعض الآخر للبحث في ثروة رجال الحكومة، وما يستلزمه ذلك من النظر في أسباب تلك الثروة وعلة كثرتها أو قلتها، وتاريخ الخراج والجزية وغيرهما وأبواب النفقة وغير ذلك.
وبناء على ذلك نقول إن ثروة الدولة الإسلامية مرت في خمسة أدوار أو عصور وهي: (1)
عصر النبي
صلى الله عليه وسلم . (2)
عصر الخلفاء الراشدين. (3)
عصر بني أمية. (4)
عصر العباسيين الأول أو عصر الازدهار العباسي. (5)
عصر العباسيين الثاني أو عصر الاضمحلال.
أما الدول الإسلامية الأخرى في مصر والأندلس وغيرهما فالكلام في ثروتها يأتي عرضا بطريق الاستشهاد أو التمثيل؛ لأن المراد بالتمدن الإسلامي إنما هو التمدن العباسي الشهير.
ثروة الدولة الإسلامية
(1) عصر النبي (من سنة 1-11ه)
إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها أو ما تختزنه بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالا ولا كان عندهم بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات فإنها كانت تفرق في أهلها، وإذا ظل منها شيء استبقوه لحين الحاجة إليه، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل والخيل، فكان يسمها بميسم خاص بها تمتاز به عن سواها.
فكانت ثروة الدولة في عصر النبي عبارة عن بقايا الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى
1
وبميسم كان النبي نفسه يسمها به
2
وبلغت الأموال في أيام النبي نحو 40000 بين إبل وخيل وغيرها
3
ومن هذه الأموال وما يلحق بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم وعلى تحصيل الزكاة وإعالة الفقراء ونحوهم. (2) عصر الخلفاء الراشدين
هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغيرة الحقيقية على الدين ونبذ الدنيا، وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالا ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من دولهم عن جادة الحق طلبوا إليها الرجوع إليه والسير على خطوات الخلفاء الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد وانقلبت من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع وأخذوا في حشد الأموال بأية وسيلة كانت. (2-1) بيت المال
توفي النبي والمسلمون هم رجال الحكومة والجند، ولم يكن عندهم بيت مال للأسباب التي قدمناها، ولم يكونوا يتطلبون المال إلا لقضاء الحاجات، وكان أكثر ما يرد عليهم منه ماشية وحنطة وخيلا ونحو ذلك من أموال الصدقة والغنيمة وكانت النقود قليلة بين أيديهم، فلما فتحوا الشام وفارس ومصر، وردت عليهم الأموال ذهبا وفضة فأدهشتهم كثرتها وتنبهوا لها، يقال إن أبا هريرة قدم على عمر بن الخطاب من البحرين بمال وفير فقال له عمر: «بم جئت؟» قال: «بخمسمائة ألف درهم» فاستكثره عمر وقال: «أتدري ما تقول؟» قال: «نعم، مئة ألف خمس مرات.» فصعد عمر المنبر وقال: «أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا وإن شئتم عددنا لكم عدا.»
4
وكان ذلك من جملة ما دعاه إلى وضع الديوان وفرض العطاء لكل واحد من المسلمين باعتبار السابقة والقرابة من النبي، ولكنه نهى عن اختزان المال فقال له قائل: «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال شيئا يكون عدة لحادث إذا حدث.» فزجره عمر وقال له: «تلك كلمة ألقاها الشيطان علي فيك وقاني الله شرها، وهي فتنة لمن بعدي، إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدتنا التي بلغنا بها ما بلغنا.»
5
فلما كثرت الأموال في أيام عمر ووضع الديوان فرض الرواتب للعمال والقضاة ومنع ادخار المال وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزرعة؛
6
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال حتى إلى عبيدهم ومواليهم، أراد بذلك أن يبقوا جندا على أهبة الرحيل لا يمنعهم انتظار الزرع ولا يقعدهم الترف والقصف، فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته، تفرق فيهم وهم يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه ويفرضون له راتبا في الديوان مثل سائر المسلمين.
7
والغرض الذي كان يرمي إليه عمر من هذه القاعدة أن يبقي أهل الذمة وأرضهم مصدرا للمال الذي يحتاج إليه المسلمون في إتمام الجهاد ووقفا لمصالحهم مدى الدهور، أما إذا اشترى المسلمون الضياع فإنهم يستقلون بنفعها دون سواهم، ولا تمضي بضعة أجيال حتى تصير أملاكا خاصة بهم
8
وعمر يريد أن يبقيها محبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين المجاهدين قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين، لا تباع ولا تورث لما ألزموه أنفسهم من إقامة فريضة الجهاد
9
وأيد هذه القاعدة عمر بن عبد العزيز الأموي وكان يقلد ابن الخطاب في كل خطواته فقال:
أيما ذمي أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله، وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين، وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها، فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم.
10
فترتب على ذلك ونحوه ترفع المسلمين عن سائر الأعمال من تجارة أو صناعة أو نحوهما. (2-2) ثروة الخلفاء وعمالهم
علمت مما تقدم أن الراشدين لم يكونوا يلتمسون ثروة، فلما توفي أبو بكر لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارا واحدا سقط من غرارة؛
11
لأنه كان يفرق كل ما يجتمع عنده على السواء لا ينظر إلى مصلحة نفسه، بل هو أنفق كل ما كان عنده من المال قبل إسلامه، وذلك أربعون ألف درهم غير ما اكتسبه من التجارة؛ لأنه كان يتجر ليستعين على النفقة، ثم فرضوا له مالا معينا من مال المسلمين لينفقه على نفسه وعياله؛ لئلا يشتغل بالتجارة عن النظر في مصالحهم، فلما دنا أجله أوصى أن تباع أرض كانت له ويدفع ثمنها بدلا مما أخذه من مال المسلمين
12
وكان عنده ثوبان أوصى أن يكفن بهما.
وأخبار عمر بن الخطاب في الزهد والنزاهة أشهر من أن تذكر، ويقال بالإجمال إنه مؤسس دولة المسلمين، وقد أسسها على أمتن دعائم الملك، أسسها على العدل والتقوى والزهد والاستهلاك في نصرة الحق مما يندر اجتماعه في رجل واحد وقد يوهم لغرابته أنه من قبيل المبالغة، ويسهل علينا التصديق به إذا تذكرنا النتائج التي ترتبت على تلك المناقب مما لم يسمع بمثله في التاريخ، يكفي منها تلك الفتوح التي جعلت الأموال تنصب نحو بيت المال في المدينة كما ينصب الماء من الميازيب، وعمر مع ذلك لا يلتفت إليه ولا يأخذ منه إلا ما فرضه لنفسه كسائر الصحابة الأولين، وكان إذا احتاج إلى مال فوق راتبه جاء إلى بيت المال فاستقرضه حتى يفيه إياه من عطائه فيما بعد
13
ولما طعن وأحس بدنو الأجل قال لابنه: «إني استلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفا فلترد من مال ولدي فإن لم يف مالهم فمال آل الخطاب.»
14
وزهده في الطعام واللباس مشهور.
ويقال نحو ذلك في الإمام علي، فقد كان مغاليا في الزهد والعدل، ومن أقواله: «تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش، ننام عليه بالليل ونعلق عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها.» وجاءه في أيام خلافته مال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أسهم ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا، ولم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وكان يأتي بحبوبه من المدينة في جراب، وقيل إنه أخرج سيفا له إلى السوق فباعه وقال: «لو كان عندي أربعة دراهم ثمن أزرار لم أبعه.» ومناقبه لا تحصى.
15 •••
وقد ساعد الخلفاء الراشدين على تأييد العدل والحق أن عمالهم كان أكثرهم من أهل التقوى وحسن الاعتقاد في الإسلام، فكان عمر إذا اكتسب أحد عماله مالا من تجارة أو سبيل آخر غير عطائه المفروض له قاسمه عليه وهو لا يرى في ذلك غبنا، كذلك فعل بسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبي هريرة عامله على البحرين
16
وغيرهم.
ولا غرابة في ذلك؛ لأن العامل إذا رأى خليفته زاهدا تقيا يمنع نفسه من كل شيء، ويستهلك في مصلحة الأمة فإنه يقتدي به ولو كان ذلك مخالفا لرأيه، على أن الخليفة نفسه لا يولي أعماله إلا من يكون على رأيه وخلقه، وخصوصا عمر، فقد كان شديدا على العمال يتفقدهم كل سنة، ويعزلهم لأقل تهمة، ذكر أنه استعمل على حمص رجلا اسمه عمير بن سعد، فلما انقضت السنة كتب إليه: «أقدم إلينا» فلم يشعر عمر إلا وقد قدم إليه الرجل ماشيا حافيا عكازه في يده، وأدواته ومزوده وقصعته على ظهره، فلما رآه عمر قال: «يا عمير أأجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أما نهاك الله أن تجهر بالسوء وعن سوء الظن؟ وقد جئت إليك بالدنيا أجرها بقرابها.» فقال: «وما معك من الدنيا؟» قال: «عكازة أتوكأ عليها وأدفع بها عدوا إن لقيته، ومزود أحمل به طعامي.» فقال: «ما صنعت بعملك يا عمير؟» قال: «أخذت الإبل من أهل الإبل، والجزية من أهل الذمة، ثم قسمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فوالله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به.» فقال له: «عد إلى عملك.»
17 •••
ولا بد لنا مع ذلك من أن نقف هنيهة للنظر في أمر يفتقر إلى تفسير، قلنا إن عمر لم يكن يختزن مالا ونهى عن اختزانه، فلو كانت الأموال التي ترد إلى بيت المال تفرق على السواء كما كانت تفرق الغنائم في أيام النبي وأبي بكر لهان عليه أن لا يختزن، ولكنه فرض أعطية معينة يتناولونها كل عام.
ونعلم أيضا أن الأموال زادت كثيرا في أيامه بما انضم إليهم من الأعمال بالفتح، وكلها تؤدي الخراج والجزية فضلا عما يلحق بيت المال من الغنائم، فما الذي كان يفعله عمر بما يفيض من تلك الأموال بعد دفع الأعطية المذكورة؟ يظهر أنه كان يفرقه في أهل الحاجة أو لعله كان يستبقي بعضه على أن يفرقه، ولا يعد ذلك اختزانا؛ لأنه إنما منع الاختزان للحرب. (2-3) اقتناء المسلمين للأموال
على أن رأي عمر بعدم اختزان المال ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام عليه الدول وتتأيد به السلطات؛ لأن اختزان الأموال من ضروريات الملك، ولكن المسلمين الأولين لم يكونوا يعدون الخلافة ملكا سياسيا، ولذلك لم تطل مدتهم إلا ريثما انقضى عصر النبوة وزالت دهشتها، فعاد الناس إلى فطرتهم وتسابقوا إلى حشد الأموال والاستئثار بالسلطة.
وقد باشروا ذلك في أيام عثمان بن عفان (سنة 33-35ه)؛ لأنه لم يكن شديدا مثل عمر وكان مع ذلك أمويا، فاعتز الأمويون به وأرادوا أن يعيدوا لأنفسهم السلطة التي كانت لهم في الجاهلية، وكان بنو هاشم قد سلبوهم إياها بعد الإسلام لأن النبي منهم، فأخذ عثمان يولي الأعمال رجالا من أقربائه وفيهم من لم يعتنق الإسلام إلا يأسا من فوزه على المسلمين، وكثرت في أيامه الفتوح وفاضت الغنائم فكان يستخص أهله منها بأكثر من سائر الصحابة، كما فعل بغنائم إفريقية سنة 27ه فإن المسلمين حاربوها وعليهم عبد الله بن سعد (أخو عثمان من الرضاع) فبلغت غنائمهم منها 2500000 دينار أعطى خمسها إلى مروان بن الحكم وزوجه ابنته
18
وكان هذا الخمس من حقوق بيت المال، وأبطل عثمان محاسبة العمال؛ لأنهم من أهله، فازدادوا طمعا في حشد الأموال لأنفسهم، وخصوصا معاوية بن أبي سفيان عامله على الشام وهو أكثرهم دهاء وأبعدهم مطمعا، فكان في مقدمة الذين أبطلوا قاعدة عمر في منع المسلمين من الزرع واتخاذ الضياع ونحوها.
وكيفية ذلك أن المسلمين لما فتحوا الشام وأقروا الأرض في أيدي أصحابها، كان جانب كبير منها ملكا للبطارقة قواد جند الروم، فلما غلبت الروم وفر البطارقة أو قتلوا ظلت ضياعهم سائبة لا مالك لها فأوقفها المسلمون على بيت المال، فكان العمال يقبلونها كما يقبل الرجل ضيعته (أي يضمنها) ويضيفون دخلها إلى بيت المال، فلما استقر معاوية على ولاية الشام واقتدى بالروم في البذخ واتخاذ الحاشية لم يعد راتبه يكفيه، ورأى من عثمان ضعفا وميلا فكتب إليه أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله لا يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم ومن رسل الروم ووفودهم، ووصف في كتابه هذه المزارع وأن لا مالك لها وليست هي من قرى أهل الذمة ولا الخراج وسأله أن يقطعه إياها،
19
وكان عمر قد جعل لمعاوية على عمله في الشام راتبا مقداره ألف دينار في السنة
20
وهو كثير بالنظر إلى رواتب العمال في تلك الأيام، فلما طلب من عثمان أن يقطعه تلك الضياع أجابه إلى طلبه فوضع يده عليها وجعلها حبسا على فقراء أهل بيته، فجرأه ذلك على التمادي في اقتناء الأرض وبيعها في أيام خلافته والإذن للمسلمين في ذلك.
واقتدى بمعاوية غيره من العمال وسائر الصحابة، فاقتنوا الضياع والعقار وفيهم جماعة من كبار الصحابة المعروفين مثل طلحة والزبير وسعد وغيرهم، وزادت أموالهم وظهر الغنى فيهم حتى عثمان نفسه فإنه اقتنى الضياع الكثيرة واختزن الأموال، فوجدوا عند خازنه بعد موته 150000 دينار و1000000 درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما 100000 دينار، وخلف خيلا وإبلا
21
والظاهر أن عثمان اندفع إلى تسهيل الثروة على المسلمين بما زاد عنده من الأموال، وأغراه أهله وخصوصا معاوية، ثم صار امتلاك العقار مألوفا شائعا.
ومن أسباب شيوع الأملاك بين المسلمين أن عثمان أقطع هو وخلفاؤه بعض الأرض مما لم يتعين مالكوه على أن يدفعوا شيئا لبيت المال في مقابل الإيجار أو الضمان كما تقدم ، فلما حصلت فتنة الأشعث سنة 82ه حرق الديوان وضاعت السجلات فأخذ كل قوم ما يليهم.
22
على أن المسلمين لم يكونوا راضين عن أعمال معاوية في هذا الشأن؛ لأنه لم يساو بينهم فيه فنقموا عليه وخصوصا الفقهاء ورجال التقوى، وفي حكاية أبي ذر الغفاري ما يغني عن البيان؛ فقد كان هذا الرجل مغاليا في التمسك بقاعدة عمر، وكان يرى «أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم»،
23
وكان يقوم في الشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.» وما زال يقول ذلك ويكرره حتى ولع الفقراء بقوله وأوجبوه على الأغنياء، فشكا الأغنياء إلى معاوية ما يلقون منهم، وكان معاوية يشكو أمر من شكايتهم؛ لأن أبا ذر وبخه غير مرة لاختزانه المال ، ومما قاله له على أثر بنائه قصر الخضراء في دمشق، وقد سأله معاوية: «كيف ترى هذا؟» فقال أبو ذر: «إن كنت بنيته من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيته من مالك فإنك من المسرفين.»
24
فعظم ذلك على معاوية فأراد أن يوقعه في ما يوجب محاكمته فبعث إليه بألف دينار أراد أن يغريه بها ثم يتهمه باكتناز المال، فلما وصلت الدنانير إلى أبي ذر فرقها حالا مع أنها وصلته ليلا، وجاءه رسول معاوية في الصباح يزعم أنه دفع المال إليه خطأ وأن معاوية يطلبه فأخبره أنه أنفقه في ساعته، فلم ير معاوية سبيلا إلى اتهامه بالفتنة فكتب إلى عثمان: «إنك أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر.» فكتب إليه: «احمله على قتب بغير وطاء.»
25
فلما جاء المدينة حاكمه عثمان فلم يرهب سلطانه وجاهر بما يراه من جشع بني أمية وخروجهم عن الحق، فأخرجه عثمان من المدينة إلى الربذة بالعنف وظل هناك حتى مات، فنقم المسلمون بموته على عثمان في جملة ما نقموه عليه إلى مقتله.
فلما قتل عثمان سنة 35ه وقامت الفتنة في الخلافة وأرادها معاوية لنفسه، رأى بين دعاتها من هم أحق بها منه نسبا وسابقة، فاحتال إليها بالمال فازدادت رغبته في الاستكثار منه لبذله في إنشاء الأحزاب، ولا غرو فإن المال قوة تتحول إلى ما شئته من القوى، وهو منذ القدم مرجع المشروعات العظمى، ولا يزال حتى اليوم المحور الذي تدور عليه سياسة العالم المتمدن، فما من حرب أو سلم أو محالفة أو معاهدة وما من فتح أو حصار إلا والمحرك عليه أو الداعي إليه «المال»، وكذلك فعل معاوية فاستخدم بالمال جماعة من دهاة العرب نصروه بالدهاء والسيف، حتى أفضت الخلافة إليه بعد واقعة صفين ولكنها لم تصف له إلا بعد مقتل علي (40ه) وتنازل الحسن له عنها، والناس مع ذلك يعلمون أن معاوية إنما فاز ببذل المال حتى قال زين العابدين ابن حفيد الإمام علي: «إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه.»
26
وسار بنو أمية على خطوات معاوية في ذلك ، فجعلوا المال أكبر نصير لهم على دعاة الخلافة من بني هاشم وعلى الخوارج وغيرهم، فجرهم ذلك إلى الاستكثار منه بأي وسيلة كانت كما سيأتي.
فالثروة في عصر الراشدين كانت محرمة على المسلمين، ولكن تحريمها لم يبق طويلا؛ لأن بقاءه يقتضي بقاء عمر بن الخطاب، أو من يكون في مثل مناقبه وتقواه مع بقاء العرب على الفطرة البدوية مما يخالف نواميس العمران، فلذلك لم يكد يختلط العرب بالروم والفرس حتى تاقت نفوسهم إلى الترف وحشد الأموال وزادهم ميلا إلى ذلك رغبة بني أمية في الاستكثار منها، فانقضى عصر الراشدين ولم ير المسلمون مثله بعده، وظل أبو بكر وعمر مضرب أمثال القوم قرونا متطاولة، إذا اعوج حاكم أو خليفة طلبوا إليه أن يقتدي بهما، وخصوصا عمر، فقد كانوا يحاولون التشبه بعدله وحزمه وشدته في الحق، حتى إن أشهر عمال بني أمية ظلما ودهاء أرادوا الاقتداء به في ذلك، فتهوروا وانقلب فيهم إلى الظلم والعسف، يقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، ثم أراد الحجاج بن يوسف أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر.
27 (3) عصر بني أمية (من سنة 41-132ه)
تمتاز دولة بني أمية عن دولة الراشدين بأن السلطة تحولت فيها من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، وتمتاز عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة شديدة التعصب للعرب كثيرة الاحتقار لسواهم، ولذلك فإن أهل الذمة وغيرهم من سكان البلاد الأصليين قاسوا من خلفاء بني أمية ومن عمالهم الأمور الصعاب، حتى الذين أسلموا منهم فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد وكانوا يسمونهم «الموالي»، ويعدون أنفسهم ذوي إحسان عليهم لأنهم أنقذوهم من الكفر، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعا لله، وكان بعض العرب إذا مرت به جنازة مسلمة قال: «من هذا؟» فإذا قالوا: «قرشي» قال: «وا قوماه!» وإذا قالوا: «عربي» قال: «وا بلدتاه!» وإذا قالوا: «مولى» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.» وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم
28
وكانوا يسمونهم العلوج، وفي كتاب الموالي للجاحظ أن الحجاج لما قبض على الموالي الذين حاربوا مع ابن الأشعث أراد أن يفرقهم حتى لا يجتمعوا، فنقش على يد كل واحد منهم اسم البلدة التي وجهه إليها، وقد تولى ذلك النقش رجل من بني عجل فقال الشاعر:
وأنت من نقش العجلي راحته
وفر شيخك حتى عاد بالحكم
29
وسنعود إلى تفصيل ذلك في الكلام عن نظام الهيئة الاجتماعية في المملكة الإسلامية في جزء آخر من هذا الكتاب، وإنما أشرنا إلى ذلك هنا لبيان مقدار تعصب العرب في دولة بني أمية على غير العرب ولو كانوا مسلمين.
وكان من جملة نتائج تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم أنهم اعتبروا أهل البلاد التي فتحوها وما يملكون رزقا حلالا لهم، يدل على ذلك قول سعيد بن العاص عامل العراق: «ما السواد إلا بستان قريش، ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه.»
30
وقول عمرو بن العاص لصاحب «إخنا» لما سأله عن مقدار ما عليهم من الجزية فقال عمرو: «إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خف عنا خففنا عنكم.»
31
فاتخذوا ذلك ونحوه ذريعة للاستيلاء على ما شاءوا من أموال الناس، وقد جرأهم على ذلك معاوية إذ جعل بعض الأعمال طعمة لبعض عماله والبعض الآخر ضمنه بمال زهيد، فعل ذلك في بادئ الرأي ترغيبا لهم في نصرته، ثم توالت عليه وعلى من خلفه من بني أمية الحروب مع أحزاب بني هاشم والخوارج وغيرهم، فاضطروا إلى الاستكثار من الأموال ولا سبيل إلى جمعها إلا بالخراج والجزية من أهل البلاد، فاستخدموا من العمال من يثقون باقتدارهم على جمع الأموال فضلا عن الحرب، وأشد أولئك العمال وطأة الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك على العراق، واحتاج عبد الملك إلى مقاومة جماعة من مناظريه على الخلافة، وفيهم عبد الله بن الزبير في مكة، والمختار بن أبي عبيد في العراق، وغيرهما، فوكل ذلك إلى الحجاج وأمثاله فاستخدموا العنف في تحصيل الأموال بحق وبغير حق.
