مقدمة
مقدمة الطبعة الروسية
1 - قراصنة العالم القديم
2 - قراصنة بحار الشمال
3 - القراصنة البربر
4 - القرصنة في البحر الكاريبي
5 - قراصنة بحار أمريكا الشمالية
6 - قراصنة المحيط الهندي
7 - قراصنة بحار الجنوب
8 - قراصنة الشرق الأقصى
9 - قراصنة زماننا
10 - القراصنة والقانون
مقدمة
مقدمة الطبعة الروسية
1 - قراصنة العالم القديم
2 - قراصنة بحار الشمال
3 - القراصنة البربر
4 - القرصنة في البحر الكاريبي
5 - قراصنة بحار أمريكا الشمالية
6 - قراصنة المحيط الهندي
7 - قراصنة بحار الجنوب
8 - قراصنة الشرق الأقصى
9 - قراصنة زماننا
10 - القراصنة والقانون
تاريخ القرصنة في العالم
تاريخ القرصنة في العالم
تأليف
ياتسيك ماخوفسكي
ترجمة
أنور إبراهيم
مقدمة
اعتدت منذ أيامي الأولى في البعثة إلى الاتحاد السوفييتي، للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة موسكو الحكومية، أن أزور المكتبات لجمع ما تيسر من الكتب في تخصصي؛ «تاريخ الأدب الروسي» (أي الأدب الروسي الكلاسيكي قبيل ثورة 1917م).
كانت ردهات الجامعة أيضا مكانا مميزا للحصول على كافة إصدارات دور النشر السوفييتية، فضلا عن الإصدارات الجامعية وإصدارات أكاديميات العلوم في كافة التخصصات، وقد لفت انتباهي وفرة الكتب التي تتناول دراسة مصر والمنطقة العربية في مجالات التاريخ والفنون والسياسة والأدب، وهنا لم يكن أمامي سوى أن أتخير من بينها ما رأيت أنه على درجة من الأهمية للباحثين والمؤرخين وطلاب العلم.
وقد بدأت فور عودتي في ترجمة عدد من المقالات في المجلات والدوريات، جمعتها لاحقا في كتاب، ثم شرعت في ترجمة كتب في التاريخ والسياسة، وهي كتب تضم بين صفحاتها وثائق مجهولة بالنسبة لنا نظرا لثراء الأرشيف الروسي بهذه المخطوطات. الآن أقدم عبر «مؤسسة هنداوي» المحترمة حصيلة ما أنجزته خلال سنوات طويلة من العمل في ترجمات صدرت عن دور نشر مرموقة، وجدت جميعها صدى جيدا لدى القراء والباحثين وأساتذة الجامعات المهتمين.
أنور إبراهيم
القاهرة 2021م
مقدمة الطبعة الروسية
أليس أمرا غريبا ألا تصدر باللغة الروسية منذ أمد بعيد أية مؤلفات حول تاريخ القرصنة البحرية؟! صحيح أن تاريخ القرصنة البحرية - هذا ما قد يبدو لنا من الوهلة الأولى - معروف لنا جميعا من خلال عدد كبير من الكتب الواسعة الانتشار، الذائعة الصيت، على أن كل هذه الكتب تقريبا ليست سوى روايات وقصص وأشعار بايرون، وفولتير، وسكوت، وفينيمور كوبر، وماين ريد، وستيفنسون، والكابتن مارييت، أما المؤلفات العلمية المتخصصة أو العلمية المبسطة؛ فلم يكن لدينا منها شيء، لا من تأليفنا، ولا من ترجمتنا، على الرغم من أن تاريخ القرصنة - بلا أدنى شك - أمر مشوق، لا في حد ذاته فحسب؛ بل لأنه يساعدنا، فضلا عن هذا، في فهم نشأة العديد من الدول - التي ترك النهب البحري بصمات واضحة على ماضيها - فهما أفضل.
ربما لم تكن القرصنة فوق هذا مجرد تاريخ أغلقت صفحاته، بل هي كما يبدو واقع حي تماما، على الرغم مما ورد ذكره في موسوعة «بروكهاوس وإفرون» الصادرة في القرن الماضي في المقال المعنون له ب «النهب البحري أو القرصنة»، والذي ترد في سطوره الأولى الكلمات التالية: «وهي ليست موجودة تقريبا في الوقت الحالي.»
إن تكرار حوادث خطف الطائرات والسفن بصورة حادة في أيامنا هذه، يعد من جانب كثير من الناس بمثابة بعث للقرصنة؛ مما دفع بالحكومات والمنظمات الدولية للنظر من جديد في مسألة مكافحة القرصنة، واتخاذ الإجراءات بشأنها.
في هذا الكتاب يحاول «ياتسيك ماخوفسكي» الكاتب الصحفي البولندي الشهير أن يطرح تصورا لكل المراحل الرئيسية للقرصنة. هنا يمتد زمن الأحداث من العالم القديم وحتى عصرنا الحديث، أما مسرح هذه الأحداث فهو كوكبنا بأسره، كل البحار حيث كان أسطول القراصنة، على حد قول كيبلنج: «هنا وهناك يرسل بالتحية إلى السفن التي يلتقي بها.»
إن الإحاطة الكاملة بأحداث هذا الموضوع أمر يبدو مستحيلا، لقد كانت للقرصنة بطبيعة الحال سماتها المميزة في شتى العصور وفي شتى البلاد، وهيهات أن يتسنى لنا فهم هذه الظاهرة ذاتها فهما تاما ما لم نقم بدراسة مفصلة لهذه العصور وهذه البلاد، ناهيك عن أن المرء ما إن يقرر أن يأخذ على عاتقه أمر دراسة تاريخ القرصنة، حتى يصطدم على الفور بمشكلة النقص الحاد في الوثائق، وعلى رأسها التي يستند فيها إلى القراصنة أنفسهم؛ فكتابة السير الذاتية والمذكرات لم تكن من أشكال النشاط المحببة لديهم، كما أن رسم مظهر هؤلاء الناس وتخيل حياة مجتمع القراصنة أمر كثيرا ما تكتنفه الصعوبات؛ ولهذا فإن البحوث الجادة - وحتى بخصوص فترات محددة في القرصنة في إطار علم تاريخ العلم - شحيحة، أما كتابة التاريخ العلمي الحقيقي للقرصنة عبر كل العصور؛ فهو عمل معقد للغاية، ويصعب على فرد واحد القيام به، مهما كان مسلحا بمعارف موسوعية.
على أية حال، فمن البديهي أن ماخوفسكي لم يضع نصب عينيه هذه المهمة، لقد قام على نحو مفعم بالحرية بحكاية أوضح حكايات هذا التاريخ، بل ووضع بعض صفحاته في قالب روائي.
ستمر أمام القارئ أسماء: هنري مورجان، ملك قراصنة وست إنديا، وهو النموذج الأصلي للكابتن بلاد في رواية رفاييل ساباتيني الشهيرة، وجون إفري الذي كرس له دانيال ديفو - مؤلف رواية «روبنسون كروزو» - اثنين من كتبه؛ الأول في الأدب الاجتماعي، واتخذ له عنوان «ملك القراصنة، أو تقرير عن المآثر المجيدة للكابتن إفري، الذي ادعى لنفسه لقب إمبراطور مدغشقر في خطابيه اللذين كتبهما بنفسه»، والثاني روايته «حياة الكابتن سينجلتون العظيم ومغامراته»، إلى جانب الشخصيات الرائعة الأخرى لعالم القراصنة، الذي جرى تأسيسه في جزيرة مدغشقر، وعلى رأسه جيمس بلانتين «ملك» رانتر-باي (هكذا كانوا يسمونه على اسم الخليج الذي كان يفرض عليه سلطانه)، وعروج، وخير الدين، وقد اشتهر باسم بارباروسا الأول، وبارباروسا الثاني حكام ما كان يسمى بدولة القراصنة البربر، التي قامت في الجزائر على مدى عدة قرون، وحتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، أي حتى سقوط سيطرة الباب العالي العثماني.
حوى عالم القرصنة أناسا من شتى الأجناس؛ أوروبيين، عربا، صينيين، ومن الملايو، وإندونيسيا ... هؤلاء الناس وتلك الأحداث، التي ستتعرف عليها أيها القارئ بفضل كتاب ماخوفسكي، ستساعدك في رؤية جوانب مختلفة تماما للقرصنة، وكذلك في اكتشاف جذورها الاجتماعية والنفسية إلى حد ما، وهو للأسف أقل الجوانب دراسة، وإن كان من أكثرها أهمية. إن معاصري الأحداث ومن تلاهم من مؤرخين لم يولوا دور القرصنة كشكل من أشكال الاحتجاج الاجتماعي، سوى أقل القليل من اهتمامهم.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن إطلاقا تبرير مهنة القرصنة أو تصورها في قالب مثالي ككل، فإنه لا يمكن في الوقت ذاته أن ننكر أنها كانت في بعض الأحيان شكلا من أشكال الاحتجاج خروجا على مجتمع قائم على الظلم، مجتمع تنظمه علاقات تعسفية، وتتحكم فيه بشكل صارم مؤسسات جائرة.
وقد كانت القرصنة، في أحيان أخرى، مرتبطة أيضا لا بمجرد كونها احتجاجا اجتماعيا، وإنما بالسعي لتحقيق نظام اجتماعي جديد، وفقا لأفضل مثل ذلك الزمن.
لعل أوضح مثال على هذا هي جمهورية ليبرتاريا، دولة البحرية التي أقامها القراصنة في نهاية القرن السابع عشر في شمال مدغشقر، هناك حيث تقع الآن مدينة ديبجو سواريز، أسس هذه الدولة النبيل البروفنسالي ميسون، والدومينيكاني الإيطالي كاراتشيولي، وقد التقيا وتوطدت بينهما أواصر الصداقة في وطن تومازو كامبانيلا الذي كان هو الآخر من مواطني الدومينيكان، واشتهر بأفكاره الاشتراكية، فضلا عن إسهامه في حركة التحرير الشعبية في جنوب إيطاليا. رأى كارتشيولي - شأنه في هذا شأن ديكارت وعدد آخر من فلاسفة المذهب العقلاني آنذاك - أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق البشر توقف عن التدخل في شئونهم اليومية، وعلى هذا فإن القوانين التي وضعوها هي التي تسود المجتمع البشري، وليست قوانين الله العلي القدير، أي إن من الممكن، بل ومن الواجب، التمرد على هذه القوانين. وهكذا أعلن ميسون وكارتشيولي الحرب على الأوضاع التي هي من صنع البشر؛ مثل النظام الملكي، وعدم المساواة بين الناس، وغيرها من الأمور الأكثر خصوصية؛ مثل قوانين الإعدام على سبيل المثال، على أن أوروبا لم تكن بها آنذاك قوة تستطيع الوقوف ضد أعمدة نظام الدولة، عندئذ لم يكن أمام الفلاسفة الشبان الذين قرروا تغيير النظم القائمة، سوى التوجه لتلقي العون من القراصنة.
ترى ما الذي دفع هؤلاء الناس إلى الاستعانة بالقراصنة بالذات؟ لقد كانت هناك أسباب عديدة ومهمة للغاية بمقياس هذا الزمان.
لقد تسنى للقراصنة أن يرفضوا مبادئ العصر وتقاليده التي بدت آنذاك راكدة بعيدة عن كل تغيير، كما تسنى لهم أن يسقطوا تلك الغمامة التي أصبح أفق الناس بسببها ضيقا محدودا. استطاع القراصنة المطاريد النازحون من مختلف شرائح طبقات المجتمع أن يروا الحواجز التي فرضتها الأعراف الاجتماعية، فقد كان من بينهم أناس متعلمون وآخرون من حثالة المجتمع، ضباط ملكيون وبحارة وموظفون عملوا فيما مضى في إدارة الأسطول البحري، ولصوص نكرة تواءموا جميعا علىى ظهر سفينة واحدة، بذلك تحقق الالتحام الوثيق بين هؤلاء الفرسان الذين انحصرت مهمتهم في أخذ كل سفينة غصبا، ولعله لم توجد في تلك العصور جماعة تقاربت فيما بينها بمثل هذه القوة مثل طاقم سفينة القراصنة. إن النجاح المشترك هنا، بل والحياة ذاتها، كانا وفقا على شجاعة وانضباط كل فرد من أفراد هذه الجماعة؛ ولهذا فقد كان على كل من يدخل في عداد أي عصابة كبيرة مثل هذه أن يوقع على ميثاقها، ولو بمجرد رسم صليب، وفي الوقت نفسه يقوم بتقبيل الكتاب المقدس. أما المساواة وحرية التعبير عن الآراء فكانت تمثل المبادئ الأساسية لهذا التنظيم، فالقبطان لا يملك اختيار الطريق الذي ستسلكه السفينة، أو يحدد هدف الإغارة إلا بالموافقة الجماعية، أما الأسلاب والغنائم فقد كان يتم تقسيمها وفقا لنظام صارم تم إقراره.
ليس من قبيل المصادفة إذن أن نال القراصنة إعجاب العديد من أفضل أبناء القرنين السابع عشر والثامن عشر.
كتب فولتير، أكبر فلاسفة القرن الثامن عشر، مقالا للموسوعة الفرنسية في مادة «القراصنة» جاء فيها: «لم يكد الجيل السابق يقص علينا العجائب التي تمت على أيدي هؤلاء القراصنة، حتى أخذنا في الحديث عنهم دون انقطاع، لقد مسوا لدينا وترا حساسا ... ولو أنهم استطاعوا أن تكون لديهم سياسة تقف على قدم المساواة وجسارتهم الجبارة، إذن لأقاموا إمبراطورية عظمى في أمريكا ... لا الرومان، لأن غيرهم من الشعوب التي قامت بأعمال النهب، استطاعوا أن يحققوا مثل هذه الفتوحات المدهشة.»
1
يحدثنا ماخوفسكي بالتفصيل عن أفكار ميسون وكارتشيولي، وعن جمهورية ليبرتاريا التي أسسوها معا، ويورد نص الخطاب الرائع بالنسبة لتلك العصور، والذي توجه فيه لرجاله عندما استولوا على سفينة تحمل عبيدا عنه عند الشواطئ الأفريقية بقوله: «هاكم مثالا عن القوانين والأعراف المخزية التي نحاربها، إن هؤلاء اللصوص الذين يتعيشون على تجارة الرقيق لا يملكون روحا ولا قلبا، إنهم يستحقون العذاب المقيم في نار جهنم! إننا ننادي بالعدالة للبشر دون استثناء؛ ولهذا فإنني أعلن وفقا لأفكارنا أن هؤلاء الأفارقة أحرار، وأدعوكم جميعا يا إخوتي أن تعلموهم لغتنا وديننا وعاداتنا وفنوننا البحرية، حتى يستطيعوا أن يكسبوا قوتهم من عمل شريف، ويدافعوا عن حقوقهم الإنسانية.»
انتشرت الأخبار عن ليبرتاريا بفضل مذكرات ميسون الذي شارك في إقامتها والتي أفصحت، بلغة معاصرة، عن رئيسها؛ فقد تم نشر مخطوطة ميسون بعد ربع قرن من وفاته، وتم طبعها في واحد من أوائل الكتب التي تناولت تاريخ القرصنة تحت اسم «التاريخ العام للنهب والقتل الذي قام به أشهر القراصنة، وكذلك طباعهم ونظامهم وقيادتهم، منذ بداية القرصنة وظهورهم في جزيرة العناية الإلهية وحتى الآن». ظهر هذا الكتاب بهذا العنوان في لندن في العشرينيات من القرن الثامن عشر، ووقع عليه مؤلفه تشارلز جونسون، تحوي المخطوطات الصغيرة التي تركها ميسون الكثير من الأمور الغامضة، وحتى اسم مؤلفها ليس سوى اسم من وحي الخيال؛ فقد أخفى صاحب المخطوطة اسمه الحقيقي. على أن مضمون اليوميات ذو أهمية كبيرة إلى حد أن الاهتمام بها لم ينقطع حتى في عصرنا الحالي. لقد اهتم أهالي مدغشقر بدولة الحرية التي قامت يوما ما على أرضهم، ففي مايو 1970م نشرت «لو كرييه دي مدغشقر» أكبر صحف مدغشقر مواد تحت عنوان «ليبرتاريا ... عندما تأسست في دييجو سواريز جمهورية اشتراكية وشيوعية»،
2
كما كتب أندريه شيك العالم المجري الكبير، والشخصية الاجتماعية المعروفة، والحاصل على جائزة لينين العالمية، كتب كثيرا عن ليبرتاريا في كتابه «تاريخ أفريقيا السوداء»، كما لاقت دولة الحرية هذه أكبر اهتمام في كتب العالم الفرنسي الشهير أوبير دوشان «قراصنة مدغشقر» و«القراصنة واللصوص»، كتب دوشان يقول: «لقد نجح القرصان المنبوذ من العالم أن يقيم لبعض الوقت على هذا الشاطئ المفقود لتلك البلدة المتوحشة جمهورية أممية، هذه العشيرة التي تجمع بين مختلف الأجناس والشعوب، هذا الخليط من مختلف القوميات، هذه الإرهاصة
3
لمجتمع المستقبل ...» إن المناقشات التي دارت في ليبرتاريا يعتبرها دوشان جديرة ب «عمالقة عام 1793م».
4
خرجت مذكرات ميسون إلى النور للمرة الأولى، على صفحات كتاب تشارلز جونسون، وترجمت بعد ظهورها بمائتين وخمسين عاما إلى البولندية،
5
وقد اطلع ماخوفسكي على مذكرات ميسون، واعتمد عليها في مقالاته (وإن كان قد تحدث لسبب ما في بعضها بلهجة لا تخلو من سخرية عن أفكار الدومينيكاني كاراتشيولي دونما مبرر يذكر).
لا يمكن بالطبع اعتبار مجتمع مثل الذي في ليبرتاريا نموذجا لتاريخ القرصنة، على أن ميسون وأتباعه لم يكونوا الوحيدين آنذاك الذين اعتنقوا أفكارا تعد تقدمية تماما بالنسبة لعصرهم. انظر كيف عبر القرصان الشهير الكابتن بيلامي عن أفكار رفاقه بقوله: «إننا لا نخضع للقوانين، لقد وضعت للأغنياء لكي يسرقوا تحت حمايتها الفقراء، إننا نسرق الأغنياء، تحمينا شجاعتنا فقط.»
6
لقد تقرر إقامة أول حكومة على الأرض في دولة الحرية، حيث لم تكن هناك أية فوارق طبقية أو عرقية، فضلا عن عدم وجود أية فوارق بسبب القومية.
لقد أعلن ميسون لرفاقه بعد أن استولى على سفينة تجارة الرقيق الهولندية، وتحرير الزنوج الأسرى على ظهرها أن «هؤلاء الناس يختلفون بالطبع عن الأوروبيين بلون بشرتهم وعاداتهم وطقوسهم الدينية، ولكنهم لا يقلون عنا أهمية كمخلوقات قادرة؛ لأنهم وهبوا العقل مثلما وهبنا»،
7
من الصعب أن نجزم ما إذا كانت وجهة النظر هذه قد قيلت على هذا النحو من الدقة والوضوح، وهل تم التعبير عنها في مجتمعات قرصنة أخرى، لكن الزمن احتفظ لنا بشهادات دامغة تقطع بوجود علاقات طيبة نشأت بين قراصنة حوض الكاريبي والهنود الأمريكيين في القرن السابع عشر، كان هؤلاء الهنود يعتبرون أن القراصنة هم مخلصون من ظلم المحتلين الإسبان. يذكر شاهد عيان «أن القراصنة كانت تربطهم بهنود ذلك الزمان علاقات صداقة حميمة، إلى حد أنه كان بإمكانهم الحياة بينهم دون أدنى اكتراث،
8
وكثيرا ما كان الهنود يذهبون مع القراصنة في رحلات بحرية، ويبقون معهم من عام إلى ثلاثة أعوام وأربعة أعوام، دون أن يتحدثوا الفرنسية والإنجليزية، وكذلك كان الحال بين عدد من البحارة الذين كانوا يتحدثون لغة الهنود بطلاقة.»
9
لقد ألهمت أفضل صفات القراصنة على وجه التحديد العديد من الأدباء فيما بعد، وتم وضع هذه الصفات في قوالب شعرية، كانت رومانسية صعاليك بحار الدنيا قد نفدت من زمن بعيد إلى بلادنا، بالرغم من أن روسيا لم تكن لها إطلاقا أية جزر تحدها الصخور، كما لم يكن لها أوكار للقراصنة في الخلجان الاستوائية السرية، وقد تمت في القرن الماضي ترجمة «اللصوص» التي كتبها بايرون إلى الروسية، وكتب الشاعر تيموفييف، صاحب أغنية «لم يجر تعميدنا في الكنيسة»، في عام 1835م قصيدته «القراصنة». وظهر في الشعر الروسي أيضا «القراصنة الذين أخفوا الذهب في ميناء سري»، ثم ذاعت بعد ذلك أغنية «روجر المرح»، وتبعتها أغنيات تتحدث عن سفن القراصنة ذات الصواري
10
المتعددة الأشرعة في البحار البعيدة، كأعمال أدبية خالصة تجسد حب الحرية والشجاعة والطرق المجهولة والبلاد النائية والخروج من ملل الحياة اليومية، حتى أصبحت هذه الأغنيات قاسما مشتركا مع الأغاني التي اعتاد الرحالة أن ينشدوها حول النار، إن الكتب ذات الطابع الرومانسي المقروءة في الطفولة، والتي تبدو كما لو كانت غير مرتبطة بحياتنا، اتضح أنها من الأمور الحيوية لدى الشباب، ولا نضيف جديدا بالطبع إذا قلنا بأن هذا شيء لا اعتراض عليه، بالرغم من أن أصحاب الوجوه الصارمة والذين يفتقدون روح الدعابة يسعون إلى اجتثاث أعمال، مثل «قراصنة البحر الأزرق البعيد». ذكر الموسيقار نيكيتا بوجوسلوفسكي، والشاعر ميخائيل لفوفسكي، صديق الشاعر بافل كوجان، مؤلف أغنية «الكرة الأرضية تدور وتدور» أنهما تعرضا للتعنيف الشديد بسبب حكاية «القبطان ذو الوجه الخشن كالصخور». طبعا، لقد اعتبرت أعمالهما ابتعادا عن الواقع المألوف إلى الطرائف المشكوك فيها إلى عوالم ستيفنسون، وجوميلوف وجرينوفشن، إلى الرائحة الكريهة ل «جون الأسمر» و«أغاني إيزا كرامر».
11
لم يسئ ماخوفسكي استخدام التداعيات مع الأدب الروائي والأفلام السينمائية والمسرحيات معتبرا - وهو على حق في هذا - أن القرصنة موضوع قائم بذاته، إنه يحدثنا هنا عن وقائع تاريخ القرصنة ذاتها.
إنه لأمر طبيعي أن نجد ما نلوم عليه مؤلف الكتاب؛ إذ لم يتوخ الدقة دائما في عرض الحقائق، والأمر الذي لا مراء فيه أن تجنب الخطأ في مجال مثل هذا لا حدود له تاريخيا وجغرافيا أمر مستحيل تماما، خاصة وأن كتابة مقالات عن القرصنة في آسيا وأفريقيا كان أمرا شاقا بالنسبة للمؤلف، وليس من قبيل الصدفة أن «التاريخ العام للقرصنة» منذ كتاب تشارلز جونسون لم يكن يعنى إلا بالقراصنة الأوروبيين.
إن المعلومات المتوافرة عن قراصنة الشرق وأفريقيا معلومات شحيحة بصفة خاصة، أما تلك الأعمال القليلة التي ظهرت على أية حال حتى في عصرنا الحالي، والتي كان من الممكن لماخوفسكي أن يستقي منها؛ فقد كانت تكتب بشكل أساسي في أوروبا، وهي أعمال تحوي أسماء أشخاص وأماكن وهمية، وكذلك اصطلاحات خاصة باللغات الأفروآسيوية.
إن الاستفادة من منجزات المؤرخين المختصين في كل العصور والأماكن المذكورة في الكتاب هو أمر فوق طاقة شخص واحد بالطبع. ها هو خوفسكي ينسب ظهور النورمانديين في إنجلترا إلى عام 789م، بالرغم من أن المؤرخين الآن يحددون ظهورهم بعام 793م، كما يحدد عام 1333م كنهاية لأسرة يوان الصينية (بدلا من عام 1368م). من الصعب أيضا الموافقة على تفسيره لمعنى كلمة «فايكنج»
12
وكذلك مع توصيفه للفروق والسمات المشتركة بين قراصنة القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذين استغلوا إنجلترا وفرنسا في حربهما ضد إسبانيا على المستعمرات (
flibustiers ) وبين قراصنة القرن السابع عشر في جزر وست إنديا، الذين كانوا يهاجمون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، وكذلك السفن التجارية الإسبانية وغيرها (
Boucaniers )، إلى جانب بعض تقديراته الأخرى، كذلك التعميم في بعض الحوادث الفردية التي يمكن مقابلتها على صفحات الكتاب.
إن انتقاء المادة التي قام عليها هذا الكتاب يمكن أيضا أن تكون موضع جدل، فمن جانب هناك أحداث ووقائع وأناس من المستبعد أن تكون لهم علاقة بالقراصنة، هل من الممكن مثلا اعتبار أخيل وغيره من أبطال طروادة قراصنة؟ لقد كانت أعمالهم بالأحرى شكلا من أشكال الحروب الداخلية، بل إن التجارة البحرية في عمومها كانت آنذاك مرتبطة أشد الارتباط بالسلب والنهب، الأمر الذي يجعل أمر فصل القرصنة عن القراصنة، على نحو ما، من الأمور الصعبة . من جانب آخر فإن الكتاب لم يتعرض لكثير من الأمور التي كان طرحها أمرا بديهيا، فلم تنل أعمال أشهر القراصنة «فرانسيس دريك»،
13
وجورج كليفورد، والأخير حصل على «وسام الرباط»، وهو أعلى مكافأة ملكية في بلاده، لم يحدثنا ماخوفسكي أيضا عن أسلاف
14
هؤلاء القراصنة المسمين «سادة كورنول».
15
يمكن تفسير ذلك بداهة بحجم الكتاب المحدد، بالرغم من أن المؤلف لم يأل جهدا في إفساح صفحات كثيرة لأمور ذات طابع تفصيلي.
لم يعتمد المؤلف - فيما اعتمد - على المعلومات التسجيلية التي وردت في الكتاب المهم عن قراصنة حوض الكاريبي الذي ترجم، حسب اعتقادي، إلى كل اللغات الأوروبية، وأعيد طبعه مرارا وتكرارا عبر ثلاثمائة عام منذ صدوره للمرة الأولى، تحت هذا العنوان المميز لتلك الأزمنة «قراصنة أمريكا، القصص التفصيلية الصحيحة لكل عمليات النهب والشراسة الوحشية التي ارتكبها اللصوص الإنجليز والفرنسيون ضد سكان أمريكا من الإسبان» في ثلاثة فصول؛ يحكي الفصل الأول قصة وصول الفرنسيين إلى جزيرة إسبانيولا
16
وعن طبيعة هذه الجزيرة وسكانها ونمط معيشتهم، ويحكي الفصل الثاني عن ظهور القراصنة، وعن نظمهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وعن مختلف الحملات التي قادوها ضد الإسبان. ويحكي الفصل الثالث قصة إحراق مدينة بنما على يد القراصنة الإنجليز والفرنسيين، وكذلك عن الحملات التي لم يشترك فيها المؤلف. وللكتاب ملحق عبارة عن وصف موجز للممتلكات الأمريكية للملك الإسباني كارل الثاني، وما تدره من عوائد وكذلك نظم إدارتها، بالإضافة إلى ذلك يقدم الكتاب وصفا موجزا لأهم الأماكن التي كانت تحت سلطة المسيحيين. كل هذا كتبه أ. أكسكفيميلن، الذي شاءت الأقدار أن يشترك في كل حملات القرصنة هذه، والكتاب مزود بالرسوم التوضيحية الرائعة والخرائط وصور الأشخاص، صدر في أمستردام، وطبع بمطبعة يان تين هورن عام 1678م.