32 (3-1) أجور العمال
وكان عمال بني أمية يجورون على أصحاب الأرض من أهل الذمة في التحصيل ونحوه، لا يهمهم بقي لهم من المحصول شيء أم لا، وكان الخراج يومئذ على المساحة، فيؤخذ على الأرض مال معين زرعت أم لم تزرع، وكان من شروط الخراج أن يستبقى لأصحاب الأرض ما يجبرون به النوائب والحوائج، ومما يحكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في أخذ تلك البقية منهم فأجابه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
33
والظاهر أن الضغط على أهل القرى وأصحاب الأرض حمل بعضهم على الإسلام احتماء به فأصبحوا من الموالي، فلم يمنع ذلك تحصيل الخراج والجزية منهم فألزمهم الحجاج
34
الخراج مع أنهم تنازلوا عن مغارسهم لأهلهم وغادروا القرى وسكنوا الأمصار فرارا من تلك الضرائب، فأمر الحجاج بردهم وطالبهم بالخراج لأن المسلمين كانوا إلى ذلك الحين لا يقيمون إلا في المدن التي بنوها هم، وأهل البلاد الأصليون يقيمون في القرى للزرع والحرث، فمن اعتنق منهم الإسلام رفع الخراج عن رأسه، وصار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه، يؤدون عنها ما كان يؤدي من الخراج كما تقدم، وينزل هو إلى الأمصار كالكوفة والبصرة والفسطاط.
ففعل ذلك في أيام الحجاج جماعة كبيرة، ربما التمسوا به النجاة من الضغط فإذا هو ملاقيهم، وكتب الحجاج إلى الأمصار: «أن من كان له أصل في قرية فليرجع إليها لتؤخذ منه الجزية والخراج»، فعل ذلك في أيام ابن الأشعث فخرج الناس وهم يبكون وينادون: «يا محمداه! يا محمداه!» ولا يدرون إلى أين يذهبون، فاضطروا إلى الانضمام للأشعث على الحجاج.
35
ولم تكن تلك المعاملة خاصة بالحجاج من عمالهم، فقد فعله مثله أيضا يزيد بن أبي مسلم عامل يزيد بن عبد الملك على إفريقية
36
وكذلك فعل الجراح في خراسان
37
وغيره فيما وراء النهر
38
وكان أهل سمرقند قد أسلموا على أن ترفع الجزية عنهم، فظلوا يأخذونها منهم فعادوا إلى دينهم.
أما النصارى وغيرهم من أهل الذمة الذين ظلوا على دينهم فيكفي في تمثيل حالهم اعتبار ما تقدم من معاملة الذين أسلموا منهم، فكانوا يسومونهم العذاب في تحصيل الجزية، ورأى هؤلاء أن اعتناق الإسلام لا ينجيهم من ذلك، فعمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة؛ لأن الرهبان لا جزية عليهم، فأدرك العمال غرضهم من ذلك فوضعوا الجزية على الرهبان، وأول من فعل ذلك منهم عبد العزيز بن مروان عامل مصر فأمر بإحصاء الرهبان، وفرض على كل راهب دينارا
39
وهي أول جزية أخذت من الرهبان، وأمثال هذه الحوادث كثيرة في تاريخ بني أمية. •••
ولم يكن ذلك كل ما اقترفوه في سبيل جمع المال، فإنهم زادوا الخراج عما كان عليه في أيام الراشدين، بدأوا بذلك من أيام معاوية فأراد أن يزيد قيراطا، فكتب إلى وردان مولى عمرو بن العاص أمير مصر أن: «زد على كل امرئ من القبط قيراطا»، فكتب إليه: «كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا أزيد عليهم؟»
40
ولعل عمرا لم يطعه في ذلك لأن مصر طعمة له ، فلما انتقلت إلى خلفاء بني أمية بعد عمرو زادوا في الخراج ما شاءوا، وأشهر من فعل ذلك عبيد الله بن الحبحاب متولي الخراج من قبل هشام بن عبد الملك (سنة 105-125ه) فإنه زاد على القبط قيراطا في كل دينار فلم يصبر القبط على ذلك، وكانوا لا يزالون هم السواد الأعظم، فثاروا فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم جمعا كبيرا، وحدث نحو ذلك على يد أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج فإنه أوقع في النصارى وأخذ أموالهم، وكثر الالتجاء إلى الرهبنة في أيامه فأراد أن يمنع ذلك لأنه يضر في الخراج والجزية، فأحصى الديور والرهبان كافة ووسم أيدي الرهبان بحلقة من حديد فيها اسم الراهب واسم الدير وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وألزم كل نصراني بمنشور يحمله يدل على أنه أدى ما عليه، وكتب إلى العمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدة من الرهبان بغير وسم، فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب.
41
على أن ذلك لم يكن برضى الخليفة، فلما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك كتب إلى عامله بمصر أن يجري النصارى على عوائدهم وما في أيديهم من العهود، ولم يطل العمل بهذا الأمر فعاد العمال إلى ظلمهم، وفي جملتهم حنظلة بن صفوان فإنه زاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم، وجعل على كل نصراني وسما صورة أسد وتتبعهم فمن وجده بغير وسم قطع يده.
42
وقس على ذلك أمثلة كثيرة من شدة عمال بني أمية على أهل الذمة والموالي وغيرهم من العرب. •••
ومن أمثلة ما اقترفه بنو أمية من زيادة الخراج والجزية أن أهل الجزيرة بالعراق كانت جزيتهم دينارا، ومدين قمحا، وقسطين زيتا، وقسطين خلا في العام، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك، فبعث إلى عامله فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعا وجعلها طبقة واحدة.
43
ولم تكن ضرائبهم قاصرة على أهل الذمة والموالي، ولكنها شملت العرب المسلمين أنفسهم، وذلك أن محمدا أخا الحجاج بن يوسف لما تولى اليمن أساء السيرة وظلم الرعية، وأخذ أراضي الناس بغير حقها وضرب على أهل اليمن خراجا سماه «الوظيفة»، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله هناك بإلغاء تلك الوظيفة والاقتصار على العشر.
44
وكان عمال بني أمية في فارس يخرصون الثمار على أهلها؛ أي يحزرون مقدارها، ثم يقومونها بسعر دون سعر الناس الذي يتبايعون به، فيأخذونها قرفا على قيمتهم التي قدروها.
45
وكان من أساليبهم في الاستكثار من الأموال ضرب الضرائب على الأرض الخراب، وكانوا يفرضون على الأهالي هدية في عيد النيروز بلغت في أيام معاوية 10000000 درهم
46
وفرضوا مالا على من يتزوج وعلى من يكتب عرضا
47
وكانوا يكيلون للعامل بكيل وللأكار بكيل آخر، ويكلفون أهل الخراج أرزاق العمال، وأجور المدى وحمولة الطعام، وثمن صحف وقراطيس، وأجور الكيالين ومؤونتهم، وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع الجابي منها طائفة ويقول: «هذا رواجها وصرفها.»
48 •••
ولم يكن عمال بني أمية يأتون هذه الأعمال من عند أنفسهم دائما، بل كثيرا ما كانوا يفعلونها بأمر خلفائهم كما قد رأيت مما كتبه معاوية إلى وردان، وكان ذلك شأنه في تحريض عماله على جمع الأموال وهم يخترعون له الطرق للاستكثار منها
49
وكذلك فعل من جاء بعده وخصوصا عبد الملك؛ لأنه كان شديد الحاجة إلى المال ومناه الله بالحجاج فلم يترك وسيلة في استخراج المال إلا اتخذها، أما لو أراد الخلفاء إبطال هذه المظالم لهان عليهم إبطالها؛ لأن العمال في أيام عمر بن الخطاب كانوا يرتكبون مثل ذلك فلا يسكت عمر عنهم.
ولما جار عمال الأهواز في أيامه شكاهم أبو المختار يزيد بن قيس بقصيدة، بين فيها أرباحهم من أهل الرساتيق والقرى وسماهم في قصيدته، وحرض عمر على مقاسمتهم ما ربحوه، إلى أن قال:
فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم
سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني للشهادة إنني
أغيب ولكني أرى عجب الدهر
فبعث عمر إليهم فقاسمهم شطر أموالهم حتى أخذ نعلا وترك نعلا، ولم يكتف بمقاسمة العمال ولكنه قاسم بعض إخوتهم، فاعترض هؤلاء، فقال أحدهم لعمر: «إني لم أل لك شيئا.» فقال له: «أخوك على بيت المال وعشور الأبلة وهو يعطيك المال تتجر به.» فأخذ منه عشرة آلاف.
50 •••
وكانت مشاطرة عمر عماله حجة اتخذها معاوية بعد ذلك في مشاطرة العمال، فلم يكن يموت له عامل إلا شاطر ورثته وهو يقول: «إنها سنة سنها عمر.» ثم تدرج إلى استصفاء أموال الرعية، وهو أول من فعل ذلك.
51
فالعمدة في حفظ النظام على الرأس، فإذا صلح صلحت الأعضاء، فقد رأيت أن خلفاء بني أمية طلبوا المال لقيام دولتهم بأي وسيلة كانت، فأمدوا العمال بالسلطة وأطعموهم فعمد هؤلاء إلى إحراز الأموال إلى أنفسهم أيضا، واقتدى بهم العمال الصغار كالكاتب والجابي ونحوهما، فزادت شكوى أصحاب الأرض فاضطر العمال إلى إخراج أعمال الجباية من العرب وتسليمها إلى الموالي، ومنهم الدهاقين أصحاب الضياع في العراق، فعل ذلك ابن زياد عامل الخراج سنه 64ه فعاتبه بعضهم فأجابه: «كنت إذا استعملت العربي كسر الخراج، فإذا أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأوهن بالمطالبة منكم، مع أني جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدا.»
52 •••
وفي كلام القاضي أبي يوسف في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج ما يبين الطرق التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها، قال: «بلغني أنه قد يكون في حاشية العامل أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة ومنهم من له إليه وسيلة ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعين بهم ويوجههم في أعماله يقتضي بذلك الذمامات فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال الرعية، ثم إنهم يأخذون ذلك كله - فيما بلغني - بالعسف والظلم والتعدي، ويقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام.»
53
وكان شأن بني أمية وعمالهم وجباتهم على نحو ما تقدم حين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99ه وكان تقيا منصفا، فأراد أن يرد الأمور إلى ما كانت عليه في أيام سميه وجده لأمه عمر بن الخطاب، فأصدر أوامره إلى العمال بإبطال تلك المظالم وعينها بأسمائها مفصلة
54
وأبطل لعن علي على المنابر وكان أهله قد اقتنوا الضياع وأخذوا كثيرا منها من أهل الذمة بغير حق، ففتح بابه للناس وأعلن: «أن من كانت له ظلامة فليأت.» فأتاه المظلومون وفيهم النصارى واليهود والموالي وغيرهم، ومنهم من يشتكي اختلاس ماله، وآخر اغتصاب ضيعته، وكان ينصفهم بالحق والعدل ولو كان الحكم على ابنه أو أخوته أو أبناء عمه، قال ابن الأثير: «وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه ولا هم أن يعطونيه، وإني قد هممت برده على أربابه، قال: فكيف تصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله
55
وأخذ أموال أعمامه وأولادهم وسماها «مظالم»،
56
فلما رأى أهله ذلك خافوا على سلطانهم، وهو إنما قام بالمال فإذا خرجت الضياع والأموال من أيديهم ذهب ضياعا، فمشوا إلى عمته فاطمة بنت مروان وشكوه إليها فأتته فقال لها: «إن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
رحمة ولم يبعثه عذابا إلى الناس كافة.»
57
ولما رأى الموالي عدله وتقواه اغتنموا الفرصة وشكوا إليه ما يقاسونه من الذل والضغط، وكان الجراح بن عبد الله الحكمي عامل خراسان قد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز في الشام وفدا: رجلين من العرب ورجلا من الموالي، فتكلم العربيان والمولى ساكت فقال له عمر: «ما أنت من الوفد؟» قال: «بلى» قال: «فما يمنعك من الكلام؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم حفيا، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان.»
58
فقال عمر: «أحر بمثلك أن يوفد» وكتب إلى الجراح: «انظر من صلى قبلك فضع عنه الجزية.» فرغب الناس في الإسلام وتسارعوا إليه فقيل للجراح: «إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفورا من الجزية فامتحنهم بالختان.» فكتب الجراح إلى عمر بذلك فأجابه: «إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا.»
59
وفعل عمر نحو ذلك مع عامله على مصر حيان بن شريح، وكان حيان قد كتب إليه: «أما بعد فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار أتممت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل.» فكتب إليه: «أما بعد فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر وأنا عارف ضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عمن أسلم، قبح الله رأيك، فإن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه.»
60 •••
وقس على ذلك عماله الآخرين، فإنه عزل من لم يوافقه منهم فأصبحت الدولة ورجالها كلها ضده؛ لأنه حاول إصلاح الأمور بالعنف دفعة واحدة والطفرة محال، وما في بني أمية وعمالهم إلا من كره ذلك منه، فلم يصبروا على خلافته، وانتهت خلافته في ظروف غامضة سنة 101ه/720م ويعده المؤرخون من الخلفاء الراشدين، وإذا قالوا «العمرين» أرادوه وعمر بن الخطاب.
61
فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكن تطبيق هذه القواعد اختلف باختلاف الذين يتولون شؤونها، ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما كانت عليه في عهد ابن الخطاب لامحت مظالم بني أمية، ولكنه جاء في غير أوانه فذهب سعيه هدرا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل فصارت إلى أشد مما كانت عليه قبله، وبالغ العمال في الاستبداد والعسف وشددوا في استخراج الخراج وزادوه ، حتى اضطر بعض أصحاب الأرض إلى الإلجاء؛ أي أن يلجئوا أراضيهم إلى بعض أقارب الخليفة أو العامل تعززا به من جباة الخراج كما سيأتي.
أما الخلفاء فإنهم زادوا انغماسا في الترف، وأولهم يزيد بن عبد الملك فإنه انقطع إلى اللهو والخمر، واشتغل عن مصالح الدولة بجاريتيه: سلامة، وحبابة وحديثهما مشهور،
62
وخلفه أخوه هشام وكان بخيلا، وفي أيامه زيدت الضرائب في مصر على يد الحبحاب كما تقدم، وجاء بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان مثل أبيه في اللهو والخمر فقتله أهله وولوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة 126ه، وكان عازما على إصلاح الأمور اقتداء بعمر بن عبد العزيز، كما يؤخذ من خطاب ألقاه عند مبايعته،
63
فأصابه من الفشل نحو ما أصاب عمر؛ لأن الأحوال كانت غير ملائمة، وفي أيام خلفه مروان بن محمد تغلب بنو العباس وصارت الخلافة إليهم.
وكان بنو أمية قد انغمسوا في الترف واللهو والخمر، وأصبحوا لا ينظرون إلى ما يؤيد سلطانهم ولا يبالون في انتقاء عمالهم، وربما ولوا العامل عملا بإشارة جارية أو مكافأة على هدية كما فعل هشام بن عبد الملك بالجنيد بن عبد الرحمن، وكان الجنيد قد أهدى امرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشاما فأهدى هشاما قلادة أخرى فولاه هشام على خراسان سنة 111ه
64
وبلغ ثمن الجارية في أيام بني أمية 1000000 درهم وهي الذلفاء
65
وأصبح العمال لا هم لهم إلا حشد الأموال والاستكثار من الصنائع والموالي، ولم يعد أهل العدل يرضون بولاية الأعمال مخافة أن يقصروا بالمال الذي يطلبه الخلفاء، كما حدث ليزيد بن المهلب لما ولاه سليمان بن عبد الملك العراق، فقال يزيد في نفسه: «إن العراق قد أخربها الحجاج وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت كالحجاج، أدخل على الناس الحرب وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني.»
66
وقس على ذلك رأي غيره ممن يؤثرون الرفق، فلم يرغب في الولايات إلا أهل المطامع، وجعل الخلفاء من الجهة الأخرى يطمعونهم بالرواتب الفادحة، فبلغ رزق يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق في أواخر أيام بني أمية 600000 درهم
67
وكان العمال يبذلون جهدهم في اختزان الأموال لأنفسهم لعلمهم أن الولاية غير ثابتة لهم، فكثرت أموالهم واتسعت ثروتهم فبلغت غلة خالد القسري أمير العراق في أيام هشام 13000000 درهم
68
أي نحو مليون دينار، فأصبح الخلفاء لا يعزلون عاملا من عمله إلا حاسبوه على ما عنده من المال، وكانوا في أيام معاوية يشاطرون العمال اقتداء بعمر بن الخطاب، ثم صاروا يحاكمونهم ويستخرجون كل ما تصل إليه معرفتهم من أموالهم، كما فعلوا بخالد القسري إذ وشى به كاتبه حيان النبطي أنه فرق 36000000 درهم، فبعث هشام إليه من أخرج معظم هذا المال منه ومن عماله
69
ويسمون هذا العمل «استخراجا» وكانوا يستخدمون الشدة فيه فوقع بين العمال والخلفاء تنافر زاد الخطر على دولة بني أمية.
أما ارتفاع الدولة الإسلامية في أيام بني أمية، أي مقدار ما كان يجتمع لهم من الخراج والجزية وغيرهما، فقد ضاع تفصيله في جملة ما ضاع من أخبارهم في الفتن، على أن المملكة الإسلامية بلغت في أيامهم اتساعا عظيما يعدل اتساعها في أيام العباسيين، ولكن عمدتهم كانت على العراق والجزيرة والشام ومصر، وأما الأطراف فقد كان خراجها يذهب بين العمال والكتاب والجباة، على أن كثيرا منها لم يكن يدفع شيئا يستحق الذكر؛ لأن قدم الأمويين لم تكن راسخة فيها. •••
واختلفت جباية العراق والشام ومصر باختلاف السنين والعمال، وقد فصلنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، وخلاصته أن متوسط جباية العراق في أيامهم نحو 130000000 درهم وجباية مصر 4000000 دينار (أو 48000000 درهم) وجباية الشام 1720000 دينار (أو 20000000 درهم) فيكون ارتفاع هذه البلاد نحو 198000000 درهم يضاف إليه أموال البلاد الأخرى مما لا نعرف مقداره.
وخلاصة ما تقدم أن الأموال كانت تستخرج في أيام بني أمية بكثرة، ولكنها لا تسمى ثروة؛ لأنها كانت تصرف في الحروب لتأييد شوكتهم، فقد حاربوا عليا، والحسين بن علي، والمختار بن أبي عبيد ، وعبد الله بن الزبير، وحاربوا الخوارج وغيرهم، ناهيك بما كان يقوم من الفتن بين القبائل العربية اليمنية والمضرية وبين العرب والموالي، فضلا عما كان ينفقه الخلفاء والأمراء في البذخ واللهو والقصف. (4) الدولة العباسية
للدولة العباسية عصران، يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا عظيما: العصر الأول وهو ما يعبرون عنه بالعصر الزاهر، يمتد من أول نشأة هذه الدولة سنة 132ه إلى آخر أيام المأمون سنة 218ه، وفيه بلغت الدولة العباسية قمة مجدها وأنشأت التمدن الذي نحن في صدده، وفيه أدركت ثروة الدولة الإسلامية أعظم ما بلغت إليه في عصر من العصور، وعليها مدار الكلام في هذا الكتاب.
والعصر الثاني - ويعبرون عنه بعصر التقهقر أو الاضمحلال - يبتدئ بخلافة المعتصم سنة 218ه وينقضي بانقضاء الدولة العباسية من بغداد، وفيه تقهقر التمدن الإسلامي وقلت الثروة وضعفت الدولة حتى انحلت عراها وانقضت أيامها. (4-1) العصر العباسي الأول (من سنة 132 إلى 218ه)
سبب قيام هذه الدولة
رأيت فيما تقدم أن العصر الأموي يمتاز عن عصر الراشدين بانقلاب الحكومة فيه من الخلافة الدينية إلى السياسية الدنيوية، وأن خلفاءها وعمالها إنما كان همهم جمع المال، وأنه يمتاز عن العصر العباسي بتعصب أهله للعرب واحتقارهم سائر الأمم، وخصوصا الشعوب التي كانت تحت سلطانهم في البلاد التي دانت لهم؛ في مصر، والشام، والعراق، وفارس، وخراسان، وغيرها، وفيهم: القبط، والنبط، والروم، والسريان، والكلدان، والفرس، والترك، والسودان، وغيرهم - حتى الذين أسلموا منهم - فأصبحت تلك الأمم تئن من معاملتهم، وزادها نفورا ما كانوا يتخذونه من العنف في تحصيل الخراج، وأصبحوا يودون الخروج من حوزتهم وينصرون كل من دعا إلى خلعهم
70
وخصوصا الموالي، فإنهم باعتناقهم الإسلام خسروا أراضيهم ومنازلهم، وأصبحوا مطالبين بالذهاب إلى الحرب لحماية الدولة، فكان بنو أمية يخرجونهم إلى القتال مشاة بلا رزق ولا فيء، وكان خصوم هذه الدولة يغتنمون الفرص ويستنصرون الموالي عليها ويجعلون لهم الأرزاق وأول من فعل ذلك المختار بن أبي عبيد سنة 66ه؛ إذ جاء للانتقام من قتلة الحسين بالكوفة، فعظم ذلك على العرب وقالوا: «إن المختار قد آذى بموالينا فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا.» فقال لهم المختار يومئذ: «إذا أنا تركت مواليكم وجعلت فيئكم لكم تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطونني على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الإيمان؟» فتفاوضوا فيما بينهم فقال أحدهم: «إن أطعتموني لم تخرجوا» فقالوا له: «لم؟» فقال: «لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا، ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان ثم معه عبيدكم ومواليكم وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم، فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم.»
71
وكان ذلك شأن الموالي مع كل من قام يدعو إلى خلع بني أمية، ولذلك كثر الخوارج في أيامهم وقام في نفوس العرب أن الخلافة لا يشترط فيها القرشية
72
على أن هذا الاعتقاد لم يتمكن من نفوس المسلمين إلا بعد أجيال، أما يومئذ فكان الدعاة أكثرهم من أهل بيت النبي، وفيهم العلويون من نسل الإمام علي ابن عم النبي، والعباسيون من نسل العباس عمه، وكان الخراسانيون من أكثر الناس نقمة على بني أمية للأسباب التي قدمناها، فأخذوا بيد العباسيين وقائدهم أبو مسلم الخراساني، ولما نهضوا نهض معهم أعداء بني أمية من العرب وغير العرب في كل أنحاء المملكة الإسلامية، فضلا عن أهل البلاد غير المسلمين، فدارت الدائرة على بني أمية وانتصر العباسيون، فجعلوا عاصمتهم في العراق بالقرب من أنصارهم.