على أن الاعتماد على هذا المرجع الفريد قد سقط من كتاب ماخوفسكي، إذ إن ما حواه قد ورد في العديد من البحوث التاريخية، أضف إلى هذا أن قراءنا يعرفونه، ففي عام 1968م تم نشره باللغة الروسية (ونجد بعض فقراته واردة في هذه الطبعة التي بين أيدينا). كما تمت ترجمة الرواية التي اعتمدت أيضا عليه وهي «قراصنة خليج المكسيك» لمؤلفها فينسنتي ريفا بلاسيو، المشهور باسم «والتر سكوت المكسيكي».
17
إن الموضوع الذي وقع عليه اختيار ياتسيك ماخوفسكي موضوع مترامي الأطراف، إلى الحد الذي يجعل من تسقط أي عيب به أمرا ميسورا، في الأمور الأساسية (لم يلق عرض الجذور الاجتماعية التاريخية للقرصنة الاهتمام الكافي)، وفي التفاصيل (في استخدامه لبعض الاصطلاحات وفي دقة التواريخ). على أنه من الممكن أن نغفر له الكثير؛ بفضل هذا الموضوع الشيق والجهد الفائق الذي بذله؛ ولأنه سعى لأن يقدم تاريخ القرصنة بأكمله مضمنا هذا التاريخ صفحات من الماضي تكاد تكون مجهولة، إلى جانب استكماله بأحداث من واقع حياتنا المعاصرة.
أ. ب. دافيدسون.
الفصل الأول
قراصنة العالم القديم
أشرقت شمس القراصنة من قديم الأزل، ويمكن أن نقول بكل شجاعة إنها ظهرت مع ظهور الملاحة البحرية. في العالم القديم، اشتغل بها الفينيقيون أقدم وأفضل من ركب البحر، ثم جاء بعدهم الإغريق، دخلت القرصنة حياة بعض القبائل الإغريقية الصغيرة، بل إنهم عدوها حرفة رفيعة المنزلة. وبمرور الزمن وصلت القرصنة في حوض البحر الأبيض المتوسط إلى القدر الذي أخذت فيه تشكل تهديدا على أعظم دولة في العالم القديم آنذاك، وهي الإمبراطورية الرومانية.
لقد قدم التاريخ والأدب القديمان وصفا شيقا وأخاذا للصراع الذي دار ضد القراصنة، الذين كثيرا ما كانوا سببا في تكدير صفو سكان العالم القديم.
من أوديسي
1
إلى بومبي
لم يكن «أخيل» بطل حرب طروادة الذي خلده هوميروس سوى قرصان، على أنهم كانوا ينظرون إلى القرصنة في ذلك العصر نظرة تختلف تماما عن تلك التي ننظر بها إليها الآن. يعترف «أخيل» في الإلياذة بأنه احترف القرصنة، دونما إحساس بالخجل، بل يمكن القول إن اعترافه يشوبه الشيء الكثير من الإحساس بالفخر. وينشد بطل آخر من أبطال هوميروس، وهو أوديسي، في الفخر بمآثره في القرصنة أمام الكينوى
2
بقوله: «حملتنا الريح من مدينة إيلون
3
إلى إيسمار
4
حيث يعيش الكيكونيون،
5
فأما المدينة فقد دمرناها ، وأما السكان فقد أبدناهم، ولكننا سبينا
6
الزوجات، وبعدها شرعنا في توزيع الكنوز الكثيرة التي نهبناها على مختلف أشكالها بالقسطاس؛ لكي يتسنى لكل أن يأخذ نصيبه كاملا غير منقوص. لقد كنت مصمما على الإسراع بالفرار، ولقد سمع الجميع الأمر، ولكن المجانين لم يستمعوا إلى نصيحتي المخلصة، فإذا بهم - وهم الذين كانوا يترنحون من السكر - يقيمون على الشاطئ الرملي الولائم، فيذبحون أغناما كثيرة وثيرانا ذات قرون معقوفة. وما هي إلا برهة قصيرة حتى ذهب الكيكونيون، الذين أفلتوا من المدينة إلى حيث تجمعوا هم وجيرانهم من الكيكونيين في جيش جرار خبير بفنون القتال على ظهور الخيل، ولا يقل رجاله شجاعة عن رجالنا، فإذا ما دعا الداعي ترجلوا عنها متأهبين للقتال. لقد بدت جحافلهم فجأة في غزارة أوراق الشجر، أو مثل زهور الربيع الأولى، عندئذ بات من الجلي أن كرونيون،
7
قد أعد لنا مصيرا بائسا وأهوالا ومصائب كثيرة. لقد بدأنا المعركة قريبين بعضنا من بعض، وقد ناءت علينا سفنهم السريعة بكلكلها،
8
ورحنا نتراشق الرماح ذات الأسنة النحاسية الحادة. كنا متمسكين نصد هجومهم ما بقي الصباح ممتدا وما استمر النهار صاعدا، على الرغم من أنهم كانوا يفوقوننا عددا، ولكن عندما أذن هيلوس
9
بالأفول، وحانت ساعة فك عدة الثيران عن كواهلها، اضطر الكيكونيون الآخيون
10
للفرار بعد أن ألحقوا بهم الهزيمة، هنا فقدت من كل سفينة ستة من المدرعين
11
الشجعان. أما الباقون فقد كتبت لهم النجاة من الموت ومن القدر. بعد ذلك أبحرنا وقد جللنا حزن عظيم على أحبائنا الذين قضوا نحبهم، وإن كنا في قرارة أنفسنا فرحين بنجاتنا من الموت، على أنني لم أبتعد بسفني السريعة عن الشاطئ إلا بعد أن ناديت رفاقنا التعساء الذين لقوا حتفهم في المعركة ثلاث مرات كلا باسمه، أولئك الذين ظلوا هناك في باطن الأرض.»
وهاكم وصف آخر «لمآثر» وردت في الأوديسا:
12 «شهر بتمامه قضيته مع أطفالي وزوجتي، في منزل الأسرة أنعم بها وسط ثروتي الكبيرة، ولكن في نهاية الأمر صارت بي رغبة للذهاب إلى مصر، فبعد أن اخترت الرفاق الشجعان أعددت السفن، وكن تسعا جديدة قد سلحناها جيدا، وعندما اجتمع الرفاق في السفينة وهم يفيضون حيوية وخفة، ظللنا نولم جميعنا الولائم لمدة ستة أيام قبيل الرحيل، وقد ذبحت كثيرا من الثيران والخراف قدمتها قربانا للآلهة، كما أقمت وليمة فاخرة تكريما لرجالي، ولكن لما كان اليوم السابع خرجنا إلى البحر الواسع تاركين كريت
13
وحملتنا بورييه
14
باردة بليلة في سرعة ورفق، وها نحن نبحر في خفة ويسر كما لو كنا نسير مع التيار، ولم تصب أي من سفننا بعطب، حملتنا السفن عبر البحر موفوري الصحة والنشاط مفعمين بالسرور، وكانت الريح والدفة توجهاننا، بعد خمسة أيام وصلنا إلى تيار مصر
15
الرائق الرشيق، وصلنا، وفي أحضان هذا التيار رست زوارقنا خفيفة الحركة على الشاطئ. وبعد أن قمت بتثبيتها إليه، أمرت خيرة رجالي أن يبقوا هناك عند شاطئ البحر لحراسة السفن، وفي الوقت نفسه أعطيت للآخرين أوامري بمراقبة المنطقة كلها من ارتفاعات قريبة، وفجأة إذا بالرغبة الجامحة تشتعل بداخلهم فيفقدون عقولهم، ويشرعون في نهب حقول المصريين المسالمين الخصبة، ثم يندفعون ليبدءوا في خطف الزوجات والأطفال الصغار، وقتل الأزواج بصورة وحشية. سرعان ما وصل الإنذار إلى سكان المدينة، ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى، كان قد وصل إلى المنطقة جيش قوي بعرباته ومشاته وأسلحته النحاسية البراقة، وإذا بالأرض كلها وقد لفها لهيب القتال. أما زيوس
16
الذي كان يلهو مسرورا بالرعد؛ فقد دفع رجالي إلى هروب مزر، ولم يتمكن أحد منهم من الثبات أمام قوة العدو، وها قد أحاط بنا الموت من كل جانب، لقد قتلت الأسلحة النحاسية الكثير من رفاقي، ووقع كثير آخرون في الأسر، سيقوا غصبا إلى المدينة، ليعملوا هناك عبيدا بائسين.»
17
على أن الذي فاق كل قراصنة العالم القديم ربما كان بوليقراط طاغية جزيرة ساموس (527-522 قبل الميلاد)، استطاع بوليقراط أن يبني أسطولا ضخما بمقاييس عصره سيطر به دون منازع على بحر إيجه.
كان بوليقراط طموحا إلى أبعد الحدود، ماكرا لا يعرف الرحمة، ذاع صيته كراع للفنون والعلوم؛ جمل المدينة بمبان رائعة، وجذب إلى بلاطه أبرز الشعراء والمعماريين والفنانين والأطباء، لكنه من ناحية أخرى اكتسب سوء السمعة باعتباره وحشا ولصا، فبعد أن استولى على ساموس بمساعدة إخوته، شرع على الفور في قتل أخيه بانتاجنوت، بينما قام بنفي الآخر سيلوزدن، حتى يجمع السلطة كلها في يديه، ولكي يضاعف ثرواته احترف النهب البحري، وفرض إتاوات ضخمة على قباطنة السفن.
جدير بالذكر - وإحقاقا للحق - إن مثل هذا العمل لم يكن استثناء في عصر بوليقراط، وإنما دخل في ترسانة الوسائل المطبقة في كل مكان لإدارة السياسة والتجارة التي كانت القرصنة أحد عناصرها. على أن طاغية ساموس تميز بالطبع عن أقرانه، ومارس القرصنة على مستويات ضخمة، إلى الحد الذي دفع ببعض المؤرخين للقول، اعترافا بأفضاله، بأن بوليقراط هو أعظم قراصنة العالم القديم.
في عام 522 قبل الميلاد، لجأ طاغية آخر من فارس، يدفعه الخوف من جبروت جزيرة ساموس الآخذ في التعاظم إلى خيانة بوليقيراط غدرا، في ماجنيسيا،
18
ثم قام بصلبه، أدى مصرع طاغية ساموس إلى اشتداد أعمال النهب البحري في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. كان بوليقراط قويا إلى حد أن الكثيرين من أتباعه ظلوا لمدة طويلة يمارسون نشاطهم بعيدا عن مناطق نفوذه، على أن بعد موته ظهر في بحر إيجه العديد من اللصوص.
وقد قام أحد حكام جزيرة كريت بإرسال أسطوله بأكمله للقضاء على القرصنة البحرية. كان هذا الحاكم قد مارس هو نفسه القرصنة قدرا من الزمان على غرار بوليقراط، ومن ثم فقد كان يشكل خطرا على أعدائه؛ إذ إنه كان على دراية تامة بعادات وحيل القراصنة، ناهيك عن إعداده لأسطول هائل من أجل هذه المهمة، تميز حاكم كريت بالعناد الشديد والشراسة في القتال.
بعد سنوات طويلة من المعارك الدامية، أصبح حاكم كريت الشجاع سيدا للموقف، حتى إن النصر الذي عقد لواؤه كان من الاكتمال، بحيث تسنى له أن يفرض إرادته على الإغريق، وأن يمنع وجود أكثر من خمسة من القادة على ظهر كل سفينة، وقد نجح هذا الاتفاق في الحيلولة دون تعاظم عمليات القرصنة في المياه الإغريقية، على أنه ما إن توفي الحاكم المنتصر، وأصاب الضعف القدرة العسكرية لجزيرة كريت ، حتى بعث النهب البحري من جديد.
على الرغم من تلك الثقافة الروحية الرفيعة التي كانت لدى الإغريق القدماء، فإنهم كانوا نسبيا فقراء، ولم يستطيعوا أن يجمعوا الثروات الضخمة في بلادهم، وذلك على العكس تماما من جيرانهم في البحر وهم الفينيقيون. عمل الفينيقيون بتسويق البضائع على مستويات ضخمة، حتى تمكنوا من تحقيق مركز احتكاري في تجارة الأحجار الكريمة. حملت مراكب تجارهم الكهرمان من بحر البلطيق والقصدير من إنجلترا، وقام هؤلاء التجار بعمليات التبادل التجاري بين شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا.
كان الفينيقيون من الثراء بحيث لم يكن من المستطاع إلا أن يثيروا مشاعر الغيرة لدى جيرانهم الأقل حظا، الأمر الذي دفع أبناء «إللاذا»
19
الذين تميزوا بعلو الهمة وقوة العزيمة إلى الاشتغال بالقرصنة. وهكذا فكلما سار تطور التجارة إلى الأفضل بالنسبة للفينيقيين، وازدادت الثروات المنقولة على مراكبهم، اشتدت عملية السطو في بحر إيجه. وبفضل السخاء الذي كان الفينيقيون يدفعون به الأموال للصوص البحر في هيئة فدية وتعويضات، ازدهرت القرصنة على نحو غير مباشر في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. لقد أصبح القراصنة في واقع الأمر شركاء للفينيقيين في تجارتهم؛ إذ يحصلون منهم على نسبة محددة مما يحققونه من أرباح، لم يسع الفينيقيون بسبب تركيبتهم العقلية كتجار إلى القضاء على النهب البحري، وإنما ضاعفوا اهتمامهم بزيادة ثرواتهم.
في عصر برقل أصبح القراصنة من القوة بحيث أنشئوا دويلات لهم، كانت الدول الأخرى تعقد معها الاتفاقيات.
لقد أسهم نمو القرصنة في المياه الإغريقية في تحسين الظروف الجغرافية (متاهة الجزر والخط المنكسر للشاطئ)، فضلا عن إسهامها في ارتفاع مستوى فن الملاحة البحرية آنذاك. كان الناس قديما يبحرون بالأشرعة نهارا فقط وبمحاذاة الشاطئ، حريصين على ألا تغيب عن أعينهم، وما إن يرخي الليل سدوله، حتى يحتموا بواحد من الخلجان العديدة.
في ذلك الزمان دأب القراصنة على التربص بضحاياهم وسط الجزر الصخرية لبحر إيجه، وكذلك في خلجان شبه جزيرة بيلوبونيسوس جنوب اليونان، ليقوموا بالهجوم المباغت عليهم ليلا . كان القراصنة يعملون النهب والسلب في المدن الواقعة على الساحل مثلما كان الفايكنج
20
يفعلون في العصور الوسطى. هناك كان باستطاعتهم أن يسرقوا الماشية والأدوات المنزلية ولوازم المعابد والمصنوعات والحلي الثمينة والمشغولات الفضية والذهبية، ثم يحملون في نهاية المطاف النساء والأطفال، حيث يباعون بأسعار باهظة في أسواق الرقيق المنتشرة في بلدان البحر الأبيض المتوسط. كان تجار الرقيق يفضلون الفتيات، ويدفعون بالفتيات لممارسة أعمال البحر الشاقة. كثيرا ما كان نجاح الإغارة على السفن التجارية يتوقف على المصادفة، حيث كان من المحتمل أن تكون شحنتها من أحجار البناء مثلا أو لب الأخشاب أو الفخار الرخيص، وهي بضائع لا تمثل بالنسبة للقرصان قيمة كبرى، بل إن السفينة أحيانا ما تكون خالية من البضائع بالمرة.
في الزمن الغابر
21
كان قراصنة البحر الأبيض المتوسط يقومون بغاراتهم وفق خطة محكمة، فكانت زوارقهم تقوم خفية تحت جنح الليل بالمرور على الميناء، وقد لفت حول مجاديفها أربطة، ثم تقوم على مدى بضع ساعات بأعمال تجسس دقيقة، يتم بعدها الهجوم المفاجئ على الضحية، ثم تعود إلى المراكب، بضع ساعات من السطو المشوب بالتوتر، ويعود كل لص شارك في العملية، ليصبح من أصحاب الثراء.
يمكن للمرء اليوم بعد انقضاء آلاف السنين أن يلتقي على أرض اليونان بأطلال المباني الفريدة، ومن بينها تلك القلاع الدفاعية السامقة التي شيدت فوق التلال العالية في أعماق اليابسة، ها هنا كان سكان الجزر يبحثون عن الهاربين من هجوم القراصنة، ومن أعلى هذه الأبراج كانت تتصاعد الإشارات الدخانية تطلب العون من الجيران.
بمرور الزمن كسب الإغريق حلفاء لهم ذوي شأن عظيم، فبعد انقضاء الحرب البونية الثالثة لم تتعرض قرطاجة الجبارة لأية هزيمة. لقد تحالف الإغريق مع منافسي الأمس من البحارة الفينيقيين المهرة، عندئذ انتشرت حمى القرصنة، لتشمل حوض البحر الأبيض المتوسط بأسره بدءا من هيلسبونت،
22
وانتهاء بأعمدة هرقل،
23
كان القراصنة يحاصرون المدن ويدمرون الجزر، ويجبرون السكان على دفع الإتاوات، أما الذين كانوا يقعون في الأسر فهؤلاء لم يكن سراحهم ليطبق من دون فدية باهظة أو يباعون كعبيد . وقد وصلت الجرأة بالقرصنة إلى حد أنهم أقدموا على الهجوم على أوستيا ذاتها.
24
مارس القراصنة إبان رسو مراكبهم على الشواطئ قطع الطرق. وقد حدث ذات مرة أنهم تمكنوا إبان وجودهم بالقرب من أبواب روما نفسها، أن يقبضوا على قاضيين من قضاة روما ومعهما مساعداهما،
25
أصبح السفر بحرا أمرا محفوفا بالمخاطر، كما أصبحت العمليات التجارية التي يقوم بها الرومان تدر ربحا أقل. ارتفعت أسعار القرصنة، اضطر مجلس الشيوخ إلى توجيه بعض الحملات ضد القراصنة، غير أنها لم تكلل بالنجاح. وصل الأمر إلى حد أن القراصنة استطاعوا في القرن الأول قبل الميلاد إلى تعريض روما لحصار بحري، حصار بكل معنى الكلمة.
يا له من وضع شاذ؛ ذلك الذي نتج عن كون الرومان لم يبلغوا حتى ذلك الحين ما بلغه أعداؤهم الإغريق والفينيقيون من مستوى رفيع في فنون الملاحة البحرية. لقد ترك الرومان مقاليد التجارة البحرية في أيدي الغرباء الذين استأجروهم من بين أبناء الشعوب التي تم لهم إخضاعها؛ إذ لم تكن لدى الإيطاليين أية تقاليد بحرية، كما أن روما لم يكن بمقدورها بناء أسطول قوي في زمن قصير. أضف إلى هذا تلك الخلافات الداخلية العميقة التي كانت تتنازعها في تلك الفترة. لقد أهدرت روما قواها في الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين أنصار ماري من ناحية، وأنصار سولا من الناحية الأخرى.
26
وقد عمد لصوص البحر إلى استغلال هذا الضعف لدى الجمهورية الإيطالية حتى بلغ الحصار أشده؛ حين أصبح الثلث فقط من إجمالي كمية الحبوب المستوردة من مصر يصل إلى روما، بينما يقع الباقي في يد القراصنة، وهكذا أصبح شبح المجاعة يحوم فوق سكان العاصمة المتكبرة.
كانت مواقع القرصنة الرئيسية تتمركز آنذاك في كل من كيليكيا وبامفيلفيا وإيساوريا،
27
كانت كيليكيا الواقعة تحت وصاية القيصر البونتي ميتريدات تمثل أشد أعداء دولة روما لدادة،
28
وقد أخذت حالات السطو المتفرقة تتحول بالتدريج إلى حرب منظمة؛ إذ إن ميتريدات قدم ملجأ للصوص البحر في موانيه، بل وقدم لهم سفنا ليتمكنوا بها من تحقيق نجاح أكبر في حربهم ضد روما. هكذا وجدت روما نفسها وجها لوجه أمام خطر الموت ، عندئذ أوقفت في النهاية كل أعمال التنكيل بالداخل، ثم شرعت في النضال الحامي ضد القرصنة.
وفقا لاقتراح الخطيب الشعبي آفل جابيني جرى تكليف بومبي
29
في العام السابع والستين قبل الميلاد بمهمة إنزال هزيمة ساحقة بالقراصنة، حمل بومبي مسئولية قيادة القوات في كل أنحاء البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى سواحل يبلغ طولها خمسين ميلا، كما حصل حق التصرف دون عوائق في موارد الدولة. كان من الضروري ألا تخضع الخطط الاستراتيجية التي وضعها القائد الأعلى لأية شكليات قانونية. أصبح لبومبي أسطول مكون من «500» سفينة، وجيش قوامه «120» ألف رجل، على أنه وضع في اعتباره أن مواطنيه لم يتسن لهم بعد امتلاك ناصية فنون الملاحة البحرية، إلا أنه في الوقت نفسه كان واثقا من المزايا الرفيعة التي تمتلكها قوات روما البرية؛ ولهذا قرر بومبي استعارة فنون الملاحة من البحارة، أصحاب الخبرة من أبناء الشعوب الخاضعة لروما. وهؤلاء كان عددهم آنذاك غير قليل، لقد بدا أن الاختيار القائم أمام بومبي كبير، وها هو يلجأ إلى تزويد سفنه ببحارة من الأجانب، دون أن يترك لهم في الوقت نفسه أي سلاح في أيديهم. وقد ألزم بومبي هؤلاء الأجانب بتعليم المقاتلين الرومان الذين كان من الضروري أن يحملوا على كاهلهم عبء المعركة.
لقد جاءت حسابات بومبي في مكانها. لقد أدى اختلاط البحارة من ذوي الخبرة مع أفضل جنود ذلك الزمان، إلى خلق قوة جبارة خفيفة الحركة فوق مياه البحر الأبيض المتوسط.
لقد تكللت خطط بومبي الاستراتيجية بالنجاح أيضا، أدرك بومبي - استراتيجي المستقبل الماهر - أن القضاء على أوكار القرصنة المنتشرة في كل أنحاء البحر الأبيض المتوسط أمر يتطلب عشرات السنين، في الوقت الذي يتطلب منه إنجاز هذه المهمة الضخمة في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات. قرر بومبي مهاجمة أكبر مراكز القراصنة جميعا في وقت واحد. ولتحقيق هذا الغرض قسم بومبي الجزء الغربي للبحر الأبيض المتوسط إلى ثلاثين منطقة، وأفرد لكل منها قائدا بعد أن وضع تحت إمرته عددا من السفن. على هذا النحو وجه بومبي عددا من الضربات إلى سواحل إسبانيا وفرنسا وأفريقيا وصقلية وسردينيا، على أنه أرجأ تصفية الحساب مع أقوى أوكار القراصنة الموجودة في بحر إيجه، وعلى سواحل آسيا الصغرى إلى وقت متأخر، قاد بومبي العمليات بنفسه عند الساحل الأفريقي بعد أن وضع ثقته في مرءوسيه لقيادة الوحدات الأخرى.
30
فور طرد القراصنة من الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط، أعاد بومبي إطلاق أسطوله إلى الجزء الشرقي من البحر؛ حتى لا يعطي لعدوه أية فرصة لالتقاط الأنفاس. انسحب القراصنة، وقد تملكهم الرعب من جراء هذا البحر الفسيح المكشوف، لاجئين للاختباء في متاهات الجزر والخلجان الطويلة الضيقة وعند مخارجها، حيث بنوا استحكاماتهم، ها هي الطرق البحرية. وقد أصبحت أخيرا حرة أمام السفن التي راحت تحمل الحبوب من جديد، وها هم سكان روما الذين ذاقوا مرارة الجوع، وقد باتوا ضامنين وفرة المواد الغذائية. إبان ذلك ترامت إلى أسماع بومبي إشاعات مفادها أن القراصنة قد أصابهم الذعر، وبدأت الانقسامات تشق صفوفهم، فقرر انتهاز هذه الفرصة، ليوجه إليهم ضربته القاضية، في نفس الوقت لم يفقد بومبي بصيرته النافذة، فوعد مقدما بالعفو عن كل من يعلن استسلامه دون قتال.
سرعان ما آتت هذه الخطوة ثمارها، فلم تجد الفيالق الرومانية مقاومة، اللهم سوى في كيليكيا، وقف ميتريدات، عدو روما اللدود، وقد أخذت بمجامعه الدهشة والخوف يرقب كيف يتلقى رعاياه الهزيمة تلو الأخرى، وكيف تتساقط مراكب القراصنة في أيدي أعدائه.
ثلاثة أشهر فقط بدلا من ثلاث سنوات، استطاع فيها بومبي أن يتغلب على قراصنة البحر الأبيض المتوسط. كان وقع ثمار هذا الانتصار على الرومان مذهلا، لقد تم أسر عشرين ألف قرصان عدا عشرة آلاف آخرين لقوا حتفهم في المعارك. إن هذه الأرقام لتدل دلالة واضحة في حد ذاتها على مدى ما كان عليه القراصنة من قوة. لقد تم تدمير سفنهم وقواربهم، وتم الاستيلاء على موانئ تجمعهم، كما وقع «400» من أفضل السفن في أيدي الرومان المنتصرين، وهو عدد يعادل ضعف عدد السفن التي أغرقت، أو أحرقت.
اتخذ بومبي من كيليكيا قاعدة له، بعد الانتصار الذي أحرزه ، وقام بتجربة فائقة الغرابة سعيا وراء توطيد سلطته. لقد أطلق سراح العديد من القراصنة، وأسكنهم أوروبا بعيدا عن سواحل البحر، وعلى وجه الخصوص في كيليكيا وأخايا
31
اللتين تم تدميرهما، مقدما لهم بذلك إمكانية العودة إلى الحياة الشريفة. وعلى الرغم من عودة القراصنة بعد حوالي من عشرة إلى خمسة عشر عاما إلى نشاطهم في أماكن متفرقة، فإنهم لم يعودوا أبدا إلى ما كانوا عليه من قوة ومنعة.
مغامرة يوليوس قيصر العجيبة
انقضى العام الواحد والثمانون قبل الميلاد، كانت روما في تلك الفترة تحت حكم الديكتاتور «سولا» الذي صعد إلى السلطة بعد معركة حامية الوطيس. عاش «سولا» في رعب دائم بسبب رغبته في الحفاظ على تلك السلطة، الأمر الذي دفع به إلى ملاحظة أعدائه الحقيقيين منهم والمزعومين بلا رحمة، وعلى رأس هؤلاء كان «ماري» الذي نفاه «سولا»، بعد أن دانت له الأمور خارج روما هو وأنصاره، خاصة من تميز من بينهم بالكفاءة والثروة والنفوذ. كان من بين من طردوا شاب له هيئة النبلاء، ينتسب إلى واحدة من عائلات روما الأرستقراطية صاحبة النفوذ الواسع، رأى فيه «سولا» خطرا عليه على نحو خاص؛ نظرا لما كان يتمتع به هذا الشاب من علم وموهبة فائقة، وحب للعمل، وثقافة، ومقدرة غير عادية على جذب الأصدقاء، ناهيك عما لديه من طموح لخلق مستقبل سياسي.