وعرف العباسيون علة سقوط بني أمية، فتجنبوا الوقوع في مثلها، فاتخذوا الجند والأعوان من الفرس، واستبقوا الجند العربي أيضا من ربيعة ومضر رغبة في المحافظة على العصبية العربية لأنها عماد الإسلام.
ولم يكونوا يستطيعون التوفيق بين العنصرين؛ لأنهم انساقوا بطبيعة الأمور إلى الاختلاط بالفرس والتزيي بألبستهم من القلانس ونحوها، جعلوا ذلك فرضا واجبا عليهم، وأول من أخذ الناس بلبسها المنصور سنة 153
73
فأمرهم بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة
فزاد الإمام المصطفى في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس
على أن غضب العرب لم يغير شيئا من مجاري الأمور، فاتخذ الخلفاء أمهات أولاد من الفرس ، أولدوهن أولادا تولوا الخلافة، وفيهم ميل فطري إلى العنصر الفارسي، وازداد هذا العنصر تغلبا في بلاد الخلفاء بما اتخذوه من الوزراء ورجال الشورى منهم: كالبرامكة وغيرهم، وكان الفرس يبذلون جهدهم في خدمة الدولة العباسية بنصح وصدق نية؛ لأن في قيامها صلاح بلادهم.
العرب والبيعة
على أن الخلفاء لم يكن لهم غنى عن جزيرة العرب، وفيها الحرمان: الكعبة، وقبر النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي احترامهما احترام الدين الإسلامي، وعليه تقوم دعائم الخلافة، وزد على ذلك أنهم كانوا يخافون أهل الحرمين من التشيع لآل علي، وهم في حاجة إلى بيعة فقهاء المدينة لما لهذه البيعة من الأهمية في تأييد الخلافة وتوكيد البيعة، وكان أهل الورع من الخلفاء لا يقطعون أمرا دونهم
74
فشق ذلك على الفرس وخافوا أن يرجع النفوذ إلى العرب، فينتقموا منهم وتذهب مساعيهم أدراج الرياح، فسعوا في إغفال بلاد العرب، ولا سبيل إلى إغفالها والكعبة فيها، وهي حج المسلمين والحج من أركان الإسلام، فحبب بعضهم إلى المنصور أن يستبدل الكعبة بما يقوم مقامها في العراق وتكون حجا للناس، فبنى بناء سماه القبة الخضراء تصغيرا للكعبة
75
وقطع الميرة في البحر عن المدينة
76
فاتخذ العرب ذلك حجة على العباسيين، وأظهروا البيعة لمحمد بن عبد الله من آل علي، وخلعوا بيعة المنصور، وقد أفتى لهم بذلك مالك بن أنس الإمام الشهير،
77
وكان بنو أمية في الأندلس قد قطعوا دعوة بني العباس بعد أن دعوا لهم مدة قصيرة
78
عند دخول عبد الرحمن بن معاوية كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب واستقل عبد الرحمن بالأندلس لبعدها عن دار الخلافة، ثم استولى محمد بن عبد الله على المدينة فخافه المنصور، وبذل قصارى همه في قتله، ولم يستطع ذلك إلا بعد العناء الشديد. •••
فكان ما قاساه المنصور من عواقب إهماله الحرمين عبرة لخلفائه، فلما تولى ابنه المهدي أكرم أهل الحرمين، وكسا الكعبة كسوة جديدة، وفرق هناك مالا عظيما جاء به معه من العراق مقداره 30000000 درهم، وجاءه وهو في المدينة 300000 دينار من مصر، و200000 دينار من اليمن ففرقها كلها وفرق 150000 ثوب، ووسع المسجد واتخذ حرسا من الأنصار عددهم 500 رجل حملهم معه إلى بغداد وأقطعهم الأرض
79
وأمر بحفر نهر الصلة بواسط وأحيا ما عليه من الأرض، وجعل غلته لصلات أهل الحرمين والنفقات هناك
80
وأصبح إكرام الحرمين على هذه الصورة سنة في بني العباس في أثناء حجهم، أو عند طلب البيعة لأولادهم، فإن الرشيد حج سنة 186ه ومعه ابناه الأمين والمأمون، فلما وصل المدينة أعطى فيها ثلاث أعطيات عنه وعن ولديه، وفعل نحو ذلك في أهل مكة وبلغ ما فرقه 1050000 دينار وكتب هناك كتابا بولاية العهد للأمين وآخر للمأمون ووضع الكتابين في الكعبة
81
وأصبحت النفقة على الحرمين من جملة نفقات الدولة الضرورية، وعاد شأن العرب إلى الظهور، والخلفاء يرون ذلك ضروريا؛ لتثبيت أقدامهم في الملك. •••
على أنهم كانوا من الجهة الأخرى لا يستغنون عن الفرس، وهم وزراؤهم ومشيروهم، فزادت المنافسة بين العنصرين حتى كان ما كان بين الأمين والمأمون، واستنصر المأمون جند خراسان وهم أخواله؛
82
لأن أمه فارسية وقام العرب ينصرون أخاه الأمين، وأمه عربية هاشمية
83
وجنده ينصرون العرب فغلب جند المأمون فقبض على أزمة الملك فعاد النفوذ إلى الفرس، فشق ذلك على العرب ونقموا عليه وأرادوا البيعة لسواه وإخراج الأمر من يده
84
فازداد كرها لهم ورذلهم، فعوتب في ذلك مرة وهو في الشام فقال له رجل: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعرب خراسان.» فقال له: «أكثرت علي، والله ما أنزلت قيسا من ظهور خيلها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث نبيه من مضر.»
85
ولما تولى المعتصم سنة 218ه واصطنع الأتراك والفراغنة ازداد العرب هوانا في عيون أهل الدولة وتقاصرت أيديهم عن أعمالها حتى في مصر، فإن آخر عربي تولاها عنبسة بن إسحق الضبي سنة 238ه
86
وأراد المعتصم أن يستغني عن بلاد العرب جميعا، وكان قد بنى سامرا بقرب بغداد وأقام فيها جنده فأنشأ فيها كعبة وجعل حولها طوافا واتخذ منى وعرفات، غرر به أمراء كانوا معه لما طلبوا الحج خشية أن يفارقوه
87
فأصبح لفظ «عربي» مرادفا لأحقر الأوصاف عندهم، ومن أقوالهم: «العربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة واضرب رأسه.»
88
وقولهم: «لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به.»
89
وأصبح الأمراء والوزراء وسائر رجال الدولة من الفرس والترك والديلم وغيرهم، وصار الخلفاء يؤيدون مناصبهم بالأجناد وبذل المال، وقلت العناية بالعرب وأحزابهم. •••
وكان العرب من الجهة الأخرى يجاهرون بكره الفرس وغيرهم من الأعاجم، ويطعنون فيمن يميل إليهم ولو كان من الخلفاء، ولذلك فلما مات المعتصم وتولى بعده الواثق كان دعبل الخزاعي الشاعر المشهور في الصميرة، فلما جاءه نعي المعتصم وقيام الواثق أنشد هذين البيتين:
الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد
وخلاصة ما تقدم أن الجامعة الإسلامية كانت في عصر الراشدين عربية وكان غرضهم الأول نشر الإسلام في الأرض، يدفعهم إلى ذلك اعتقادهم المتين بصدق الرسالة وأن الله يدعوهم إلى ذلك، فلما تولاها بنو أمية استعاضوا عن ذلك الاعتقاد بطلب المال، وتحول الغرض إلى السلطة الزمنية السياسية وظلت الجامعة العربية متينة، وفي عصر العباسيين استبدلوا العصبية العربية بالأعاجم، واحتاجوا في اصطناعهم أو استخدامهم إلى المال وانخرطوا هم في سلكهم بواسطة الأمهات، ثم أصبح الأعاجم من الفرس والترك والديلم والصفد والفراغنة وغيرهم يتسابقون إلى الاستئثار بالنفوذ بواسطة المال كما سترى.
هوامش
ثروة الدولة العباسية في العصر العباسي الأول
وصلنا إلى موضوع هذا الكتاب بعد هذا العرض لأحوال الدولة الإسلامية حتى العصر العباسي؛ لأن الثروة الإسلامية لم تنضج إلا في هذا العصر وعليه سيكون مدار كلامنا، وتقاس ثروة الدولة المالية بما يبقى في بيت مالها من دخلها بعد النفقات لا بمقدار الدخل على الإطلاق؛ إذ قد يكون الدخل كثيرا والنفقة أكثر منه وتقع الدولة تحت العجز ، فإذا اعتبرنا ذلك كانت ثروة الدولة العباسية في العصر الأول طائلة، وإن كنا لم نقف على ميزانيتها في عهد الخلفاء الخمسة الأولين فلم نعلم مقدار جبايتها في العام مما يعبرون عنه «بارتفاع الدولة» لضياع حساباتها في الفتنة بين الأمين والمأمون، إذ احترقت الدواوين
1
وضاعت الدفاتر كما احترق ديوان بني أمية عام الجماجم
2
ولكننا نعلم مقدار الثروة في أيامهم مما كانوا يختزنونه من المال في أثناء حكمهم. (1) الثروة في أوائل الدولة
فالخليفة الأول أبو العباس السفاح لم يحكم إلا أربع سنوات (من سنة 132-136ه/749-753م) قضاها في الحروب ولم يجمع مالا، ولما مات لم يجدوا في بيته إلا تسع جبات وأربعة أقمصة وخمسة سراويلات وأربعة طيالسة وثلاثة مطارف خز
3
وأما المنصور فإنه حكم 22 سنة (136-158ه/753-774م) وكان رجلا حازما كثير الاحتياط شديد الحرص على المال واختزانه، لا عن بخل ولكنه كان يخاف الفتن، فلما مات خلف في بيت ماله 600000000 درهم و14000000 دينار
4
وبتحويل هذه الدنانير إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما - وهي قيمته في ذلك العصر تقريبا - كان مجموع ما خلفه المنصور 810000000 درهم (والدرهم نحو خمسة وأربعين مليما )، فلما دنا أجله أوصى ابنه المهدي قائلا: «قد جمعت لك في هذه المدينة من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا.»
5
ويدل ذلك على دهاء المنصور واحتياطه للزمان، على أن سيرته كلها تدل على الحزم والعظمة والدهاء، وهو في الحقيقة مؤيد دولة بني العباس، حارب في سبيل سلامتها حروبا كثيرة أنفق فيها أموالا طائلة منها 63000000 درهم أنفقها في حرب الخوارج بإفريقية سنة 154ه، فاعتبر ما أنفقه في الحروب الأخرى وهي كثيرة، فضلا عما كان يبذله لأهله فإنه بذل لجماعة منهم في يوم واحد 10000000 درهم
6
وأنفق على بناء بغداد وحدها 4833000 درهم
7
ناهيك بما كان ينفقه على إصلاح الري وبناء الجسور، فإذا اعتبرت ذلك كله هان عليك تقدير ما وصل إلى بيت المال في أيام المنصور بمليار درهم (1000000000) على الأقل، فإذا قسمت ذلك على سني حكمه (22) لحق السنة 45000000 درهم سوى الأموال التي كان يأخذها من العمال إذا عزلهم واستخرج أموالهم؛ لأنه كان إذا عزل عاملا أخذ ماله وتركه في بيت مال مستقل سماه «بيت مال المظالم» وكتب على كل مال اسم صاحبه، ولما أحس بدنو الأجل أوصى ابنه المهدي في ذلك قائلا: «قد هيأت لك شيئا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم فاردد عليهم كل ما أخذ منهم، فإنك ستحمد بذلك إليهم وإلى العامة.»
8
ففعل المهدي ذلك لما تولى، وقد يتبادر إلى الذهن أن المنصور استكثر المال بما أخذه من أموال بني أمية بعد قهرهم وهي كثيرة، ولكن تلك الأموال ظلت منفردة في خزانة خاصة يسمونها «مال أهل بيت اللعنة».
9
وثروة المنصور قد تعد قليلة بالنظر إلى ثروة الرشيد، فقد خلف في بيت المال عند وفاته (سنة 193ه) 900000000 درهم ونيفا
10
ومدة حكمه نحو مدة حكم المنصور غير ما أنفقه الرشيد وما بذله وأسرف فيه وكرمه مشهور، وقد يخطر في البال أن هذا المال تجمع من أيام المنصور فالمهدي فالهادي فالرشيد ولم يجتمع كله في أيام الرشيد، ولكن الواقع أن المهدي أنفق كل ما خلفه المنصور وكل ما جباه في أثناء خلافته (من سنة 158-169)؛
11
لأنه كان كثير السخاء، ولم يحكم الهادي إلا سنة وبعض السنة، ويروى من فرط سخائه أنه أعطى عبد الله بن مالك أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها، فلا يعقل أن يجتمع عنده مال يستحق الذكر، فما خلفه الرشيد في بيت المال إنما جمع في أيامه، وإذا قدرناه باعتبار مدة حكمه لم يزد كثيرا عما تركه المنصور لما بينهما من البون الشاسع في السخاء؛ فقد كان الرشيد كريما حتى إنه لم يكن يعرف للمال قيمة
12
وكان المنصور متهما بالبخل
13
ناهيك بما كان من أمر البرامكة في أيام الرشيد وما امتلكوه من الضياع وبذلوه من الأموال مما هو معلوم .
ولما مات الرشيد سنة 193 تنازع ولداه الأمين والمأمون على الخلافة وتحاربا، وكان الأمين في بغداد وقد أتته أمه زبيدة بخزائن أبيه
14
والمأمون في خراسان ودامت الحرب بينهما بضع سنوات أنفق الأمين في أثنائها كل ما كان في بيت المال مع ما أنفقه في خاصته؛ لأنه انقطع في أثناء خلافته إلى اللهو والخمر وبذل الأموال في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقسم الأموال والجواهر في خواصه من الخصيان والنساء.
15
فلما قتل الأمين سنة 198 استوثق الأمر في المشرق والمغرب للمأمون، وزاد نفوذ الخراسانيين في أيامه؛ لأنهم هم الذين أعادوا الملك إليه، واستتبت السكينة في المملكة العباسية واشتغل المأمون في نقل العلوم إلى العربية، وسنأتي على تفصيل ذلك في جزء آخر من هذا الكتاب خاص بالعلم والأدب. •••
أما الثروة في أيام المأمون فإنها اتسعت لاستكانة الناس إلى العمل واجتماع القلوب، ومدة حكمه 22 سنة نحو مدة أبيه الرشيد وأبي جده المنصور، ولكننا لم نقف على مقدار ما خلفه في بيت المال عند وفاته، ولعل خبر ذلك ضاع في جملة ما ضاع من هذا القبيل لقلة عناية مؤرخي تلك الأيام بهذه الأبحاث.
على أن ادخار المال أصبح بعد الخلفاء الراشدين من الأمور المألوفة عند ملوك المسلمين في كل الممالك والعصور، قيل إن عبد الرحمن الناصر خليفة الأندلس الشهير (تولى سنة 300-350) جمع في بيت ماله إلى سنة 340ه نحو 20000000 دينار
16
وكانت جباية الأندلس في أيامه 5480000 دينار ومن السوق والمستخلص 765000 دينار فالجملة 6245000 ما عدا أخماس الغنائم فإنها كانت كثيرة
17
وكان الناصر ينفق على جنده ثلث هذا المال فقط وينفق ثلثها على شئون الدولة ويدخر الباقي
18
وقد بالغ ابن خلدون في مقدار ما خلفه الناصر في بيت المال فجعله 5000000000 دينار، ولم يذكر ذلك جزافا ولا خامر كلامه شك بل هو حولها إلى الوزن فكانت على تقديره 500000 قنطار
19
وهو قول بعيد لا ندري كيف تطرق إلى قلم هذا الفيلسوف، ويدل على بعده عن المعقول أن ابن حوقل وهو من معاصري تلك الدولة قدر ما اجتمع في بيت مال الحكم المستنصر بن الناصر بعد موت أبيه من خدمه والمصادرين وغيرهم فلم يزد على 40000000 دينار وعد ذلك كثيرا لم يجتمع لدولة من الدول في ذلك العصر
20
وكانت بغداد يومئذ في عصر الاضمحلال وخلفاؤها وقوادها ووزراؤها يتقاتلون على المال ويصادر بعضهم بعضا.
أما في أيام المأمون فالمال الذي كان يجتمع من صوافي الجباية في بيت المال كل عام لم يجتمع في دولة من دول المسلمين ولا غيرهم، وقد وقفنا على مقدار تلك الجباية في مقدمة ابن خلدون نقلا عن «جراب الدولة»
21
وهي أقدم جريدة أو قائمة وصلت إلينا من حسابات الدولة الإسلامية، تليها جريدة أخرى نقلها قدامة بن جعفر وأخرى رواها ابن خرداذبه، وكلها لا تتجاوز أواسط القرن الثالث للهجرة، وسنذكر كلا منها ونقابل بينها ليتبين لنا مقدار تلك الثروة.
ولكننا نرى قبل التقدم إلى ذكر الجباية أن نأتي على فذلكة في جغرافية المملكة الإسلامية في أيام المأمون لتتضح نسبة أعمال تلك المملكة بعضها إلى بعض، وإلى عاصمة المملكة العباسية. (2) جغرافية مملكة الإسلام في عصر المأمون (2-1) حدودها
يحدها من الشرق أرض الهند بما يلي حوض نهر السند شرقا وبعض الصين وبحر فارس، ومن الغرب مملكة الروم، ويعبر عن تلك الحدود الآن بالبحر الأسود وآسيا الصغرى وبحر الروم والروس والبلغار، ومن الشمال بلاد السرير والخزر واللان في آسيا وجبال البيرينيه في أوربا.
وفي خريطة هذه الأيام بلاد سيبيريا وبحر قزوين وبحر الروم، ومن الجنوب بحر فارس وما يلي مصر من بلاد النوبة وقد بينا مساحتها وعدد سكانها في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وتقسم هذه المملكة إلى عدة أعمال تختلف مساحتها ونسبتها بعضها إلى بعض باختلاف الدول والأزمنة، وسنبين ما كانت عليه حوالي عصر المأمون نقلا عن جغرافيي العرب في تلك الأيام وخصوصا الإصطخري وابن حوقل وابن الفقيه، فهي تقسم إلى سبعة وعشرين إقليما، منها سبعة في المغرب وعشرون في المشرق؛ وهي:
أقاليم المغرب
أقاليم المشرق
ديار العرب
العراق
أرمينية
قومس
بحر فارس
خوزستان (الأهواز)
أذربيجان
مفازة خراسان
ديار المغرب
فارس
بلاد الران
سجستان
مصر
كرمان
الجبال
ما وراء النهر
الشام
مكران
الديلم
خوارزم
بحر الروم
طوران
طبرستان
الجزيرة
السند
جرجان
وإليك وصف كل من هذه الأقاليم بما يمكن من الإيجاز: (2-2) ديار العرب
وهي جزيرة العرب يحيط بها بحر فارس من عبادان - وهو مصب ماء دجلة في البحر - فيمتد على البحرين حتى ينتهي إلى عمان، ثم ينعطف على سواحل مهرة وحضرموت وعدن حتى ينتهي إلى سواحل اليمن إلى جدة، ثم يمتد إلى مدين حتى ينتهي إلى أيلة (وهي إيلات الحالية على خليج العقبة)، فهم يريدون ببحر فارس كل ما يحيط ببلاد العرب من المياه، ولكنهم يعبرون عن الجزء الممتد من باب المندب إلى أيلة ببحر القلزم وهو البحر الأحمر، ويحدها من الغرب الشمالي برا بلاد الشام وفلسطين بخط منحن يمتد من أيلة إلى البحيرة المنتنة (أي البحر الميت) فالشراة فالبلقاء فأذرعات وسلمية فالخناصرة إلى الفرات إلى الرقة وقرقيسيا والرحبة فالكوفة إلى البطائح فواسط إلى عبادان.
وتقسم ديار العرب إلى الحجاز وفيه مكة والطائف والمدينة اليمامة ومخاليفها، ونجد الحجاز المتصل بأرض البحرين، وبادية العراق، وبادية الجزيرة ، وبادية الشام، واليمن المشتملة على تهامة، ونجد اليمن وعمان ومهرة وحضرموت وبلاد صنعاء وعدن وسائر مخاليف اليمن. (2-3) بحر فارس
ويراد به عندهم كل البحور المحيطة ببلاد العرب من مصب ماء دجلة في العراق إلى أيلة
22
فيدخل فيه ما نعبر عنه اليوم بخليج فارس وبحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر وخليج العقبة ولا يهمنا وصفه في هذا المقام. (2-4) ديار المغرب
يراد بها في اصطلاحهم كل سواحل أفريقيا الشمالية وراء حدود مصر غربا، ويدخل في ذلك: (1)
برقة. (2)
إفريقية وهي تونس. (3)
تاهرت في الجزائر. (4)
طنجة والسوس وزويلة في مراكش.
أما برقة فهي مدينة وسط، واقعة في مستو من الأرض خصبة تطيف بها البادية يسكنها طوائف من البربر، وبينها وبين إفريقية مدينة طرابلس الغرب، وهي من عمل إفريقية مبنية من الصخر ويليها المهدية ثم تونس، وهي كبيرة خصبة ثم القيروان وهي عاصمة إفريقية وأكبر مدينة فيها واقعة في البر، وكذلك تاهرت فإن عاصمتها تاهرت، ومن مدنها أيضا سجلماسة وهي بعيدة في الصحراء.
ويجعلون الأندلس جزءا من بلاد المغرب لأنها كانت تابعة لها عند فتحها، والأندلس (إسبانيا) مملكة كبيرة عاصمتها قرطبة وحدودها معروفة، ومن أشهر مدنها جيان وطليطلة وسرقسطة ولاردة ووادي الحجارة وترجالة وقورية وماردة وباجة وغافق ولبلة وقرمونة وإستجة ورية، وعلى سواحلها شنترين ومالقة وجبل طارق وغير ذلك. (2-5) مصر
وحدود مصر في تلك الأيام مثل حدودها اليوم تقريبا ويلحقون بها البجة والنوبة إلى حدود البحر الأحمر فالعقبة. (2-6) الشام
ويراد بها سوريا على العموم وتقسم إلى سبعة أقسام: (1)
جند فلسطين. (2)
جند الأردن. (3)
جند حمص. (4)
جند دمشق. (5)
جند قنسرين. (6)
العواصم. (7)
الثغور.
فجند فلسطين أول أجناد الشام غربا، يحده من جهة مصر رفح، ومن الشمال اللجون وفيه يافا وأريحا وبيت لحم وغزة والشراة والبحيرة المنتنة وغوربيسان ونابلس، وكانت قصبة فلسطين الرملة ويليها في الكبر بيت المقدس.
وجند الأردن قصبته مدينة طبرية.
وأما جند دمشق فقصبته مدينة دمشق، وهي أعظم مدن الشام على الإطلاق وهي معروفة.
وأما جند حمص فقصبته مدينة حمص وهي مشهورة، ويتبعها الطرطوس وسلمية بطرق البادية وشيزر وحماة وكانتا صغيرتين.
وجند قنسرين قصبته حلب وهي مشهورة إلى اليوم، وكان لها شأن كبير لوقوعها في طريق العراق إلى الثغور والعواصم، ومن مدنها مدينة قنسرين وهي صغيرة ومعرة النعمان.
وأما العواصم فيراد بها أعالي الشام وراء حلب إلى إسكندرونة وقصبتها أنطاكية، وهي تلي دمشق في النزاهة، وكانت عاصمة الشام على عهد الروم، وكان عليها سور ضخم للغاية قيل إن دوره للراكب يومين، ومن مدن العواصم بالش على ضفة الفرات ومنبج في البرية.
أما الثغور فهي ما وراء العواصم إلى حدود جبل طورس في آسيا الصغرى، ومن مدنها الشهيرة سميساط على الفرات وملطية وهي أكبر الثغور، وحصن منصور ومنها الحدث ومرعش وزبطرة والهارونية والمصيصة وأذنة وطرسوس، وقد يدخلون الثغور في العواصم ويطلقون عليها جميعا اسم العواصم، والمراد بالثغور عندهم (أي عند المسلمين) المدن الواقعة على الحدود بينهم وبين الروم ، ولذلك كان عندهم ثغور شامية أي الحدود مما يلي الشام، وحدود جزرية أي الحدود مما يلي الجزيرة. (2-7) بحر الروم
ويراد به وصف ما فيه من الجزائر مما لا دخل له في غرضنا الآن. (2-8) الجزيرة
بين دجلة والفرات بلاد واسعة تعرف بما بين النهرين، يسمى القسم الشمالي منها: الجزيرة، والجنوبي: العراق، والفاصل بينهما تكريت على دجلة، والأنبار أو هيت على الفرات، ويلحق الجزيرة بعض البلاد وراء الضفتين في بعض المواضع، يحدها من الشمال ميافارقين وما يليها غربا إلى الفرات قرب ملطية، ومن الجنوب هيت على نهر الفرات وتكريت على دجلة، ويحدها من الغرب الجنوبي بادية الجزيرة ومن الشرق الجبال وأذربيجان.
والجزيرة بلاد خصبة جدا مثل بلاد العراق، ومن أشهر مدنها الموصل على دجلة من جهة الغرب وسنجار في وسط البرية بديار ربيعة، ليس في الجزيرة بلد فيها نخل مثلها، ونصيبين وكانت أنزه بلد في الجزيرة، ودارا وهي صغيرة، ورأس عين مدينة مستوية الأرض في دار مضر، وآمد في أعالي دجلة، وجزيرة ابن عمر على دجلة أيضا، ومن مدنها على الفرات الرقة وقرقيسيا والحديثة وهيت، وفي أواسطها أيضا حران وهي مدينة الصابئين، والرها وهي قديمة مشهورة بالمدارس والعلوم أيام السريان، وسروج مدينة خصبة كثيرة الأعناب.
وفي الجزيرة مفاوز يسكنها قبائل من ربيعة ومضر، تقيم ربيعة في الشمال الشرقي ومضر في الجنوب الغربي، وقد كانوا هناك قبل الإسلام.
وهم أهل خيل وغنم وإبل على أنهم متصلون بالقرى والمدن فهم بادية حاضرة، وتكريت آخر حدود الجزيرة على دجلة وكان أكثر أهلها نصارى. (2-9) العراق
هو القسم الجنوبي من بين النهرين وما يجاوره، طوله من تكريت على دجلة من الشمال إلى عبادان على بحر فارس في الجنوب، وعرضه من قادسية الكوفة في الغرب إلى حلوان في الشرق، ومحيطه إذا بدأنا من تكريت نسير شرقا إلى شهرزور ثم جنوبا شرقيا إلى حلوان فالسيران والصيمرة فحدود السوس إلى عبادان، ثم ينعطف إلى البصرة ومنها صعدا نحو الشمال والغرب في البادية على سواد البصرة وبطائحها إلى الكوفة، ثم على الفرات إلى الأنبار ومن الأنبار شمالا إلى تكريت، ويسمى ما بين دجلة والفرات السواد، هذه حدود العراق في إبان التمدن الإسلامي، وهي تختلف عن حدوده الآن وخصوصا لأن مجاري الأنهر تغيرت، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكان آخر.
وأشهر مدن العراق بغداد وهي قصبته، وعاصمة المملكة الإسلامية في إبان مجدها، بناها المنصور، والبصرة وهي مدينة عربية، بناها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب، وللبصرة بطائح سيأتي تاريخها في موضع آخر.
وواسط مدينة عربية أيضا بناها الحجاج في وسط السواد، والكوفة غربي الفرات وهي من بناء العرب، ومن مدن العراق النهروان شرقي دجلة على نهر اسمه النهروان جف الآن، وحلوان في آخر حدود العراق شرقا، وكانت مدينة كبيرة بقرب الجبل، والحيرة قرب الكوفة والأبلة قرب البصرة. (2-10) خوزستان
هي شرقي العراق بينها وبين فارس يحدها من الشمال كور الجبال، ومن الشرق فارس وأصبهان، ومن الغرب العراق، ومن الجنوب خليج فارس، عاصمتها مدينة الأهواز، وإليها تنسب خوزستان فيقال لها الأهواز، وتقسم إلى كور أولها كورة الأهواز، ثم جندي سابور والسوس وتستر ورامهرمز وسرق وعسكر مكرم، وقصبة كل كورة المدينة المسماة باسمها. (2-11) بلاد فارس
وهي واقعة بين خوزستان في الغرب وكرمان في الشرق، ويحدها شمالا أصفهان وبادية خراسان، ومن الجنوب والغرب بحر فارس، وتقسم بلاد فارس إلى خمس كور أكبرها كورة إصطخر، قصبتها إصطخر، ثم كورة أردشير خرة وقصبتها جور، وفيها أيضا مدينة شيراز وهي عاصمة بلاد فارس بها دواوينها ودار الإمارة، ثم كورة دارابجرد وكورة أرجان قصبتها مدينة أرجان، ثم كورة سابور وهي أصغر كور فارس وفيها مدينة كازرون، ومن بلاد فارس بقاع يقيم فيها قبائل من الأكراد يزيدون على مئة حي يتعيشون بالمرعى والحرث في بقاع يقال لها رموم، ويقدرون تلك القبائل في بلاد فارس وحدها بنحو 500000 بيت ينتجعون المراعي في المشتى والمصيف على مذاهب العرب، وقد يكون في البيت الواحد من الأرباب والأجراء والرعاة نحو عشرة رجال، فإذا اعتبرنا معدل الرجال في كل بيت خمسة كان عدد الرجال الأكراد 2500000 رجل، وباعتبار ما يلحقهم من النساء والأولاد يزيد عددهم على عشرة ملايين. (2-12) كرمان
هي أكبر من فارس واقعة بين فارس في الغرب ومكران وسجستان في الشرق، ويحدها من الشمال مفازة خراسان ومن الجنوب بحر فارس، وأشهر مدنها الشيرجان وبم وجيرفت وهرموز. (2-13) مكران
هي شرقي كرمان وإلى شرقيها طوران وبعض بلاد السند، وفي الشمال سجستان وبلاد الهند وفي الجنوب بحر فارس، وهي أكبر من كرمان ومن مدنها التيز وكيز ودرك وراسك. (2-14) طوران
هي أصغر من فارس واقعة بين مكران في الغرب وبلاد السند في الشرق والشمال وبحر فارس في الجنوب، وأشهر بلادها محالي وكيزكانان وقصدار. (2-15) السند
والسند آخر حدود مملكة الإسلام في الشرق وأشهر مدنها المنصورة وهي بلسان الهنود برهماناباذ ومنها الديبل على شاطئ البحر والملتان وغيرها، أما المنصورة فإنها واقعة على خليج من نهر مهران يحيط بها في شبه الجزيرة وأهلها مسلمون، ويطلق الإصطخرى على مكران وطوران والسند اسم السند. (2-16) أرمينية
هي في أعالي مملكة الإسلام فوق الجزيرة تحدها من الشرق أذربيجان والران، ومن الغرب بلاد الروم (في آسيا الصغرى)، ومن الشمال جبال القبق (القوقاس)، ومن الجنوب الجزيرة قصبتها ديبل وفيها دار الإمارة والنصارى بها كثيرون، ومن مدنها خلاط وأرزن وقاليقلا وميافارقين، ويعدها بعضهم من الجزيرة، وهكذا فعلنا. (2-17) أذربيجان
في شرقي الجزيرة يحدها من الغرب الجزيرة وأرمينية ومن الشرق بحر الخزر وبلاد الديلم ومن الشمال بلاد الران ومن الجنوب كور الجبال، عاصمتها مدينة أردبيل، وفيها العسكر ودار الإمارة، طولها ميلان في ميلين، ويلي أردبيل في الكبر المراغة وكانت قبلا دار الإمارة، وتليها أرمية على شاطئ بحيرة الشراة، ومن مدنها سلماس ومرندوشيز. (2-18) بلاد الران
هي شمال أذربيجان، يحدها من الشرق بحر الخزر ومن الغرب أرمينية، ومن الشمال جبل قبق ومن الجنوب أذربيجان، أكبر مدنها مدينة برذعة ثم تفليس والباب، ومنها بيلقان والشاوران وغيرها. (2-19) الجبال
يراد بالجبال جبال فارس وهي تقسم إلى كور أشهرها ماه الكوفة وهي الدينور، وماه البصرة وتسمى نهاوند، ويحد الجبال من الشرق مفازة خراسان وفارس، ومن الغرب العراق والجزيرة، ومن الشمال أذربيجان والديلم والري وقزوين، ومن الجنوب خوزستان والعراق، وهي تشتمل على مدن مشهورة أعظمها همذان والدينور وماسبذان وأصبهان وقم وقاشان ونهاوند واللور والكرج وقزوين وشهرزور وحلوان، مساحة همذان فرسخ في فرسخ وكان لها سور أبوابه من حديد، والدينور (ماه الكوفة) نحو ثلثيها، وأصبهان مدينتان بينهما ميلان، ونهاوند (ماه البصرة) واقعة على جبل بناؤها من طين، وحلوان مدينة في سفح الجبل المطل على العراق، وشهرزور قريبة من العراق، وقزوين في أعالي فارس وهي ثغر بلاد الديلم، وقم مدينة عليها سور وهي خصبة، وقاشان مدينة صغيرة. (2-20) الديلم
هي جبال مطلة على بحر الخزر (بحر قزوين) يحدها من الجنوب قزوين وبعض أذربيجان، ومن الشمال بحر الخزر ومن الشرق قومس ومن الغرب أذربيجان، وأهل الديلم صنفان: سكان الجبال وسكان السهول، ومن توابعها الري وأبهر وزنجان والطالقان وقزوين والرويان. (2-21) طبرستان
وهي تلي الديلم شرقا واقعة على بحر الخزر أيضا يحدها من الشرق جرجان ومن الغرب الديلم، أكبر مدنها آمل وهي مركز الولاية وسارية وهي بلاد كثيرة المياه ودماوند (أو دنباوند). (2-22) جرجان
هي شرقي طبرستان وشماليها، يحدها من الشمال تركستان ومن الجنوب قومس ومن الشرق خراسان ومن الغرب بحر الخزر، أكبر مدنها مدينة جرجان وهي أكبر من آمل، ثم أستراباد في الجنوب ودهستان على شواطئ البحر. (2-23) قومس
هي جنوبي جرجان وطبرستان وهما يحدانها من الشمال، وأما من الجنوب والشرق فحدودها مفازة خراسان، ومن الغرب تحدها بلاد الري قصبتها مدينة الدامغان. (2-24) مفازة خراسان
هي بادية واقعة في أواسط بلاد المشرق يحدها من الشمال قومس ومن الجنوب بلاد فارس وسجستان، ومن الشرق سجستان وخراسان، ومن الغرب الجبال والري، وهي أقل من بادية العرب سكانا، وبعض هذه المفازة تابع لخراسان والبعض الآخر تابع لعملي فارس وكرمان، وهي وعرة ويصعب سلوكها بالخيل لقلة الماء فيها. (2-25) سجستان
هي واقعة في شمالي مكران يحدها من الشرق مفازة بينها وبين السند، ومن الجنوب مكران، ومن الشمال أرض الهند، ومن الغرب مفازة خراسان، أكبر مدنها زرنج وبست والطاق وغيرها. (2-26) خراسان
هي من أخصب بلاد المشرق وأوسعها يحدها من الشرق الشمالي ما وراء النهر، ومن الشرق الجنوبي بلاد السند وسجستان، ومن الشمال خوارزم وبلاد الغز في تركستان، ومن الجنوب مفازة خراسان وفارس، ومن الغرب قومس، وتقسم خراسان إلى كور أعظمها نيسابور ومرو وهرات وبلخ يليها كور قوهستان وطوس ونسا وأبيورد وسرخس واسفزار وبوشنج وياذغيس وكنج - رستاق ومروروذ وجوزجان وطخارستان وزم وآمل.
عاصمة خراسان مدينة نيسابور وهي أعظم مدنها جميعا وتسمى أيضا أبو شهر، واقعة في أرض سهلة أبنيتها من طين، سعتها فرسخ في فرسخ، ومدينة مرو وتعرف بمرو الشاهجان وهي قديمة البناء، ومدن خراسان كثيرة وبلادها آهلة وتربتها خصبة وقد كان للمسلمين منها ارتفاع عظيم. (2-27) ما وراء النهر
هي آخر بلاد الإسلام شمالا شرقيا، يحدها من الشمال بلاد تركستان وبلاد الهند، ومن الغرب الجنوبي خراسان يفصل بينهما نهر جيحون، ومن الشمال الغربي خوارزم، ومن الجنوب طخارستان، وهو من أخصب أقاليم الإسلام وأنزهها وأكثرها خيرا، وأشهر نواحيها بخارى وسمرقند وكش ونخشاب وبيكند والساغانيان وفرغانة والسغد والشاش وأشروسنة وخوجند. (2-28) خوارزم
ويعدها الإصطخري تابعة لما وراء النهر فإنها مستطيلة الشكل تمتد على ضفاف نهر جيحون في الشمال، يحدها من الشمال بحر خوارزم، ومن الجنوب خراسان وبلاد الصفد وتحدق بهذا الإقليم المفاوز من الشرق والغرب، قصبته مدينة خوارزم.
هذه خلاصة جغرافية المملكة الإسلامية حوالي عصر المأمون ونسبة أقاليمها بعضها إلى بعض تمهيدا لما سنذكره من جباية المملكة العباسية، وهي تشمل كل هذه الأقاليم إلا الأندلس، ولم يكن كل إقليم منها قائما بذاته يؤدي خراجه باسمه، فإن بعض هذه الأقاليم كان داخلا في عمل البعض الآخر، وقد اختلف ذلك باختلاف الأعصر، فربما ورد في قائمة الجباية ذكر خراج إقليم، ويكون المراد خراج إقليمين أو أكثر مما دخل تحت سيطرة عامله؛ إذ كثيرا ما كان الخلفاء يولون العامل عدة أقاليم يسمونها باسم واحد منها لأسباب لا يمكن حصرها.
وقبل الشروع في إيراد خراج الأعمال العباسية واستخراج ارتفاع الدولة، لا بد لنا من بيان علاقة تلك الأقاليم أو الأعمال ببغداد عاصمة المملكة بالنظر إلى توريد الخراج. (3) علاقة الأعمال العباسية بالعاصمة
قلنا في كلامنا عن ولاية الأعمال في الجزء الأول إنها كانت في بادئ الرأي أشبه بالاحتلال العسكري منها بالتملك، وكان العمال في عهد الراشدين هم قواد الجند الذين فتحوا تلك الأقاليم، وواجباتهم مراقبة سير الأحكام في البلاد التي افتتحوها وإقامة الصلاة واقتضاء الخراج، وظلت أعمال الحكومة في داخل البلاد المفتوحة جارية على ما كانت عليه قبل الفتح، وكان الذين يباشرون جباية الخراج ويتولون أعمال الحكومة في البلاد موظفين من أهلها الأصليين، فإذا اجتمع الخراج والجزية أنفقوا من مجموعهما ما تحتاج إليه ناحيتهم من نفقات، ودفعوا الباقي إلى الحاكم المسلم، وهذا يدفع منه رواتب الذين معه من القواد والجند وما يقتضيه إصلاح الري من إقامة الجسور والسدود ويرسل الباقي إلى بيت المال في عاصمة الخلافة.
ذلك كان شأن الأعمال الإسلامية في زمن الراشدين، ولما أفضى الأمر إلى بني أمية واضطر معاوية إلى اكتساب الأنصار زاد في نفوذ العمال وجعل بعض الأعمال طعمة لهم، فازدادوا استقلالا في أعمالهم، ثم دعت الأحوال إلى تمكين المسلمين من البلاد المفتوحة واستلام أزمة الأحكام بأيديهم وتحويل الدواوين إلى لسانهم في أيام عبد الملك ومن جاء بعده - إلا جباة الخراج فإنهم ظلوا من أهل البلاد الأصليين: القبط في مصر، والدهاقين في العراق وفارس - وظل العمال يقبضون صوافي الخراج والجزية وينفقون النفقات اللازمة ويرسلون الباقي إلى بيت المال في دمشق، وهو ما يعبرون عنه بارتفاع الجباية، وإذا لم تكف الجباية للقيام بالنفقات طالبوا الخليفة بالباقي.
23
ولما تولى بنو العباس ظلت الأعمال على نحو هذا الشكل، ويهمنا في هذا المقام تتبع تلك العلاقة من حيث الجباية فقط، والظاهر أن العمال زادوا استقلالا من هذا القبيل عما كانوا عليه في أيام بني أمية، حتى آل الأمر أخيرا إلى تضمين الخراج؛ أي تقبيله، وهو أن يوظف على العامل مال معين يدفعه في السنة إلى بيت المال في بغداد، وهو يتولى قبض الخراج والجزية وسائر الضرائب وينفق ما ينفقه كما يشاء لا يطالبه الخليفة إلا بالمال المضروب، ويكون ذلك في إمارة الاستيلاء، كذلك فعل الرشيد مع إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية، وكان هذا الإقليم عالة على الحكومة يحمل إليه من مصر كل سنة 100000 دينار معونة له، فلما تولاه ابن الأغلب تنازل عن هذا المال وبذل أن يحمل كل سنة 40000 دينار
24
وفعل الرشيد نحو ذلك ببرقة فإنه جعلها قانونا قائما، فوجه بمولى له فوزع خراج الأرض بأربعة وعشرين ألف دينار
25
وكذلك فعل المأمون مع عبد الله بن طاهر، فإنه وظف عليه خراج خراسان وما يتبعه سنة 211ه و212ه قدرا معينا سيأتي ذكره، وقس عليه ما قبله الفضل بن مروان من فارس والأهواز وما تقبله عمران بن موسى من السند
26
ثم صار التوظيف المذكور ضمانا وتكاثر حتى آل إلى استقلال الأمراء بولاياتهم.
وجملة القول أن المال الذي كانوا يعبرون عنه بخراج البلد الفلاني إنما يراد به ما يرد على بيت المال من خراج ذلك البلد بعد أداء أعطيات الجند المقيم فيه ونفقات الجباية وإصلاح الري وسائر الكلف
27
أو بطريق التوظيف كما تقدم، فما يجتمع من جبايات الأعمال يعبرون عنه بارتفاع الدولة أو جباية الدولة؛ أي مجموع صافي الدخل، لا ينفق منه إلا على موظفي الدواوين ورجال الدولة في بغداد غير ما يأخذه الخليفة وأهله مما سيأتي تفصيله، وقد صرح ابن خلدون في مقدمة كلامه عن مقدار تلك الجباية في أيام المأمون بقوله: «ما يحمل إلى بيت المال ببغداد في أيام المأمون من جميع النواحي نقلته عن جراب الدولة.»
28
فبالقياس على ما تقدم يعتبر كل ما يرد من الكلام عن ارتفاع الدولة أنه صافي أموال الجباية. (4) جباية الدولة العباسية في العصر الأول
فلنتقدم بعد هذا التمهيد إلى تفصيل جباية الدولة العباسية في أيام المأمون باعتبار ما يرد من كل عمل في السنة، والتوفق إلى ذلك نادر في تاريخ الإسلام؛ لأن القوم قلما يدونون غير حوادث الحرب والفتح والثورات وما إلى ذلك.