هل يستوجب الأمر إذن الدهشة، كون «سولا» وضع هذا النبيل الروماني بالذات على رأس قائمة من قرر نفيهم؟ لم يستسلم هذا الشاب - الذي كان يدعى يوليوس قيصر - لليأس بعد ما عرف بقرار الديكتاتور، وسرعان ما تأقلم على وضعه الجديد. وكان يرى أن من الواجب ألا يفقد المرء وقته عبثا في المنفى؛ ولهذا قرر أن يقوم بدراسة فن الخطابة، فالتحق بإحدى أفضل مدارس البلاغة التي كان يديرها في جزيرة رودوس آنذاك المحاضر أبولوني المعروف باسم مولون. وهكذا أبحر قيصر تحيطه حاشية تليق بنبيل روماني متجها صوب جزيرة رودوس.
تميز الفتى بين المسافرين، وجذب إليه الانتباه بهيئته الأرستقراطية، فضلا عن سلوكه الذي اتسم بالكبرياء، فلم يكن يشارك فيما كان يدور حوله من مناقشات، كان صموتا، منغمسا في أفكاره، دائم القراءة. استمرت الرحلة بمحاذاة ساحل شبه جزيرة بيلويونيسون دون مغامرات تذكر، على أنه ما إن تجاوزت السفينة جزيرة «فارماكوزا» الواقعة بالقرب من الشواطئ الصخرية لمنطقة «كاريا»، حتى شوهد من فوق سطحها عدد من القوارب، تسير متتبعة السفينة ذات الأشرعة، عندما تيقن قبطان السفينة الرومانية من النظرة الأولى أن أصحاب هذه القوارب من القراصنة، أصدر أمره برفع الشراع الاحتياطي، ولكن هذا العمل لم يعد بالفائدة المرجوة، كانت الريح ضعيفة، بينما اندفعت القوارب الخفيفة بسرعة أكبر بكثير من السفينة الرومانية الثقيلة الخرقاء. وكانت المسافة بينهما تزداد ضيقا مع كل ثانية. أما عن قيصر - الذي كان على يقين هو الآخر أن الوقت فيه متسع إلى أن تلحق بهم الزوارق - فقد اتخذ مجلسه المعتاد في سكينة، وانهمك في القراءة.
عندما أدرك القبطان وضعه البائس، أمر بطي الشراع الصغير، ووقف على ظهر سفينته في انتظار ما سيسفر عنه تطور الأحداث، سرعان ما صعد القراصنة على ظهر السفينة، وعلى الرغم من الاستقبال المسالم الذي قوبلوا به فإنهم تصرفوا بكل صلف وغطرسة، تقدم رئيسهم - وهكذا كان من الممكن الحكم على منزلته من نبرة صوته الآمرة - تقدم من قيصر، الذي لم يقطع قراءته للحظة واحدة، وأخذ في الدوران حوله. كان من اليسير من مجرد المظهر الخارجي لهذا النبيل تحديد ضخامة الفدية المنتظرة، وأخيرا اتجه بسؤاله إليه: من تكون؟ (لم ينبس الشاب ببنت شفة)،
32
وبعد أن رمق القرصان بنظرة ملؤها الاحتقار، عاد ليواصل قراءته. ولما وجد أحد الركاب أن الموقف يزداد توترا، اقترب من الرئيس قائلا: هذا النبيل يدعى يوليوس قيصر، وهو سليل واحدة من أعرق الأسر، وقد نفاه «سولا» من روما، وهو الآن يتجه إلى رودوس، قاطع القرصان الراكب بحدة قائلا: سأستولي على كل ما يمتلكه، إنني لم أقتله فورا؛ لأن حياته الخاصة لا تهمني بقدر ما تهمني الفدية.
توجه الرئيس مرة أخرى إلى قيصر، وسأله بغضب: كم ستدفع مقابل حريتك وحرية الآخرين من رفاقك؟ غير أنه لم يتلق ردا على سؤاله، فاستشاط غضبا، وصاح: ماذا بك؟ هل قطعوا لك لسانك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فأقسم - صاح متوعدا - لأقطعنه لك بيدي هاته، وعندئذ سترجع عن خصالك الأرستقراطية.
كان القرصان من الطمع، بحيث إنه لم يكن يود أن يفقد مبلغ الفدية بسبب غرور ما، فأمسك عن هجومه على الروماني، وأخذ في التشاور مع رفاقه بشأن التوصل إلى اتفاق حول ثمن إطلاق سراح الأسرى، قال أحدهم: لو كنت مكانك لطلبت عشر طالنتات.
33
فقال الرئيس مقاطعا: هذا قليل للغاية، لعلي مضاعف الصفقة.
في هذه اللحظة أصابت الجميع الدهشة عندما خرج قيصر عن صمته، وانضم إلى المساومين موجها حديثه إلى القرصان ساخرا: عشرون طالنت؟ إنك تمارس مهنتك على نحو سيئ، فلو كانت لديك بعض من الخبرة أكثر، لأدركت ببعض الحساب المتواضع أنني أساوي ما لا يقل عن خمسين طالنت. عقدت الدهشة لسان القراصنة المجتمعين، والذين لم يكونوا مستجدين في مهنتهم، بل لقد سمعوا وشاهدوا الكثير إبان ممارستهم لها، غير أنها المرة الأولى التي يقابلون فيها أسيرا يضاعف فديته، على الرغم من أن المبلغ المطلوب كان ضخما بمقاييس ذلك الزمان.
يجب أن أعترف أن طريقتك في تسوية الأمر قد أعجبتني، ولكنني أحذرك، فإنني إذا لم أتسلم هذه الخمسين طالنت، فسوف أطيح برأسك، بهذا أنهى القرصان المساومة.
غادر الركاب سفينتهم إلى الشاطئ، كان عليهم أن ينتظروا تحت الحراسة مبلغ الفدية، في الوقت الذي بعث فيه القراصنة رسلهم إلى أهالي الأسرى. كان المخبأ الذي يعيش فيه القراصنة يتكون من مجموعة من الأكواخ والأخصاص المختفية بين الصخور، بحيث لا يمكن رؤيتها من ناحية الخليج.
لم يجد الخوف طريقا إلى نفس قيصر، وهو الذي اعتاد حياة الراحة والدعة، من جراء تغيير ظروف الحياة، وهو أمر يتفق وتركيبة شخصيته؛ فقد حاول دائما أن يتأقلم مع مثل هذه الظروف. سعى النبيل الشاب للاحتفاظ بقوته وهدوئه النفسي في فترة وجوده في الأسر معرضا نفسه لنظام قاس، دأب قيصر على الاستحمام كل صباح في مياه الخليج ، والقيام بتدريبات رياضية، والقراءة المستمرة في أوقات الفراغ، إلى جانب تدبيجه للخطب ونظمه للشعر. يحكى أن هذه الأمور لم تكن تجد أي اهتمام من جانب القراصنة.
أكسبت السمات الشخصية الخارقة، والسلوك النادر لأسير، أكسبت قيصر احترام ودهشة أعدائه، بينما راح هو يسعى قدر جهده للتعرف عليهم من خلال مراقبته لعاداتهم، ودراسة شخصياتهم. كان يوليوس قيصر ينصت باهتمام إلى قصص مغامرات القراصنة، وكان بدوره يقوم بإلقاء الشعر والخطب البليغة عليهم. كان رد الفعل على هذه الأشعار وتلك الخطب هو الضحك والسخرية، بينما أصيب بعض من الجمهور بالسأم الذي دفعهم للتثاؤب.
استقبل قيصر كل هذا بهدوء حقيقي ورباطة جأش، وكان في بعض الأحيان يرد على تعليقات الجمهور الجارحة بأنهم ليسوا في حالة تؤهلهم لتقدير كل ما في فنه الخطابي من روعة. وذات يوم ألقى ببعض كلمات دخلت التاريخ، قال القيصر: سيأتي يوم تقعون فيه جميعا في قبضة يدي، كونوا على ثقة بأني سأقوم بصلبكم سواء جزاء ما اقترفتموه من جرائم أو لغبائكم. تذكروا ما قلته لكم، واعلموا أني امرؤ أوفي بالعهد.
كان هذا تهديدا كفيلا - بالطبع - لأن يثير حنق القراصنة، إلا أنهم كانوا واثقين من أنفسهم إلى الحد الذي جعلهم يعتبرونه مجرد ذريعة؛ ليضعهم قيصر موضع سخريات جديدة.
بعد مرور ثمانية وعشرين يوما في مخبأ القراصنة عاد المبعوثون بنبأ مفاده أن الفدية، وقدرها خمسون طالنت، قد وصلت، وهي في حياة حاكم مدينة ميليت،
34
على الفور قام القراصنة بنقل الأسرى إلى ميليت، حيث استبدلوا بهم الفدية الموعودة، وما إن حصل قيصر على حريته، حتى قرر أن يحقق نبوءته، فتوجه إلى حاكم المدينة بطلب منه أن يقدم له أربعة زوارق بحرية وخمسمائة جندي.
بعد أن تسلم قيصر السفن، اتجه بها نحو فارماكوزا، وكما هو متوقع، فقد باغت القراصنة في وكرهم أثناء إقامتهم لحفل ماجن أقاموه بمناسبة اقتسامهم للغنائم. لم يكن القراصنة السكارى في حال تسمح لهم بالمقاومة، فاستسلم منهم ثلاثمائة وخمسون لصا طلبوا العفو من المنتصر، عدد قليل من الذين لم تدر الخمر رءوسهم استطاعوا الفرار. أطلق قيصر سراح الأسرى الذين كانوا موجودين بسجن الجزيرة، واستعاد مبلغ الفدية مرة أخرى، بعدها توجه إلى بيرجام،
35
حيث يوجد القاضي الروماني لآسيا الصغرى.
عرف قيصر بمجرد وصوله إلى بيرجام أن القاضي يقوم بجولة يتفقد فيها المناطق الواقعة تحت إمرته، الأمر الذي اغتم له قيصر كثيرا؛ إذ إن هذا القاضي كان هو الموظف الروماني الوحيد في الإقليم الذي كانت له صلاحيات إصدار أحكام الإعدام، ومن ثم أمر قيصر بحبس القراصنة وتكبيلهم بالأصفاد وإيداعهم حصن المدينة. أما هو فاتخذ طريقه بحثا عن القاضي، حتى يتمكن من الوفاء بوعده الذي قطعه على نفسه أمام القراصنة.
في نهاية المطاف وجد قيصر القاضي، لكن الإحباط كان حليفه؛ إذ إن هذا الموظف لم يكن لديه أي ميل لأن ينزل بلصوص البحر عقابا قاسيا، عندئذ لم يكن أمام قيصر سوى اللجوء للحيلة في محاولة لإقناعه بأن يوكل مساعده، ليقوم بإدانة القراصنة، غير أن القاضي لم يتزحزح عن رأيه قيد أنملة.
ولم هذه العجلة؟ ما إن أعود إلى بيرجان حتى أبحث أمر عقد محاكمة لهم، ولست أرى في مثل هذه الحالة ضرورة لاتخاذ إجراءات قاسية للعقوبة. سوف يدفع تجار إقليمي الفدية للقراصنة، وفي المقابل لن يقوم القراصنة بالإغارة على سفنهم.
ولكن الأمر على هذا النحو يكون بمثابة صفقة مع اللصوص. هكذا صاح قيصر باستياء، بينما أجاب القاضي بهدوء: نعم، إنها كذلك، لكن الحرب معهم تكلف أكثر.
قال قيصر بإصرار: وكيف سيكون الأمر مع هيبة الدولة؟
عندها أعلن القاضي قائلا: تستطيع الدولة من أجل حفظ السلام والرخاء، أن تسوي بعض المنازعات بالطرق الدبلوماسية، دون أن ينتقص هذا شيئا من هيبتها.
لم يجد التفسير الذي طرحه القاضي ترحيبا من قيصر، الذي بدأ يشك في أن القراصنة قد اشتروا هذا القاضي، وأن هذا الأمر أصبح سمة مميزة لأصحاب المقامات الرفيعة من الرومان. ودع يوليوس قيصر القاضي بعد أن تأكد من فشل مساعيه، وأسرع عائدا إلى المدينة. لقد قرر أن يضع الموظف الروماني أمام الأمر الواقع عليه، أعلن قيصر أنه تلقى تفويضا خاصا من الديكتاتور نفسه بتنفيذ حكم الإعدام، كانت خطوة غير عادية محفوفة بالمخاطر، وكان من الممكن أن تكلفه حياته.
بناء على أمر النبيل الروماني تم إعدام جميع القراصنة الثلاثمائة والخمسين. أما الثلاثون رئيسا فقد جرى صلبهم. وقد ظهر قيصر نفسه في المكان الذي جرت فيه مراسم الإعدام، ليلقي مرة أخرى وأخيرة خطابا أمام جمهوره من القراصنة، بدأه بقوله: لقد قررت أن أكون متسامحا معكم للمعاملة الطيبة التي أبديتموها نحوي إبان أسري، لقد راودني إحساس كريه بأنكم سوف تعتبرونني - وأنتم تفارقون الحياة - إنسانا قاسيا؛ ولهذا قررت إعدامكم قبل صلبكم.
انتهى الإعدام، وواصل قيصر رحلته إلى جزيرة رودس، وكأن شيئا لم يكن، ونجح في الالتحاق في الوقت المناسب بمدرسة البلاغة العظيمة التي أنشأها أبولوني.
بفضل ما صنعه بومبي وقيصر، تخلصت شعوب البحر الأبيض المتوسط بعض الوقت من شرور القراصنة، غير أنه - وبعد الموت المأساوي لقيصر في الخامس عشر من مارس عام (44) قبل الميلاد - عاد القراصنة يطلون برءوسهم من جديد، كانوا يزدادون جرأة وقوة، كلما تراخت قبضة الإمبراطور الجالس على عرش روما، وقد استمر هذا الوضع حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي.
الفصل الثاني
قراصنة بحار الشمال
بسقوط الإمبراطورية الرومانية انهارت التجارة البحرية، الأمر الذي أدى إلى اختفاء القرصنة، على أنها عاودت الظهور لفترة أخرى قصيرة، وذلك عندما أخذت التجارة في العصور الوسطى في الانتعاش. وبعودة التجارة، عاد النهب البحري سيرته الأولى، هكذا أصبح من الواضح أن تطور الملاحة البحرية والعمليات التجارية في البحر كانا يمثلان المقدمة الحتمية لوجود القرصنة. لقد تطور النهب البحري بشكل مميز في العصور الوسطى، وخاصة في أحواض بحار الشمال؛ البلطيق، وبحر الشمال، ومضيق المانش، حيث كانت تمر بها أهم الطرق التجارية.
إن الصلة المذكورة بين تجارة العصور الوسطى والنهب البحري - أي بين التجارة البحرية والقرصنة - يتطلب مزيدا من إلقاء الضوء عليه.
بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أن التجارة في العصور الوسطى ، وخصوصا في مطلع هذه العصور، كانت ذات طابع يختلف تماما عما هو معروف لدينا اليوم. كان النهب يشكل العنصر الرئيس فيها؛ فتجار العصور الوسطى كانوا يلجئون إلى السطو والسرقة، سواء أكان ذلك في البر أم في البحر. في ظروف مثل هذه كان جلب البضائع وتوصيلها إلى المكان المطلوب يتطلب الحراسة الكافية.
كان قرصان العصور الوسطى يتعامل مع النهب بالطريقة نفسها، التي أصبح التاجر فيما بعد يتعامل بها، ليتمكن من الحصول على مختلف البضائع مقابل مبلغ معين يدفعه. من الطبيعي أن هؤلاء التجار الذين كانوا يتعرضون للهجوم، كانوا يبدون المقاومة، كان التجار يدافعون عن أنفسهم ضد اللصوص، على أنهم كانوا يقومون هم أنفسهم - عندما تتاح لهم الفرصة - لسرقة رفاق مهنتهم دون وخز من ضمير، بل كثيرا ما كان سكان الحضر يتعرضون للسطو على ممتلكاتهم. وهكذا فقد كان كل تاجر في العصور الوسطى لصا بدرجة أو بأخرى، يمارس حرفته - سواء في البحر أو على البر - تبعا للطرق التي تسير فيها التجارة، وفي الوقت نفسه، وعلى النقيض من ذلك، كان كل قرصان يمارس التجارة بدرجة أو بأخرى.
وبمرور الوقت لجأ بعض التجار - سعيا منهم لحماية مصالحهم التجارية - من أجل منافسة ناجحة إلى الاتحاد معا في منظمات تجارية تنامت، حتى أصبحت أحلافا ضخمة، كان له دور سياسي ضخم بعيد جدا عن حدود نشاطها التجاري نفسه، في عام 1241م تأسست شركة هانزا الألمانية لتكون أكبر هذه المنظمات، واستهدفت بصفة خاصة محاربة النهب البحري، على أنه سرعان ما أصبحت الشركة نفسها مركزا للقرصنة، وفقا لتقاليد العصور الوسطى الراسخة.
الفايكنج
شق الفايكنج عباب البحر بزوارقهم الطويلة الضخمة، كان الواحد منها يبلغ من الطول حوالي عشرين مترا وعرضه خمسة أمتار، وذلك في الفترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر، ويرتفع في وسطه - حسب بحوث علماء الآثار - صار يبلغ طوله ثلاثة عشر مترا أو يزيد، مجهز بشراع وحيد كبير، ويعمل على جانبي الزورق اثنان وثلاثون مجدافا. كانت الدفة مثبتة في الجانب الأيمن من المؤخرة، كما كان مقدم الزورق مقوسا ، أما الجسم فقد كان مغطى بألواح من خشب البلوط، كانت الزوارق من هذا النوع تقوم بنقل الناس والبضائع، ومجهزة لخدمة الأغراض التجارية، وكذلك لأعمال السطو والسرقة، وقد استخدمها أيضا، ولكن بدرجة أقل البحارة الصقالبة
1
والكورنثيون
2
والاستونيون.
وقد تعرض تصميم هذه المراكب في الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر إلى تعديلات جوهرية؛ ولهذا كان عليها أن تقوم بنقل البضائع والناس، وأن تقوم بمهام السفن القتالية التي يمتلكها التجار القراصنة. أصاب التغيير أيضا الخطوط الخارجية لهذه السفن، التي أصبح لمقدمها ومؤخرتها المرتفعين عن الماء شكل مميز؛ فقد جرى إقامة مقصورة أعلى مؤخرتها، كانت تستخدم لإقامة الركاب. وهذه الوظيفة كان يقوم بها سطح مقدم السفينة أيضا، ومن ثم فإن مقدم السفينة المرتفع بدوره كان يعمل على تسهيل الملاحة خلال الأمواج العالية. أما أرضية الدور الموجود أسفل السطح فقد كانت تستخدم كمخزن للبضائع. كانت السفن التجارية التي ظهرت فيما بعد تسير ببطء وهدوء، يختلف نسبيا عن زوارق الفايكنج الأسرع والأكثر قدرة على المناورة.
لا شك أن الإسكندنافيين يتذكرون بفخر أسلافهم النورمانديين الفايكنج، على الرغم من أنهم كانوا يمارسون مهنة تعد في زماننا مشينة ألا وهي القرصنة، على أن الناس في مطلع العصور الوسطى عندما بدأ النورمانديون نشاطهم في السرقة، كانوا ينظرون إلى هذه المهنة بشكل يختلف عما ننظر نحن بها إليها الآن.
لقد دفعت ظروف الحياة الصعبة في شبه جزيرة إسكندنافيا السكان إلى السطو على أراضي الغير. لم تكن شبه الجزيرة بجبالها الكثيرة وغاباتها ومناخها القاسي، لتوفر سبل الحياة الضرورية للسكان الذين كانوا يزدادون بسرعة، والذين أخذوا لهذا السبب في الهجرة في اتجاهات مختلفة بحثا عن ظروف أفضل. فعلى سبيل المثال: أخذ السويديون الذين كانت الشعوب الشرقية تسميهم بالورنكيين (نسبة إلى قبائل الورنك الإسكندنافية القديمة) في الهجرة باتجاه الشرق نحو مناطق خلجان فنلندا وريجا. كما اتجهوا أيضا إلى السواحل الجنوبية لبحر البلطيق، أما النرويجيون (كانوا يسمون في العصور الوسطى بالنورمانديين) الذين كانوا يسكنون الجزء الغربي من شبه الجزيرة؛ فقد اتجهوا غربا باتجاه جزر بحر الشمال، فايرون، شتلاند، أوركني، هيبردس، وأيضا في اتجاه أسكوتلاندا وأيرلندا .
أبحر النورمانديون مستخدمين سفنا صغيرة ليست في الحقيقة سوى زوارق كبيرة غير ذات أسطح. كانت هذه السفن تعتمد على شراع وحيد، وعندما تندر الريح يتم استخدام المجاديف. كان الملاحون النورمانديون مقاتلين محنكين، كانوا يثبتون على جانبي الزوارق دروعا مستديرة تزينها الشعارات، مهمتها حماية المجاديف الموجودة على امتداد جوانب السفينة. كذلك كان مقدم السفينة ومؤخرها المقوسان يبدوان كما لو كانا يندفعان إلى أعلى تزينهما تماثيل مخيفة، تصور رءوس التنين. وكانت تعد بمثابة علامات مميزة، إلى جانب أنها استهدفت بث الرعب في قلوب الأعداء عند مهاجمتهم. كانت زوارق النورمانديين تتسع تبعا لأحجامها من أربعين إلى ستين شخصا، بما في ذلك المؤن الضرورية للإيجار لمدة طويلة، وكان النورمانديون يقومون بالإبحار على ظهر هذه السفن البدائية نسبيا في غالب الأحوال بمحاذاة الساحل؛ إذ لم يكونوا يخرجون إلى البحر إلا عند الضرورة القصوى.
لم تكن هذه الزوارق لتستخدم إلا كوسائل انتقال، أما المعارك فلم يكونوا يخوضون غمارها إلا على اليابسة بشكل أساسي، وفي المرات التي تسنى للأعداء فيها مهاجمة النورمانديين بأسطول حربي صغير جيد الإعداد (مرة في بريطانيا وأخرى في إسبانيا السراتسينية)
3
حاقت بهم الهزيمة، كان البحارة النورمانديون - خلافا للمحكوم عليهم بالأعمال الشاقة على ظهر سفن قراصنة البحر الأبيض المتوسط - يتمتعون بالحرية، ويقومون بمهام التجديف، وأحيانا يقاتلون.
على رأس الحملات النورماندية، ظل القادة يختارون من الفايكنج. كان هناك بضع عشرات من العاملين تحت رئاسة الفايكنج، وكثيرا ما كانوا يصلون إلى بضع مئات إبان الحملات المكثفة، بمرور الوقت أصبحت جماعات قطاع الطرق البحرية من النورمانديين الذين هاجموا البلاد الأوروبية الواقعة على ساحل البحر، وشواطئ الأنهار في الفترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر، يعرفون باسم الفايكنج، وأصبحت هذه الفترة من تاريخ إسكندنافيا تسمى بعصر الفايكنج.
في البداية اتخذت حملات النورمانديين طابع السطو، فكان الفايكنج يظهرون فجأة على ظهر زوارقهم السريعة، ثم يغادرونها إلى الشاطئ، وإلى أن تأخذ السلطات المحلية في التأهب لرد الهجوم يكون هؤلاء قد دمروا البلدة. كان الفايكنج يعودون بنفس السرعة التي ظهروا بها محملين زوارقهم بالغنائم التي نهبوها، على أن القرصنة لم تكن حرفتهم الوحيدة، فوفقا للعادات التي سادت في العصور الوسطى كان الفايكنج يعملون في الوقت نفسه تجارا، وكان لهم في هذا الشأن باع طويل. قام الفايكنج أيضا بغزوات سطو على البلاد السلافية؛ من خلال المناطق التي كانت تقطعها الطرق التجارية المؤدية إلى الشرق وخاصة إلى بيزنطة وبغداد. وقد قاموا أيضا بنهب التجار القادمين من الشرق حاملين بضائعهم الثمينة في طريقهم بها إلى غرب أوروبا عبر الأراضي السلافية.
وقد ورد ذكر غارات النورمانديين في المصادر الإفرنجية، التي تعود إلى نهاية القرن الثامن، على أنه حتى في هذا الزمن لم يكن النورمانديون قد بلغوا من الأهمية هذا القدر الذي بلغوه في القرن التاسع وما تلاه، عندما أصبحوا أكثر عدوانية. ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى تضخم عدد سكان شبه جزيرة إسكندنافيا التي بدا أنه ليس في مقدورها أن توفر الطعام لسكانها.
لقد عد كارل العظيم (742-814م)
4
العدة لحماية سواحل دولته من غزو النورمانديين على نحو فعال، وذلك بأن أقام نظاما دفاعيا ساحليا مؤثرا جيد الإعداد على نحو دائم لم ينجح النورمانديون في اختراقه؛ مما دفعهم إلى التوجه ناحية الجزر الصغيرة في بحر الشمال، فاستولوا عليها بسرعة، ثم واصلوا سيرهم باتجاه الجزر البريطانية. كانت المرة الأولى التي ظهر فيها النورمانديون في إنجلترا عام 789م، وعندما نزلوا بثلاثة من سفنهم في دور سيتشاير. ومنذ هذا التاريخ بدأ الفايكنج غاراتهم على إنجلترا بشكل مستمر. بمرور الوقت صادفت الجزر البريطانية هوى القراصنة الإسكندنافيين، لقد حلا لهم العيش ها هنا، فأخذوا في استيطان سواحل هذه الجزر، وما عادوا براغبين في الإبحار عبر بحر الشمال اللهم إلا مرة واحدة كل عام. وعندما اهتزت هيبة وقوة مملكة كاولينج بعض الشيء في ثلاثينيات القرن التاسع، جدد النورمانديون غاراتهم، فبدءوا بالساحل الفرنكي، ثم تبعوه في الأعوام من 836 إلى 839م بفريزيا،
5
وكان من نتيجة هذه الحملات المتكررة أن تم القضاء على المركز التجاري الرئيس للمملكة الفرنكية.
بعد أن دان للفايكنج مصب نهر الراين أخذوا في التحرك بزوارقهم نحو المنبع، ناشرين الرعب والفزع في قلب كل من قابلوه، وفي مايو عام 841م ظهروا عند مصب نهر سينا، واستولوا على ميناء روان. في الوقت نفسه قامت وحدات أخرى بأعمال النهب على الساحل الجنوبي الشرقي لإنجلترا. وفي العام التالي دمر النورمانديون كفنتوفيك أكبر المواني على مصب نهر كانش.
لم يستطع أبناء لودفيج التقي
6
أن يقفوا في مواجهة الغارات القادمة من الشمال، فقد تغلغل النورمانديون باتجاه غرب وجنوب دولة الفرنكيين، وأصبحوا أكثر وقاحة في ذهابهم ومجيئهم مارين بمنبع النهر مكثفين من غاراتهم، وفي يونيو 843م إبان الاحتفال بعيد القديس يوحنا، ظهروا فجأة عند مصب نهر اللوار، وبعد أن باغتوا سكان نانت
7
الذين لم يتوقعوا هذه الغارة، أعملوا القتل فيهم، واستولوا على غنائم قيمة، ثم رحلوا إلى المصب، حيث عادوا لينظموا عدة غارات أخرى للنهب في عمق البلاد خلال فصل الصيف.
ظل النورمانديون زمنا طويلا يرحلون من بلادهم في الشمال كل عام، متجهين جنوبا صيفا وربيعا فقط، ليعودوا في وقت العواصف الخريفية والرياح الباردة إلى إسكندنافيا، كان هذا هو تكتيكهم، على أن مصب اللوار الذي اختاره النورمانديون، ليكون بمثابة هدف لقرصنتهم قد بدأ بعيدا جدا عن يوتلانديا وإسكندنافيا، الأمر الذي جعل من القيام سنويا بمثل هذه الرحلة البحرية الطويلة والمحفوفة بالمخاطر أمرا لا معنى له. ولما كان النورمانديون مقتنعين بأن الفرنكيين لا يشكلون عقبة بالنسبة لهم، أنشئوا قاعدة فوق جزيرة نوارموت الصغيرة القائمة عند مصب اللوار، ومن هناك كانوا يقومون بغاراتهم في اتجاه أعالي النهر، حول النورمانديون معسكرهم الحصين في هذه الجزيرة بمرور الوقت إلى قلعة حقيقية، بحيث لا يتمكن الفرنكيون الذين لا يملكون أسطولا من التغلب عليه.
بحلول صيف 844م، اندفع النورمانديون من جديد بعد أن قضوا شتاءهم في نوارموت إلى الجنوب، فوصلوا مصب نهر جارون، ثم واصلوا إبحارهم في اتجاه المنبع، وكانوا يحرقون وينهبون كل البلدان والكنائس التي تقابلهم عدا بوردو التي استطاعت أن تصد الغزاة. في العام نفسه ظهر النورمانديون عند شواطئ إسبانيا، ثم توغلوا حتى وصلوا إلى نهر جواد لكفيفر، وعبر هذا النهر ساروا، حتى وصلوا إلى مدخل ميناء سيفيليا، في العام التالي ازداد نشاط وحدات النورمانديين الشمالية، فنهبوا وأحرقوا هامبورج، ثم هاجموا منابع إلبا، ولما لم يجدوا أية مقاومة تذكر، قاموا بالإغارة على فريزيا، في الوقت الذي وصلت فيه مجموعة أخرى من القراصنة على زوارقها حتى منابع نهر السين، وقامت في التاسع والعشرين من مارس عام 845م بإحراق باريس.
غادر النورمانديون مملكة كارل الأقرع،
8
بعد أن أخذوا فدية كبيرة على مدى الثلاث سنوات التالية. احتل القراصنة النورمانديون (الذي وصلوا إلى هنا من الشمال بجحافل جبارة) كل الشواطئ الممتدة من إلبا إلى جيروندا. ومنذ هذه اللحظة تغير طابع الغارات التي كان النورمانديون يشنونها، فإذا كان الهدف من هذه الغارات قد انحصر قبل ذلك في الاستيلاء على الغنائم التي كان الفايكنج يعودون بها إلى الوطن، أو إلى قواعدهم، فإنه منذ النصف الثاني من القرن التاسع، أخذوا في الاستقرار واستيطان هذه الأراضي.
وقد شارك في احتلال هذه الأراضي الخاضعة أناس ينحدرون من أصول دنماركية، وكانوا يسمون أيضا بالنورمانديين. وهؤلاء كانوا قد تركوا الدنمارك بعد انتهاء الحرب الأهلية، واستوطنوا في حوالي عام 850م المناطق المحيطة بأنهار اللوار والسين والتايمز، وأسسوا في الجزر المبعثرة عند مصباتها معسكرات قوية، جلبوا إليها عائلاتهم من يوتلانديا. لم يكن الاستعمار يعني بالنسبة للفايكنج التوقف عن ممارسة السلب؛ فقد كانوا يتركون أماكن سكناهم الجديدة موغلين في عمق بلاد الفرنكيين ميممين صوب الجنوب، إذا كان النورمانديون حتى ذلك الحين يتحركون بشكل ثابت تقريبا بمحاذاة شواطئ البحار والأنهار، فإنهم الآن أخذوا أكثر فأكثر يستبدلون الخيل بالزوارق.
أصبح النضال ضد النورمانديين أمرا بالغ الصعوبة؛ لما تميزوا به من قدرة على المناورة، وسرعة الحركة، والتفوق على صفحة البحر؛ فقد أخذ السكان الذين تملكهم الرعب، في الهرب باحثين عن ملجأ لهم في الغابات والجبال؛ لتعصمهم تاركين وراءهم المسكن والأرض. أما الحكام المستضعفون الذين لم تكن لديهم القدرة على التغلب على النورمانديين؛ فغالبا ما كانوا يدفعون للغازي الفدية التي كانت تشكل عبئا ثقيلا على الرعايا، مما دفع بالسكان إلى اللجوء أكثر فأكثر إلى الدفاع عن أنفسهم ذاتيا.
كان الفايكنج أحيانا ما يتركون بعض المناطق في هدوء نسبي، ففي عام 859م مثلا غادروا وكرا للقراصنة يقع عند مصب نهر اللوار؛ إذ إن ما قاموا به من أعمال النهب والقتل في هذه المناطق لم يدع لهم شيئا يستولون عليه، فاتجهوا جنوبا. وفي طريقهم عاثوا فسادا على شواطئ إسبانيا وأفريقيا، وتعرضت جزر باليار في البحر الأبيض المتوسط لعدوانهم إلى أن توقفوا على ساحل فرنسا الجنوبي، حيث دلتا نهر الرون لقضاء الشتاء به. مرة أخرى عاد الفايكنج في ربيع عام 860م لمواصلة التحرك، بعد أن قاموا بنهب إقليم البروفانس (جنوب شرقي فرنسا)، واكتسحوا شواطئ شبه جزيرة أبنين، وقد تمكنوا بالخداع من الاستيلاء على مدينة بيزا (في وسط إيطاليا)، والتي أصبحت منذ ذلك الحين نقطة انطلاق جديدة لحملاتهم إلى توسكانا، وفي عام 861م يعود الفايكنج إلى ملجئهم عند مصب اللوار.
لقد أتاح التفتت السياسي لبريطانيا آفاقا جديدة أمام النورمانديين، الذين كان اهتمامهم بأوروبا قد فتر لبعض الوقت، إذ بدءوا في الهجوم على إنجلترا من جهة الشمال، وفي عام 866م، نزل القراصنة في خليج هامبر، وسرعان ما أثمرت تحركاتهم عن احتلال جزء كبير من الجزيرة.
على مدى عشرات السنين، لم تكن هناك في أوروبا أية قوة مؤهلة للتصدي للفايكنج، كان العالم المسيحي بأسره يرتعد أمام كارثة العصور الوسطى البشعة هذه، والتي تقف لتتساوى مع الطاعون وغارات الكفار. وقد ظلت الكلمات التي يتألف منها الدعاء القائل:
a furoa nomaorum ilbera nos, domines «اللهم نجنا من غضب النورمانديين» لزمن طويل يذكر شعوب أوروبا بالسنوات الرهيبة المليئة بالرعب الدموي الذي فرضه قراصنة الشمال.
كان ألفريد الأكبر
9
هو الوحيد الذي نجح في صد هجوم النورمانديين على إنجلترا، وكانت المعارك بينه وبين الغزاة سجالا، وأسفرت عن استعادة ألفريد لولاية ويسكس التي كان قد فقدها قبل ذلك، وفي عام 878م وقع ألفريد معاهدة تقضي بتقسيم إنجلترا ، ظل الجزء الغربي من البلاد بناء عليها تحت حكم ألفريد، بينما آل الجزء الشرقي للغزاة. بعد عام 878م عاد أولئك النورمانديون الذين لم يستوطنوا إنجلترا إلى أوروبا، ليستأنفوا هنالك أعمال النهب، وفي عام 885م حاصروا باريس، وقد دفع لهم كارل السمين
10 (كارل الثالث) فدية ضخمة مقابل فك الحصار عن المدينة الذي استمر ما يزيد عن عام. وفي عام 911م قام سلالة النورمانديين بإخضاع الإقليم الذي أصبح معروفا، منذ ذلك الحين، باسم غزاة الشمال النورمانديين. ومن هذا المكان تحديدا خرج النورمانديون في عام 1066م، بقيادة فيلهلم الفاتح
11
لغزو إنجلترا مرة أخرى.
أدى توسع النورمانديين في القرن التاسع الميلادي إلى قيامه بغزو واستيطان أجزاء من الجزر البريطانية؛ أيسلندا، وجرينلاند. على أنهم لم يقيموا دولة تضم كل الأراضي الخاضعة لهم؛ فقد كان لغياب تماسكهم أثره في تقويض سيادتهم على البلاد الخاضعة لهم. وفي النصف الأول من القرن الحادي عشر ظهرت دولة بحرية جبارة بقيادة كنور الأكبر
12
استطاعت أن تحتل الدنمارك، والنرويج، وإنجلترا. وقد اعترفت كل من أسكوتلندا وأيرلندا بسلطانها. لقد وضع التطور الاجتماعي الاقتصادي لدولة كنور الأكبر حدا لعصر غارات الفايكنج. عندئذ أخذ النورمانديون في البحث عن نقاط ارتكاز لهم في مجال التجارة، التي كان طابعها قد أخذ في التغير تدريجيا. لقد ازدهرت التجارة البحرية بين إنجلترا والدنمارك بعد اتحاد البلدين، وبمرور الوقت توقف النورمانديون بصفة عامة عن تهديد أوروبا.
إن الجزء الأكبر من الشواهد التاريخية الخاصة بالفايكنج تواترت إلينا من خلال الشعوب التي وقعت ضحية لهم، وليس من المستغرب أن تشغل العنف والتعسف والقسوة، التي ارتكبها - بلا شك - الغزاة والقراصنة المكان البارز فيها. على أن الشواهد الخاصة بالتنظيم الداخلي للفايكنج ظلت قابعة في زوايا النسيان، لقد كشفت أحدث الأبحاث التي جرت بموضوعية أن الفايكنج لم يكونوا مجرد قوة مدمرة عمياء، كما صورهم مؤرخو عصر الإقطاعيين المتحيزين.
حقيقة كان الفايكنج قساة طغاة، غير أنهم في الوقت نفسه استطاعوا إقامة مجتمع متميز للقراصنة، مجتمع له ثقافته الأصيلة. كان الفايكنج يقومون بعقاب من يسرق، أو يلجأ للعنف داخل مجتمعهم الخاص، وكان الخداع إبان اقتسام الغنائم يعد جريمة كبرى، كما كان الموت عقوبة الخيانة والفرار من الخدمة، وهي عقوبة لم يكن المذنب فيها يستطيع أن يأمل في رحمة أو عفو.
لقد ترك الفايكنج ذكريات دموية عنهم في تاريخ العديد من الشعوب الأوروبية، في نفس الوقت الذي كانوا متحمسين فيه لإقامة العدل فيما بينهم.
قراصنة بحر البلطيق
في مستهل العصور الوسطى أبحرت العديد من السفن من مختلف البلاد عبر بحر البلطيق، ولم يكن البحر ينقصه القراصنة.
ما هي إلا بضع سنين، وقد أصبحت السيادة في بحر البلطيق للتجار المحاربين، الذين جاءوا في القرن الثامن من فريزيا، وكانوا ينقلون جوخها
13
الشهير، وكذلك الزجاج، والخزف، والسلاح، والملح، عبر الطرق البرية الممتدة جنوب شبه جزيرة يوتلاندا. وكان الفراء على رأس قائمة مشترياتهم الاحتكارية من الدنماركيين، والقوطيين، والسويديين، والسلافيين. كانت مدينة بيركا، القريبة من ستوكهولم وهايتهابو في منطقة شيلزفيج، يمثلان القاعدة الرئيسية لتجارتهم. كانت المراكز التجارية القوية القائمة على شواطئ فريزيا بؤرة لعمليات التبادل التجاري الحيوي بين السكان المحليين، والتجار الذين كانوا يقومون بنقل البضائع التي حصلوا عليها عبر الطرق البرية والبحرية.
على أن الغلبة في مياه البلطيق لم تكن من نصيب الفريزيين؛ فهؤلاء سرعان ما أزيحوا بواسطة الفايكنج الذين سبق الحديث عنهم، وكذلك من جانب القراصنة المحليين من السلافيين، والكورنثيين، والآستونيين.
لم يكن من قبيل الصدفة أن تصاعدت أعمال القرصنة في بحر البلطيق في الفترة ما بين القرنين التاسع والحادي عشر؛ إذ إن هذه الفترة بالذات شهدت نهضة وانتعاشا اقتصاديين في بلدان بحر البلطيق، كما شهدت نموا في حركة التجارة. وبالتالي في العلاقات بين هذه البلدان وباقي المناطق الأوروبية الأخرى، في هذه البقاع، كان هناك ما يمكن التجارة فيه، وأيضا ما يغري بالسرقة.
لقد ظهرت حول سواحل البلطيق في مطلع العصور الوسطى أول دولة إسكندنافية وسلافية، تلك الدول التي ما لبث التنافس أن دب بينها من أجل فرض السيادة على البحر. وإذا كان الصراع فيما مضى يدور بين جماعات من التجار القراصنة؛ فإنه سرعان ما تحول إلى منافسة صريحة بين ملوك كل من الدول الإسكندنافية والسلافية من أجل الهدف ذاته، وازداد لجوء ملوك هذه الدول لاستغلال القراصنة لأغراضهم السياسية الخاصة.
في القرن الحادي عشرن، وبعد ما أذنت شمس الفايكنج للمغيب، بدأ القراصنة الروجيون
14
والبوموريون
15
وغيرهم من القراصنة السلافيين يتبوءون مكانهم فوق مياه بحر البلطيق. وهؤلاء أخذوا في الإبحار عبر البلطيق في مختلف الاتجاهات على متن سفن، كان عدد طاقم الواحدة منها يربو على أربعين شخصا، حتى إنهم تمكنوا من الوصول في بعض الأحيان إلى مناطق من بحر الشمال.
لقد خاضت الدول الدنماركية نضالا لا هوادة فيه ضد قراصنة البلطيق، وعلى الرغم من أن ملوك الدنمارك قد تمكنوا بمرور الوقت من فرض تفوقهم؛ فإن موانيهم ظلت - حتى في القرن الثاني عشر - تتعرض لمتاعب من قبل القراصنة.
إن الصراع الذي دارت رحاه بين القراصنة الدنماركيين وبين السلافيين، قد جرى وصفه بشكل رائع في الساجا،
16
التي كتبها الأيسلندي سنوري ستورلوسون تحت اسم الهايمسكرينجلا
17 (الدائرة الأرضية) في القرن الثالث عشر، يحكي فيها على وجه الخصوص عن هجوم السلافيين على مدينة كونونجهال الواقعة جنوبي النرويج. وحسب روايته؛ فالنرويجيون استخفوا بالأخبار التي وردتهم عن حملة يدبرها السلافيون. وعندما ظهر الأسطول المعادي في العاشر من أغسطس عام 1136م على حين غرة عند الشواطئ النرويجية، ساد الذعر المدينة حتى إن أحدا لم يحاول إنقاذ تسع سفن كانت راسية آنذاك في الميناء. كان الأسطول السلافي الذي أغار على كونونجهال ضخما بالفعل؛ فقد كان مكونا - إذا ما صدقنا صاحب القصيدة الذي بالغ بالأحرى في قوة السلافيين - من سبعمائة وثمانين زورقا، على ظهر كل منها أربعة وأربعون مقاتلا وحصانان. كان الأسطول بقيادة الأمير راتيبور والقائد العسكري أونيبور.
لم يكتف السلافيون بالاستيلاء على الأسطول الرابض في الميناء، وإنما فرضوا سيطرتهم أيضا على الشاطئ، ثم ما لبثت هذه السيطرة أن امتدت لتشمل المدينة بأسرها. والحقيقة فإن سكان كونونجهال استطاعوا إبان انسحابهم نحو الجزء الحصين من المدينة، أن ينزلوا بالمغيرين ضربات مؤثرة، بعد أن قتلوا لهم حوالي مائتين وأربعين رجلا. أما المغيرون فقد أعملوا النهب في السفن وفي المدينة، ثم أضرموا النار في كل شيء يمكن أن يشتعل، وجه راتيبور إنذارا إلى المدافعين عن كونونجهال، طالبهم فيه بالاستسلام ومغادرة القلعة سالمين، ولما رفضوا الانصياع للإنذار، بدأ الحصار الطويل المضني.
قام المدافعون بصد الهجمات الضارية، وتزايدت خسائر السلافيين، وأخذ محاربوهم شيئا فشيئا، يقعون فريسة لليأس. وعندما أصبح السلافيون مستعدين لوقف هجومهم والتخلي عن المدينة، استطاع القائد العسكري أونيبور أن يقنع جنوده بأن يهاجموا القلعة مرة أخرى ... أظهر الانقضاض الجديد أن المحاصرين باتوا ضعافا بشكل واضح، وأن ذخيرتهم قاربت على النفاد. لقد أصبحوا الآن يردون على المهاجمين بالأحجار والعصي فقط، وهذه لم تكن تسبب أذى يذكر بعدما كانوا يردون على الهجمات الأولى بوابل من السهام والرماح. واصل السلافيون حصارهم، ولما رأى سكان كونونجهال ما هم فيه من وضع يائس، قرروا أخيرا تسليم القلعة والاعتماد على عفو المنتصرين.
لقد أخطأ من في القلعة الحساب، لقد دمرت قلعتهم تماما ثم أحرقت، بل إن المعتدين قاموا بإحراق بعض المباني مرات أربع، كانوا حريصين على التأكد من أن هذا الصرح قد تم إحراقه لآخر حجر فيه. سيق السكان الذين لم تكن إليهم حاجة؛ ليقتلوا، وجرى تقسيم الباقين بين الجنود، وحملوا إلى الجنوب بوصفهم أرقاء.
لقد أضحى القراصنة السلافيون، الذين قاموا بأعمال السلب والنهب بعرض البلطيق وطوله، مصيبة حقيقية على السفن، فضلا عن الموانئ التي كانت قد أخذت في النمو، بل وعلى كل المدن المطلة على ساحل هذا البحر. لقد دمر الكورنثيون مدينة سيجتونا،
18
وأدت أعمال النهب التي قام بها القراصنة السلافيون إلى انهيار هايتهابا، بل والمدن السلافية نفسها التي فقدت إمكانات ممارسة التجارة بحرية. جدير بالاهتمام هنا أيضا الخسائر التي لحقت بالقراصنة أنفسهم (خذ مثلا ما حدث لمدينة فولين
19
نتيجة الهجمات المضادة التي شنها الإسكندنافيون، في الوقت نفسه أسهم انهيار المدن السلافية الواقعة على بحر البلطيق في تغلغل الجرمانيين وقيامهم باحتلال هذه المنطقة، الأمر الذي ساعد بدرجة كبيرة على دعم مكانة جمعيات الفرسان الإقطاعية الجبارة، وظهور حلف الهانزا.
حلف الهانزا وجماعة الإخوة الفيتاليين
دفع اشتداد أعمال القرصنة في البحر، وقطع الطرق في البر، تجار شمال غرب أوروبا للاتحاد من أجل الدفاع عن مصالحهم المشتركة وتأمين التجارة. ولتحقيق هذا الهدف جرى في قاعة مبنى بلدية لويبك، وبحضور جميع أعضاء مجلس المدينة وتجارها، وكذلك ممثلي مدينة هامبورج، توقيع اتفاق إنشاء حلف بين المدينتين. جاء في هذه الوثيقة، التي أصبحت بمثابة نقطة انطلاق لإقامة اتحاد تجاري ضخم، كان يسمى باللغة الألمانية القديمة (الهانزا) ما يلي: «ليكن معلوما للجيل الحالي، وليذكر أحفادنا، أننا وأصدقاءنا الأعزاء مواطني مدينة هامبورج، قد قمنا بعقد الاتفاق التالي، والذي ينص على أنه في حال قيام القراصنة أو غيرهم من الأشرار بمهاجمة مواطنينا أو مواطنيهم، بدءا من المكان الذي يصب فيه نهر ترافي مياهه في البحر، وحتى مدينة هامبورج ذاتها. ومن عندنا وبامتداد نهر لابا وحتى البحر نفسه، أو اعتدوا على مواطنينا أو مواطنيهم، فإن كل التكاليف والنفقات المتعلقة بضرب وتدمير هؤلاء اللصوص، يتم تقسيمها بيننا وبينهم مناصفة.»
20
كانت طرق أوروبا البرية في القرن الثالث عشر مليئة بقطاع الطرق، بينما ازدحم البحر بالقراصنة؛ ولهذا فإن نقاط الاتفاق التي تعرضت للأعمال المشتركة بين المدينتين ضد الأعداء المشتركين، ولتأمين الملاحة، كانت ذات أهمية عملية جوهرية.
قدم النضال المشترك للحلفاء فائدة كبرى؛ إذ سهل عليهم سبل التجارة البرية والبحرية غيرهم من الدول. على أن هؤلاء الحلفاء أنفسهم كانوا في ذات الوقت يتنافسون فيما بينهم تنافسا تجاريا شديدا، مصارعين بعضهم البعض بكل الوسائل التي كان الأخذ بها مقبولا آنذاك، بما فيها السطو، على الرغم من مثل هذه الخلافات الداخلية؛ فقد اعترفت بعض المدن بأن قيامها - إذا لزم الأمر - بأعمال موحدة يظهرون فيها على المناطق الساحلية لأوروبا الشمالية، سوف يجلب عليهم، كحلفاء، مكاسب محددة. على هذا لم يكن غريبا أن نتوقع لويبك في نفس عام 1241م معاهدة صداقة وتعاون مشترك مع مدينة زيست، ومعاهدة شبيهة في عام 1259م مع أقرب موانئ البلطيق إليها؛ روستوك، وفيسمار ، وقبل ذلك بقليل، في عام 1253م، قامت بعض المدن التي مارست التجارة مع جزيرة جونلاند بعمل حلف يجمعهما ببعضهم البعض؛ مثل: براونشفايج وشتادي، كولن، وبريمن، بريمن وهامبورج، مونسة ودوتموند، زيست وليبي، بهدف النضال من أجل سلامة التجارة. وهكذا فإن كل مدينة من المدن المذكورة كانت مرتبطة بالمدن الأخرى، إما مباشرة وإما من خلال حليف لها.
بحلول نهاية القرن الثالث عشر، بدأ حلفاء آخرون ومدن متفرقة، تقع جميعها في أحواض بحري الشمال والبلطيق، في الانضمام إلى حلف الهانزا الذي ترأسته مدينة لويبك. وفي عام 1293م قررت أربع وعشرون مدينة من مدن شمال أوروبا العمل بشكل جماعي لمعالجة قضايا السياسة التجارية، وكانوا يلجئون إلى عقد جمعية عامة في حالة نشوب خلافات بينهم، ومن وقت لآخر - وفقا للاعتبارات السياسية والتجارية - كانت بعض مدن الدول الأعضاء في حلف الهانزا، تنظم مؤتمرات لحل الخصومات ووضع سياسة الحلف في المستقبل، أخذ عدد أعضاء الهانزا في التزايد المستمر، وقد بلغ عدد الموقعين على الوثيقة التي أعلنت بموجبها الحرب على فولدمار، ملك الدنمارك في عام 1367م، سبعة وسبعون موقعا يمثلون مختلف المدن.
كانت الحقبة الفاصلة بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، هي فترة ازدهار حلف الهانزا، الذي استطاع أن يوجد بين بضع مئات من المدن. وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر، تشكلت الهانزا من أربعة أجزاء عرفت بحلف الأربعة، وهم بالتحديد: الفندي وعلى رأسه مدينة لويبك، وتدخل في نطاقه المدن الساحلية من بريمن وحتى جريفيا
21
البروسي الليفلياندي، وعلى رأس مدينة رانتشيج، السكسوني، وعلى رأسه مدينة بروانشفايج، وأخيرا المدن المطلة على نهر الراين، وعلى رأسها كولن. ونتيجة لتطور كل منها، أخذ كل جزء من أجزاء حلف الهانزا في اتباع سياسة خاصة به، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انهيار الهانزا كحلف.
لقد كان لإنشاء الهانزا أثره في فتح صفحة حافلة بالأحداث في تاريخ النضال بين المدن المتحالفة وقراصنة بحر الشمال. في أول الأمر حققت الهانزا نجاحات مهمة، على أنه - وبمرور الوقت - أصبحت هي نفسها عامل بعث للقرصنة؛ فكثيرا ما كان بحارة السفن المنتمية للهانزا والمنوطين بمهمة محاربة القراصنة، ما يقعون تحت إغراء الثروة التي يتمتع بها لصوص البحر، فيهرعون للانضمام إليهم بدلا من مقاومتهم.
حلت منظمات جديدة للصوص البحر محل قراصنة البلطيق والفايكنج ، لتواصل تقاليد من سبقوها من منظمات دون أن تقل عنها قوة وجبروتا. كانت منظمة الفيتاليين
22
واحدة من أكثر تلك المنظمات قوة، وقد أطلق الفيتاليون على جماعاتهم من اللصوص اسما ذا جرس ثقيل وهو «أصدقاء الله-أعداء العالم.» ما تزال أصول جماعة الفيتاليين مطوية في غياهب القرون، على أنه ليس من العسير أن تخمن أسباب ظهورها، إذا ما وضعنا في اعتبارنا العلاقات التي سادت هذا الجزء من العالم على تخوم القرنين الثالث عشر والرابع عشر، بالإضافة إلى البحارة الهانزيين الذين ورد ذكرهم سابقا؛ فإن هذه الجماعة التي اختارت جزيرة جوتلند مكانا لإقامتها قد ضمت بين صفوفها الهاربين من القانون، وبعض الأشخاص الذين كانوا يرون أن ظلما شديدا قد حاق بهم، وآخرين يبحثون عن العدالة أو الكسب السهل، أو إمكانات الانتقام من أعدائهم، أو من أولئك المندفعين ببساطة وراء المغامرات؛ إذ قد عاش لكونهم في تلك الفترة العديد من الناس الذين اضطروا لمغادرة أوطانهم لكونهم هدفا لمطاردة الإقطاعيين ومجالس أشراف المدن. كان من الممكن أيضا أن نجد من بين القراصنة الفيتاليين من فروا من حلف الهانزا من الفنديين أساسا، من كل مدن ألمانيا،
23
وهولندا، وفريزيا،
24
وكذلك من الدنماركيين، والسويديين، والليفلانديين،
25
والكائوبيين،
26
والبورموريين، والفرنسيين. ولعل بعضهم كان من البولنديين أيضا.