أما قوائم ابن خلدون وقدامة وابن خرداذبة فقد عثرنا عليها عرضا، وهي: (1)
قائمة ابن خلدون : هي أقدمها كلها، وقد أوردها ابن خلدون في مقدمته في عرض كلامه عن «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها»، وقال إنه نقلها عن جراب الدولة، وفيها مقدار الخراج الذي كان يرد على بيت المال في بغداد في أيام المأمون، وقبل تحقيق ذلك الزمن نوجه التفات القارئ لما تطرق إلى هذه القائمة من الخطأ بتوالي الأعوام، وقد تصفحنا النسخ المطبوعة من مقدمة ابن خلدون في مصر والشام، فرأينا خطأ في أسماء بعض البلاد الواردة في تلك القائمة، نظنه وقع من النساخ لتشابه في أشكال بعض الألفاظ، فلا بد من التنبيه إلى ذلك وإصلاحه قبل إيراد القائمة المذكورة؛ لأن الخطأ اللفظي المشار إليه يجر إلى الخطأ المعنوي لوقوعه في أسماء البلاد أو الأقاليم التي حمل الخراج منها، وهاك إصلاحها: (1)
كنكر:
29
هي لفظة لا معنى لها في هذا المقام، وصوابها «كسكر»، وهو إقليم من أقاليم السواد. (2)
طبرستان والروبان ونهاوند:
30
فالروبان بالباء صوابها «الرويان» بالياء، وهي من إقليم الديلم وقد ذكرناها في محلها، ونهاوند قصبة كورة ماه البصرة من كور الجبال كما تقدم، ونظرا لبعدها من طبرستان والرويان، فالغالب أن يكون المراد بها بلدا آخر قريبا من هناك، نظنها «دماوند»، وهي من كور طبرستان. (3)
ما بين الكوفة والبصرة:
31
لم نر في سائر القوائم ولا في غيرها من التقاويم كورة بهذا الاسم، وقد لاحظ ذلك البارون فون كريمر المؤرخ الألماني، ولكنه حسبها كورة من كور السواد واقعة وراء الفرات بين الكوفة والبصرة، دخلت في القوائم الأخرى باسم آخر،
32
والصحيح على ما نرى أن النساخ أخطأوا في قراءتهم «مابين»، وصوابها «ماها» أو «ماهين»: مثنى «ماه»، فيكون المراد «ماها البصرة والكوفة» وهما كورتان من كور الجبال، قصبة الأولى نهاوند، وقصبة الثانية الدينور - كما تقدم - ويؤيد ذلك سقوط هاتين الكورتين من قائمة ابن خلدون بالكلية. (4)
ماسبذان والدينار:
33
ماسبذان من كور الجبال، تقدم ذكرها، وأما «الدينار» فلا مسمى لها في بلاد الإسلام، وقد يتبادر إلى الذهن أنها تحريف «الدينور» قصبة ماه الكوفة لو لم نكن قد وقفنا على اسم الماهين معا في هذه القائمة، فهي على الغالب مبدلة من «الريان» وهي كورة بقرب كسكر في العراق.
وهناك غلط نسخي في تعيين مقدار الخراج في بعض الأقاليم صوابه ظاهر، مثل قوله عن خراج كور دجلة أنه عشرون ألف ألف درهم وثمانية دراهم، والعادة أن لا يدونوا في الديوان آحاد الدراهم
34
فالغالب أن يكون صوابها (وثمانمائة ألف درهم)، وكذلك قوله عن جباية الأهواز إنها خمسة وعشرون ألف درهم، والصواب 25 ألف ألف درهم؛ لأنها نحو ذلك في القائمتين الأخريين، وكقوله في طبعة بولاق عن خراج قومس «ألف ألف مرتين وخمسمائة ألف من نقر الفضة» ونظن الصواب: «ومن نقر الفضة ألف»، فيكون خراجها 1500000 درهم و1000 من نقر الفضة، وكقوله عن العسل الوارد من الموصل إنه 20000000 رطل، والأقرب إلى الصواب أن يكون 20000 رطل فقط، ومن هذا القبيل خراج مصر، فقد ورد هناك أنه «ألف ألف ألخ»، والصواب على ما نرى «ألفا ألف ألخ» بالقياس على جبايتها في ذلك العصر، والخطأ إنما وقع في النسخ لتشابه اللفظين خطا.
أما زمن هذه القائمة فقد عينه ابن خلدون صريحا فقال إنه في أيام المأمون، ولكنه لم يعين السنة، والمأمون حكم 22 سنة من سنة 196-218، وحساب بيت المال في بغداد احترق في الفتنة بين الأمين والمأمون ثم لم يدون الحساب إلا بعد سنة 204ه.
35
فالقائمة المذكورة كتبت في ما بين 204 و218ه، ونظرا لاختلاف خراج خراسان فيها عما وظفه المأمون على ابن طاهر سنة 211 و212ه، فالأرجح أنها كتبت بين 204 و210ه.
ورأينا للبارون فون كريمر المذكور انتقادا على تاريخ قائمة ابن خلدون، خلاصته: أنها كتبت قبل عصر المأمون بعشرات من السنين، بحيث تتصل بعصر المهدي أو الهادي أي بين سنة 158 و170ه، ومن أدلته على ذلك «أنه ورد فيها ذكر خراج السند وإفريقية وكانتا في أيام المأمون قد استقلتا عن سلطة بغداد، ولم يذكرهما قدامة ولا ابن خرداذبة».
والبارون فون كريمر لا يستخف برأيه في تاريخ الإسلام وتمدنه وآدابه؛ لأنه من أهل التحقيق والبحث، ومن أكثر الألمان تمحيصا للحقائق، ولكننا نراه واهما في حكمه على هذه القائمة للأسباب الآتية:
أولا:
أن استقلال الأقاليم عن سلطة بغداد لم يكن يستلزم استقلالها عن الخلافة العباسية وقطع المال عنها، نعم، إن إفريقية استقل بها الأغالبة، وتوارثوا الحكم فيها من سنة 184-296ه، ولكن استقلالهم هذا لا يمنع تأديتهم مالا معينا كما كان يفعل معظم الأمراء المستقلين في مصر وخراسان وغيرهما، فإنهم كانوا يخطبون لخليفة بغداد ويعتبرون أنهم تابعون له دينيا فقط، كذلك كان شأن الدولة الطاهرية في خراسان، والطولونية في مصر،
36
وكان بعضهم يقدم المال باسم الهدية، والبعض الآخر باسم الخراج أو الضمان أو غيرهما، وزد على ذلك أن إفريقية لم تكن تحمل مالا إلى بيت المال إلا بعد سنة 181ه، أي بعد أن تولاها إبراهيم بن الأغلب، وهو الذي فرض على نفسه 40000 دينار، فلا يبعد أن يستمر الأغالبة على دفع مثل هذا المال إلى أيام المأمون؛ لأن الخلفاء العباسيين ظلوا يعدون إفريقية من مملكتهم كل أيام الأغالبة، وكانوا يعينون الولاة عليها من بغداد باعتبار أن الأغالبة تحت هؤلاء الولاة،
37
ويقال نحو ذلك في السند، بل نرى في هذا شاهدا أقرب على صحة رواية ابن خلدون، فإن المأمون نفسه استعمل على السند سنة 216ه عاملا اسمه عمران بن موسى العتكي
38
على أن يحمل إليه منها مليون درهم بعد كل نفقة
39
ويدل ذلك على سيادته عليها، وإن كان المال المذكور أقل كثيرا مما ذكره ابن خلدون، إذ يختلف المراد بحدود السند باختلاف الأزمنة، أما عدم ورود هذين البلدين في قائمتي قدامة وابن خرداذبة فقد يكون سببه عارضا؛ إما لانقطاع الخراج منهما بعد قائمة ابن خلدون، أو لأسباب أخرى راجعة إلى دخول بعض الأقاليم في بعض أو غير ذلك كما سيتضح من مقابلة القائمتين التاليتين، وعلى كل حال فإن افتراض هذه الأسباب أقرب إلى الصواب من اتهام ابن خلدون بالخطأ أو الوهم، وهو ثقة كثير التبصر والتمحيص، وقد قال صريحا إن هذه الجباية وردت على بيت المال في أيام المأمون.
ثانيا:
أن ابن خلدون استحوذ على أوراق رسمية من أيام المأمون عن الدخل والخرج، كان يرجع إليها في تحقيق ما يكتبه في هذا الشأن ونحوه.
40
ثالثا:
أن الديوان احترق في أيام الأمين، وقد قدمنا أنه لم يدون فيه حساب إلا بعد سنة 204ه، وأما ما كان منها قبل ذلك فقد ضاع.
فبناء على ذلك يترجح عندنا أن يكون الحق في جانب ابن خلدون، وأن يكون البارون فون كريمر واهما في اعتراضه، وفوق كل ذي علم عليم. (2)
قائمة قدامة : دونها قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي في كتابه المسمى: «كتاب الخراج» ولم يصل إلينا منه إلا نتف طبعت في لايدن بعناية دي خويه المستشرق الهولندي الشهير، وقد توفي قدامة سنة 337ه، وكان أبوه نصرانيا وأسلم في أيام المكتفي (من 289-295ه) وتولى منصبا كبيرا من مناصب الدولة العباسية، وألف كتبا كثيرة من جملتها كتاب الخراج هذا، ويظهر أنه كتبه نحو سنة 316ه نقلا عن أوراق رسمية اتصلت به، ويستدل من مطالعة الكتاب أن ما ورد فيه من جباية البلاد يراد به جبايتها نحو سنة 225ه. (3)
قائمة ابن خرداذبة : هو عبد الله بن خرداذبة، وذكر صاحب الفهرست أنه كان يتولى البريد في بلاد الجبال، ويظهر أنه كتب وهو في هذا المنصب كتابه «المسالك والممالك» وفيه هذه القائمة، ويظن دي خويه ناشر هذا الكتاب أن ابن خرداذبة كتبه سنة 232ه، ثم أضاف إليه بعض الزيادات فيما بعد بحيث لا يتجاوز حوالي سنة 250ه.
هذه القوائم الثلاث، وفيها جباية الدولة العباسية في إبان ثروتها، فلنوردها باعتبار قدمها، وأقدمها قائمة ابن خلدون، ثم قدامة، ثم خرداذبة: (4-1) جباية الدولة العباسية (في أيام المأمون - نقلا عن ابن خلدون)
أسماء الأقاليم
من الدراهم
من الأموال والغلال
السواد
27800000
ومن الحلل النجرانية 200 حلة ومن طين الختم 240 رطلا.
كسكر
11600000
كور دجلة
20800000
حلوان
4800000
الأهواز
25000000
وسكر 30000 رطل.
فارس
27000000
ومن ماء الورد 30000 قارورة ومن الزيت الأسود 20000 رطل.
كرمان
4200000
ومتاع يماني 500 ثوب و20000 رطل من التمر.
مكران
400000
السند وما يليه
11500000
و150 رطلا من العود الهندي.
سجستان
4000000
ومن الثياب المعينة 3000 ثوب ومن الفانيد 20 رطلا.
خراسان
28000000
ومن نقر الفضة 2000 نقرة و4000 برذون و1000 رأس رقيق و20000 ثوب متاع و30000 رطل إهليلج.
جرجان
12000000
و1000 شقة إبريسم.
قومس
1500000
ومن نقر الفضة 1000 نقرة.
طبرستان والريان ودماوند
6300000
و600 قطعة من الفرش الطبري و200 كساء و500 ثوب و300 منديل و200 جامة.
الري
12000000
و20000 رطل عسل.
همدان
11300000
و1000 رطل من رب الرمانين و12000 رطل عسل.
ماها البصرة والكوفة
10700000
ماسبدان والريان
4000000
شهرزور
6700000
الموصل وما يليها
24000000
و20000 رطل من العسل الأبيض.
أذربيجان
4000000
الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات
34000000
و1000 رأس من الرقيق و12000 زق عسل وعشر بزات و20 كساء.
أرمينية
13000000
و20 من القسط المحقور و530 رطلا من الرقم «ضرب من الوشي» و10000 رطل من المسايح السورماهي و10000 من الصونج «نوع من الأسماك البحرية» و200 بغل و30 مهرا.
برقة
1000000
إفريقية
13000000
و120 بساطا.
المجموع
318600000 درهم
والجهات التالية وردت جبايتها بالدنانير:
أسماء الأقاليم
من الدنانير
من الأموال والغلال
قنسرين
400000
و1000 حمل زيت
دمشق
420000
الأردن
97000
فلسطين
310000
مصر
2920000
و300000 رطل زيت
اليمن
370000
الحجاز
300000
سوى المتاع «لم يذكر»
المجموع
4817000
دينار وتساوي 73255000 درهم باعتبار الدينار 15 درهما وهو تقديره في ذلك العصر.
فيكون المجموع بالدراهم
72255000
يضاف إليه جباية الأقاليم المذكورة قبله
318600000
الجملة
390855000 درهم
وترى من النظر في هذه القائمة أن خراج أقاليم المشرق كانوا يقدرونه بالدراهم، وخراج أقاليم المغرب بالدنانير (إلا برقة وإفريقية) وسترى نحو ذلك أيضا في القائمتين الأخريين، والسبب على ما يظهر أن مناجم الفضة كانت أكثر في أقاليم المشرق منها في المغرب، وبعكس ذلك مناجم الذهب.
فمجموع جباية أقاليم المشرق (مع برقة وإفريقية) 318600000 درهم، ومجموع خراج سائر أقاليم المغرب 4817000 دينار، حولناها إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما، وهو صرفه في ذلك العصر فبلغت 72255000 درهم، وبإضافتها إلى جباية أقاليم المشرق بلغ المجموع كله 390855000 درهم.
ورأينا في ما نقله فون كريمر من قائمة ابن خلدون بلدين هما الكرج والجيلان غير موجودين في ما لدينا من النسخ، نظنه وجدهما في نسخة فون همر برجشتال المستشرق النمسوي، خراج الأولى 300000 درهم، والثانية 5000000 درهم، وليس هنا مكان التحقيق عن صحة هذه الرواية أو عدم صحتها.
فيكون مجموع جباية المملكة العباسية في أيام المأمون نحو 400 مليون درهم، ما عدا الأموال والغلات مما لا نعلم حقيقة قيمته، وإذا أعدت النظر فيه رأيته شيئا كثيرا، والعادة في تقدير الجباية أن تقدر هذه الغلات بما تساويه من النقد، ويضاف مبلغها إلى مبالغ النقد، كما فعل صاحب جراب الدولة في غلات السواد ومعظمها في الأصل من الحنطة، وكما سترى في تفصيل طساسيج السواد بقائمتي قدامة وابن خرداذبة.
وقد تقدم أن الجباية التي كانت ترد إلى بيت المال في بغداد إنما هي صوافي ما تحصل منها في الأقاليم بعد دفع أموال الجند ونفقات الجباية وإصلاح الري ونحو ذلك من نفقات الأقاليم، ولم يبق على هذا المال إلا نفقات الدواوين في بغداد للخليفة ووزرائه وكتابه ورجال بطانته، وقد يرتاب القارئ في رواية ابن خلدون؛ لبعدها عما هو مألوف عندنا من ميزانيات دول هذه الأيام، وما فيهن من يبقى في صندوقها معشار هذا المال؛ ولذلك فنأتي بالروايتين الأخريين للمقابلة بينهما وبين رواية ابن خلدون. (4-2) جباية الدولة العباسية (في أيام المعتصم - نقلا عن قدامة بن جعفر)
كانت جباية السواد معظمها من الحنطة والشعير، وقد ذكر قدامة مقدار كل منهما مفصلا باعتبار طساسيج السواد، أي نواحيه في الشرق والغرب.
اسم الناحية
مقدار الحنطة بالكر
مقدار الشعير بالكر
الدراهم
طساسيج السواد في الجانب الغربي:
الأنبار ونهر عيسى
11800
6400
40000
طسوج مسكن
3000
1000
150000
طسوج قطربل
2000
1000
300000
طسوج بادوريا
3500
1000
1000000
بهر سير
1700
1700
150000
الرومقان
3300
3300
250000
كوثي
3000
2000
350000
نهر درقيط
2000
2000
200000
نهر جوبر
1500
6000
150000
باروسما ونهر الملك
3500
4000
122000
الزوابي الثلاثة
1400
7200
250000
بابل وخطرانية
3000
5000
250000
الفلوجة العليا
500
500
70000
الفلوجة السفلى
2000
3000
280000
طسوج النهرين
300
400
45000
طسوج عين التمر
300
400
45000
طسوج الجبة والبداة
1500
1600
150000
سوراو وبرنسيما
1500
4500
250000
البرس الأعلى والأسفل
500
5500
150000
فرات بادقلي
2000
2500
62000
طسوج السيليحين
1000
1500
140000
روذستان وهرمزجرد
500
500
20000
تستر
2200
2000
300000
إيغار يقطين
1200
2000
204800
كسكر
30000
20000
270000
طساسيج السواد في الجانب الشرقي:
طسوج بزرجسابور
2500
2200
300000
طسوج الرذانين
4800
4800
120000
طسوج نهر بوق
200
1000
100000
كلواذي ونهر بين
1600
1500
330000
جازر والمدينة العتيقة
1000
1500
240000
روستقباد
1000
1400
246000
سلسل ومهروذ
2000
1500
15000
جلولا وجللتا
1000
1000
100000
الذيبين
1900
1300
40000
الدسكرة
1800
1400
60000
البذنيجين
600
500
35000
طسوج برز الروذ
3000
5100
120000
النهروان الأعلى
1700
1800
350000
النهروان الأوسط
1000
500
100000
بادرايا وباكسايا
4700
5000
330000
كور دجلة
900
4000
430000
نهر الصلة
1000
3121
59000
النهروان الأسفل
1700
13000
53000
مجموع خراج السواد
115600
135621
8821800
فمجموع جباية السواد باعتبار نواحيه 115600 كر حنطة، و135621 كر شعير، و8821800 درهم، على أن هذا المجموع يختلف عما قاله قدامة المذكور بعد أن أورد خراج كل ناحية بالتفصيل - كما تقدم - فقد قال في إيراد المجموع: «ذلك ارتفاع السواد سوى صدقات البصرة من الحنطة 177200 كر، ومن الشعير 99721 كرا، ومن الورق 8095800 درهم
41
ولعل السبب في هذا الفرق خطأ في قراءة بعض الأعداد، على أن الفرق على كثرته لا يعتد به فيما نحن فيه، بقي علينا أن نحول الحنطة والشعير إلى دراهم، وقد فعل جعفر ذلك فحولهما باعتبار ثمن الكرين المقرونين من الحنطة والشعير ستين دينارا، والدينار على صرف خمسة عشر درهما بدينار، فبلغ ذلك 100361850 درهما وقال إن صدقات البصرة ترتفع في السنة 6000000 درهم، فإذا جمعت ذلك كله بلغ 114457650 درهما على هذه الصورة:
8095800
الدراهم المجموعة ورقا
100361850
قيمة الحنطة والشعير بالدرهم
6000000
صدقات البصرة
114457650
درهما
هذا هو ارتفاع السواد، فلنتقدم إلى إيراد جبايات سائر الأقاليم في المشرق والمغرب، وهي مع السواد:
أقاليم المشرق
درهم
السواد
114457650
الأهواز
23000000
فارس
24000000
كرمان
6000000
مكران
1000000
أصبهان
10500000
سجستان
1000000
خراسان
37000000
حلوان
900000
ماه الكوفة
5000000
ماه البصرة
4800000
همدان
1700000
ماسبذان
1200000
مهرجان قذق
1100000
الإيغارين
3100000
قم وقاشان
3000000
أذربيجان
4500000
الري ودماوند
20080000
قزوين وزنجان وأبهر
1828000
قومس
1150000
جرجان
4000000
طبرستان
4280700
تكريت والطيرهان
900000
شهرزور والصامغان
2750000
الموصل وما يليها
6300000
قردي وبذيدي
3200000
ديار ربيعة
9635000
أرزن وميافاراقين
4200000
طرون
100000
آمد
2000000
ديار مضر
6000000
أعمال طريق الفرات
2900000 (المجموع)
311581350
أقاليم المغرب
دينار
قنسرين والعواصم
360000
جند حمص
218000
جند دمشق
110000
جند الأردن
109000
جند فلسطين
295000
مصر والإسكندرية
2500000
الحرمين
100000
اليمن
600000
اليمامة والبحرين
510000
عمان
300000 (المجموع)
5102000
وبتحويلها إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما تساوي 76710000 درهم وبإضافتها إلى مجموع جباية أقاليم المشرق والجزيرة أعلاه يكون مجموع ذلك كله 388291350 درهما، وهو ارتفاع الخراج على تقدير قدامة.
42 (4-3) جباية الدولة العباسية (في أواسط القرن الثالث للهجرة - على رواية ابن خرداذبة)
فصل ابن خرداذبة جباية أعمال السواد كما فصلها قدامة، وزاد على ذلك عدد الشون والبيادر مما يطول يطول بنا إيراده، فنكتفي بذكر جملته من الحنطة والشعير والفضة، وذلك عبارة عن 63400 كر حنطة، و91850 كر شعير، و8456840 درهما نقدا، وبتحويل الحنطة والشعير إلى دراهم باعتبار الكرين المقرونين ستين دينارا، والدينار 15 درهما كما تقدم، بلغت قيمتهما 69862500 درهم، وبإضافة ذلك إلى الدراهم المجموعة نقدا تصير الجملة 78319340 درهما.
ثم فصل جباية خراسان وما يلحق بها من الأقاليم في الدولة الطاهرية، باعتبار ما وظف عليها سنة 212ه، ومقدار ذلك جملة 44846000 درهم، و13 دابة للركوب، و2000 شاة من الغنم، و2000 رأس من السبي الغزية ما قيمته 600000 درهم، ومن الكرابيس الكندجية 1187 ثوبا، ومن المرور وصفائح الحديد 1300 قطعة نصفين، وكانت خراسان يومئذ تشمل نحوا من خمسين عملا في جملتها الري، وقومس، وجرجان، وكرمان، وسجستان، ونيسابور، وطخارستان، والطالقان، وأعمال ما وراء النهر، وفيها بخارى، والصفد، وغيرهما، وكان الطاهريون مستقلين بها ويدفعون عنها هذه الوظيفة (أي هذا القدر من المال)، وقد اقتصرنا على إجمال ذلك خوف التطويل، ومن أراد تفصيل جباية أعمال السواد وأعمال خراسان فليراجعها في كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة، ولنتقدم إلى إتمام قائمته عن الأعمال الأخرى من الإجمال الذي ذكرناه:
أقاليم المشرق
دراهم
السواد
78319340
خراسان وتوابعها
44846000
شهرزور والصامغان
2750000
ماسبذان ومهرجان قذق
3500000
قم
2000000
الأهواز
30000000
فارس
33000000
قزوين
1200000
ماه الكوفة
3800000
أصبهان
7000000
ديار مضر
5600000
الموصل
4000000
ديار ربيعة
7700000
أرمينية
4000000 (المجموع)
227715340
أقاليم المغرب
دنانير
قنسرين والعواصم
400000
جند حمص
340000
جند دمشق
400000
جند الأردن
350000
جند فلسطين
500000
مصر
2180000
اليمن
600000 (المجموع)
4770000
وبتحويل هذه الدنانير إلى دراهم تبلغ 71550000 درهم، تضاف إلى مجموع جباية أقاليم المغرب أعلاه على هذه الصورة:
درهم
227715340
جباية أقاليم المشرق
71550000
جباية أقاليم المغرب
299265340
الجملة (4-4) مجمل جباية الدولة العباسية
وخلاصة ما تقدم أن ارتفاع الدولة العباسية كان على معظمه في أيام المأمون، ثم أخذ في التناقص بعده، ولم يظهر ذلك النقص إلا بعد أواسط القرن الثالث للهجرة، لأسباب سيأتي بيانها، وأما قبل ذلك فإن ارتفاع هذه الدولة كان عظيما جدا، كما تبين من القوائم الثلاث التي ذكرناها، وهاك ملخصا لها:
درهم
396155000
جباية الدولة العباسية في أيام المأمون بين سنة 204 و210ه.