سنجد - إذا ما تتبعنا التقاليد البعيدة لقراصنة البلطيق والفايكنج - أن جماعة الفيتاليين قد التزموا داخل منظماتهم بنظام حديدي، ولم يكن بينهم من نساء سوى الأسيرات. كانت الربابنة القراصنة يطلبون من بحارتهم الخضوع المطلق، ولم يكن سوى الموت شنقا عقابا على مخالفة أوامرهم، وفي جزيرة جوتلاند - التي كانت واقعة تحت سيطرة «الإخوان الفيتاليين» - كان مركز أركان القراصنة. هنا كان يتم الاحتفاظ بالغنائم، وهنا أيضا كان يجري تقسيمها بين القراصنة الذين تميزوا إبان الحملات. وهذه الجزيرة كانت تمثل قاعدة لجميع أساطيل القرصنة، وكان سكانها يجبرون أحيانا على دفع الفدية، وإن كان مقدارها معتدلا نسبيا، إذ إن جميع الأشياء ذات الضرورة الأولى وثروات الفيتاليين قد تم الحصول عليها بالاستيلاء على السفن في البحر، وبالغارات على المدن الساحلية، وعلى هذا فالفيتاليون - مثلهم في هذا مثل جميع قراصنة ذلك الزمان - كانوا يعملون بالتجارة إلى جانب حرفتهم الأصلية، فكانوا يتاجرون بالممتلكات التي سرقوها، وكانوا أحيانا ما يبيعونها حتى في تلك الأماكن التي كان ملاكها الشرعيون بصدد بيعها فيها.
وصل نشاط الفيتاليين أقصى مدى له في تلك السنوات التي كان على رأس جماعة القراصنة فيها الزعيم الموهوب كلاوس شتيورتيبيكر. استطاع كلاوس هو ومساعده جوديكي ميخيلس الانضمام إلى لصين بحريين آخرين هما: مولتكي ومانتيفيل. كان كلاوس من أسرة بسيطة في روستوك، وكان قد بدأ مستقبله التجاري والبحري في شبابه، فعمل في مخازن تجار الأسماك المملحة في سكانيا.
27
وعلى ظهر السفن التي كانت تعمل بين مدينتي ريفيل وبروجي، ثم عمل أخيرا لدى أكبر التجار في مسقط رأسه روستوك، كان كلاوس قد تعرض للإهانة من قبل رئيسه. ولما لم يكن بمقدوره أن يتحمل المعاملة اللاإنسانية؛ فقد لجأ - مثل الكثيرين غيره في تلك العصور - إلى تنظيم حركة تمرد في نهاية القرن الرابع عشر على ظهر السفينة التي كان يعمل عليها، وألقى بربانها من فوقها، وخرج بها إلى البحر بعد أن تولى مقاليد قيادتها في يده، تحدوه الرغبة في الانتقام لما لحق به من إهانة، ونتيجة لتنظيمه تمردا وخطفه سفينة، اعتبر كلاوس شتيورتيبيكر خارجا على القانون. وقد أنيط أمر مطاردة هذا القرصان حديث العهد للمواطن فولفلام من مدينة شترالانزوند، والذي فوضه حلف الهانزا قبل ذلك في عام 1385م، في مهمة مكافحة القرصنة البحرية.
لم يقف الأمر عند حد فشل سفن الهانزا في القبض على شتيورتيبيكر الذي تميز بمواهب بحرية وعسكرية فذة، بل وصل الأمر إلى أنه أصبح يسبب المضايقات بصورة متقنة للسفن التجارية، كان رجلا قاسيا لا تأخذه شفقة، وخاصة تجاه من يقعون في قبضته من ممثلي النبيل حاكم المدن الفندية، لما بينه وبينهم من ثأر قديم.
على أن كلاوس شتيورتيبيكر قد دخل التاريخ، لا بسبب ما ارتكبه من أعمال الاغتصاب والقرصنة، ولكن بفضل نشاطه السياسي. وقد أتيحت له الفرصة لذلك في عام 1389م عندما اشتد الصراع في السويد على العرش؛ فقد سقط هناك الملك ألبريخت (الذي لم يكن يتمتع بأي قدر من الشعبية وسط الإقطاعيين في ألمانيا) في أسر الملكة مرجريتا ملكة الدنمارك، والنرويج لم يبق على ولائه للملك في تلك الحرب سوى حامية استوكهولم التي أبدت مقاومة شديدة ضد الدنماركيين. كان الألمان آنذاك يشكلون الغالبية بين سكان استوكهولم، وعلى عكس الملكة مرجريتا فقد عضد الملك آبريخت التجار الألمان في السويد، ولو كان الدنماركيون قد استطاعوا الاستيلاء على استوكهولم لزالت مميزات التجار الألمان، الأمر الذي كان سيؤدي بدوره إلى خلخلة توازن القوى في البلطيق، ولأنزل هذا بالهانزا ضربة قاصمة. لقد أرسل المدافعون عن استوكهولم - الذين أوقفوا بصعوبة بالغة من تفوق عددهم، عددا وعدة - إلى الهانزا رسائل يائسة يطلبون فيها منها المساعدة. وفي هذا الموقف ولت لويبك وجهها - ويا للعجب - نحو القراصنة الهولنديين.
وافق شتيورتيبيكر على تقديم العون لألمان استوكهولم وللهانزا، ومن ثم شرع في اتخاذ العمليات الحربية ضد الدنماركيين معتمدا في ذلك على أسطوله. لم يكن باستطاعة شتيورتيبيكر أن يقف في وجه السفن الحربية الدنماركية الجيدة التسليح في معركة مفتوحة، في الوقت الذي كان كل ما يملكه لا يزيد عن عدد من السفن الصغيرة الخفيفة، فقرر أن يبحث عن وسيلة أخرى يساعد بها المحاصرين. لم تفلح عملية اقتحام المدينة، وتحول الدنماركيون إلى فرض الحصار في محاولة لتجويع المدافعين لإجبارهم على الاستسلام. وها هم قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفهم، بعد أن قطعوا طرق توصيل المؤن من ناحيتي البر والبحر. لقد أصبح واضحا للعيان أن لا عاصم للمحاصرين مما هم فيه سوى أعمال تتسم بالسرعة والحسم.
ذات مرة - وعلى حين غرة - ظهرت عند مشارف استوكهولم فجرا مجموعتان من سفن القراصنة، وفي الوقت الذي قامت فيه المجموعة الاولى بشن هجوم شجاع على كردون السفن الدنماركية، انتهزت المجموعة الثانية فرصة الذهول والاضطراب الذي أحدثه هذا الهجوم المفاجئ، فانسلت من جانب الدنماركيين تماما لتدخل إلى ميناء استوكهولم. لقد كرر القراصنة هذه المناورة عدة مرات تكللت جميعها تقريبا بالنجاح. وفي كل مرة كانت السفينة تحمل المؤن والأغذية إلى المدافعين عن المدينة، من هنا حمل القراصنة الهولنديون اسم «الإخوة الفيتاليون»
Vitalienbruder ، المشتق من الكلمتين الألمانيتين
Buder ، ومعناها إخوة و
Vitalien ، ومعناها الغذاء أو الطعام.
كان للمآثر البطولية التي اقترحها الفيتاليون، وكذلك كونهم من الدهماء الذين رفعوا شعار العدالة الاجتماعية، وقاتلوا تحت رايته، أثره في أن حصلت جماعتهم على التعاطف والشعبية بين البسطاء من أبناء مدن حلف الهانزا، أفضل دليل على ذلك ما أسفر عنه هجوم القراصنة على فيسمار. لقد عقد شتيورتيبيكر ورفيقه جوديكي ميخلس العزم على اتخاذ خطوة بدت متهورة، وهي الهجوم على ميناء فيسمار في محاولة منهما لفك أسر عدد من أنصارهم، وتوفير المؤن للشتاء. صحيح أن مجلس المدينة - الذي بوغت بالهجوم المفاجئ - قد تمكن من الاستنجاد بمدن الهانزا الأخرى، ولكن ذلك جاء بعدما نجح جيش الفيتاليين المنتصر في مهمته، وأوغل مبتعدا في البحر. لم يكن الفيتاليون ليتمكنوا من تنفيذ هذه الخطة المتهورة، لولا أن مواطني فيسمار البسطاء، الذين كانوا يكنون العداء لنبلاء مدينتهم، قدموا المعونة في هذه العميلة لأبطال ستوكهولم الأسطوريين.
نفس الدور لعبته مؤازرة عامة الشعب عند فتح الفيتاليين عام 1392م لمدينة برجن مركز النرويج التجاري آنذاك؛ فقد استولى القراصنة على الإدارة المحلية للهانزا، وأضرموا فيها النيران، وقاموا إبان عمليتهم هذه بأسر العديد من وجهاء برجن، ثم طالبوا بفدية ضخمة مقابل إطلاق سراحهم.
أصبح الوضع السياسي للفيتاليين في أواخر القرن الرابع عشر، ومستهل القرن الخامس عشر، وضعا يتسم بالازدواجية إلى حد كبير. فمن ناحية قام الفيتاليون بالوقوف ضد النظام الاجتماعي السائد بمحاربتهم للدوائر الحاكمة في المدن، أعضاء حلف الهانزا النبيل ومجالس المدن. ومن ناحية أخرى قاموا مرات عدة، كما حدث في استوكهولم، بالعمل في خدمة هذه المدينة أو تلك ضد أعدائها، ومن ثم فكثيرا ما كانوا يدخلون في حرب ضد مدينة أخرى من مدن الهانزا، كانت منافسة في الوقت نفسه لأعدائهم. وهكذا كان الفيتاليون يتصرفون في أوقات عدة بوصفهم مرتزقة مأجورين، يعملون في خدمة نفس هذا النبيل الذين كانوا يعدونه عدوهم الرئيس.
إن هذا الوضع - المتناقض للوهلة الأولى - انعكس بصفة خاصة في نصوص عدد من محاضر وقرارات الهانزا. وقد حدث مرارا أن اتخذ مؤتمر حلف الهانزا قرارات بالقيام بعمليات عسكرية، كان من الضروري أن تستخدم فيها القراصنة إلى جانب الهانزا علنا بشكل أو بآخر، في الوقت الذي يتخذ فيه نفس المؤتمر قرارا آخر باستئصال شأفة القراصنة في بحر البلطيق، ومن بينهم خاصة الفيتاليين؛ وذلك لأن تجار الهانزا، الذين كانوا لا يستنكفون أحيانا عن القيام بسرقة، كانوا يميلون في سياستهم إلى ممارسة تجارة دولية ضخمة؛ ولهذا سعوا لإزالة كل العوائق - بقدر الإمكان - من أمام هذه التجارة.
على الرغم من القرار الذي اتخذه حلف الهانزا بالقضاء على الفيتاليين دون هوادة ولا رحمة، فقد اتسع نشاط القراصنة، وبمرور الوقت بلغ هذا النشاط إلى حد أنه لم تكن هناك سفينة يمكنها المرور عبر المضيق الدنماركي، والخروج من البلطيق إلى بحر الشمال أو العكس، إلا بعد أن تدفع الإتاوة للفيتاليين. بعد إحراق مدينة برجن، أخذ القراصنة في نهب كل من يعترضهم، حتى أولئك الصيادين الذين كانوا يصطادون الأسماك من بحر الشمال لتمليحها، نتيجة لكل ذلك توقفت الملاحة التجارية فضلا عن صيد السمك.
أصبح هذا الوضع يمثل تهديدا لوجود الدولة المطلة على أحواض بحري البلطيق والشمال، عندئذ قررت تلك الدول أن توحد قواها حتى تضع من أجل مصالحها المشتركة نهاية للنهب البحري. على أن أول حملة وجهت للقراصنة، تحت قيادة الملكة مارجريتا والملك ريتشارد الثاني ملك إنجلترا، منيت بالفشل. اشتد ضيق الهانزا أيضا من القراصنة؛ فالخسائر التجارية التي ألحقها النهب البحري بمدنه لم تعوضها الخدمات التي أداها له القراصنة، تلت الحملة الأولى حملة أخرى في عام 1394م أعدتها هذه المرة مدن الهانزا، واشتركت فيها خمس وثلاثون سفينة حربية ، وثلاثة آلاف نبيل، إلا أنها لم تأت هي الأخرى بالنتائج المرجوة.
بمرور الوقت أخذ تناسب القوى في منطقة بحر البلطيق والدول المطلة عليه يتغير لصالح الفيتاليين. ولما كانت الملكة مرجريتا لا تملك إمكانية تسوية أمورها مع القرصنة، فقد توجهت بطلب العون من كونرادفون بونجينجين بطل جماعة الصليبيين، كانت هذه الجماعة آنذاك في قمة قوتها، وكان قد تم بناء جيش محكم وأسطول ذي بأس شديد.
وعندما أبحر الصليبيون في عام 1398م باتجاه جوتلند، لم يكن بمقدور الفيتاليين التصدي لهم، ولم يكن أمامهم من بد سوى التكدس على بواخرهم، ومغادرة البلطيق إلى الأبد، وليلوذوا بعد فرارهم من وكر القرصنة ببحر الشمال، حيث استولوا هناك على جزيرة هيلجولاند وقاموا بتحصينها، على أنه بوجودهم عند مصب نهر إلبا، اتضح أنهم قد وقعوا وجها لوجه مع عدوهم الرئيس الهانزا، لكن الهانزا هذه المرة لم تعد مجرد الربع الفندي،
28
وإنما صارت ميناءين قويين؛ هما هامبورج وبويمن اللذان لم يعودوا فضلا عن ذلك يعتزمان اللجوء لخدمات القراصنة. ولم يشأ هذان المركزان التجاريان التصالح مع وجود القراصنة قاب قوسين أو أدنى من أبوابها.
في عام 1401م غادرت مصب نهر إلبا سفينة تجارية ضخمة، كان من الجلي أنها محملة عن آخرها بالنفيس من البضائع. يممت السفينة شطر بحر الشمال متجهة مباشرة إلى هيلجولاند. هنا انقض القراصنة الذين كانوا متربصين لهذه الغنيمة
29
السهلة، التي بدت لهم دون حماية تذكر، لكن حسابهم كان عسيرا فلم تكن إلا سفينة حربية، سفينة - فخ - اتخذت هيئة السفن التجارية، وما هي إلا دقائق حتى دخل طاقمهما الكثير العدد والعتاد في معركة مع القراصنة، التهمت الفيتاليين الذين لم يتمكنوا حتى أن يلحظوا في وطيسها
30
كيف اقترب منهم أسطول مدينة هامبورج.
لم يكتب ولو لزورق واحد من الزوارق التي اشترك بها القراصنة في المعركة النجاة، ثم أسر خمسون رجلا، وجرى الاستيلاء على وكر الفيتاليين وتدميره في جزيرة هيلجولاند، أما شتيورتيبيكر وميخلس اللذان وقعا في الأسر أيضا، فقد أطيح برأسيهما علنا في واحد من ميادين هامبورج، وسيق باقي الأسرى، وفقا لتقاليد العصور الوسطى، مقيدين في الأصفاد الحديدية، وغيبوا في السجون، أو أرسلوا إلى الأعمال الشاقة.
يقال: إن سواري سفينة شتيورتيبيكر كانت مجوفة، وقد صب في مكان التجويف سبيكة من الذهب الخالص، كانت الثروات التي تم الاستيلاء عليها فوق سفن القراصنة وفي قاعدتهم في هيلجولاند، تكفي لتغطية نفقات الحملة بالكامل، وتعويض تجار الهانزا عن الجزء الأكبر من الخسائر التي تكبدوها، فضلا عن تجميل برج كنيسة القديس نيقولا في هامبورج بتاج من الذهب، تفرقت فلول الفيتاليين الذين فروا من هيلجولاند في سائر أنحاء الدنيا، وظل الإقطاعيون والسلطات المدنية يقتفون أثرهم بكل إصرار.
لم تنته القصة المثيرة للقرصنة في بحر البلطيق على الإطلاق بالهزيمة التي لحقت بالفيتاليين، إن العلاقات الاجتماعية الاقتصادية التي تكونت هنا قد خلقت ظروفا مناسبة، ولأمد طويل، لنمو النهب البحري. لقد كان للحكم الجائر الذي مارسه الإقطاعيون، فضلا عن الأنانية والنفعية التي تميز بها نبلاء اتحاد الهانزا، أثره في انتشار التذمر والاستياء في صفوف الفلاحين والمدنيين، بدءا من دانتسيج، وحتى هامبورج، حيث غرق صغار أواسط النبلاء في الديون للبرجوازية الغنية. من هنا تحول الكثير من الذين أثقلتهم الديون والذين نجوا من السجون إلى قراصنة.
قراصنة ألبيون
31
أصبحت الجزر البريطانية موطنا للقرصنة في بحار الشمال، وذلك بعد اندحار الفيتاليين، لقد أسهم ازدهار الملاحة التجارية الإنجليزية مع أساليب هذا الزمن التي لعب من بينها السلب، وفقا لتقاليد العصور الوسطى، دورا لا يستهان به، في نمو النهب البحري في هذه البقعة من العالم. كان القراصنة الإنجليز يمارسون نشاطهم بصورة رئيسية في مضيق المانش وما حوله من مياه، مغيرين على السفن التي تعمل بالتجارة ما بين الجزر البريطانية وأوروبا. وكان للنشاط الفعال من جانب القراصنة أثره الفعال على ارتفاع أسعار السلع، ومن ثم على ارتباط الاقتصاد في كل من إنجلترا وفرنسا ودول أخرى.
جاء بناء الأسطول البحري الحربي إبان حكم هنري الثالث
32
وأسلافه إدوارد الأول؛
33
وإدوارد الثاني
34
ليكون له بعض الأثر في إعاقة نمو القرصنة، على أنه إثر وفاة إدوارد الثاني عام 1327م، الذي حمل لقب «ملك البحار»، وصل الأسطول الإنجليزي إلى حالة الانهيار، وما لبث القراصنة أن أطلوا برءوسهم من جديد. أخيرا أنشأ التجار وسائل دفاعية خاصة تحميهم من اللصوص، وذلك على غرار الهانزا البائد. أسست جمعية الموانئ الخمسة بداية من كل من مدن جاستينجس، رومني، هايت، دوفر، وساندويتش، ثم انضمت إليهم بعد ذلك: وينشلي، وراي. كان دعم الأسطول البوليسي المشترك يأتي من أموال الإتاوة الخاصة التي كان يدفعها أعضاء الجمعية، كان على هذا الأسطول أن يقوم بتوفير الأمن في الطرق البحرية، التي كانت تربط الجزر البريطانية بأوروبا، وكتعويض مقابل الخدمات التي تقدمها الجمعية، وافق التاج البريطاني على أن يقدم لها بعض الصلاحيات، فقد أعطي لسفن الجمعية الحق في تفتيش كل السفن التي كانت تمر عبر القناة. على أن هذه المزايا التي كان الهدف منها حماية ملكية ومصالح مجموعة محددة من التجار، انقلبت لتهدد مصالح مجموعات أخرى.
لقد أدت المزايا المذكورة التي قدمت للجمعية إلى نتائج مدمرة، فبعد فترة قصيرة من قيامها، تحولت الشخصيات المسئولة عنها كمنظمة إلى مجرد قراصنة عاديين، قاموا بنهب سفن منافسيهم تحت حماية المرسوم الملكي.
انهالت الشكاوى من كل مكان على الملك بسبب ما يرتكبه أعضاء الجمعية من فساد، حتى إن بعض التجار أصبح يبدي مقاومة إيجابية تجاههم، في نفس الوقت بدأت الموانئ الإنجليزية التي لم تدخل في عضوية هذه الجمعية في إظهار المزيد من الاستياء على نحو سافر. هكذا أصبح الوضع في البحار - التي كانت تحد الجزر البريطانية - ملائما للمزيد نحو نمو حصة القرصنة، أخيرا وعندما قرر التاج التدخل لوضع نهاية للخروج على القوانين، اتضح أن كثيرا من الموانئ تؤيد علاقات الصداقة مع القراصنة، موفرين لهم الملجأ مقابل عدم تعرضهم لسفنهم بأذى. هزت هذه الأنباء أكثر إقطاعات البلاد بشدة، فجرى على الفور إصدار قوانين صارمة ضد من يقدم العون للقراصنة. لقد استطاعت القراصنة أن تتغلغل بعمق في عدد من دوائر المجتمع الإنجليزي إلى الحد الذي أصبح استئصال شأفتها منها جميعا - وبعمل واحد في نفس الوقت - أمرا مستحيلا.
ومما فاقم من سوء الأوضاع إلى جانب ذلك كله، اندلاع حرب المائة عام،
35
حتى إن الأساطير أخذت تنسج حول بعض عصابات قطاع الطرق البحرية - سواء من الإنجليز أو الفرنسيين - وهي أساطير كان لها أبطال إيجابيون وآخرون سلبيون.
كان جون هولي واحدا من هؤلاء الأبطال الذين نظموا في عام 1399م حملة تأديبية ضد القراصنة الفرنسيين الذين قاموا بنهب ميناء دارتموت. هاجم هولي شواطئ كل من نورماندي وبريتاني، وذلك بعد أن تمكن من الاستيلاء على أربع وثلاثين سفينة فرنسية، وكان يعد مثالا نموذجيا لطبقة التجار التي زاوجت بين حرفة القرصنة وبين المصالح التجارية. لم يمض زمن طويل إلا وقد حقق جون هولي ثروة طائلة، ونال لقب أدميرال نظير خدماته لبلاده، على أنه لم يترك أعماله الخاصة إبان تأديته لوظيفته الشرفية، وها هو في عام 1403م يتجه على رأس أسطول من السفن تنتمي إلى موانئ كل من دارتموت، وبلايموث، وبريستول، في حملة عاد منها، وقد أضاف إلى ثروته سبع سفن استولى عليها من جنوة وإسبانيا.
البطل الآخر هو جاري باي من ميناء بوول، وهو معاصر لجون هولي، وقد وجه اهتمامه إلى سواحل جاليسيا الواقعة شمالي إسبانيا على المحيط الأطلنطي. أما أحد أشهر أعماله فهو سرقته الصلبان من كنيسة تقع في منطقة رأس فينيستر. أثار هذا العمل، الذي اعتبر تدنيسا للمقدسات الإسبانية إلى حد أنهم قاموا فجأة بالهجوم على ميناء بوول موطن باي وأحرقوه عن آخره. كان باي، خلافا لجون هولي، في مشاكل مستمرة مع السلطات في بلاده، وكان يتمكن دائما من الخروج سالما دون خسائر من كل المصائب التي تلم به؛ وذلك بفضل مواهبه الفذة في الملاحة. في الوقت نفسه كان حكام إنجلترا يتمتعون بكل رضا بخدماته في كل مرة تدعوهم الحاجة إليها. وفي عام 1406م قام باي على رأس خمس عشرة سفينة بالاستيلاء على مائة وعشرين سفينة فرنسية، ولم يكن من العجيب إذن أن يتلقى التحية في ميناء بوول باعتباره بطلا قوميا. أما اليوم الذي أحضرت فيه الغنائم التي تم الاستيلاء عليها من الفرنسيين، فقد أصبح عيدا شعبيا في المدينة، تقام فيها الولائم الماجنة، ويخرج الناس فيه للنزهة والتجول، وقد سجل هذا العام رسميا في الوثائق التاريخية للمدينة.
على أن باي لم يكن حافظا إطلاقا لجميل موطن رأسه عليه، كما قد يتصور أحد ذلك، إذ إن بوول لم تعد، بعد إحراقها على يد الإسبانيين، لمجدها القديم أبدا.
يصعب على المرء الآن أن يصدق، إذا ما زار مدينة فاواي الإنجليزية الهادئة، أنها كانت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر مركزا مزدهرا للملاحة والتجارة، مثلها في ذلك مثل تلك الموانئ الضخمة؛ دارتموت، بوول، أو بلايموث. إن ميناء فاواي مدين بثروته ورخائه، أولا وقبل كل شيء، لأعمال القرصنة التي امتهنها سكانه، لم يحظ أي ميناء من موانئ شبه جزيرة كورنول بسمعة سيئة مثلما حظي ميناء فاواي الذي قام بحارته إبان إداورد الثالث
36
بالهجوم على شواطئ نورماندي واغتصابها دون أدنى رحمة. لقد استخدم الملك الإنجليزي خلال حرب المائة عام كل الوسائل لتشجيع المبادرة الخاصة التي أظهرها رعاياها بشأن الدخول في معركة ضد الفرنسيين. على أن أبطال فاواي، كما كانوا - بكل استخفاف - يسمون أنفسهم في أوقات السلم، قد سببوا للملك كثيرا من المتاعب، كما دخلوا في قتال مع جمعية الموانئ الخمسة، التي كان الملك نفسه يعضدها، رافضين أن يسمحوا لها بحق تفتيش سفنهم.
على أنه في تلك الأزمنة، كان كل ميناء في غرب إنجلترا يتمتع بحماية قرصانه المحلي الذي كان يعمل يدا بيد مع الإقطاعيين، فبينما كان باستطاعة ميناء أكسيموت مثلا أن يتباهى بالكابتن وليم كايد، كان كلاي ستيفان في بورتسماوث يتصرف كما لو كان صاحب البيت، وهلم جرا. كانت العلاقات بين القراصنة والصفوة قوية إلى الحد الذي نفت فيه هذه العلاقات، من الناحية العملية، أية إمكانية لدفع هذه المصيبة. لقد كان الشك يحوم، ليس فقط حول اشتغال أو قيام علاقات بين قباطنة السفن وبين القراصنة، بل بين القراصنة وبين أصحاب السفن وموظفي الدولة، الذين كان من واجبهم مكافحة القراصنة ذاتها.
على الجانب المواجه لبحر المانش في بريتاني، كان الكثير من السكان يمارسون النهب البحري أيضا، والحادثة التالية هي واحدة من العديد من الحوادث التي كان يعج بها ذلك العصر، والمميزة للوضع الذي كان سائدا آنذاك.
في عام 1343م علم سكان نانت (الميناء الفرنسي الواقع عند مصب نهر اللوار) نبأ القبض على النبيل أوليفييه دي كليسون الثري الأرستقراطي العريق بتهمة الخيانة. وسواء أكان هذا الاتهام صحيحا أم كان باطلا، فقد أدين أوليفييه بدعوى تقديمه العون لإنجلترا، الأمر الذي سبب خسائر فادحة لمصالح فرنسا. لقد بذل أصدقاء هذا الإقطاعي قصارى جهدهم للإفراج عنه، غير أن علاقتهم بذوي النفوذ وما بذلوا هنا وهناك من رشوة لم يحقق أي نتائج إيجابية.
كانت جانا دي بلفيل المدلهة
37
في حب زوجها الأرستقراطي المتهم، والتي كانت تعد آنذاك واحدة من أجمل نساء فرنسا، تتمتع بنفوذ قوي لدى البلاط الملكي، على أن كل جهودها هي الأخرى ذهبت سدى، على الرغم من أنها أبدت استعدادها بأن تهب كل ما تملك في سبيل حرية زوجها. وعلى الرغم من غياب الأدلة وتأكيد أوليفييه دي كليسون على براءته، فقد جرت الإطاحة برأسه علنا في باريس، ثم أرسلت الرأس إلى نانت، حيث علقت فوق حائط المدينة ليشاهدها الجميع.
أقسمت جانا دي بلفيل أن تكرس ما تبقى من عمرها للانتقام من وطنها، فارتأت أن أفضل ما تفعله هو أن تشتغل بالقرصنة البحرية، وهكذا دخلت جانا عالم القرصنة تحت اسم ليدي كليسون، وسرعان ما قامت بتجهيز ثلاث سفن من حصيلة الأموال التي آلت إليها من بيع ممتلكاتها من حصون، وأراض ومجوهرات، ثم استأجرت قراصنة يتميزون بالشجاعة والقسوة.
قام ولدا جانا اليافعان بمساعدتها، بينما تصدت هي بنفسها لرئاسة الأسطول، وبالنار والسيف شنت ليدي كليسون حملاتها على المناطق الواقعة على سواحل فرنسا، وكانت تدمر السكان بلا استثناء. كما أغرقت كل ما صادفها من سفن دون أن تأخذها أدنى شفقة بأطقمها. ظل مصير ليدي كليسون مجهولا، وإن كان من الواضح أنه كان رهيبا تماما مثل المصير الذي آل إليه زوجها.