388291350
جباية الدولة العباسية في أيام المعتصم أو بعيده إلى سنة 225.
299265340
جباية الدولة العباسية في أواسط القرن الثالث. *
1083711690
الجملة *
لا يخفى على المتأمل أننا عينا هذه الأزمنة بالتقريب؛ إذ قد يرد في قائمة ابن خرداذبة مثلا خراج إقليم كما وظف عليه في عهد قائمة ابن خلدون أو قدامة وبالعكس، وإنما اعتبرنا في تعيينها الأغلبية.
فترى من مقابلة هذه الأرقام أن الفرق في الجباية ظهر حتى في النصف الأول من القرن الثالث، وخصوصا إذا اعتبرت ما أغفلناه من قائمة ابن خلدون من الأموال والأمتعة والمحصولات وهي من جملة الخراج، فمعدل الوارد إلى بيت المال في العام نحو 360 مليون درهم، وهي صوافي جباية الأعمال كما قدمنا، مما لم نسمع بمثله في الدول قديما ولا حديثا، إلا إذا اعتبرنا ما أورده بعضهم إجمالا بطريق العرض عن دولتي الروم والفرس، فقد قال جبن مؤرخ الدولة الرومانية إن جباية هذه الدولة إبان سطوتها ومعظم سعتها تساوي نحو 400000000 درهم، منها 135000000 درهم من آسيا (الصغرى)،
43
وذكر ابن خرداذبة أن جباية مملكة الفرس في أيام كسرى برويز بلغت 420000000 مثقال، أو نحو 720 مليون درهم، فإذا سلمنا بصحة هذه الأرقام أعوزنا الاطلاع على طريقة الإنفاق عندهم؛ إذ ربما كانت تستغرق معظم هذه الجباية بخلاف الدولة العباسية كما سترى، أما ما خلا هاتين الدولتين فالفرق بين جبايتها وجباية هذه الدولة عظيم جدا، فالدولة العثمانية بلغت معظم سعتها في أيام السلطان سليمان القانوني في أواسط القرن العاشر للهجرة، ولم يزد ارتفاع جبايتها في أيامه على 8000000 دوكات
44
أو نحو 2843750 جنيها مصريا، فأين ذلك من جباية الدولة العباسية؛ فإنها تزيد على أضعافه؟! وقس على ذلك دول هذه الأيام باعتبار ما يبقى في صندوقها كما سيأتي.
ولنتقدم إلى الكلام في الجهات التي كانت تنفق فيها الأموال: (5) نفقات الدولة العباسية
لم نر فيما كتبه المؤرخون القدماء في العربية نصا يتعلق بهذا الشأن، ولا ندري إذا كانوا فعلوا ذلك عمدا أو ضاع ما كتبوه في ثنيات الزمان، على أن مؤرخي المسلمين قلما دونوا حوادث التمدن الإسلامي أو ما هو في معناه، كمقدار الدخل أو الخرج وثروة المملكة وحال العلم، أو نظام الهيئة الاجتماعية غير ما جاء عرضا في أثناء ذكر الوقائع الحربية، أو وصف مجالس الطرب - إلا ابن خلدون، فقد أورد جباية الدولة في عرض الكلام عن بذخها في إبانها، وأما قدامة وابن خرداذبة فقد ذكرا مقدار الخراج في عرض الكلام عن طرق البريد، وقد ذكر الخراج أيضا بعض أصحاب التقاويم (الجغرافية) ولكن أحدا منهم لم يذكر شيئا عن الشؤون التي تنفق فيها الأموال المجموعة من الخراج في العصر الذي نحن في صدده.
على أننا بالقياس على ما عرفناه من أحوال ذلك التمدن، نرجح أن المال المشار إليه كان يوضع في بيت المال، بعد دفع رواتب الجند والكتاب والقضاة وسائر أرباب المناصب في دواوين الحكومة في بغداد، والموظفين الذين قد تعينهم الحكومة من بغداد وتدفع رواتبهم من بيت مالها ولو كانت أعمالهم في الخارج مثل عمال البريد
45
وغيرهم، وما بقي من أموال الجباية بعد هذه النفقات يوضع في بيت المال تحت اجتهاد الخليفة.
46
أما مقدار ما كان ينفق على الجند المقيدين في الدواوين وغيرهم فمما لا يمكن القطع فيه؛ لأنه يختلف باختلاف العصور وأحوال الخلفاء، ولم نقف على شيء صريح في هذا الشأن في العصر العباسي الأول ولا في غيره.
على أننا توفقنا بهمة البارون فون كريمر إلى قائمة تشمل ما اشترطه أحمد بن محمد الطائي على نفسه أن يقدمه من ضمانه إلى بيت المال، وفيه ما كان ينفقه بيت المال في بغداد في السنين الأولى من خلافة المعتضد العباسي (سنة 279ه)
47
وقد عين فيه مقدار المال اللازم لكل فئة من فئات الموظفين الذين تدفع رواتبهم من بيت المال، وجملة ذلك 2500000 دينار في السنة، تدفع مياومة باعتبار كل يوم سبعة آلاف دينار، تفرق في الجند وموظفي الدواوين والخدم وغيرهم على هذه الصورة:
نفقات الدولة العباسية (في أيام المعتضد بالله سنة 279ه بالمياومة)
دينار في اليوم
1000
أرزاق أصحاب النوبة ومن برسمهم من البوابين وفيهم البيضان من الجنابيين والبصريين وأصحاب المصاف بباب العامة وغيرهم والسودان وأكثر مماليك الناصر.
1000
أرزاق الغلمان الذين أعتقهم الناصر (هو الموفق بن المتوكل) ويعرفون بالغلمان الخاصة.
1500
أرزاق الفرسان من الأحرار المميزين.
600
أرزاق المختارين، وهم جنود منتخبون من كل قيادة، وقد عرفوا بالشهامة والشجاعة.
500
أرزاق المثبتين في أيام الناصر.
110
أرزاق سبعة عشر صنفا من المرسومين بخدمة الدار، والرسائل الخاصة، والقراء، وأصحاب الأخبار، والمؤذنين، والمنجمين، والفنجاميين، وأصحاب الأعلام، والبوقيين، والمضحكين، والطالبين، وغيرهم.
50
المرتزقة برسم الشرطة في مدينة السلام، وغيرها.
300
أثمان أنزال المماليك، وغيرهم.
نفقات المطابخ الخاصة والعامة، والمخابز، وإنزال الحرم، والحشم، ومخابز السودان.
100
ثمن وظائف الشراب للخاصة والعامة، وآلاته، ونفقات خزائن الكسوة، والخلع، والطيب، وحوائج الوضوء، وخزائن السلاح، والفرش ... إلخ.
4
أرزاق السقائين بالقرب في القصر، والخزائن، والمخابز، والدور، والحجر، والخدم ... إلخ.
167
أرزاق الخاصة ومن يجري مجراهم من الغلمان والمماليك، دون الأكابر الأحرار، ومن أضيف إليهم من الحشم القدماء.
100
أرزاق الحشم من المستخدمين في شراب العامة، وخزائن الكسوة، والصناع من الصاغة، والخياطين، والعقادين، والأساكفة، والحدادين، والرفائين، والمطرزين، والنجادين، والوراقين، والعطارين، والمشهرين، والنجارين، والخراطين، والإسفاطيين، وغيرهم ... إلخ.
100
أرزاق الحرم.
400
ثمن علوفة الكراع في الإصطبلات الخمسة.
ما يصرف من ثمن الكراع، والإبل، والخيل ... إلخ.
30
أرزاق المطبخيين.
30
أرزاق الفراشين، والمحلبيين، وخزان الفرش، والحمالين.
أرزاق أصحاب الركاب، والجنائب، والسروج، ومن يخدم في دواب البريد.
44
أرزاق الجلساء، وأكابر الملهين، ومن يجري مجراهم.
أرزاق جماعة من المتطببين، وتلامذتهم ... إلخ.
70
أرزاق أصحاب الصيد من البازياريين، والفهادين، والكلابزريين وغيرهم.
أرزاق الملاحين في الطيارات، والشذات، والحراقات، وغيرها من السفن.
4
ثمن النفط والمشاقة للنفاطات، والمشاعل وأجرة الرجال لخدمتها.
15
الصدقة التي تحضر كل يوم عند صلاة الصبح في خرقة سوداء.
جاري أولاد المتوكل.
جاري أولاد الواثق.
جاري أولاد الناصر.
20
أرزاق مشائخ بني هاشم، وأصحاب المراتب، والخطباء في المساجد .
أرزاق جمهور بني هاشم من العباسيين، والطالبيين.
جاري عبيد الله بن سليمان (الوزير) مع خمس مئة دينار للقاسم ابنه (في الشهر) برسم العرض.
أرزاق أكابر الكتاب، وأصحاب الدواوين، والخزان، والبوابين، والمديرين، والأعوان، وسائر من في الدواوين، وثمن الصحف، والقراطيس والكاغد - سوى كتاب دواوين الإعطاء وخلفائهم على مجالس التفرقة وأصحابهم، وأعوانهم، وخزان بيت المال، فإنهم يأخذون أرزاقهم بما يوفرونه من أموال الساقطين، وغرم المخلين بدوابهم.
جاري إسحق بن إبراهيم القاضي، وخليفته يوسف بن يعقوب والد أبي عمر، وأولادهما، وعشرة نفر من الفقهاء.
50
نفقات السجون، وثمن أقوات المحبسين.
جاري المؤذنين في المسجدين، والمكبرين، والقوام، والأئمة، وثمن الزيت للمصابيح، والحصر، والبواري، والماء، وثمن الستار للصيف، والجلباب والخزف، والعمارة في شهر رمضان.
19
نفقات الجسرين، وثمن ما يبدل من سفنهما، وأرزاق الجسارين.
15
نفقات البيمارستان الصاعدي، ولم يكن يومئذ غيره، وأرزاق المتطببين والمآنين والكحالين، ومن يخدم المغلوبين على عقولهم، والبوابين، والجنازين، وغيرهم، وأثمان الطعام والأدوية والأشربة.
6974 (الجملة)
فالمجموع نحو سبعة آلاف دينار، وذلك نفقات الدولة العباسية في اليوم الواحد من أيام المعتضد (سنة 279ه)، ومجموع ذلك في السنة نحو مليونين ونصف (2500000 دينار)، فإذا فرضنا نفقاتها في أيام المأمون والمعتصم نحو ذلك - وهي في اعتقادنا يجب أن تكون أقل من ذلك بالنظر إلى تكاثر الغلمان والمماليك في أواخر القرن الثالث عما كان في أوائله - فإذا فرضنا النفقات واحدة في أيام المأمون والمعتضد، وحولناها إلى دراهم باعتبار الدينار عشرين درهما على الأكثر، بلغ ذلك 50000000 درهم، فإذا أسقطناها من معدل الجباية الذي ذكرناه وهو 360000000 درهم، كان الباقي 310000000 درهم، أو قل 300 مليون فقط، فالدولة التي يبقى في بيت مالها هذا المبلغ العظيم كل سنة تعد في معظم الثروة؛ لأننا لم نسمع بدولة من الدول يبقى في صندوقها نصف هذا المال، أو ربعه، أو عشره، إلا ما قدمناه عن دولتي الروم والفرس.
وزد على ذلك أن هذه النفقات جزء صغير من مال الجباية؛ لأنها عبارة عن خراج ما ضمنه الطائي من البلاد، وهي سقي الفرات، ودجلة، وجوخي، وواسط، وكسكر، وطساسيج نهر بوق ، والذيبين، وكلواذي، ونهربين، والرذانين وطريق خراسان، وكلها من العراق، وهي بعضه كما يتضح ذلك من مراجعة قائمة قدمة، فلا مشاحة في أن نفقات الدولة العباسية كانت تستخرج من خراج بعض أعمالها. (6) تقدير هذه الثروة بنقود هذه الأيام (سنة 1903)
ولكي ينجلي لنا مقدار هذه الثروة بالنظر إلى التمدن الحديث، يجب أن نحولها إلى نقود هذه الأيام، وقد تقدم أن الدينار كان صرفه في النصف الأول من القرن الثالث 15 درهما، فمقدار هذه الثروة بالدنانير 20000000 دينار ، ويقدرون الدينار بنقود هذه الأيام بنصف جنيه، فيكون مجموع الباقي في بيت المال في السنة يساوي عشرة ملايين من الجنيهات.
ثم إن قيمة النقود تختلف باختلاف ما تستبدل به من المحصولات، أو ما يستخدم به من الرجال، فصاحب ألف جنيه في بلاد يباع فيها إردب الحنطة بخمسين قرشا يعد بمنزلة صاحب ألفين في بلاد يباع فيها الإردب بمائة قرش.
ويختلف ذلك في البلد الواحد باختلاف العصور، فصاحب بضعة آلاف قرش كان يعد عندنا في أوائل القرن الماضي من الأغنياء؛ لأن حاجيات الحياة كانت رخيصة جدا، ثم أخذت أثمانها تتصاعد بتكاثر الناس، وتفننهم في طرق المعائش، ولأسباب أخرى، حتى أصبح هذا المبلغ مما ينفقه أوساط الناس في شهر واحد، وقد لاحظنا فرقا واضحا في سعر الذهب في الأعوام الأخيرة بمصر، يجدر بالحكومة أن تتنبه له وتراعيه لعلاقته برواتب مستخدميها، وذلك أنه بالنظر إلى تصاعد أثمان المآكل وأجور المساكن، زادت نفقات البيوت نحو الربع عما كانت عليه منذ خمسة أعوام أو ستة، فالموظف الذي كان ينفق على عائلته ألف قرش في الشهر مثلا أصبح لا يكفيه أقل من 1250 أو 1300 قرش، والراتب الذي كان يتقاضاه لا يزال واحدا، ويعبر عن ذلك بنزول قيمة الذهب، فأصحاب الرواتب المعينة ينبغي أن تزداد رواتبهم كلما غلا السعر.
فللوقوف على حقيقة ثروة المملكة العباسية بالنظر إلى قيمة نقود هذه الأيام، يجب أن نقابل بين أثمان المحصولات يومئذ وأثمانها اليوم وأجور العمال في العصرين، وقد رأيت فيما تقدم أن ثمن الكر من الحنطة والشعير في أيام قدامة
48
ثلاثون دينارا، والكر العراقي أربعون إردبا
49
والإردب من الحنطة والشعير اليوم يقدر بنحو جنيه، فالأربعون إردبا بأربعين جنيها أو ثمانين دينارا أي نحو ثلاثة أمثاله في تلك الأيام.
وكانت أجرة الأستاذ البناء في أيام المنصور قيراط فضة، والروزكاري (الفاعل) حبتين،
50
والقيراط في العراق جزء من عشرين من الدينار
51
والحبة جزء من ستين منه فكأن أجرة الأستاذ بنقود هذه الأيام ثلاثة أرباع الدرهم أي نحو ثلاثة قروش، وأجرة الفاعل قرش، وذلك نحو ثلث أجرته اليوم (سنة 1903) أو ربعها، فالنقود في أيام العباسيين كانت تساوي ثلاثة أضعاف ما تساويه اليوم على الأقل، فالباقي في بيت مال العباسيين في السنة يساوي ثلاثين مليون دينار بنقود هذه الأيام، وكانت توضع في بيت المال تحت تصرف الخليفة واجتهاده، يستخدمها في الجهات التي يريدها أو تتراءى له فيها مصلحة للدولة، فهل نستغرب بعد ذلك إذا قيل لنا إن الخليفة الفلاني أعطى شاعرا مائة ألف درهم أو عشرة آلاف دينار، ونحن نرى أغنياءنا اليوم يبتاعون الصورة القديمة بمائة ألف جنيه، والقطعة من الآثار القديمة (الأنتيكة) بنصف مليون جنيه أو مليون؟! وإنما ذلك من نتائج الغنى الفاحش.
وليس في دول هذه الأيام (سنة 1903) ما يزيد الباقي في صندوقها على مليون واحد إلا نادرا، مع أن مصادر الدخل عندها زادت عما كانت عليه في أيام العباسيين، خذ إنجلترا مثلا، وهي من أعظم الدول الآن، فإن دخلها لعام 1900 بلغ نحو 120000000 جنيه منها:
جنيه
22000000
ضرائب المشروبات الروحية والتبغ والشاي.
32000000
قيمة الرخص على بيع هذه المشروبات ونحوها.
18500000
ضريبة الإيراد.
13000000
طوابع البريد.
3000000
من التلغراف.
8500000
طوابع للعقود ونحوها.
97000000 (المجموع)
فترى من هذا المجموع أن نحو أربعة أخماس دخل هذه الدولة من مصادر لا يكاد يكون لها أثر في صدر الدولة العباسية.
ويغلب في نفقات الدول الحديثة أن تساوي دخلها أو يبقى لها باق قليل جدا يندر أن يزيد على مليون جنيه، وكثيرا ما يعجز صندوقها عن القيام بالنفقات كلها لحدوث ما يدعو إلى زيادة النفقة كالحروب ونحوها، كما حدث لإنجلترا في الأعوام الأخيرة أثناء حربها في جنوبي إفريقيا حتى اضطرت إلى الاستقراض كما هو مشهور، فما هو السبب في الفرق بين ميزانية دول هذه الأيام وميزانية الدولة العباسية؟ لا يتضح لنا ذلك إلا إذا ذكرنا أسباب الثروة العباسية.
هوامش
أسباب الثروة العباسية
من القضايا البديهية أن مثل هذه الثروة لا يتأتى إلا إذا كان الدخل كثيرا وكانت النفقة قليلة، والثروة المشار إليها عبارة عن الباقي من إسقاط الخرج وهي سبل النفقة ونرى الفرق بينهما، ونبين أسباب كثرة الأولى وقلة الثانية. (1) مصادر الجباية
كانت الجباية في أوائل الهجرة قاصرة على الزكاة، ثم حدثت الغنائم بعد واقعة بدر الكبرى ثم الجزية لمن صالح على نفسه من نصارى جزيرة العرب ويهودها، وتوفي النبي
صلى الله عليه وسلم
ومصادر الجباية الزكاة والغنائم والجزية، فلما كانت الفتوح في الشام والعراق ومصر وضعوا الخراج والعشور على الأرض والمكس على التجارة، وانقضت دولة الراشدين وهذه مصادر الجباية، وما زال الحال على ذلك في أيام بني أمية مع ما فرضوه من الضرائب غير القانونية واستخدموه من العنف في تحصيلها كما تقدم، ومما وضعوه في أيامهم ضرائب الأسماك، وضعها محمد بن مروان في أثناء ولايته أرمينيا سنة 72ه
1
ونظنهم وضعوا أيضا أعشار السفن وهي العشور التي تؤخذ من المراكب المارة في البحار، وأخماس المناجم التي تحفر لاستخراج المعادن منها، وما زالت مصادر الجباية تزداد وتتفرع حتى أصبحت في أيام العباسيين عديدة ترجع إلى أحد عشر وهي: (1)
الصدقة أو الزكاة. (2)
الجزية. (3)
الخراج. (4)
المكوس (الفردة). (5)
الملاحات والأسماك. (6)
أعشار السفن. (7)
أخماس المعادن (أي المناجم). (8)
المراصد (الجمارك). (9)
غلة دار الضرب. (10)
المستغلات. (11)
ضرائب الصناعة وغيرها.
على أن العمدة في زيادة الثروة إنما هي على الخراج، حتى إنهم سموا مجموع الجباية خراجا بإطلاق البعض على الكل، فإذا قالوا خراج فارس مقداره كذا وكذا أرادوا مجموع جبايتها من كل الضرائب، وعليه فلنبحث أولا في الخراج وسبب كثرته في العصر العباسي الأول، ثم نلم بالضرائب الأخرى على وجه الاختصار. (1-1) أسباب كثرة الخراج
الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، ولكثرته في الدولة العباسية أسباب أهمها أربعة، وهي:
سعة المملكة العباسية
لما كان المعول في مقدار الجباية على الخراج، فجباية المملكة تتعاظم بزيادة مساحة أرضها وخصب تربتها، والمملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول كانت عظيمة الاتساع جدا، بل هي أوسع ممالك التمدن القديم (وخصوصا إذا اعتبرنا إسبانيا منها) إلا مملكة الإسكندر فربما قاربتها.
أما مساحة المملكة العباسية فتقديرها إنما يعرف من مساحات الممالك التي قامت مقامها اليوم، وهي:
مساحة المملكة العباسية (في القرن الثالث للهجرة)
أسماء البلاد
الدولة التابعة لها سنة 1903
مساحتها بالأميال
إيران كلها
شاه العجم
628000
أفغانستان
مستقلة
215000
بلوجستان
إنجلترا
130000
السند
إنجلترا
48000
تركستان روسيا فقط
روسيا
257000
بلاد القوقاز «تفليس»
روسيا
15300
أرمينية وكردستان
تركيا
72500
العراق، الجزيرة
تركيا
100205
سوريا، فلسطين
تركيا
109509
جزيرة العرب «منها»
تركيا
200000
القطر المصري
تركيا
400000
النوبة وبعض السودان
السودان
300000
طرابلس الغرب
تركيا
398000
جزائر الغرب
فرنسا
184500
تونس
فرنسا
51000
مراكش
مستقلة
219000
المجموع
3328014
فمجموع مساحة هذه المملكة 3328014 ميلا مربعا، وذلك نحو مساحة أوربا كلها، فخراج ممالك أوربا لو جباه المسلمون لم يزد على خراج مملكتهم، فاعتبر عدد تلك الممالك وفيها أعظم دول الأرض اليوم، فلو كان اعتماد تلك الدول في جبايتها على الخراج لما استقام أمرها، وإنما عمدتها على ضرائب المشروبات الروحية والجمارك كما تقدم.
على أن سعة المملكة العباسية لا تكفي وحدها لتعليل ثروتها؛ لأن المملكة العثمانية بلغت من السعة في أيام السلطان سليمان القانوني ما يقرب من سعة مملكة بني العباس، ومع ذلك فإن الجباية في أيامه لم تزد على 2843750 جنيها مصريا كما رأيت، وإنما ساعد الدولة العباسية على ذلك اهتمام الناس بالزراعة ونقل الضرائب وخصب الأرض وغير ذلك.