أحيانا ما كانت هذه الحكومة أو تلك، تسعى لاتخاذ إجراءات ضد القرصنة، وخاصة عندما يصل أمر الأخيرة إلى ذروته. وأحيانا كانت بعض الدول التي تتعرض للتهديد تلجأ لتوحيد جهودها في الصراع مع الشر، الذي كان قد ملأ الطرق البحرية. على أن إصدار مراسيم من شأنها مضاعفة العقوبات على أعمال القرصنة لم تكن كافية؛ إذ إن القائمين على حماية القانون وتوفير الأمن كثيرا ما كانوا يتقاضون الرشوة من القراصنة، الذين لم يكونوا يبخلون ببعض أموالهم في سبيل مصالحهم.
كان هناك تأثير آخر أكثر تدهورا تمثل في ممارسات عدد من الملوك الذين كانوا يتمتعون هم أنفسهم، إذا ما دعت الحاجة وخاصة وقت الحرب، لخدمات القراصنة؛ إذ كانوا يجندونهم للقيام بأعمال القرصنة لصالحهم. وهناك أمثلة عدة تبين لنا كيف أن أعتى القراصنة، الذين قاموا بالنهب والاغتصاب تحت راية الجمجمة والعظمتين المتقاطعتين، قد ارتقوا فجأة وبفضل مواهبهم الفذة في الملاحة، ليحوزوا مراتب الأبطال القوميين ومنقذي الوطن. كثير من هذه الحالات يمكن ملاحظتها في تاريخ إنجلترا بصفة خاصة.
عندما قرر الملك الإنجليزي هنري الخامس وضع حد لهذه الحروب المدمرة، عقد اتفاقا مع كل من فرنسا وإسبانيا، تلتزم بموجبه كل الأطراف بعدم اللجوء لخدمات القراصنة، كما ينص على القيام بأعمال مشتركة ضدهم. كان على كل مالك سفينة مسلحة أن يدفع - بناء على هذا الاتفاق - كفالة مالية ضخمة يتم بفضلها ضمان السلوك الملائم للقبطان وطاقمه في البحر، وبدونها لم يكن بإمكانهم مغادرة الميناء. ومن أجل أن يدعم الملك هنري الالتزامات الواردة بالاتفاق، قام بإصدار القوانين التي راعت العقوبات الصارمة على النهب البحري، وكان يمنح ما عرف باسم الشهادات الحديدية للسفن التي كانت تعمل بموجب هذه القوانين. تحسن الوضع، ولكن على نحو ضئيل للغاية، لأمد قصير جدا أيضا. أما في فترة حكم هنري السادس
38
فقد بلغت القرصنة مستويات لم تبلغها من قبل، حتى إن التجارة البحرية لم تدر أرباحا تذكر، وأصبحت المخاطرة بفقد البضائع العظيمة، حتى بدا أن إرسال هذه البضائع من لندن إلى فينيسيا بالطريق البري المضني، ثم شمالا عبر نهر الراين، ثم بعد ذلك عبر جبال الألب، أكثر ربحا من استخدام أقل الطرق البحرية تكلفة.
وفي فترة حكم هنري السابع،
39
تم التوصل إلى طريقة جديدة لمكافحة القرصنة بدت لمبتكريها مؤثرة، بحيث يمكن باستخدامها توجيه ضربة ماحقة لقدرة لصوص البحر؛ فقد طرح اقتراح بإعطاء شهادات تبيح الاستيلاء على شحنات السفن الأخرى الغربية لهؤلاء القباطنة، الذين اضطروا للدخول في معركة مع القراصنة وذلك على مسئوليتهم. على أن هذه الطريقة لم تزد الأمر في النهاية إلا سوءا، فقد أصبحت هذه الشهادات تستخدم بأشكال مختلفة ومفاجئة؛ فعلى سبيل المثال: لو أن تاجرا إنجليزيا تعرض لهجوم من جانب القراصنة الفرنسيين، وانتهى الأمر بسرقته على أيديهم، وبلغت خسارته ما قيمته خمسون جنيها إسترلينيا، فإن الحكومة الإنجليزية تمنحه شهادة تعطيه الحق في الاستيلاء على بضائع من أية سفينة فرنسية تساوي هذه المبلغ.
دليل واضح على النتائج المدمرة لمثل هذه القوانين، تمثله الحادثة التالية التي وقعت للتاجر الأسكوتلندي أندريه بارتون:
حصل بارتون من الملك ياكوف الرابع، ملك أسكوتلندا، على شهادة تعطيه الحق في الانتقام، بعدما أبلغ عن وقوع أبيه منذ عدة سنوات خلت ضحية النهب البحري من جانب البرتغاليين، ظهر بارتون عند شاطئ فلاندريا على رأس سفينتين مسلحتين على نحو جيد هما: «لياون»، و«جينيت بيرفين». قام بارتون بنهب كل السفن التي صادفته في طريقه أيا كان العلم الذي ترفعه، وخصوصا السفن الإنجليزية التي كانت تعمل بالتجارة مع الموانئ الفلمندية، وفي النهاية أحدث نشاط بارتون ضجة هائلة، الأمر الذي دفع الملك هنري الثامن لإرسال عدد من سفنه لمقاومته. لقد لقي بارتون مصرعه إبان المعركة البحرية الشديدة التي جرت عند جودويانساندس. أما سفنه فقد قطرها المنتصرون إلى بلاكويل، حيث ضمت إلى الأسطول البحري العسكري الإنجليزي. وقد صارت هذه المعركة موضوعا لعدد من الأساطير الشعرية فيما بعد.
في بداية التنافس بين إنجلترا وإسبانيا في حوالي النصف الثاني من القرن السادس عشر، من أجل فرض السيطرة على بحار الدنيا، لعبت القرصنة دورا مهما، وكان لواء النصر يعقد تارة لصالح هؤلاء ، وتارة لصالح أولئك، كما أصبح العداء الديني بين إسبانيا الكاثوليكية وإنجلترا البروتستانتية حجة إضافية. وسرعان ما انتقلت ساحة الحرب بينهما من المياه التي تحيطها الشواطئ الأوروبية إلى المحيط الأطلنطي، ومنه إلى مياه العالم الجديد.
وإذا قمنا بدراسة المراسلات الدبلوماسية في فترة حكم كل من هنري الثامن وإليزابث الأولى،
40
لأمكننا أن نلاحظ دون صعوبة تذكر، أن الاحتجاجات التي تقدمت بها مختلف الدول ضد النشاط الواسع للقرصنة الإنجليز تشغل فيها حيزا كبيرا، كما أن الجزء الأكبر منها مكرس لنشاط توماس ويندهام من نورفولك الذي خدم ضمن الأسطول البحري العسكري الإنجليزي، حتى وصل إلى رتبة نائب أدميرال، بالرغم من أنه اشتغل أيضا بالقرصنة. وكان إعادة الاستيلاء على السفن المارة في قناة المانش والمحملة بالسكر ثم شحنه إلى وترفورد، حيث يباع لتجار لندن واحدة من المهام الرئيسية التي كان منوطا بها، وقد طلب السفير الإسباني من الملكة إليزابث الأولى بعد اعتلائها العشر بعامين، المثول أمامها حتى يعلن لها باسم ملكه احتجاجه الشديد ضد أعمال الاغتصاب والقرصنة التي يمارسها البحارة الإنجليز. وفي نفس الوقت ازدهرت في ميناء دوفر الواقع جنوبي إنجلترا سوق للتجارة بالنبلاء الإسبان، وكان الوسطاء يدفعون مقابل كل إسباني حسن الهيئة ويبشر بفدية ضخمة، مبلغا يصل إلى جنيه إسترليني.
كان أكثر ما يوغر صدر الأسقف كواندر، الذي كان يمثل الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا لدى بلاط إليزابث الأولى ويزيد من حنقه، هو قضية القرصانين: بول، وتشامبني. دأب هذان الرجلان على مهاجمة السفن الإسبانية في طريق عودتهما من جزر الأنتيل متربصين لها في المسافة الواقعة ما بين جزر الأزور والكناريا. وفي عام 1560م نزل القرصانان إلى إحدى جزر كناريا، وهناك تمكن الإسبان من القبض عليهما، وأودعهما إحدى القلاع، حيث بقيا هناك حتى أعياد الميلاد، وعندئذ انتهز اللصان فرصة ذهاب جميع السكان إلى القداس المقام في الكنيسة، ليفرا من السجن، ويتسللا إلى المرسى، حيث تمكنا من الاستيلاء على سفينة راسية نجحا في الوصول بها سالمين إلى إنجلترا.
كان لهذا العمل نتائج خطيرة، فإليزابث والمقربون لها كانا قد عزما منذ زمن بعيد على الانتقام من إسبانيا المنافس الرئيس لهم في البحار. على أن إنجلترا لم تكن مستعدة آنذاك للدخول في معركة معها؛ ولذلك عمدت إلى تجنب الدخول في نزاع مباشر ولو لبرهة. في الوقت نفسه لم يكن بنية حكومة الملكة إليزابث وضع العراقيل أمام نشاط القرصنة، الذي يمارسه البحارة الإنجليز ممن راحوا بصورة جادة يقوضون من سطوة عدو المستقبل.
إبان الحرب مع إسبانيا خدم أشجع قراصنة ألبيون بلادهم كجنود، وأصبحت أسماء جنود الملكة من الذين تحولوا إلى قراصنة؛ من أمثال هوكنز، ودرايك، وجرينفيل، وفروبشاير، وكامبرلاند، تنزل منازل الشرف في تاريخ إنجلترا. وكذلك حاز الكثير منهم إلى ألقاب النبالة، وعلى المناصب العليا في الدولة مقابل ما أدوه لها من خدمات جليلة في حربهم مع العدو، واشتراكهم في تدمير الأسطول الإسباني أرمادا الذي لا يقهر، في يوليو من عام 1588م.
قرصان من جامعة أكسفورد
ما إن حصل هنري ماينورانج على شهادة التخرج من الجامعة، حتى غادر أكسفورد واضعا نصب عينيه هدفا وحيدا، هو أن يصبح محاميا يشار إليه بالبنان، على أن صاحب العمل - حيث بدأ هنري فترة تدريبية - لم يوفر له راتبا يفي بحاجاته الضرورية، عندئذ وصل خادم فيميدا
41
الناشئ إلى استنتاج مفاده أن مستقبله ليس في هذه المهنة، ولم يطل به التفكير، فترك مكتب المحاماة، واتجه - وهو الإنجليزي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه - بكل أفكاره نحو البحر. كانت تقاليد الأعمال البطولية التي أنجزها فرانسيس درايك الذي تسلم من يد الملكة إليزابث الأولى لقب النبالة ما تزال حية، فاشتغل الشاب الحالم بمستقبل يماثل ما وصل له فرانسيس درايك، فبدأ عاملا على إحدى السفن، وسرعان ما ارتقى منذ رحلته البحرية الأولى إلى رتب الضباط، غير أن درجات المستقبل البحري بدت لخريج أكسفورد الطموح غاية في الطول. كان هنري ماينورانج ينتقل من ميناء إلى آخر، وتعي أذناه الكثير عن الإمكانات التي تفتحها حرفة القرصنة أمام من يتميزون بالشجاعة والحزم، فكان دائم الاستفسار من قدامى البحارة الذين يلتقي بهم في الحانات، حيث يجري الحديث هناك دون مواربة حول كل تفاصيل مهنة النهب البحري. وذات مساء التقى صدفة، في أحد المطاعم المنتشرة في الموانئ بمجموعة من البحارة الساخطين على ظروف العمل المحيطة بهم، وعن الأسطول الذي قرروا الفرار من الخدمة فيه، ثم احتراف القرصنة. غير أنهم عبروا عن حاجتهم إلى القائد المناسب، وبعد الصمت الطويل الذي قضاه مارينورانج منصتا إلى حديث البحارة دخل في النقاش، ثم أعلن قائلا: سوف أكون قبطانكم ... الموافق يتقدم.
سرعان ما أحاطت به طغمة
42
البحارة الذين راحوا يرشقونه بالأسئلة، وما إن انتهى الحوار، حتى جلسوا على ركبهم أمام الرجل الذي رفع نفسه قبطانا عليهم، ثم أقسموا - وهم يرفعون كئوس الروم - أن يخلصوا له، وألا يخرجهم عن طاعته إلا الموت.
عزم ماينورانج على الاستيلاء على سفينة ذات شراعين صغيرين يملكها تاجر من أنتفيرين، وقد كانت السفينة بالمناسبة راسية في ميناء بلايموت. كانت السفينة ما تزال مجردة من السلاح، وقد صنعت خصيصا لقراصنة البربر في الجزائر، كان طاقمها مكونا من خمسة عشر رجلا، يفترض أنهم قادرون على صد أي هجوم عليها، قرر مايتوانج بعد أن علم أن البحارة قد نزلوا في هذا المساء إلى الشاطئ بغية الاستمتاع بوقتهم، أن ينتهز الفرصة.
لقد تم تنفيذ الخطة بكل التفاصيل الدقيقة التي رسمها للقراصنة قائدهم الجديد. انقض ماينورانج على رأس عصبته التي لا يتجاوز عددها خمسة وعشرين رجلا على السفينة، ولم يكن عليها حينئذ سوى ستة أفراد، راحوا يغطون جميعهم في نوم عميق. اتخذ هنري ماينورانج كل الوسائل حتى يتجنب أدنى جلبة، حتى لا يثير انتباه البحارة على السفن المجاورة الراسية في الميناء. كان من الضروري التظاهر بأن سفينة التاجر الفلمندي تغادر ميناء بلايموت بكل اطمئنان وسكينة؛ إذ كان من المحتمل أن يتسبب أي عمل غير حذر، مهما صغر، في انهيار الخطة الماهرة بأكملها. عندما نفض الهولنديون عن مآقيهم آخر آثار النعاس، شاهدوا شفرات السكاكين مسلطة على رقابهم، فلم يبدوا أية مقاومة، وما هي إلا ربع ساعة حتى كانت السفينة في طريقها خارج الميناء.
من هنا بدأ هنري ماينورانج حياته في عالم القرصنة، كان عليه أن يحمل سيفه، وأن يتبع خطى درايك، وأن يبلغ المنزلة الرفيعة التي بلغها ذلك القرصان المشهور، فقرر أن يهاجم كل سفينة إسبانية تلقيها الأقدار في طريقه، دون أن تأخذه بها شفقة أو رحمة. على أن الأمر لم يكن ليتم على هذا النحو دون توفر قاعدة برية مأمونة.
بعد أن تجاوز ماينورانج جبل طارق، اتجه صوب بحر مرمرة، حيث وكر القرصنة الواقع على الشاطئ الشمالي للقارة الأفريقية. هناك جرى استقباله بكل حفاوة وترحاب تبعا لقواعد التضامن الدولي للقراصنة، أما رجاله الذين أدار رءوسهم النجاح لأول مرة؛ فقد خضعوا لرئيسهم خضوعا مطلقا، ما إن وصل ماينورانج إلى مرمرة حتى أعلن قائلا: من الآن فصاعدا سوف نعتبر كل سفينة إسبانية بمثابة غنيمة ممكنة، ولكن عليكم أن تتذكروا أن السفن الإنجليزية محرمة علينا.
وعلى أساس هذا الاتفاق انطلق ليبدأ رحلة القنص، رافعا فوق صاري سفينته راية سوداء صورت عليها جمجمة أسفلها عظمتان متقاطعتان، وهو أمر كان متبعا بين القراصنة في ذلك الزمان.
تمكن ماينورانج على مدى الأشهر الستة الأولى من نشاطه، من الاستيلاء على عدد لا بأس به من السفن الإسبانية، أراد أن يكون منها أسطولا ضخما للقرصنة. وخلال فترة قصيرة بلغ من الجبروت والمنعة، ما شجعه على فرض الحظر على قراصنة البربر من الهجوم على السفن الإنجليزية. أما الأمر المدهش حقا فهو أن البربر حافظوا بكل حرص على هذا الخطر، وسرعان ما ذاع في إنجلترا نبأ أن سفنهم تتمتع بحماية القراصنة الإنجليز بطول الساحل الشمالي لأفريقيا، أضف إلى هذا أن الإنجليز قد علموا أن قراصنة بلادهم قد أعلنوها حربا لا هوادة فيها ضد الإسبان، أعظم أعداء ألبيون في هذا العصر، كانت النتيجة أن أصبح اسم ماينورانج اسما ذائعا بين جماهير المجتمع الإنجليزي العريضة.
بناء على كل ما تقدم كان لدى الملك فيليب الثالث ملك إسبانيا المبرر لأن يضمر كراهية عميقة للقراصنة، على أنه أدرك أن لن يتمكن من الصمود أمام اللصوص في معركة مكشوفة؛ ولهذا - وباعتباره سياسيا بعيد النظر - أرسل إلى ماينورانج رسولا للتفاوض مقترحا عليه مبالغ طائلة ومنصبا رفيعا، حال انتقاله للعمل في خدمة البلاط الإسباني. الواقع أن مثل هذه الاقتراحات لم تكن تشكل صدمة لأحد في ذلك الزمن. المسألة أن خريج أكسفورد الشاب كان قد حقق من الثروة قدرا هائلا، كما أنه كان قد رفض لتوه عرضا مماثلا جاءه من باي
43
تونس.
بحلول عام 1614م الذي أتم ماينورانج ستة وعشرين عاما من عمره، كان قد شعر بالملل من كثرة القتال مع الإسبان في البحر الأبيض المتوسط؛ فأقل رفاقه فوق ثمان من أفضل سفنه، واتجه بهم إلى نيوفاوندلاند،
44
في نيوفاوندلاند كان ماينورانج يتصرف كما لو كان حاكما إقطاعيا، فقد أجبر كل الموانئ المحلية والمدن على أن يقدموا له ما يلزمه من غذاء وملابس وأسلحة وذخائر، مشيعا الرعب في نفوس السكان.
لم يكتف ماينورانج بذلك، بل إنه راح يفرض سلطانه على صيادي الأسماك أيضا، مصادرا ما يصل إلى أربعة أخماس ما يحصلون عليه من صيد، وفي محاولة لتجنب هذا العبء الثقيل، سعى كثير من الصيادين من أهالي نيوفاوندلاند للعمل في عصابة القرصنة تحت إمرة ماينورانج. على أن الرجل لم تكن به رغبة في فقد مصدر دخله، فكان يقبل واحدا فقط من كل ستة منهم، وبشرط أن يكونوا من أفضل العناصر.
كان ماينورانج يقوم باستغلال الصيادين المعدمين، فضلا عن استمراره في ممارسة نشاطه بكل قوة في البحر. أما السفن الإسبانية والبرتغالية التي كانت تذهب إلى أمريكا محملة بالخمور، فكانت بمثابة لقمة سائغة بالنسبة له، وفي المقابل لم يظهر ماينورانج إطلاقا أي سلوك يتسم بالعنف تجاه القراصنة المعاصرين له، وسعى بكل الوسائل لتجنب إراقة الدماء التي لا طائل من ورائها، وكان - وهو الذي يطلب من رجاله السخرية من الأسرى - يعاقب من تثبت عليه من البحارة تهمة الإساءة والتصرف على نحو غير إنساني بتعليقه على صار من الصواري.
عندما حل الشتاء قفل ماينورانج عائدا إلى مرمرة، وقد تبعه أربعمائة من الذين هجروا مهنتهم . على أن مفاجأة غير سارة كانت بانتظارهم في أفريقيا. لقد انتهز الإسبانيون فرصة غيابه، فاستولوا على جزيرة مرمرة، بعد أن قاموا بارتكاب مذبحة هناك. عندئذ توجه ماينورانج إلى وكر آخر للقرصنة في فيلا فرنسا بإقليم سافوي، وهناك جرى لقاء بينه وبين مواطنه ويلسونهام، الذي كان يعتزم الدخول إلى عالم النهب البحري، لا سيما وأنه كان يمتلك سفينة رائعة. كان ويلسونهام ينتمي إلى إحدى العائلات الأرستقراطية العريقة في إنجلترا، وعرض على ماينورانج أن يصبح شريكه.
منذ ذلك الحين تحولت فيلا فرنسا إلى نقطة ارتكاز القراصنة الإنجليز، وقد حقق القراصنة الجدد نجاحا منقطع النظير. وعلى مدى الستة أشهر الأولى استطاعوا أن يكونوا ثروة بلغ حجمها نصف مليون كرونة، وهي ثروة طائلة بمقاييس ذلك الزمن.
ذات مرة علم ماينورانج أن أحد الأدميرالات الإنجليز، ويدعى السير وليم مونسون - وهو رجل مولع باصطياد القراصنة - قد انتحل اسم ماينورانج، حتى يتمكن من الإيقاع بعصابة صغيرة من لصوص البحر الأيرلنديين.
لم تكن هذه الحكاية الغريبة إلا واحدة من حكايات كثيرة تميز أحداث هذا العصر. لقد قرر السير وليم مونسون إبان عودته من حملة ضد قراصنة منطقة جزر أوركناي،
45
القيام بزيارة ميناء برودهايفن الواقع غربي أيرلندا، حيث قام قطاع الطرق البحرية ببناء استحكامات فيه. وعلى الرغم من أن الأدميرال كان مجهزا بسفينتين مسلحتين تسليحا جيدا، فإنه كان يرى أن هذا الموقع يمثل خطورة كبيرة؛ ولهذا فقد انتحل اسم ماينورانج عند دخوله الميناء، وفي ظنه أن هذا الاسم يمكن أن يكون ضمانا كافيا لسلامته، وقد أصاب ظنه تماما. لقد جاء أشهر نبلاء هذا المكان ويدعى ماك-كورماك، الذي كان يبسط حمايته على القراصنة المحليين، ليصعد بنفسه على ظهر سفينة الأدميرال عارضا عليه خدماته، وبعد أن وعد بإمداد سفينتي الأدميرال بكل ما يلزمهما، دعا إلى قلعته ماينورانج المزعوم على مأدبة أقامها تكريما له، بر ماك-كورماك بوعده، فعندما أرسل الأدميرال برجاله إلى الشاطئ عادوا، وقد حملت زوارقهم عن آخرها بالمؤن الغذائية.
على الرغم من المخاوف التي انتابت السير وليم من حدوث خيانة ما، فقد قرر مع هذا الذهاب إلى القلعة والاشتراك في المأدبة، وعندما رسا قاربه قرب الشاطئ، هرع إلى الماء ثلاثة رجال يرتدون ملابس أنيقة، لكي يحملوا على أكتافهم ضيف الشرف حتى البر ... «كل شيء على ما يرام» هكذا حدث الأدميرال نفسه، «إن الجميع يستقبلونني على أنني ماينورانج ، فليس ثمة خطر يتهددني إذن.»
أنزل السادة الثلاثة ضيفهم على الأرض بكل حرص، ثم أخذوا يقدمون له أنفسهم بعد أن انحنوا لتحيته. لقد اتضح أن أكبرهم سنا هو أحد أصحاب السفن من مدينة لندن، وتربطه علاقات عمل بماك-كورماك، أما الثاني فكان ناظر المدرسة المحلية، بينما كان الثالث ويدعى هالوفاي يعمل بالتجارة، وقد كون ثروة من تعامله مع القراصنة!
استقبل وليم مونسون بكل أبهة وفخامة، وكذلك بترحيب حار، وجرى الحوار بين الجميع خاليا من كل تكلف، وصل إلى السير وليم من خلاله معلومات تكفي لتكون مسوغا
46
له لوضع رأس مضيفه ماك-كورماك، ورءوس شركائه، في حبل المشنقة. - أغلب الظن أنه تصرف تماما على هذا النحو.
هكذا سأل ماينورانج بعد أن استمع إلى هذه الحكاية. لكن محدثه أجابه بقوله: كلا، لقد أطلق السير وليم سراحهم في اللحظة الأخيرة، ولكنه حتى يشيع الذعر في القلوب، قام بشنق قبطان سفينة القرصنة، الذي وصل محملا بالغنائم المخصصة للتجار من ذوي المنزلة الرفيعة، الذين كانوا يعملون بشراء السلع المسروقة بصورة احتكارية.
عندئذ علق ماينورانج بقوله: إن الأدميرال مونسون يفتقد الإحساس بالعدالة، ولو كنت مكانه لما أصدرت أحكاما بمثل هذه السطحية. إن القرصان الوحيد الذي يستحق أن يشنق هو هذا الرجل الذي لا يخاطر بنفسه، وإنما يعيش على استغلال الآخرين.
على أن ماينورانج ما لبث أن انشغل بأمور أكثر جدية من مجرد القلق بشأن افتقاد هذا الإنجليزي الإحساس بالعدالة؛ إذ جاءه تحذير بقيام سفن إسبانية من كاديس
47
بالهجوم على سفنه، وبعد أن عرف أن ملك إسبانيا قد أرسل ثلاث سفن فقط لمهاجمة تسع من سفنه خرج بنفسه لمقابلتها.
لما لم يفلح فيليب الثالث
48
في التغلب على هذا القرصان العنيد، قرر في النهاية اتخاذ خطوة غير عادية، فأرسل وفدا إلى ياكوف الأول ملك إنجلترا يهدده بإعلان الحرب، إذا لم يمارس سلطانه على مواطن من رعيته. وقد أتت هذه الخطوة الجريئة بنتائج جريئة أيضا؛ فقد أرسل ياكوف الأول إلى فيلا فرنسا مبعوثا يعد ماينورانج ورجاله بالعفو التام إذا ما توقفوا عن أعمال القرصنة، من جهة قرر العاهل الإنجليزي إعداد أسطول قوي ليحطم به القراصنة.
على الرغم من أن ماينورانج لم يكن آنذاك قد تجاوز من العمر ثمانية وعشرين عاما، فإنه كان قد تمكن من جمع ثروة طائلة، وإذا به يقرر - مستغلا هذا الظرف المتاح - أن يعودوا إلى إنجلترا، وأن يتزوج، حتى يبدأ حياة هادئة يعيشها في يسر ودعة، ودع ماينورانج شريكه ويلسونهام، ثم قام ببيع غالبية سفنه لقراصنة آخرين، ثم يمم بصحبة رفاقه من الذين عبروا مثله عن رغبتهم في الاستفادة من العفو الملكي الشامل نحو ميناء دوفر، حيث استقبلهم مواطنو إنجلترا استقبال الأبطال، وقد أشار مرسوم العفو الرسمي الذي سلم إلى ماينورانج في التاسع من يوليو عام 1616م إلى أنه «بريء من كل التهم الخطيرة»، كما أنه «لا يجوز إقامة أية دعوة قضائية ضده».
ولكي يعبر ماينورانج عن عظيم امتنانه للملك على ما أبداه نحوه من عطف وتأكيد لإخلاصه نحوه، تطوع بتخليص قناة الماتش من القراصنة البربر. يقول المثل: «ليس أسوأ في العداوة من صديق قديم». وهكذا قام ماينورانج بإبادة القراصنة المسلمين، واكتسب بذلك أمجادا أخرى في المجتمع الإنجليزي، الذي وضع على رأسه المزيد من أكاليل الغار.