اشتغال الناس بالزراعة
قلنا في كلامنا عن بيت المال في عصر الأمويين إن عمالهم كانوا يسيئون إلى أصحاب الخراج من الرعايا، بما يستعملونه من العنف والعسف في تحصيلها، فتشاغل الناس عن الزرع فأهملت الأرض، وزادها إهمالا انتشاب الفتن والحروب في العراق وفارس وسائر أنحاء المملكة الإسلامية، ونقم الناس على حكومتهم وأبطلوا الزراعة نكاية فيها، ولقلة انتفاعهم بها، فأصبح معظم البلاد خرابا من الإهمال
2
وفيها الضياع والمزارع، فلما تولى العباسيون، ونشروا لواء العدل، وأحسنوا معاملة أهل الذمة والموالي، وأمنوهم على حقوقهم وأموالهم وأرواحهم، عاد الناس إلى الاشتغال بالزرع وغيره.
وكان للخلفاء الأولين من بني العباس عناية كبرى بتأييد الأمن وتعمير البلاد، ورعاية أهلها من الذميين والموالي، فالمنصور كان يتتبع العمال الظالمين ويأخذ أموالهم، ويستبدل بهم سواهم، ويضع ما يأخذه من أموالهم في بيت مال مفرد سماه بيت مال المظالم
3
وكان يبعث إلى الأطراف يسأل عن أسعار الغلة لئلا يظلم الناس بعضهم بعضا، ويبحث عن كل ما يقضي به القضاة أو يعمل به الولاة، وعما يرد إلى بيت المال وعن كل ما يحدث، فإذا رأى الأسعار تغيرت سأل عن السبب، وإذا شك في شيء مما قضى به القاضي سأله ووبخه،
4
وبعد أن كان الموالي كالأرقاء في أيام بني أمية أصبحوا في أيام العباسيين هم أهل الدولة وحماة الخلافة، يوصي الخلفاء بعضهم بعضا برعايتهم وخصوصا آل خراسان، فقد أوصى المنصور ابنه المهدي قائلا: «انظر إلى مواليك، فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك إذا نزلت بك، وأوصيك بأهل خراسان خيرا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك.
5
وكذلك فعل المأمون وغيره، وكان المنصور يشغل نهاره في النظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطف معهم مما يؤدي إلى اطمئنانهم وهدوئهم، ومن وصاياه لابنه المذكور: «يا بني لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل.»
وأدلة عدل الخلفاء العباسيين الأولين وتقواهم ورفقهم كثيرة، فقد كان المهدي يجلس للمظالم فينصف الناس من عماله وقضاته وأهله، وأخبار الرشيد في العدل أكثر من أن تحصى، وكان إذا ذكروا الظلم بين يديه بكى، من أمثلة ذلك أنه كان قد حبس أبا العتاهية وجعل عليه عينا يأتيه بما يقول، فرأوه يوما قد كتب على الحائط:
أما والله إن الظلم لؤم
وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
فأخبر بذلك الرشيد، فبكى وأحضره واستحله وأعطاه ألف دينار.
وله مع أبي العتاهية حديث أغرب من هذا، وهو أن الرشيد أولم وليمة ووضع طعاما، وطلب إلى أبي العتاهية أن يصف ما هم فيه من النعيم، فقال:
عش ما بدا لك سالما
في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهي
ت لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت
في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا
ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، فقال الفضل بن يحيى: «بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته!» فقال الرشيد: «دعه، رآنا في عمى فكره أن يزيدنا.»
6
وأمثلة ذلك كثيرة عن الرشيد والمأمون مما لا يستوعبه كتاب، فكيف لا يستتب الأمن في ظل هؤلاء؟! ولماذا لا تخصب الزراعة وتتسع التجارة في حمايتهم؟! وكيف لا يتقاطر الناس إلى جوارهم والاستهلاك في خدمتهم؟! وكيف لا تعمر البلاد في ظل العدل وهو ميزان نصبه الله بين عباده، فلا عمران إلا في ظله، ولا حياة إلا به؟! ولا يتم عز للسلطان إلا بالعدل، إذ لا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل إلى العمارة إلا بالعدل
7
والعدل أساس الملك.
ومما ساعد على عمران المملكة العباسية أن الخلفاء كانوا يبذلون جهدهم في تعمير ما تركه الأمويون خرابا من الضياع والمزارع، بتسليمها إلى من يصلحها ويعمرها
8
فضلا عما كانوا يبذلونه من العناية في شق الأنهر وإنشاء السدود وغيرها مما يسهل الري.
السواد
فعمرت بذلك البلاد وكثرت غلتها، وخصوصا السواد (أو العراق)، فإنه من أخصب بقاع الأرض، وإذا راجعت ما ذكرناه من جبايته رأيت خراجه 120000000 درهم، وذلك نحو ثلث خراج المملكة كلها، والسواد كثير الجباية من أيام الفرس، فقد جباه قباذ بن فيروز 150000000 درهم
9
وجباه كسرى بن قباذ 287000000 درهم
10
وجباه غيرهما من ملوك الفرس 120000000 درهم، سوى 3000000 من الوضائع لموائد الأكاسرة
11
كانوا يجبون ذلك على غير ظلم ولا عسف، ولكنهم كانوا يعتنون بالري فيحفرون الترع ويبنون السدود والجسور، ووادي الفرات - كما لا يخفى - كثير الشبه بوادي النيل من جملة وجوه لخصب تربته، وغزارة مائه، وهو يفيض مثله كل سنة ولكن الفرات ودجلة يجريان من الشمال إلى الجنوب ويفيضان في الشتاء، والنيل يجري من الجنوب إلى الشمال ويفيض في الصيف، ويحتاج السواد بعد كل فيضان إلى إصلاح ما تخرب من الجسور ونحوها بطغيان الماء.
وكان ماء دجلة يجري قديما عبر مجراه اليوم، أي أنه كان يجري مثل مجراه اليوم من بغداد جنوبا إلى المدائن فالدير فالعاقول فجرجرايا فجابول إلى ماذرايا، ومن هناك ينعطف غربا حتى يسير سيرا عموديا إلى فم الصلح فواسط، حتى يصب في البطائح حيث يلتقي بالفرات ومنها إلى دجلة العوراء بقرب البصرة، ومنها إلى خليج فارس قرب عبادان، ثم يجري بعد ذلك من ماذرايا شرقا، ثم ينعطف جنوبا شرقيا على ما هو عليه اليوم، وكان الفرات فرعين: أحدهما بجانب الكوفة، والآخر شرقيها، وكلاهما يصب في البطائح.
البطائح
والبطائح مستنقعات أو أرض كان يغمرها الماء في أسفل العراق بين البصرة والكوفة، وسببها أن دجلة انبثق في أيام قباذ بثقا كبيرا بقرب كسكر، فأغفل أمره حتى غلب ماؤه وأغرق كثيرا من الأرض العامرة التي كانت تليه وتقرب منه، فلما ولي أنوشروان العادل الشهير أمر بذلك الماء فزحم بالمسنيات (أي أقام الجسور على جانبي المجرى القديم) حتى عاد بعض تلك الأرض إلى العمارة، ثم خلفه ابنه برويز، وفي أيامه زاد الفرات ودجلة زيادة عظيمة (في السنة السادسة للهجرة) لم ير مثلها وانبثقت بثوق كبار، فجهد برويز أن يسكرها حتى ضرب أربعين سكرا في يوم واحد فلم يقدر على رد الماء، فظلت الحال على ذلك حتى جاء المسلمون لفتح العراق وشغل الفرس بالحرب، فكانت البثوق تنفجر ولا يلتفت إليها أحد ويعجز الدهاقين عن سدها، فعظم ماؤها واتسعت البطيحة وعظمت
12
ومع ذلك فقد كان خراج هذه الأرض المستنقعة كبيرا؛ فإن عبد الله بن دراج استغل منها 50000000 درهم في خلافة معاوية بن أبي سفيان،
13
لكنهم قلما عنوا بإصلاحها والانتفاع بالأرض المغمورة، فلما تولى الحجاج بن يوسف اشتغل بالحروب عن إصلاح الري، وفي أيامه انبثقت بثوق أخرى وكبرت البطائح، فكتب إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك بخبرها وأنه قدر للنفقة على سدها 3000000 درهم، فاستكثرها الوليد، فقال له أخوه مسلمة بن عبد الملك: «أنا أنفق على سدها من مالي على أن تعطيني خراج الأرض المنخفضة التي يبقى فيها الماء بعد إنفاق المال على أيدي ثقاتك.» فرضي الوليد بذلك فحصلت للوليد أرض وطساسيج كثيرة، فحفر نهرين سماهما السيبين وتألف الأكرة (أي عمال الأرض) والمزارعين وعمر تلك الأرض، واستخرج للوليد أيضا من البطائح ثم لهشام بعده مالا كثيرا، ثم جرى الناس على ذلك إلى أواخر بني أمية.
14
ولما أفضت الخلافة إلى العباسيين واتخذوا السواد مقر ملكهم، جعلوا همهم إحياء أرضه باحتفار الأنهر وإنشاء الجسور، حتى تشابكت الترع في السواد، وأصبح ما بين دجلة والفرات سوادا مشتبكا غير مميز، تخترق إليه أنهار من الفرات،
15
وقس على ذلك سائر أنحاء العراق، وهو لم يصر إلى هذا الخصب والرخاء إلا في أيام العباسيين لارتياح الناس إلى العمل، ورغبة الخلفاء في تعمير البلاد، مع قابلية الأرض لذلك.
خراسان
ومن البلاد التي زاد بها الخراج زيادة كبرى خراسان، فقد كانت أرضا خصبة بالإضافة إلى سعتها، ورغبة أهلها في نصرة الدولة العباسية وخراج خراسان نحو 40000000 درهم، إذا أضيف إلى خراج العراق بلغ المجموع نحو نصف جباية المملكة كلها ولذلك كانت عناية بني العباس في إبان دولتهم مبذولة في هذين البلدين وفي الحجاز، وكان يقال: أما العراق فللمال، وأما خراسان فللمال والرجال، وأما الحجاز فهو مصدر الثقة في الخلافة وتثبيت البيعة، وعمران خراسان في ذلك الوقت مما لا ريب فيه، قال المقدسي في عرض كلامه عن مدائن العراق، وقد أطنب في عمرانها: «فهذه مدن بغداد، وبخراسان قرى كثيرة أجل من أكثر هذه المدن.»
16
وكثيرا ما كان الخلفاء العباسيون يعدون خراسان المملكة كلها.
17
ويدخل في ولاية خراسان بلاد ما وراء النهر، وهي كثيرة الخصب جدا، قال ابن حوقل: «ولم أر ولم أسمع في الإسلام بظاهر بلد أحسن من ظاهر بلد بخارى؛ لأنك إذا علوت قندهار لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على مغارس تتصل خضرتها بلون السماء، وكأن السماء قبة زرقاء على بساط أخضر، تلوح القصور ما بين ذلك كالتراس اللمطية أو كالكواكب العلوية بياضا ونورا من أراضي ضياع مقومة بالاستواء كوجه المرآة.» قال: «والمشار إليه من متنزهات الأرض: صفد سمرقند ونهر الأبلة وغوطة دمشق.»
18
ناهيك بعمران سائر المدن الإسلامية في ذلك العصر الزاهر.
مصر
ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية ، فإن العدالة توطد دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل، فتعمر البلاد، ويرفه أهلها، ويكثر خراجها، اعتبر ذلك بمصر وتاريخ جبايتها، فقد كان عدد سكانها عند الفتح الإسلامي نحو 20000000 نفس على ما أجمع عليه مؤرخو العرب، ويستبعد أهل زماننا إمكان هذا.
وأكثر منهم استغرابا أهل أوائل القرن الماضي، فقد ذكر الدكتور كلوت (بك) تقدير العرب لسكان وادي النيل أنه عشرون مليونا، وعقب عليه بأنه «بعيد الاحتمال؛ لأن طبيعة الأرض لا تحتمل أن يزيد عدد سكانها على ثلث هذا القدر»،
19
وقد رأينا اليوم أنه زاد على نصفه، ولا يزال آخذا في الزيادة.
أما كلوت (بك) فإنه أعظم ذلك؛ لأن إحصاء هذا القطر كان على عهد كتابه (سنة 1840) 3000000 نفس فقط، على أنه لما ذكر هذا الإحصاء أظهر إعجابه بزيادة سكان وادي النيل في عهد محمد علي عما كانوا عليه في أيام المماليك.
أما في أيام الأمراء المماليك قبله فلم يكن يزيد عدد سكان مصر على 2000000 نسمة، ولا نظن الأرض المزروعة فيها كانت تزيد على مليون فدان وبعض المليون بالنظر إلى ما كان يقاسيه المصريون من استبداد الأمراء المماليك، فلما استقرت الأحوال في العصر الحديث تزايد السكان واتسعت مساحة الأرض المزروعة حتى بلغت الآن 5500000 فدان (سنة 1903) وسكانها نحو عشرة ملايين وهم آخذون في الزيادة، وبالطبع إن مقدار الجباية يزداد بزيادة العمران وكثرة السكان، وهما لا يكونان إلا في ظل العدل الصحيح، اعتبر ذلك في جباية مصر بالنظر إلى الدول والعصور فترى أنها تمشت على هذه القاعدة تماما:
كانت جباية مصر في زمن الراشدين أعلى ما بلغت إليه في الإسلام، فقد جباها عمرو بن العاص في زمن عمر بن الخطاب 12000000 دينار ومساحة الأرض للزراعة على تقديرهم 30000000 فدان، وجباها عبد الله بن سعد في أيام عثمان 14000000 دينار، ولكنه استعمل العنف في تحصيلها،
20
فلما كانت أيام بني أمية وكان ما كان من ظلم العمال وعنفهم انحطت الجباية، ولم تزد في أيامهم على 3000000 دينار إلا في أيام ابن الحبحاب على عهد هشام بن عبد الملك فبلغت 4000000 دينار؛ لأنه بذل الجهد في تحصيلها وتعديلها وزاد الخراج، فلما كانت الدولة العباسية لم تزد الجباية كثيرا لبعد مصر من دار الخلافة يومئذ فظلت على نحو ما كانت عليه في أيام بني أمية، ولما أخذت الدولة العباسية في التقهقر زاد انحطاط الجباية في مصر حتى أصبح في بعض سني القرن الثالث للهجرة 800000 دينار، فلما تولاها ابن طولون سنة 257ه استقصى عمارتها فبلغت جبايتها في أيامه 4000000 دينار مع رخاء الأسعار، وكان القمح كل عشرة أرادب بدينار
21
فلما انقضت دولة بني طولون والدولة الإخشيدية ودخلت مصر في حوزة الفاطميين سنة 363ه جباها جوهر القائد 7000000 دينار
22
لكنه لم يستطع ذلك إلا بزيادة الخراج على الأفدنة، ثم عادت الجباية فانحطت وارتقت تبعا لما تناوب عليها من الدول مما يطول شرحه.
وآخر عهدنا بانحطاطها على أيام الأمراء المماليك في أواخر القرن الثامن عشر - كما تقدم - إذ كانت جبايتها قليلة جدا مع كثرة الضرائب والتشديد في تحصيلها، وإليك ميزانية الحكومة المصرية سنة 1213ه/1798م:
ميدة أو نصف
الوارد
80460068
مال الميري على القرى والأوقاف
10870773
مال الميري على الإيراد
22811805
مال الميري على الصنائع والمأكولات
2509081
مال الميري على الرؤوس
116651727
مجموع الوارد
الخارج
2939247
نفقات كبار الموظفين
29772657
نفقات الجند
2653585
نفقات مختلفة
8438994
نفقات العلماء والتعليم ووقفيات
13892139
نفقات رجال الدين والجوامع ونحوها
42071654
نفقات الحج
99868276
مجموع الخارج يستخرج من مجموع الوارد أعلاه
16773451
الباقي
والباقي المشار إليه كانوا يسمونه الخزنة، وكانوا يحملونها إلى الأستانة كل سنة، ولما تمرد حكام مصر، حاول بعضهم إسقاطها، والبعض الآخر تخفيضها، ثم انتهت أخيرا إلى أن يقتطعوا منها 9283451 نصفا في مقابل نفقات فوق العادة على هذه الصورة:
ميدة أو نصف
3000000
ترميم قلاع القاهرة
1500000
ترميم قلاع سائر القطر
2000000
أثمان سكر وخلافه
2783451
نفقات أخرى يأمر بها شيخ البلد
9283451
الجملة
فإذا أسقط هذا المال من الخزانة المذكورة كان الباقي 7500000 ميدة.
23
وخلاصة ما يهمنا في هذا المقام أن مجموع الإيراد في عصر المماليك بلغ 116651727 نصفا، أو ميدة، والميدة في تلك الأيام كانت تساوي أربعة سنتيمات تقريبا
24
أو كل 28 نصفا تساوي 4 قروش و375 من ألف من القرش، فجباية مصر يومئذ قيمتها بالقروش نحو 18156250 قرشا.
غير أن قيمة نقود تلك الأيام كانت تختلف عن قيمتها اليوم، وقياس ذلك الاختلاف أسعار المأكولات؛ فقد كان ثمن الرطل من اللحم الضاني سبعة أنصاف وثمن إردب القمح 240 نصفا
25
فإذا قسنا ذلك بأثمانها في هذه الأيام رأينا الميدة أو النصف يقابل نصف القرش المصري تقريبا، فتكون جباية مصر في عصر المماليك تساوي نحو 58000000 قرش مصري أو 580000 جنيه، فلما تولتها العائلة الخديوية أخذت جبايتها في الزيادة حتى بلغت في العام الماضي (1907) 11850000 جنيه، أي أكثر من عشرين مرة من جبايتها في أيام المماليك، والتربة واحدة، والنيل واحد، والفصول على حالها.
ثقل الخراج المضروب
كان الخراج المضروب على الأرض في المملكة العباسية يختلف نوعه باختلاف البلاد، فبعضها بالمساحة، أي أن يضربوا على المساحة المعلومة من الأرض مالا معينا في العام، سواء زرعت تلك الأرض أم لم تزرع، والبعض الآخر بالمقاسمة، أي أن يكون الخراج جزءا من حاصل الأرض بعد زرعها واستغلالها، فما لم يزرع لا يطالب بخراجه، وكل من خراج المساحة والمقاسمة درجات وفئات سيأتي بيانها، ولما كان السواد (أو العراق) أهم أقاليم المملكة العباسية بالنظر إلى الخراج بدأنا به.
السواد
كان السواد لما فتحه المسلمون يجبى بالمساحة باعتبار «الجريب»، وهو قطعة من الأرض مساحتها ستون ذراعا في ستين أي 3600 ذراع مربع، فكل ما كانت مساحته جريبا كان الفرس يأخذون عليه قفيزا (أي محصول قفيز من الأرض عينا) ودرهما
26
والقفيز عشر الجريب (أي 360 ذراعا بلديا مربعا، وهم يقولون القفيز ويريدون غلته، أي أنهم كانوا يأخذون عشر المحصول كله عينا؛ لأن القفيز عشر الجريب وزيادة على ذلك درهما نقدا عن الجريب) ويعبرون عن القفيز وزنا بثمانية أرطال، ويقدرون قيمته ثلاثة دراهم
27
وكانت ضريبة الخراج بالقفيز معروفة في الجاهلية، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
تغل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
فإذا اعتبرنا القفيز بثلاثة دراهم كان الجريب بثلاثين درهما، يؤخذ عليه أربعة دراهم أي نحو 13 وثلث في المئة، وهو خراج خفيف جدا، لولا أن كثيرا من الأجربة تبقى بلا زرع ويدفع أصحابها الخراج عنها.
فلما فتح السواد على عهد عمر بن الخطاب، وعلم بما كان الفرس يجبونه، أمر بمساحته فمسحوه وعدلوه باعتبار نوع الغرس، وخلاصة ذلك: أنه أبقى الخراج على الحنطة كما كان في أيام الفرس، أي على الجريب قفيز ودرهم أو أربعة دراهم، وجعل على الجريب من الكرم عشرة دراهم، ومن النخيل ثمانية دراهم، ومن القصب ستة دراهم، والرطبة خمسة دراهم، وعلى الشعير درهمين، وعلى الرأس من الناس 12 درهما أو 24 أو 48 درهما، وأخرج من ذلك النساء والصبيان
28
وكان العمال يجبون السواد لعمر 12000000 درهم باعتبار أنه 30000000 جريب، وظل السواد في أيام الراشدين عامرا وأكثره مزروعا، فلما كانت الفتنة بعد مقتل عثمان، واشتغل المسلمون بالحروب إلى أيام بني أمية، واستصفاء الأموال في أيام معاوية والحجاج وغيرهما، اشتغل أهل السواد عن الزرع كما تقدم، ومع ذلك فإن الحجاج جباه نحو جبايته في أيام عمر، ولا بد أنه استخدم العسف والشدة في ذلك؛ لأن صاحب الأرض كان يطالب بالخراج عن أرض لم يزرعها، فإذا لم يؤد ما عليها ظل عليه الخراج دينا عاما بعد عام، فيتراكم ذلك على أصحاب الأرض وهم يزدادون ضنكا، فخربت البلاد وهجرها أهلها، وجرى على ذلك معظم عمال العراق بعده حتى اضطر أصحاب الأرض إلى الإلجاء كما سيأتي، ناهيك بما كان في نفوس أهل السواد وغيرهم من كره بني أمية لتعصبهم للعرب، واحتقارهم لغير العرب ولو كانوا مسلمين.
فلما أفضت الخلافة إلى العباسيين سنة 132ه، وجهوا عنايتهم إلى السواد، بنوع خاص، وأول من فعل ذلك منهم المنصور، فإنه نظر في السواد فإذا هو يكاد يكون خرابا للأسباب التي قدمناها، فرأى أن من الظلم استبقاء الخراج عليه بالمساحة على تلك الصورة، فجعل خراج الحنطة والشعير مقاسمة (وهما أكثر غلات العراق) أي أن يؤخذ خراج الأرض من غلتها إذا زرعت، فإذا لم تزرع لا يؤخذ منها شيء، وأبقى اليسير من الحبوب والنخل والشجر من الخراج بالمساحة،
29
ولا ندري كم جعل حصة بيت المال من المقاسمة المذكورة، ولكننا نعلم أن ابنه المهدي (من سنة 156-169) عين ذلك وحدده فجعل المقاسمة بالنصف في الأرض التي تسقى سيحا أي بدون تعب، وبالثلث في الأرض التي تسقى بالدوالي وبالربع في الأرض التي تسقى بالدواليب، وأبقى خراج النخل والكرم والشجر على المساحة (أي تركه يحسب على أساس المساحة المزروعة) وفضل بعضه على بعض باعتبار قربه من الأسواق والعرض، أشار عليه بذلك وزيره معاوية بن يسار،
30
فكان خراج العراق عبارة عن نصف غلته تقريبا؛ لأن أكثره يسقى سيحا، وهو خراج ثقيل، ولكن الناس عدوه يومئذ فرجا ورحمة.