اعترافا بخدماته في النضال ضد القرصنة، منحه الملك ياكوف الأول أرفع الألقاب الملكية، وبفضل ما تلقاه من تعليم جامعي ومعرفته بآداب السلوك الراقي، استطاع القرصان السابق أن يتكيف على نحو جيد من وضعه الجديد، بل إن الملك نفسه كان يطلب منه النصيحة عن طيب خاطر، وفي نهاية الأمر استبدل ماينورانج القلم بالسيف، فكتب مذكرات وبحثا علميا عن القرصنة
49
أهداه للملك.
ها هو مقطع من المحاورة التي جرت بين الملك الإنجليزي والقرصان السابق، والتي أمكن استعادتها؛ استنادا إلى تلك المذكرات:
الملك :
هل أنت على يقين أن أعداد القراصنة في الوقت الحاضر هو نفسه إبان حكم الملكة إليزابث؟
ماينورانج :
إن عددهم الآن يا مولاي أضعاف عددهم آنذاك، إن عدد سفن القراصنة التي تجوب البحار تزيد عن الألف، وبإمكاني أن أسمي بضع مئات منهم من الذاكرة، وأكثرهم موجود في أيرلندا التي أصبحت معقلا للنهب البحري، إني أرى قرصانا، بغض النظر عن جنسيته، يستطيع دائما أن يجد في موانيها ملجأ له، علاوة على شيء آخر أهم وهو كرم الضيافة، أضف إلى هذا أن القراصنة يستطيعون الاقتراض من أصحاب البنوك المحليين، الذين تربطهم بهم علاقات عمل وطيدة.
الملك :
وهل تعتقد أنهم يجنون مكاسب كبيرة من وراء مهنتهم هذه؟
ماينورانج :
إن مستوى الدخول يتوقف - يا جلالة الملك - على مكان العمليات التي يقومون بها وزمانها.
الملك :
ليس هناك - على حسب معلوماتي - اتفاق تام بين القراصنة، وكثيرا ما يدب الصراع والتنافس فيما بينهم.
ماينورانج :
إن الجشع والغرور والطموح ما هي إلا خصال إنسانية مشتركة، ولعل جلالتكم تعرفون هذا أفضل مني؛ إذ ليس هناكم مكان يمكن للمرء منه، مراقبة الضعف البشري أفضل من كرسي العرش، ولكن على الرغم من أن القراصنة أشبه - بحكم مهنتهم - بالشياطين منهم إلى الملائكة، فإن قلوبهم ليست بالقسوة التي يظنها الناس. صحيح أن منهم قساة جبارين، ولكنهم مستعدون إلى أقصى حد لمد يد العون لرفاقهم، وكثير منهم يتميزون بخصال لا يخجل من التباهي بها أي سيد من السادة، إن القراصنة الذين يدفعون الأموال عدا ونقدا بإمكانهم أن يحصلوا على كل ما يريدون، وفي المكان والزمان اللذين يختارونهما. انظر تجدهم يقابلون بكل الترحاب والحفاوة في موانئ تونس، والجزائر، وجزر الماريا والأزور، وفي الرأس الأخضر، حيث يشعرون هناك بالأمان كما لو كانوا على ظهور سفنهم.
الملك :
هل توجد مثل هذه الموانئ في شمال أفريقيا؟
ماينورانج :
نعم، توجد يا جلالة الملك. إن باي تونس - وهو رجل حذر ورقيق للغاية - وهو مع ذلك طماع وماكر، وقد تسنى لي أن أكون صديقه المقرب، ولسوف أذكره دائما بكل رضا، لن تجد يا مولاي ميناء واحدا من موانئ البربر، يمتنع عن تقديم الملجأ لسفينة قراصنة مسيحية، وإذا ما احتاجت إحداها لبارود فإنها ستأخذ كفايتها منه من تطوان، أما عن السكان؛ فإنهم يحصلون عليه بدورهم من التجار الإنجليز والفلمنديين.
الملك :
كيف يقدم التجار الإنجليز على بيع البارود لأعدائهم وأعداء البشرية كلها، للقراصنة؟
ماينورانج :
عندما يتعلق الأمر بالتجارة فلا مجال هنا - يا جلالة الملك - للمشاعر الوطنية، لقد كنت دائما أعتبر أن أسوأ القراصنة هم أولئك التجار الذين يربحون من احتكار مسروقات القراصنة بحجة أنها تجارة شريفة.
الملك :
أظن أنه يجب شنقهم جميعا، وكذلك شنق كل من يسعى لأن يكون شريفا على شاكلتهم.
ماينورانج :
إنني شخصيا لم أكن لأتصرف، لم أكن بهذا العنف مع الجميع سواء بسواء، إن ماضي الذي أندم عليه الآن يعطيني الحق في أن أؤكد هذا، إن الأمر هنا ليس أمر شفقة، وخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار الظروف التي يمر بها بعض رفاقي السابقين السيئي الحظ، فالكثير منهم يستحق الإدانة، على أن حرفة القرصنة يعمل بها أفضل بحارينا، ولو كان الأمر بيدي لكنت رحيما مع هؤلاء، ولأرسلت اللصوص منهم إلى الأعمال الشاقة، ليكفروا عن جرائمهم، حتى يمكن فيما بعد استغلال مواهبهم وخبرتهم لمصلحة الوطن، ولأرسلت عتاة المجرمين فقط إلى الجلاد.
كان الملك جيمس الأول
50
يحب ماينورانج لإخلاصه ورجولته، عندما يكون الأمر متعلقا برأيه في المشكلات الحساسة، كان من الممكن للصداقة التي جمعت بين عاهل إنجلترا والقرصان الأسبق أن تستمر لزمن أطول، لو أن الملل من نمط الحياة في البلاط الملكي لم يتسرب إلى نفس ماينورانج.
لقد نصبه الملك حاكما على حصن دوفر، وهو منصب كان يتيح لماينورانج بسط سلطانه على خمسة موانئ؛ هي: جاستبنجسون، رومني، هاي، ساندوتش، ودوفر، وكانت حماية هذه الموانئ من القراصنة هي إحدى المهام المنوط بها ماينورانج.
عندما تسلم هنري ماينورانج منصبه الجديد، كانت الاستحكامات في الموانئ المذكورة متداعية تماما، ولم يستطع الحاكم الجديد أن يعرف فيم أنفق أسلافه في هذا المنصب الأوائل المخصصة للدفاع، وعندما قام بتفقد أكبر مخازن البارود بها أخذته الدهشة؛ إذ اكتشف أن البراميل المخصصة لحفظه مليئة بالرماد، عندئذ صاح من شدة الغيظ: حتى قراصنتي كانوا أكثر شرفا، ولن أسمح بتكرار ما حدث إطلاقا.
وقد بر بوعده ببناء الاستحكامات، ووفر لها جميع مخازن الأسلحة والبارود ، وأرسل بالضباط الذين وجهت إليهم تهمة التبديد إلى الأشغال الشاقة، بعد مرور أربعة أعوام على وجود ماينورانج هنا، تزوج من إحدى الأسر النبيلة الثرية التي تتمتع بحظوة لدى الملك، فيما بعد أصبح القرصان السابق عضوا في البرلمان الإنجليزي أيضا.
لقد كان للطفرات
51
الاجتماعية والاقتصادية التي جرت في نهاية القرون الوسطى، أثرها في الاختفاء التدريجي للقرصنة في أوروبا، كما تغير الطابع البدائي للتجارة، وأصبح العنف الذي كان أحد وسائل ممارستها من مخلفات الماضي، وبمرور الزمن اختفت صورة التاجر اللص الجوال من أسواق أوروبا. لقد أدى ظهور الأساطيل الجبارة، التي كانت مهمتها استئصال شأفة النهب البحري دون رحمة، إلى القضاء التام في النهاية على القرصنة قضاء مبرما في البحار المتاخمة لسواحل القارة الأوروبية.
ومن الحقائق الثابتة أنه، حتى في القرن السادس عشر، لحظت هنا وهناك بعض حوادث السطو على السفن التي كانت تبحر بمحاذاة الساحل الإنجيلزي، حيث كان السكان الذين أوصلهم الإقطاعيون إلى حالة من الفقر المدقع يقومون أحيانا بممارسة النهب البحري ضد السفن التجارية غير المسلحة، على أن القرصنة قد تحولت بصورة أساسية في مستهل عصر الرأسمالية إلى المياه المتاخمة للقارات الأخرى، كما كان لاكتشاف العالم الجديد في غضون القرنين الخامس عشر والسادس عشر أثره في الإسراع بهذه العملية.
وهكذا أصبحت البؤر الرئيسية للقرصنة تتمثل في الخلجان الهادئة المعزولة، والجزر القريبة من الطرق البحرية التي تمر عبرها السفن التجارية المحملة بالسلع الثمينة والبضائع المنقولة من مستعمرات ما وراء البحار إلى الدول الأوروبية المستعمرة.
الفصل الثالث
القراصنة البربر
كانت شمس العصور الوسطى تؤذن بالمغيب عن حوض البحر الأبيض المتوسط - الذي كان بمثابة البؤرة التقليدية للنهب البحري - حين ظهر على شواطئه مركز قوى للقرصنة اقترن اسمه في التاريخ بالبربر، تولى على مدى ثلاثة قرون تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في هذا البحر.
بدءا من عام 1440 ميلادية، أخذت دولة الحفصيين
1
الإقطاعية الضخمة في التفكك، ليحل مكانها عدد من الدويلات الصغيرة استولت على معظم الموانئ الكبيرة في شمال أفريقيا، مثل: طرابلس، وتونس، والجزائر، وبوجي، وجوليت، وسرعان ما استولى المغامرون الذين كانوا يمارسون النهب البحري هنا منذ زمن بعيد على تلك الموانئ التي كانت تتمتع في هذا الزمن الغابر بالثراء الهائل.
وحتى في القرن الخامس عشر فقد لجأ أحد آخر حكام الدولة الحفصية، التي كانت آخذة في الانهيار، بإبرام معاهدة مع اثنين من القراصنة القادمين من جزيرة مبتيلين،
2
ألا وهما الأخوان بارباروسا، أعطاهما - بناء عليها - جزيرة جربة الصغيرة الواقعة في خليج سرت مقابل مبلغ كبير من المال، بالإضافة إلى جزء دائم من الغنائم، وقد جرت هذه المعاهدة وراءها عددا من النتائج الوخيمة، على كل من تونس وشمال أفريقيا، فضلا عما جرته من نتائج على دول البحر الأبيض المتوسط بأسرها.
لقد تكفل القراصنة البربر الذين حلوا بجزيرة جربة بتحويلها إلى قلعة حصينة، ومن ثم إلى قاعدة انطلاق لحملات النهب التي ما فتئوا
3
يمارسونها، وقد استطاعوا خلال فترة نشاطهم التي امتدت إلى ثلاثمائة عام أن يؤدوا - أكثر من مرة - دورا سياسيا بارزا مستغلين - بمهارة شديدة - العلاقات السياسية التي كانت قائمة آنذاك في حوض البحر الأبيض المتوسط.
في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، تحول البحر الأبيض المتوسط إلى حلبة للصراع المستعر بين دول أوروبا المسيحية وتركيا المسلمة. وقد تسنى
4
للقراصنة البربر المشاركة في هذا الصراع بدور لا يمكن إغفاله وخاصة هناك، حيث كان الصراع تدور رحاه على صفحة البحر؛ إذ قام القراصنة البربر القادمون من جزيرة جربة، يحدوهم الإحساس بارتباطهم الديني والاقتصادي بالأتراك، بالوقوف ضد أعدائهم مغيرين على السواحل الجنوبية لكل من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، حيث كانوا يعملون النهب في الموانئ المحلية الغنية، ويأسرون الآلاف من السكان. كان الأغنياء منهم يدفعون فدية ضخمة، بينما كان الفقراء يبقون ليرزحوا في أغلال العبودية. على هذا النحو تعاظمت القدرة الاقتصادية والسياسية للقراصنة البربر، وما هي إلا سنوات معدودة، حتى استولوا تقريبا على الساحل الشمالي المطل على البحر الأبيض المتوسط.
تزامنت الفترة التي بلغت فيها أعمال القرصنة التي مارسها البربر ذروتها مع نمو القدرة البحرية لتركيا في القرن السادس عشر، آنذاك كان أسطول الأخوين بارباروسا القوي المهيأ للقتال حليفا نفيسا للأتراك.
قام الإسبانيون - لما أصابهم الذعر من جراء النهب البحري الذي استشرى في البحر الأبيض المتوسط - بتنظيم حملة مسلحة شقت طريقها نحو شمال أفريقيا، واستهدفت القضاء على أوكار القرصنة فيه، على أن التوفيق لم يحالفها في تدمير جربة، فيممت إلى الجزائر. دفع هذا التهديد من جانب الأسطول الإسباني السلطة في الجزائر، لطلب العون من الأخوين بارباروسا، اللذين اشتهرا في ذلك الوقت باسم البحارة الذين لا يقهرون، نزول أولهما وهو عروج (1447-1516م) إلى المدينة تلبية للدعوة، ثم احتلها ونصب من نفسه سلطانا عليها باسم بارباروسا الأول.
هكذا تم ظهور أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا، وبعد وفاة بارباروسا الأول - الذي لقي حتفه في عام 1518م في معركة ضد الإسبان - نصب أخوه خير الدين (1465-1546م) نفسه سلطانا باسم بارباروسا الثاني، وسعى على الفور لتأمين دولته بأن طلب المساعدة من الأتراك، بعد أن اعترف رسميا بسيادة سلطانها، ووضع بذلك اللبنة الأولى لتبعية دولة القراصنة للأتراك، وها هو السلطان التركي يخلع على خير الدين لقب باي.
بنجاح خير الدين في عام 1534م في الاستيلاء على تونس التي كانت تابعة لإسبانيا حتى ذلك الحين، ازدادت مكانة تركيا قوة في شمال أفريقيا، نتيجة لذلك أصبح أهم ميناءين هناك يقعان مباشرة على البحر الأبيض المتوسط، وهما الجزائر وتونس في قبضة الأتراك، وتبعا لذلك أخذ أسطولا القراصنة والأتراك يهددان - على نحو غير مباشر - ممتلكات الإمبراطور كارل الخامس
5
في شبه جزيرتي برينيا
6
وأبينين
7
وفي جزر البحر الأبيض المتوسط وفي الساحل الشمالي لتونس، وقد كان لهذا التهديد رد فعل مساو له من جانب كارل الخامس، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لسلسلة من الحروب ، دارت رحاها في القرن السادس عشر على جبهات متعددة من أوروبا وأفريقيا بين الدول المسيحية، وعلى رأسها الإمبراطورية، وبين تركيا وحلفائها من المسلمين والدول التابعة. وقد أسهمت دولة القراصنة البربر في شمال أفريقيا بدور كبير في الصراع العسكري والسياسي الهائل الذي كان البحر الأبيض المتوسط مسرحا لأحداثه.
لقد كانت هذه الدولة تقوم أساسا على ما تحصل عليه من دخل نتيجة للنهب البحري. كان الأغنياء ورجال المال والتجارة فيها يقومون بتمويل حملات قطاع الطرق البحرية في شمال أفريقيا، وكانوا يستأجرون القراصنة المحترفين - الذين كانوا يعرفون باسم الرؤساء - لتحقيق أهدافهم. وقد كان هؤلاء القراصنة يشكلون ما يشبه فئة مميزة بين السكان، أما مبادئ توزيع الغنائم والأرباح فقد تم التراضي بشأنها بين الأطراف، بحيث يذهب عشرة بالمائة للحاكم كنوع من الإتاوة، وعلاوة على الغنائم التي كانت تأتي نتيجة للنهب؛ فقد كانت الأرباح المتحصلة من الفدية مقابل إطلاق سراح الأسرى وبيع العبيد، مصدرا مهما من مصادر دخل القراصنة.
عروج من جزيرة جربة أو السلطان بارباروسا الأول
في ربيع عام 1504م كانت هناك سفينتان للبابا يوليوس الثاني بابا روما، تمخران عباب بحر تبرين قادمتين من جنوة متجهتين صوب تشيفيتا-فيكيا تحملان على ظهريهما حمولة ثمينة، وما إن عبرتا جزيرتا إلبا، حتى لاحظ ربان السفينة الأولى - المدعو باول فيكتور - أن ثمة سفينة ليست كبيرة حجما تسير موازية لسفينة البابا تكاد تلازمها مدة طويلة.
كان البحر هادئا، والجو خلوا من الرياح، والسماء صحوا مع شيء من الحرارة بتأثير شمس منتصف النهار. حل وقت القيلولة، وتفرق البحارة جالسين في جماعات صغيرة على سطح السفينة، بعضهم لاحظ أن تلك السفينة تقترب من سفينتهم رويدا رويدا، وعندما راحوا يرقبونها واقفين، أدهشتهم الثقة التي كانت هذه السفينة تجري بها مناورتها، إلى حد أنه لو كان هناك حقا من القراصنة البربر، لما خاطروا بالهجوم على سفينة حربية على هذا النحو، ناهيك عن
8
أنها فوق هذا وذاك من سفن البابا.
كل هذا وما تزال السفينة المجهولة تواصل اقترابها، حتى لم يعد هناك أدنى شك في أنهم البربر، بعد أن لاحت واضحة الآن عمائمهم المميزة، بعد مرور نصف ساعة أصبحت سفينة البربر على مسافة ثلاثين مترا تقريبا من سفينة البابا الأولى، ثم إذ بوابل من السهام الحادة ينهمر على سطحها. بعدها ألقى القراصنة بحبال ذات خطاطيف، ليقفزوا بواسطتها إلى سطح سفينة البابا مثيرين الذعر والفوضى، لم يمض وقت طويل إلا وقد أصبحت بعده السفينة غنيمة للغاصبين، بانتهاء المعركة أمر قائد القراصنة بخلع الملابس عن الأسرى وحبسهم في السجن، وإلى أن يفرغ القراصنة من تنفيذ الأمر، اقترب من «عروج» مساعده وسأله: ماذا تنوي أن تفعل بعد هذا يا أخي؟ - الاستيلاء على السفينة الأخرى، لا بد أنها تسير بالطبع هنا أو هناك على مقربة وراءنا، إن لدي خطة مضمونة. - كن على حذر يا عروج، لقد حالفنا الحظ هذه المرة، لكن المخاطرة في المرة القادمة قد تكلفنا ثمنا باهظا، إنهما على أية حال سفن حربية! - إنك لا تفهم شيئا بالمرة، إن الحظ لا يحالف إلا الشجعان، مع ذلك سترى على الفور ما الذي أنوي عمله.
بهذا أجاب القائد، ثم صاح أتباعه الذين كانوا يسوقون أسراهم عرايا إلى العنبر الموجود أسفل سطح السفينة، مصدرا أوامره بقوله: أسرعوا باستبدال ملابسكم بملابس هؤلاء المسيحيين الكلاب، وأقطروا سفينتنا بهذه! اخفضوا الأشرعة، وانتظروا الأوامر التالية.
قبل أن يحل الظلام، كانت سفينة البابا الثانية قد تراءت في الأفق، عندئذ صدرت أوامر «عروج» لرجاله المتأهبين بملابسهم الأوروبية على النحو التالي:
ليقف الجميع في هدوء وينتظروا حتى يسيروا بمحاذاتنا.
عندما لاحظ ربان السفينة الثانية - التي كانت تسير بسرعة أقل - سفينة البربر مقطورة إلى سفينتهم الأولى قرر أنها غنيمة، فلم يطلق أي إنذار، بل إنه ازداد اطمئنانا عندما رأى بحارة البابا وجنوده يتخذون مواقعهم في هدوء تام. وما إن تجاورت السفينتان، حتى أصدر المغربي ذو الشعر الأحمر أمره بالهجوم الذي جاء مباغتا تماما لسفينة البابا، والتي أصيب كل من فيها بالذعر، حتى إن الجنود لم يتمكنوا إطلاقا من مقاومة الهجوم، بعد أن قفز إلى سطحها القراصنة ، الذين جاء استيلاؤهم عليها أسرع كثيرا من السفينة الأولى.
لقد كان زمنا بلغ فيه القراصنة البربر مكانة لم يدانهم فيها أحد، فالمغاربة الذين كانت أعدادهم تتزايد في شمال أفريقيا بعد فرارهم من إسبانيا التي جلس على عرشها العاهلان المسيحيان فرديناند وإيزابلا،
9
بعد سقوط غرناطة وانتهاء الحرب الإسبانية من أجل تحرير شبه جزيرة أيبيريا من المحتلين المسلمين في عام 1492م، كانت مواردهم قليلة، الأمر الذي دفعهم لاحتراف القرصنة بعد أن أقسموا أن ينتقموا من الكفار.
على الرغم من أن الفارق الزمني بين سقوط غرناطة وحادثة اغتصاب سفينتي البابا لم يزد عن اثني عشر عاما، فإن سفن القراصنة أصبحت تشكل تهديدا أكثر لشواطئ إيطاليا، وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد - أي عندما يصبح البابا نفسه واحدا من ضحايا القراصنة - فلا بد أن يتردد صداه إلى أوسع حد ممكن، ولقد أصبح معروفا على الفور من الذي دبر هذا الهجوم الجسور.
كان قائد القراصنة يونانيا من جزيرة ميتيلين، وعندما استولى القراصنة على تلك الجزيرة دخل الإسلام مقتفيا أثر والده، وحمل اسم «عروج»، وانضم منذ باكورة صباه إلى القراصنة الأتراك، حتى إذا بلغ عشرين سنة من عمره تميز بالجرأة والقسوة في المعارك التي خاض غمارها في بحر إيجه. وفي أحد الاشتباكات البحرية وقع عروج في أسر المسيحيين، وأرسل إلى جزيرة رودوس، حيث تمكن هناك من الفرار، وبعد اختفائه القصير عاد ليواصل نشاطه باعتباره قرصانا تركيا، غير أنه سرعان ما ضاق ذرعا بالخدمة لدى السلطان، فأعلن تمرده على السفينة، وشرع في احتراف القرصنة على مسئوليته وبمخاطرة شخصية منه، على أن عروج الحصيف كان يدرك أنه لن يستطيع مواصلة نشاطه من دون عقاب إذا لم يجد لنفسه نقطة ارتكاز على اليابسة. ومن ثم فقد توجه إلى أمير تونس برجاء أن يقدم له الأخير قاعدة مناسبة فوق أراضي شمال أفريقيا مقابل عشرين بالمائة من الغنائم، وافق الأمير على هذا الطلب بكل ترحاب مقدما للقراصنة جزيرة جربة الصغيرة.
بفضل العون الذي قدمه أمير تونس، وكذلك دعم أخيه خير الدين له، قام عروج باستكمال بناء أسطوله، ومنذ ذلك الحين لم يقف عروج عند حد الإغارة على السفن في عرض البحر، وإنما تعداه مستعينا بالجنود المغاربة الذين كانوا يدافعون فيما مضى عن غرناطة بمهاجمة الموانئ الأوروبية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وخاصة الموانئ الإسبانية.
قام الملك الأراجوني فرديناند - باعتباره مدافعا عن مصالح الدين المسيحي بأسره - بعدد من الحملات الناجحة ضد القراصنة البربر، واستطاع أن يستولي على نقاط ارتكازهم في وهران، وبوجي، والجزائر، ثم قام بإحراق هذه المدن عن آخرها، وفرض على أهلها إتاوة كبيرة، حتى يثبط عزائمهم في مد يد العون للصوص البحر. في الوقت نفسه قام فرديناند ببناء قلعة حصينة فوق جزيرة بنيون للدفاع عن مشارق مدينة الجزائر، في الوقت نفسه كان عروج في تونس يتربص في هدوء تام اللحظة المناسبة ليرد الضربة، بعد أن وعد الأمير في احتفال كبير بطرد الإسبان من أراضي شمال أفريقيا.
كان معروفا آنذاك للمسيحيين باسم بارباروسا أو «ذو اللحية الحمراء» للون لحيته المميز، على أن سمعته كقرصان لا يقهر كانت قد تمرغت في الوحل؛ بسبب الانتصارات التي أحرزها الإسبان وسقوط مدينة الجزائر. كان لانهيار هذه الهيبة أثرها في إخراج عروج عن توازنه، وحتى يصحح من وضعه لجأ إلى اتخاذ عدد من الخطوات من غير دراسة جيدة، مثل قيامه بهجوم جريء من البر والبحر ضد بوجي، والإغارة على الأسطول الإسباني، لكن كل هذه العمليات باءت بالفشل المخزي.
مرة أخرى تدفع الهزائم المتكررة بعروج لأن يغير من خططه، فبعد أن غادر تونس - التي لم يكن يستشعر فيها الأمان - استقر في جزيرة جيجيلي، التي كان قد استولى عليها في فترة ما من أهالي جنوه، ثم قرر - مؤقتا - تجاهل وجود الإسبان في شمال أفريقيا، وتكثيف نشاطه في نهب السفن في عرض البحر. وقد جلب عليه ذلك غنائم خرافية، حتى إن النتائج المشجعة التي أحرزها، قد زادت من عدد القراصنة العاملين تحت إمرته.
استغل أهالي الجزائر الفتن الدائرة في إسبانيا؛ بسبب وفاة الملك فرديناند في عام 1516م، فقاموا بالتمرد برئاسة سالم التومي، وهو عربي من سكان مدينة بليدا، كما أنه هو بالتحديد الذي طلب العون من بارباروسا وقراصنته. قرر عروج أن ساعة الانتقام قد حانت، فتحالف مع سالم وقام معه بالهجوم على الجزائر برا وبحرا، احتل القراصنة المدينة. أما الإسبان فقد تراجعوا للقلعة الموجودة في جزيرة بنيون، حيث استمروا يدافعون عنها دفاعا بطوليا دام ثلاثة عشر عاما بعد ذلك!
على إثر النصر الذي حققه عروج، ازدادت رغبته اشتعالا لأعمال أخرى، فتوجه إلى القصر الذي ينزل به الأمير الجديد للجزائر - سالم التومي - فوجده في موعد استحمامه، لكن الأبواب جميعا كانت مفتوحة أمام القرصان قاهر الإسبان، فإذا به يشق طريقه قدما إلى حمام القصر، حيث كان الأمير يستحم في مسبح غير كبير، وهناك دار الحديث بينهما على النحو التالي: - سالم! يجب أن أتحدث إليك فورا على انفراد.
سالم القادم إليه محملقا في دهشة بقوله: بارك الله فيك، ولكن ما هذا الخطب الجلل الذي أتى بك هكذا بغتة؟! - يجب أن أراك يا سالم.
ما أنهى عروج هذه الكلمات حتى جذب المستحم من شعره مخرجا إياه من الماء!
صاح سالم محتجا لا رعبا وإنما دهشة: ما معنى هذا يا عروج؟ ... اتركني ... هل اختل عقلك؟!
لكن القرصان لم تكن لديه أدنى رغبة في إطلاق سراح ضحيته. لقد خنقه، وصار منذ ذلك اليوم نفسه حاكما للجزائر، وأعطى لنفسه اسم بارباروسا.
مثل هذا التطور للأحداث كان كفيلا بأن يثير القلق والاضطراب في نفس عاهل إسبانيا الجديد - الإمبراطور كارل الخامس - الذي نظم عددا من الحملات تأرجحت نتائجها بين النجاح والفشل ضد دولة القراصنة البربر، على أنه لم ينجح تماما في أن يكسر شوكتها.