ويظهر أن الهادي أو الرشيد زاد على ذلك الخراج العشر، فصار خراج العراق نصف غلته وعشرها أي ستة أعشارها، وظل ذلك شأنها إلى سنة 192ه فأسقط الرشيد العشر وأبقى النصف فقط
31
وما زال أهل السواد يدفعون نصف غلتهم خراجا إلى سنة 204ه فجعلها المأمون خمسين
32
فكأنه أسقط عشرين في المائة من مقدار الخراج، وخفض خراج بعض البلاد الأخرى غير السواد كالري، فإنه جاءها سنة 210ه فأقام فيها مدة، وأمر بتخفيف الخراج عنها، فلما انصرف وبلغ أهل (قم) ذلك طلبوا إليه أن يحط خراجهم كما فعل بالري فأبى، فتمردوا وامتنعوا عن أداء الخراج وكان مقداره 2000000 درهم فحاربهم المأمون وجباه في ذلك العام 7000000 درهم تأديبا لهم.
33
فترى مما تقدم أن خراج السواد كان ثقيلا بالنظر إلى ما كان عليه في أيام الراشدين على المساحة؛ لأنهم كانوا يأخذون على الجريب أربعة دراهم ونسبة الجريب إلى الفدان كنسبة 1260 : 4200 أو نسبة 100 : 333 وثلث، فإذا كان على الجريب 4 دراهم كان على الفدان 13 وثلث، وهو خراج زهيد بالنظر إلى ما يبقى بورا فهو كثير، وربما كان المعدل في الحالين واحدا، يدلك على ذلك أن الفرق في ارتفاع الخراج بين المساحة في أيام الراشدين والمقاسمة في إبان كثرتها لا يعتد به، أما بالنظر إلى هذه الأيام (سنة 1903م) فإن ضرائب السواد ما زالت حتى في أيام المأمون تعتبر ثقيلة بالنسبة إليها؛ إذ ليس في العراق الآن أرض يزيد خراجها على خمس غلتها، وفيها جانب كبير يؤخذ منه العشر فقط، وفي لبنان ظاهر الخراج على المساحة ولكنه مؤسس على المقاسمة؛ لأنهم مسحوا الأرض وقسموها باعتبار ما يحصل من غلتها باختلاف المغروسات، فالأرض التي غلتها كيل زيتون أو حمل ورق توت أو بذار مد قمح أو ما تساوي قيمته 360 قرشا سموها سهما، وفرضوا على السهم 21 قرشا إلا ربع قرش، فيكون الخراج 6 في المائة فقط.
مصر
ويلي العراق في الخصب مصر، وكان خراجها على المساحة باعتبار الفدان وهو قطعة من الأرض كانت مساحتها عندهم 400 قصبة، والقصبة خمسة أذرع بذراع النجار وستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش.
34
وفي تعريف الحكومة المصرية اليوم الفدان
قصبة، والقصبة 3,55 من المتر المربع، وبتحويله إلى أمتار مربعة يكون الفدان نحو 4200 متر مربع، وقد تزيد أو تنقص قليلا.
35
وقد تقدم ما كان يقاسيه المصريون في عهد بني أمية من العسف وزيادة الضرائب، فدخلت الدولة العباسية مصر وأكثرها خراب لما كان يسوم أهلها عمال بني أمية من زيادة الخراج، وأشهر من فعل ذلك منهم عبيد الله بن الحبحاب في أيام هشام بن عبد الملك، فإنه زاد على القبط قيراطا في كل دينار كما تقدم، فآل ذلك إلى ثورة كبرى، على أن الثورات كانت تتوالى في مصر بسبب ضغط العمال، فلما تولى العباسيون بعثوا إليها العمال، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون رعاية أعمالهم، وملاحظة سيرهم، كما كانوا يلاحظون سير عمال العراق؛ لبعد وادي النيل عن مركز خلافتهم، فكان العمال حتى في صدر الدولة العباسية يضاعفون الخراج، ويشددون في تحصيله، كما فعل موسى بن علي سنة 156ه في أواخر أيام المنصور، وموسى بن صعب في أيام المهدي، فإنه ضاعف الخراج وشدد في استخراجه
36
وربما كان ذلك بإيعاز الخليفة؛ لأن المهدي زاد الخراج على أهل العراق كما رأيت.
أما في أيام المأمون أي في إبان الثروة الإسلامية فقد كان الخراج المضروب على مصر دينارين عن كل فدان،
37
وذلك كثير بالنظر إلى ما يؤخذ منها الآن، إذا اعتبرنا الفرق في السعر بين تلك الأيام واليوم؛ لأن الخراج المضروب على أطيان مصر الخراجية (وهي الجانب الأكبر) يختلف مقداره اليوم باختلاف خصبها، وهو وإن كان على المساحة فأساسه المقاسمة؛ لأنهم قسموا القطر المصري إلى نواح يختلف خراجها باختلاف خصبها.
وأخصب النواحي لا يزيد خراج الفدان فيها على 180 قرشا،
38
وأمثال هذه الفدادين قليل جدا، وأما الأكثر فخراجه حوالي مائة قرش، وفيها ما خراجه عشرون قرشا، أو عشرة قروش، وإذا اعتبرنا غلة الأرض بالنظر إلى خراجها، رأينا الخراج لا يزيد على خمس الغلة بوجه التقريب؛ لأن الفدان الذي تقدير خراجه مائة قرش مثلا يضمن بخمسة جنيهات أو ستة.
وإذا استخرجنا معدل خراج مصر على كل الفدادين، رأينا معدل خراج الفدان لا يزيد على 85 قرشا؛ لأن في القطر المصري نحو 5500000 فدان زراعي بلغ مقدار خراجها للسنة الماضية (1902) 4652570 جنيها
39
فيلحق الفدان الواحد نحو 85 قرشا، وقد تقدم في غير هذا المكان أن القرش اليوم يساوي ثلث قرش تلك الأيام، فالديناران خراج الفدان في أيام المأمون يساويان ستة دنانير في هذه الأيام أو ثلاثة جنيهات، فيكون خراج مصر في أيام المأمون يزيد على ثلاثة أضعافه في هذه الأيام (سنة 1903).
ولكن يظهر أن الخراج في مصر زاد بعد المأمون، حتى بلغ في أواسط القرن الرابع للهجرة لما جاءها القائد جوهر وفتحها باسم الخلفاء الفاطميين ثلاثة دنانير ونصفا، فجعلها هو سبعة دنانير
40
وذلك شيء كثير.
وقد رأينا في كتاب أحسن التقاسيم للمقدسي أنه: «ليس على مصر خراج، ولكن يعمد الفلاح إلى الأرض فيأخذها من السلطان ويزرعها، فإذا حصد ودرس وجمع رشمت بالعرام وتركت، ثم يخرج الخازن وأمين السلطان فيقطعان (أي يأخذان) كرى الأرض ويعطيان ما بقي للفلاح»، ولكن ذلك كان خاصا بالأرض التي كانت الحكومة تقبلها أي تضمنها وليس لها مالك، وقد تكون في الأصل لبعض القواد أو العمال من الروم الذين قتلوا في الحرب أو هربوا، فبقيت حلالا لبيت المال كما تقدم، فيضمنها الحاكم ويأخذ ضمانتها عينا أو نقدا.
بلاد أخرى
وهناك بلاد بعضها كان يجبى بالمساحة، والبعض الآخر بالمقاسمة، فبلاد فارس مثلا كان خراجها على ثلاثة أصناف: (1) المقاسمة، (2) المساحة، (3) القوانين، وهي المقاطعات (أي الإقطاعات)، على أن أكثر بلاد فارس على المساحة، وتختلف الأخرجة فيها باختلاف البلاد فأثقلها في شيراز
41
فإن خراج الجريب حنطة أو شعيرا 190 درهما والجريب من الأرطاب والمباطخ 237 ونصف درهم، ومن القطن 256 درهما وأربعة دوانق، ومن الكرم 1425 درهما، ولكن الجريب عندهم كبير أي سبعون ذراعا بذراع الملك، وهو تسع قبضات
42
فإذا فرضنا أن الجريب جريبان من أجربة العراق فالخراج مع ذلك لا يزال ثقيلا جدا، وهو خراج تلك البلاد في أواسط القرن الرابع، ولم نقف على مقداره في أيام المأمون.
ومن هذا القبيل خراج المغرب في أيام الأغالبة، فقد بلغ خراج الفدان في أيام عباس بن إبراهيم بن الأغلب 18 دينارا
43
ولا نظن مثل هذا المال يطول اقتضاؤه من أصحاب الأرض، وإنما هو يختلف باختلاف الأعوام والأحوال.
وجملة القول أن الخراج كان في العصر العباسي الأول ثقيلا، ومع ذلك لم يكن يعسر اقتضاؤه، وقلما شكا الناس ثقله، وربما استطاع العامل أن يجمع الملايين من الدراهم بسهولة في بضعة أيام، كما اتفق للمأمون لما مر بدمشق وكان أخوه المعتصم عاملا له عليها، وقد قل المال مع المأمون فشكا ذلك إلى المعتصم فقال: «يا أمير المؤمنين كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة.» فجاءه بثلاثين ألف ألف درهم (30000000) من خراج ما يتولاه له ففرق معظمه وهو واقف.
44 (2) سائر مصادر الجباية
على أننا لا نرى بأسا من الإشارة إلى ما بقي من مصادر الجباية في العصر العباسي الأول لتتمة الموضوع - منها: (1)
أعشار السفن:
هي ضريبة ذات بال، كان يرد منها إلى بيت المال مبالغ وافرة، لم نعثر على تفصيلها ولا وقفنا على مقدار ما كان يجبى منها في العصر العباسي، ولكن يؤخذ مما نعلمه من اتساع التجارة في تلك الأيام، بين العراق وسائر أقطار الدنيا حتى الهند والصين، أن السفن كانت كثيرة وأحمالها ثمينة، وقد ذكروا تاجرا واحدا من تجار البصرة في القرن السادس للهجرة اسمه حسن بن العباس، له مراكب تسافر إلى أقصى بلاد الهند والصين، بلغ مقدار ما يتحصل من ضرائبها 100000 دينار في العام
45
فاعتبر ذلك وقس عليه غيره في البصرة وغيرها من ثغور الإسلام، وفيها ما يكون أكثر دخله من أعشار السفن، فقد كان ضمان أعشار المراكب في عدن في القرن الرابع 200000 دينار،
46
وضمانها في القرن السادس 114000 دينار
47
والظاهر أن جباية تلك الأعشار كانت في العصر العباسي أقل مما صارت إليه بعد ذلك؛ لأننا نرى في جريدة علي بن عيسى التي كتبها للخليفة المقتدر سنة 306ه أن ضرائب المراكب في البصرة بلغت 22575 دينارا، وقد تقدم أن أضعاف ذلك كان يتحصل من أحد تجارها بعد قرنين. (2)
أخماس المعادن:
كانت المعادن عندهم ضربين: ظاهرة، وباطنة، فالمعادن الظاهرة ما كان جوهرها المستودع فيها بارزا، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، فهذه لا يجوز إقطاعها؛ لأنها كالماء والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه (ومن قبيل ذلك أراضي المراعي والكلأ والآجام)، وأما المعادن التي في باطن الأرض فهي ما كان جوهرها مستكنا فيها، فهذه كانت الحكومة تقطعها لمن يستخرجها، ولها الخمس مما يخرج منها،
48
ونظرا لسعة المملكة العباسية فقد كانت المناجم فيها عديدة، ومنها الذهب والفضة والنحاس والزئبق والفيروز والزبرجد وغيرها، وهاك أمثلة منها ومن أماكن وجودها:
كانت في خراسان معادن الذهب والفضة والفيروز والرخام وطين الختم والنوشادر والزئبق
49
وفي ما وراء النهر معادن الذهب والفضة والزئبق لا يكاثره معدن في الغزارة والكثرة
50
وفي بلاد فارس عامة المعادن: الفضة والحديد والأنك والكبريت والنفط والصفر والزئبق، وبغربي أصبهان معدن الكحل
51
وفي كرمان مدينة اسمها دمندان كان فيها أكثر معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والنوشادر والصفر
52
ومن هذا القبيل مغاوص المرجان بسواحل إفريقيا الشمالية، وهو شيء كثير كانوا يوسقون من منجم واحد منه خمسين قاربا أو أكثر، وفي كل قارب عشرون رطلا
53
وفي سوريا معادن الحديد، كانت بجوار بيروت، والمغرة الجيدة في حلب وجبال الحمر في مكان آخر، ومعدن الرخام في فلسطين، ومعدن الكبريت في الأغوار
54
وفي مصر معادن الشب بالصعيد، وكانت العربان تحضره من مناجمه إلى ساحل أخميم وأسيوط والبهنسا، ويحمل منه إلى الإسكندرية أيام النيل، وكانوا يبيعون منه تجار الروم نحو 12000 قنطار بسعر أربعة دنانير لكل قنطار إلى ستة، وكذلك النطرون في البر الغربي للنيل وفي غيره كان يستخرج منه كل سنة 10000 قنطار، وكان يضمن في بعض الأحوال ضمانا تبلغ قيمته 15500 دينار.
55
وفي النوبة مما يحاذي أسوان معدن الذهب المشهور، قال ابن حوقل: «والمعدن ليس من أرض مصر، ولكنه في أرض البجة وينتهي إلى عيذاب، والمعدن أرض مبسوطة لا جبل فيها وهي رمال ورضراض ومجمع تجارهم العلاقي.»
56
وفي بلاد الغرب مما يلي سجلماسة معادن الذهب والفضة، وكذلك في ما وراء ذلك إلى بلاد السودان،
57
وكان في صعيد مصر جنوبي النيل (كذا) معدن الزبرجد في برية منقطعة عن العمارة،
58
وفي البحرين بخليج فارس مغاوص اللؤلؤ، وفي صنعاء مناجم العقيق وبين ينبع والمروة معادن الذهب، وعلى شواطئ عدن ومخا (في اليمن) العنبر.
59
هذه أمثلة مما كان في المملكة العباسية من المعادن تمثيلا لما كان يجبى من أخماسها إلى بيت المال، وكانوا يقطعون هذه المعادن إقطاعا أو يضمنونها تضمينا بمال معين، وقد يكون ذلك المال كثيرا، من أمثلة ذلك أن معادن الفيروز في نيسابور بلغت ضمانتها في أواسط القرن الرابع للهجرة 758720 درهما.
60 (3)
الجزية والزكاة:
كانت الجزية في صدر الإسلام كثيرة، ثم تناقصت بدخول الناس في الإسلام، والزكاة كان لها شأن كبير في أول الإسلام، ثم قلت أهميتها، وسيأتي بيان ذلك. (4)
المكوس والمراصد:
وهما تقابلان الجمارك والعوائد في هذه الأيام، وكانوا يأخذون ضريبة من كل تجارة واردة في البحر أو البر، مهما يكن نوعها من الأنسجة أو المحصولات أو المصنوعات أو الرقيق أو غيره، وكان يحصل لهم من ذلك مال كثير، ولا نعلم مقدار ما كان يجمع منه، ولكن يظهر أنها كانت تختلف باختلاف الزمان والمكان، وربما اختلفت في البلد الواحد باختلاف الزمان، وفي الزمن الواحد باختلاف البلاد مما لا يمكن حصره، وإنما نأتي بما شاهده شمس الدين المقدسي بنفسه في مصر في أواسط القرن الرابع للهجرة من الضرائب التي كانت تؤخذ في تنيس ودمياط، قال: «وأما الضرائب فثقيلة بخاصة تنيس ودمياط وعلى ساحل النيل، وأما الثياب الشطوية فلا يمكن القبطي أن ينسج شيئا منها إلا بعد ما يختم عليها بخاتم السلطان، ولا أن تباع إلا على يد سماسرة قد عقدت عليها، وصاحب السلطان يثبت ما يباع في جريدته، ثم تحمل إلى من يطويها، ثم إلى من يشدها بالقشر ثم إلى من يشدها في السفط، وإلى من يحزمها، وكل واحد منهم له رسم يأخذه، ثم على باب الفرضة (أي الميناء) يؤخذ شيء، وكل واحد يكتب على السفط علامته، ثم تفتش المراكب عند إقلاعها، ويؤخذ بتنيس على زق الزيت دينار ومثل هذا وأشباهه، ثم على شط النيل بالفسطاط ضرائب ثقال، رأيت بساحل تنيس ضرائبيا جالسا قبل قبالة هذا الموضع (يجمع) في كل يوم ألف دينار، ومثله عدة على سواحل البحر في الصعيد وساحل الإسكندرية، وبالإسكندرية أيضا على مراكب الغرب، وبالفرما على مراكب الشام، ويؤخذ بالقلزم من كل حمل درهم.»
61
وذكر ابن حوقل: أنه كان يتحصل مما يخرج من أذربيجان إلى نواحي الري ولوازم على الرقيق والدواب، وأسباب التجارات والأبقار والأغنام 1000000 درهم في السنة.
62
على أن هذه الضرائب وأمثالها لم يكن لها رواج في أوائل الدولة العباسية، ولا كانت غلتها تستحق الذكر، ولكن دخلها تعاظم في عصر الاضمحلال. (5)
المستغلات وغلة دار الضرب:
يراد بالمستغلات ما يجبى لبيت المال من أسواق أو منازل أو طواحين، ابتناها الناس في أرض تربتها للسلطان (أي يملكها السلطان) فيؤدي عنها أجرة
63
وذكر ابن خرداذبة مبلغ غلات الأسواق والأرحاء ودور الضرب في مدينة السلام بغداد 1500000 درهم في السنة ،
64
وبلغت غلات ومستغلات سامرا وأسواقها 10000000 درهم في السنة.
65
فالدولة العباسية في إبان زهوها كانت تجبي من هذه الضرائب شيئا كثيرا، ولكن العمدة كانت على الخراج كما تقدم. (2-1) صدق العمال في إرسال المال المجموع
قد رأيت مما ذكرناه من جور عمال بني أمية أنهم كثيرا ما كانوا يستأثرون بالخراج لأنفسهم، إما بإذن الخلفاء كما فعل عمرو بن العاص بمصر إذ جعلها معاوية طعمة له في مقابل نصرته على علي، أو بحجة الحاجة إلى المال في الحروب كما حصل في أيام الحجاج، أو استرضاء لعامل متمرد التماسا لقعوده (أي سكوته وطاعته)،
66
أو أن يعصي العامل بالخراج لغير سبب كما فعل مسلمة بن عبد الملك في ولايته على العراق في أيام أخيه يزيد
67
فإن «يزيد» استحيى أن يطالبه بالخراج؛ ولعله خاف عصيانه، ناهيك بما كان يكتمه العمال عن خلفائهم من أموال الفيء والغنائم وهي من حق بيت المال، وقد يذكرونها ويطمعون فيها كما فعل يزيد بن المهلب بعد فتحه جرجان سنة 98ه، فإنه أصاب مالا كثيرا بقي منه لبيت المال 6000000 درهم، كتب عنها للخليفة لكنه استبقاها لنفسه،
68
ذلك ونحوه دعا الخلفاء في بعض الأحوال إلى أن يستخرجوا المال من عمالهم بالقوة كما تقدم.
أما بنو العباس، فقد كان معظم عمالهم في أوائل الدولة من أهلهم الأقربين، ثم استعملوا أنصارهم الفرس، وهم أكثر الناس رغبة في قيام دولتهم، وكان الخلفاء من الجهة الأخرى لا يقصرون في زيادة رواتبهم حتى بلغت في أيام المأمون ثلاثة ملايين درهم
69
وهي عمالة (بكسر العين وهي المرتب) الفضل بن سهل على المشرق، ولم يدرك مثلها أحد من عمال بني أمية؛ لأن أكبر راتب اقتضاه عمالهم لم يزد على 600000 درهم، وهي عمالة يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق.
70
ومما ساعد بني العباس في أوائل دولتهم على حفظ نظام أعمالهم، وإجماع العمال على ولائهم سداد رأي وزرائهم، وخصوصا البرامكة، فإنهم كانوا واسطة عقد تلك الدولة، وزهرة تمدنها، وكذلك كان الفرس على الإجمال؛ لأنهم كانوا يعدون استيلاء بني العباس عليهم رحمة من الله كانوا يتوقعونها منذ أعوام للتخلص من بني أمية واحتقارهم إياهم.
وهناك أسباب أخرى لكثرة جباية الدولة في أيام المأمون؛ كقلة الحروب والفتن، فإنها مذهبة للأموال، مضيعة للخراج، مفسدة للأعمال، لاشتغال الناس عن الزراعة والتجارة وإنفاق الأموال في الجند. (3) أسباب قلة النفقة
فرغنا من الكلام عن أسباب كثرة الخراج في الدولة العباسية بالقياس على أيام بني أمية، وهذه الأيام (سنة 1903) وهي القسم الأول من أسباب الثروة العباسية، فلنأت إلى القسم الثاني وهو قلة النفقة، وأهم أسبابها ثلاثة: (3-1) قلة الموظفين
يختلف عدد الموظفين في مصالح الحكومة باختلاف نمط تنظيمها، ويقال بالإجمال: إنهم أقل عددا في الحكومات الاستبدادية منهم في الحكومات المقيدة؛ لاستغناء الحكم المطلق عن تدوين كل شيء وضبطه لمراجعة النظر فيه، اعتبر ذلك في المحاكم القضائية، ومقدار الفرق بين عدد موظفيها في عهد الأحكام العرفية، وبينهم في عهد الأحكام القانونية، وقس عليه سائر مصالح الحكومة والسبب فيها متشابه، ويكفي لبيان هذا الفرق مقابلة عدد موظفي الحكومة المصرية قبل نظامها الحالي بعددهم اليوم.
كانت حكومة مصر قبل دخول الفرنسيين إليها (في أواخر القرن الثامن عشر) لا تزال على نحو ما رتبها عليه السلطان سليم الفاتح وابنه السلطان سليمان.
وخلاصة ذلك أن رئيسها (الباشا) وهو الوالي المرسل من الأستانة يليه 24 بيكا (طلبه خانه) منهم 12 يتولون المصالح الكبرى في القطر؛ وهم: (1)
الكخيا: وهو نائب (الباشا) وكاتم س