إبان واحدة من هذه الحملات، نجح الماركيز دي كوماريس في الاستيلاء على مدينة الجزائر، مستغلا الانتفاضة التي هبت فيها ضد مغتصب الحكم الجديد، وقبل مغادرته للمدينة قال بارباروسا لأخيه: الآن يتعين عليك أن تعمل بمفردك! حاول أن تصل بالسفن إلى أي مكان آمن، أما أنا فسأجد لنفسي مخرجا، فإذا ما نجحت في الوقت المناسب في الحصول على مساعدة، فسآتي لإنقاذك.
كان بارباروسا يضع في اعتباره في هذه اللحظة سلطان المغرب، وإن كان في الوقت نفسه لا يثق ثقة مطلقة.
أدرك بارباروسا في تلمسان - إلى حيث انسحب - أن قواته البالغ عددها ألفا وخمسمائة من القراصنة المخلصين، ليست كافية لمواجهة جبروت السلاح الذي يملكه الإمبراطور. كانت هزائمه السابقة وخبرته القتالية في حروبه ضد الإسبان، قد لقنتاه درسا كبيرا في أن الجرأة والوقاحة اللتين ساعدتاه في إحراز النصر كثيرا في البحر، لا يمكنهما أن يكونا سببا للوصول لنفس هذه النتيجة على البر؛ ولهذا قرر العدول عن المقاومة إلى الانسحاب.
على أن الدوريات التي أرسلها قد أخبرته بسرعة اقتراب العدو. لقد جاء الجنود الإسبانيون، الذين فتنتهم الأحلام بغنائم طائلة، من جراء الإشاعات التي انتشرت بينهم عن الكنوز الخرافية، التي حملها معهم القراصنة من الجزائر، ليقتفوا أثر بارباروسا حتى نهر سالادو نفسه. نجح عروج في اجتياز النهر إلى الجانب الآخر، ومن هناك أخذ في مراقبة المعركة اليائسة التي كانت مؤخرة جيشه تخوضها بهدف تغطية انسحابه. على أن تأثره البالغ بالبطولة والإخلاص اللذين أبداهما رفاقه دفعاه للإسراع عائدا من جديد ومعه معيته ليعبر النهر. انضم بارباروسا إلى المدافعين عن رأس الجسر، وكان يدرك جيدا أن الوضع بأكمله ميئوس منه، وبعد بضع ساعات؛ إذا بالمنتصرين الإسبان يكتشفون فوق أرض المعركة جثة بارباروسا وقد تشوه تماما!
خير الدين أو بارباروسا الثاني
ورث خير الدين عن أخيه أسطولا ضخما يبلغ قوامة طاقمه بضعة آلاف من القراصنة، علاوة على اسم بارباروسا، والطموح إلى فرض سلطانه على الجزائر. لم يكن بارباروسا الشاب أقل طموحا من أخيه، أضف إلى ذلك أنه كان أكثر ذكاء وأكثر حنكة في المسائل التنظيمية والسياسية.
لقد أدرك خير الدين أن الإرث الذي آل إليه بعد أخيه - الذي لم يقدر قوة الإسبان تقديرا صحيحا - قد وصل إلى حالة من الانهيار التام. على أنه قرر - وقد امتلأ ثقة في قوته وقدراته الشخصية - أن يدخل في معركة غير متكافئة. كان أمام خير الدين طريقان ؛ إما أن يعلن نفسه وريثا للأمير ويواصل أعمال القرصنة. وإما أن يسعى لبناء ما ورثه عن أخيه معتمدا على حليف قوي ما يستطيع بمساعدته أن يواجه عدوه. اختار خير الدين الطريق الثانية، وأصبح منذ عام 1518م تابعا للباب العالي،
10
بعد أن تنازل عن كل طموحاته في الجزائر للسلطان التركي. لقد قرر إذن أن يعمل على نحو مخالف تماما لأخيه عروج الذي قطع علاقاته مع الأتراك، منذ ما يزيد عن عشر سنوات خلت، عندما فر من خدمة السلطان.
كان خير الدين رجلا غاية في الحذر، فتجنب كل الأمور العاطفية وبغضاءه القديمة التي كان يكنها تجاه السلطان، مدركا أن الأخير لو غدر به؛ فإنه يستطيع دائما أن يعود إلى مهنته المعتادة، ألا وهي النهب البحري. لقد صحت حسابات خير الدين، كانت تركيا في هذا الزمان هي الدولة الوحيدة بالفعل، التي تستطيع أن تقف - وعلى نحو مؤثر - ضد الإسبان والإمبراطور.
قوبل مبعوثو خير الدين بكل ترحاب في القسطنطينية؛ فالأتراك - الذين عضدوا موقعهم في منطقة البلقان - كانوا يسعون لنشر سلطانهم في شمال أفريقيا أيضا، ومن ثم قام السلطان بمنح خير الدين لقب باشا، باعتباره تابعا له، كما أنه عزز من برر له أطماعه في الجزائر. في الوقت نفسه عزز السلطان من موقف تابعه الجديد بدعم ملموس، تمثل في إمداده بألفين من أفضل جنود الإنكشارية،
11
ووعده بدعم آخر في حالة الضرورة.
لقد هيأ هذا الدعم من جانب السلطان الإمكانات أمام بارباروسا الثاني للدخول في صراع مع الإسبان. مرة أخرى يعمل خير الدين فكره على نحو صائب، فيرى أنه كلما حقق انتصارات أكبر على عدوه، حاز على مشايعين أكبر له، ومن ثم تزداد قوته وبالتالي استقلاليته عن السلطان. كان المغاربة هم الخلفاء الطبيعيين الأقوياء والمضمونين، الذين لم يستطيعوا أن يتعايشوا مع مسألة طردهم من إسبانيا.
أشاع أسطول بارباروسا الثاني، الذي أخذ في ممارسة القرصنة في كل أرجاء البحر الأبيض المتوسط، الإرهاب بين سفن التجار المسيحيين، وسكان صقلية وسردينيا وجزر الباليار، فخرب دون رحمة المدن والقرى الساحلية . كان لصوص البحر بقيادة التركي دراجوت من جزيرة رودس واليهودي سنان من سميرنا
12
أو أيدين الملقب بعاصفة جهنم، لا يتركون وراءهم سوى الرماد والأطلال، غير أن «أميرالات» بارباروسا الثاني كانوا ما ينفكون يشعرون بالحسرة والغم إبان نشاطهم هذا لافتقادهم قاعدة قوية ودائمة على البر، وكذلك كانت عودتهم إلى ميناء الجزائر حتى ذلك الحين أمرا مستحيلا من جراء احتفاظ الإسبان بقلعتهم الحصينة في جزيرة بنيون، لقد ظلت بها حفنة من المدافعين الأبطال بقيادة دون مارتين دي فارجاس، كانت تنجح دائما في صد أي هجوم من جانب بارباروسا، بل إن الهزيمة التي ألحقها بارباروسا في عام 1519م بأسطول الإمبراطور المكون من خمسين سفينة بقيادة أوجو دي مونكاد، والذي كان متوجها لمساعدة القلعة، لم تفلح في إسقاطها. لقد صد المدافعون عنها على مدى العشر سنوات التالية ما يزيد عن مائة هجوم للقراصنة. وأخيرا نجح الباشا الجزائري في حشد عدد هائل من المدافع والذخيرة، لتصب نيرانها على هذه القلعة وعلى حراسها المدهشين، في عام 1529م. وبعد قصف دام ستة عشر يوما وليلة بلا انقطاع، نجح البربر في نهاية الأمر في كسر مقاومة الإسبان والدخول إلى القلعة، حيث لم يجدوا بها إلا قتلى أو جرحى فقط.
لم يكن أمام بارباروسا إلا أن يصب جام حقده على الإسبان فوق رءوس من تبقى من أفراد هذه الحامية المنكوبة التي تكفلت بحماية القلعة، بناء على أمر من القرصان، سيق الدون مارتين دي فارجاس إلى ميدان السوق بميناء الجزائر، وسط هدير الجماهير الغاضبة وفي حضور الباشا، تم نزع ملابس حارس جزيرة بنيون البطل حتى وسطه، على الرغم من سنه الطاعنة، والجروح التي ملأت جسده - ثم تم تثبيته على أحد الأعمدة. لم يكن باستطاعته أن يتمالك نفسه من شدة الضعف، وكان وهو مشدود على هذا العمود يبدو كجثة لا حراك فيها عنه كإنسان تتردد فيه الأنفاس. وبأمر من الباشا أخذ اثنان من المغاربة الأشداء في ضربه بالعصي حتى الموت.
لم يتوقف الحقد الأعمى للباشا على مجرد ملاحقة المدافعين عن بنيون ، وإنما قرر أن يقتص من القلعة نفسها بتدميرها، في اليوم التالي لإعدام فارجاس أرسل الباشا بالآلاف من الأسرى المسيحيين، الذين قاموا على مدى عامين من العمل المضني ببناء حاجز حجري ضخم، أصبح يربط منذ هذا التاريخ القارة الأفريقية بجزيرة بنيون، التي تحولت وفقا لهوى القراصنة إلى شبه جزيرة، منذ ذلك الحين أصبح ميناء الجزائر المرفأ الرئيسي لأساطيل القرصنة.
خمسة عشر عاما مضت على استيلاء بارباروسا الثاني على مقاليد السلطة في الجزائر، وذات يوم إذ به، وقد جاوز مرحلة الشباب، يظهر على رأس ستين من سفنه عند ميناء ريدجيو
13
في الطرف الجنوبي لشبه جزيرة كالابريا، كان ظهور خير الدين مفاجأة تامة لسكان هذه المدينة، الذين كانوا على يقين مطلق من استحالة أن يخاطر القراصنة بالهجوم عليها من هذه الناحية لخطورة العبور في مضيق ميسينا. استغل القرصان الجسور ما أحدثه من ذعر فهاجم قلعة سانتالوتشيا، واستولى على المدينة، ثم دفع قراصنته بالآلاف من السكان للركوب في السفن التجارية الراسية في الميناء، وأبحروا بهم جميعا.
أصبح الاستيلاء على ريدجيو «القمة» الحقيقية لفن القرصنة، على أن الهدف النهائي أمام بارباروسا كان مدينة فوند، حيث تعيش فيها سيدة ما اشتهرت بجمالها الفائق في كل أنحاء إيطاليا، لم يكن بارباروسا قد رأى هذه الحسناء إطلاقا، غير أنه سمع عنها من الأسرى الذين استولى عليهم من شبه جزيرة كالابريا.
كان للوصف الأخاذ المبالغ فيه لجمال الأرستقراطية الإيطالية، أثره الشديد في إلهاب خيال بارباروسا - الذي كان يخطو نحو الشيخوخة - إلى حد أن أي شيء في هذا العالم لم يكن ليستطيع أن يوقف رغبته الجامحة في امتلاك هذه المرأة الحسناء، سرعان ما عرف القرصان باسمها: جوليا جونزاجا، أميرة ترادجيتو. في الوقت نفسه لم يكن لدى جوليا الحسناء، أرملة أمير تراجيتو، أدنى تصور عن الخطر المحدق بها. كان من المستحيل أن يدور بخلدها أن يأتي إلى مدينة فوند أسطول مكون من ستين سفينة قراصنة، على رأسها بارباروسا نفسه فقط من أجل جمالها.
وحتى يضمن بارباروسا مفاجأة الهجوم على المدينة والحيلولة دون إمكانية هروب الأميرة، قام بهجومه في منتصف الليل، غير أن الإنذار قد سار إلى المدينة، وعندما تمكنت جوليا جونزاجا من القفز من مخدعها، وليس على جسدها سوى ثوب نوم فاضح، لتفر من المدينة بأسرها على ظهر أحد الخيول وبرفقتها أحد الخدم.
من يدري إلى أي مدى كان من الممكن أن يستمر هذا الركض الجنوني، لو لم تخر قوى حصان الأميرة، بعدما امتلأ وجهه بالزبد. لجأت الأميرة جوليا إلى جوار إحدى أشجار البلوط الضخمة، وقد أنهكها التعب؛ لتنال قسطا من الراحة. على أن القدر لم يمكنها من تجاوز كل المخاطر.
لم يخبرنا التاريخ عما حدث في تلك الليلة في دغل أشجار البلوط، يكفينا أن نعرف أنه ما إن زال خطر العدوان، حتى جرت الإطاحة برأس الخادم الشاب بناء على أمر من الأميرة!
لما لم يجد بارباروسا أثرا للأميرة، اجتاحه غضب عظيم. وإذا بالمدينة تتحول - على مدى ساعات أربع - إلى مسرح لحفل دموي فاجر، أقامه القراصنة البربر. فقتلوا العجائز والأطفال - الذين لم تكن بهم حاجة إلى أسرهم - دون رحمة، واغتصبوا النساء، وأضرموا النار في البيوت، ومن بقي حيا بعد ذلك، اقتادوه إلى سفنهم وحملوه معهم! عندما عادت الأميرة ترادجينو إلى مدينة فوند، لم تجد هناك سوى أطلال ورماد!
أصبح الهدف التالي أمام بارباروسا هو تونس، التي كان يحكمها السلطان مولاي حسن، والذي كان يتمتع بحماية إسبانيا. وفي هذه المرة تكلل هجوم القرصان عليها بالنجاح، لقد استولى خير الدين على مدينة تونس في عام 1534م، وعندئذ قرر كارل الخامس أن ينكل بالبربر بشكل حاسم!
أرسل كارل الخامس أسطولا قويا بقيادة أندريا، أحد أبرز القادة البحريين في هذا الزمان، استمر أندريا يحارب خير الدين في البحر الأبيض المتوسط سنوات عدة غير أنه لم يستطع القضاء عليه.
في عام 1535م بدا أن كفة النصر قد أخذت تميل إلى جانب المسيحيين، فإذا بأندريا دوريا يسترد مدينة تونس في السادس عشر من يونيو من نفس العام، ليعيدها مرة أخرى إلى تبعية إسبانيا بعد أن كان بارباروسا قد استولى عليها، على أنه - وبعد مرور أيام عدة لا أكثر - قام باشا الجزائر باجتياح مينوركا وتدميرها، واستولى منها على ستة آلاف أسير أهداهم إلى السلطان سليمان. وفي الخامس عشر من أكتوبر عام 1535م قام السلطان - وقد انتشى بالانتصارات التي أحرزها تابعه - بخلع لقب الأدميرال العظيم على بارباروسا. وبعد أن وضعه على رأس الأسطول التركي بأسره، عينه بايلربايا
14
على أفريقيا.
في الوقت نفسه ، أدى الصراع الدائر بين آل هابسبورج وتركيا، إلى حدوث تقارب بين السلطان وفرنسا، التي كانت تسعى إلى الاستيلاء على إيطاليا، الأمر الذي أعاق من توسع الإمبراطور في البحر الأبيض المتوسط. لجأ الملك الفرنسي فرانسوا الأول - بعد الهزيمة التي حاقت به عند مدينة بافيا شمالي إيطاليا - إلى السلطان التركي يطلب المساعدة ضد كارل الخامس. وعلى الرغم من أن سليمان الأكبر أعرب عن استعداده للوقوف إلى جانب فرنسا؛ فإن التحالف الفرنسي التركي لم يكن قد قام على نحو رسمي آنذاك، وإنما جرى عقده في فبراير عام 1536م، بعد استيلاء كارل الخامس على تونس.
في طريقها إلى فرنسا، تعرضت سفن بارباروسا - أثناء عبورها مضيق ميسين - إلى قصف من بطاريات المدافع الرابضة على ساحل ميناء ريدجو.
سارع بارباروسا دون تردد - وقد تملكته الدهشة والغضب من جراء هذا الاستفزاز السخيف - بإصدار الأمر بضرب المدينة من مدافع السفن، ثم أنزل بعد ذلك قوة من الجنود الإنكشاريين، قوامها اثنا عشر ألفا منهم، نكلوا بالسكان الأبرياء.
على أن هذا الحادث العرضي أصبح نقطة تحول في حياة بارباروسا الثاني الشخصية، والذي كان قد جاوز السبعين من عمره، فقد اتضح أن من بين الأسرى الذين أخذوا من ريدجو، فتاة رائعة الحسن، أتمت من عمرها ثمانية عشر ربيعا، وهي في الوقت نفسه ابنة لحاكم المدينة. كان خير الدين من ذلك الطراز من الرجال الذين لا يكترثون بجمال النساء؛ فقد كان يعيش حياة القرصان العنيف دون أن يكون لديه الوقت - مع كل هذا - لحب حقيقي، أما الآن فقد أشعلت هذه الأسيرة الفاتنة المشاعر المتأججة في قلب العجوز!
حمل بارباروسا - وقد سلبه الجمال لبه - الفتاة إلى سفينته، ثم أدخلها قمرته المؤثثة بفاخر الرياش الشرقي. كانت مجموعة من أنواع مختلفة من الأسلحة المهيبة تزين الحوائط المغطاة بالحرير، بينما فرشت الأرض بسجادة فارسية سميكة رائعة الصنع. كشف بارباروسا عن الأدراج والصناديق الموضوعة على امتداد الحائط - وقد امتلأت على آخرها بالنفائس والمجوهرات - حتى يتمكن بصورة نهائية من إبهار الفتاة التي كانت مندهشة لما تراه. على أن كل الثروة التي ألقاها القرصان عند أقدامها لم تأخذ بمجامعها، وإذا بالأسيرة تنفجر بالبكاء الحار، وتعلن له أن أثمن كنز للإنسان هو حريته. إذا أصبحت زوجا لي فإنني أهب لوالديك الحرية، هكذا تكلم القرصان خير الدين، ثم اقترح وقلبه يرتعد خوفا من الرفض، مواصلا إغراء الفتاة: لسوف تكونين أغنى امرأة في العالم، مم تخافين؟ إنني أقوى رجل في العالم بعد سليمان الأكبر، وأتمنى لو أصبح لك خادما وعبدا.
استسلمت الفتاة في نهاية الأمر، وتمت الصفقة، سمح القراصنة لوالدي العروس بالعودة إلى وطنهم، ومعهم علية القوم في ريدجو الذين أعيدت إليهم أيضا ثرواتهم المنهوبة. لقد انبعثت في بارباروسا - الذي كان يخطو نحو الشيخوخة - روح جديدة كما لو روح شاب، ولم يعد أصدقاؤه وأتباعه يرون فيه زعيمهم الشرس الذي لا يرحم. - والآن إلى مرسيليا. هكذا تحدث القرصان إلى عروسه وقد تملكه القلق والاضطراب، ثم أضاف قائلا: لنر على أي نحو سيكون استقبال الفرنسيين لي. أنا على يقين أنك سوف تفتخرين بزوجك.
وبالفعل كان النجاح حليفه، وها هو ذا ابن صانع الفخار الفقير من جزيرة ميتلين ينال أعلى مراتب التكريم، وها هي فرنسا تستقبل ظالم الأمس كما لو كان بطلا قوميا. إبان هذه المراسم المخزية، كان لواء القراصنة الكريه يرفرف على الصاري، تتوسطه علامة الهلال في مكان علم الأسطول البحري الفرنسي.
قام بارباروسا - ردا على الحفاوة التي استقبل بها في مرسيليا - بالهجوم على نيس، حيث كان المدعو باولو سيميوني أحد فرسان جزيرة مالطة
15
يبدي هو وحاميته مقاومة عنيفة ضده في انتظار وصول الدعم، لقد كان من الواضح أن كل هجمات بارباروسا على قلعة نيس قد باءت بالفشل، مما اضطره في نهاية الأمر إلى الانسحاب.
اعتزل بارباروسا في قصره باحثا في هدوء عن السكينة في أحضان زوجه الشابة، عندئذ قام أتباعه - معتمدين على أنفسهم - بممارسة النهب في مدن وقرى جنوب فرنسا، منتهزين فرصة خمول زعيمهم. أصبح الفرنسيون يضيقون ذرعا بمثل هذا النوع من الحلفاء، وكان أكثر ما يثير حفيظتهم هو رفض تحرير أسراهم. - هؤلاء رعايا فرنسيون وملكنا حليف للسلطان!
بهذا حاول الفرنسيون شرح الأمر لبارباروسا، غير أن مفاهيم الدبلوماسية الفرنسية كانت غريبة تماما على فكر بارباروسا، الذي كانت تزعجه - علاوة على ذلك - أصوات القرع الجنائزي للأجراس. وقد كانت الأجراس في الواقع تقرع بشكل متصل تقريبا، فأعداد الموتى من الأسرى الذين كانوا يعيشون في ظروف بائسة كان في تزايد مستمر.
كان البخل الشديد واحدا من الصفات المميزة لبارباروسا. لم يكفه أن رجاله قد نهبوا جنوب فرنسا، وإنما طالب - فور وصوله إلى هناك - ملك فرنسا أن يتحمل عنه نفقات أسطوله. بلغت مفاوضات بارباروسا مع ممثل الملك فرانسوا الأول حدا من الغرابة، لا يختلف عن غرابة التحالف السابق ذكره بين القراصنة والسلطان والملك الفرنسي: يجب أن نسوي حساباتنا قبل عودتي إلى القسطنطينية، فأنتم مدينون لي بمبلغ كبير. - هذا مستحيل! لقد دفعنا ضعف المبلغ المطلوب منا. - إنني لم أطلب منكم حتى الآن سوى تغطية نفقات وصولنا إلى فرنسا، ويبقى عليكم بعد ذلك دفع نفقات عودتنا. - إننا لا نسمح بالاستغلال السيئ لكرمنا. لقد دفع الملك لكم أكثر بكثير مما لكم. - وأنا مطالب بالدفاع عن مصالح السلطان حليفكم هنا؛ فإذا لم تعوضوني عن الخسائر التي يمكن أن يتعرض لها أسطولي في طريق عودته إلى البوسفور؛ فإنني سأظل هنا ما لم أتسلم الأموال المستحقة لي، وأريد أن أقدم خالص أسفي على الإزعاج الذي سببه بحارتي لموانيكم.
صاح المفوض الفرنسي باستياء: أنت تسمي ما فعلوه إزعاجا؟! لقد تصرف رجالك كالوحوش! إن ما فعلوه هو كارثة حقيقية لموانينا، على أن ملكنا - واضعا في اعتباره روابط التحالف القائمة بيننا - لم يقدم شكوى رسمية بهذا الصدد، وإنما يتمنى أن يغادر أسطولكم البلاد، ولا يعود إليها مطلقا. - إنني أقدر قلقه تماما، وأنا نفسي أشعر بالقلق من جراء سلوك رجالي، ولهذا أميل لترككم حالما يصبح هذا الأمر ممكنا. - إن عليك أن ترحل فورا من هنا! - سأرحل عندما أتسلم مستحقاتي.
وفي النهاية وصل الفرنسيون إلى استنتاج، مفاده أن الأجدى لهم أن يفتدوا أنفسهم من هذا الحليف بثمن باهظ، بدلا من تعريض أراضيهم لتهديدات النهب المستمر، ومن ثم فقد دفعوا لبارباروسا المبلغ المطلوب. وطبقا للاتفاق، فقد غادر بارباروسا فرنسا، ولكنه أغار في طريقه على جزر إلبا، وإيسيكيا، وبروتشيدا، وكذلك جزر ليباري. بوصول سفن القراصنة إلى مكانه المحدد كانت قد امتلأت عن آخرها بالغنائم، علاوة على سبعة آلاف أسير، ناهيك عن أن بارباروسا كان قد أطلق سراح أربعمائة أسير مسلم في فرنسا لم يدفع عنهم فدية.
كانت من نتائج التحالف الذي عقد في الحملة التالية (1536-1537م) أن وقفت تركيا إلى جانب فرنسا ضد الإمبراطور، فاستولى الأسطول التركي تحت رئاسة خير الدين على بينزرت في تونس، وأصبح يشكل تهديدا لنابولي، وكان قد دمر عددا من الجزر في البحرين الأيوني وإيجه، حيث كانت السيادة فيهما لفينيسيا حليفة الإمبراطور.
في عام 1537م التقى من جديد الندان اللدودان أندريا دوريا وخير الدين وجها لوجه، بالقرب من ميناء ميسينا الإيطالي، وإذا بالأول يتمكن من الاستيلاء على اثنتي عشرة سفينة من سفن أعدائه الأتراك، وانتقاما من هزيمتهم قام القراصنة بنهب سواحل إقليم أبوليا (بوجليا) الواقع جنوبي إيطاليا، ثم واصلوا هجومهم على جزر كورفو الخاضعة آنذاك لفينيسيا.
بعد انقضاء عام على تلك المعركة، علم بارباروسا أن أندريا دوريا يجمع أسطولا جبارا في خليج ليون جنوبي فرنسا، عاقدا عزمه على توجيه ضربة قاضية للقراصنة. في هذه المرة كان على القرصان بارباروسا أن يدخل في معركة ضد قوى العالم المسيحي مجتمعة.
بلغ جملة ما أعده أندريا دوريا - ابن مدينة جنوة - من قوات مسلحة مائتي سفينة، من بينها ثمانون سفينة من فينيسيا، ست وثلاثون أرسلهم البابا، ثلاثون سفينة إسبانية، علاوة على ستين ألف رجل، وألفين وخمسمائة مدفع، إلا أن قوات القراصنة كانت ضعف هذه القوة التي نقلت قاعدتها بأمر من بارباروسا الثاني إلى منطقة البحر الأيوني. في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1538م، كان أقوى أسطولين في ذلك الزمان يقفان في مواجهة كل منهما الآخر في خليج بريفيز. في اليوم التالي كانت الرياح تؤازر الأسطول التركي، وها هي المعركة تبدأ لتنتهي بهزيمة ساحقة لقوات الدول المسيحية.
ثلاث سنوات كاملة مرت بعدها حتى تمكنت الدول المسيحية من أن تبرأ من آثار الهزيمة الثقيلة، وتقرر الأخذ بالثأر، مرة أخرى تولي القيادة العليا للأساطيل المتحالفة ثقتها لدوريا في تولي قيادة السفن التي كنت تمثل كل الدول المسيحية تقريبا آنذاك، وكان من بين المشاركين في الأسطول الإسباني كورتيس الذي غزا فيما بعد بيرو.
اتخذ هذا الأسطول الذي بلغ قوامه ما يزيد عن خمسمائة سفينة مواقعه في التاسع عشر من أكتوبر عام 1541م. على مشارف ميناء الجزائر، كان الإمبراطور كارل الخامس يقف بنفسه على ظهر سفينة القيادة، بينما كان دوق إلبا يتولى عدة آلاف من المشاة، على أن النصر في هذه المرة أيضا كان حليفا للقراصنة. لقد منيت الأرمادا المسيحية الجبارة بهزيمة جديدة لم تستطع الدول المسيحية أن تجمع شتات قوتها من بعدها على مدى نصف قرن تقريبا.
على الفور استعاد القراصنة البربر وكرهم القديم في جربة، حيث شيدوا من عظام القتلى المسيحيين الذين دافعوا عن الجزيرة، هرما هائلا أسموه «برج الجماجم»، ظل قائما لمدة ثلاثمائة عام، حتى أمر بإزالته في عام 1848م فقط القنصل الفرنسي.
في الثاني والعشرين من أغسطس عام 1543م استولت القوات الفرنسية على نيس بفضل المساعدة التي قدمها لهم الأسطول التركي بقيادة خير الدين بارباروسا، الذي أعطاه الفرنسيون في مقابلها ميناء طولون. وفي التاسع عشر من يونيو عام 1547م عقد السلطان سليمان - سعيا منه في مزيد من حرية الحركة في فارس - اتفاقية هدنة لمدة خمس سنوات مع أسرة هابسبورج، كان من نتيجتها أن حل السلام النسبي بمنطقة البحر الأبيض المتوسط.
بعد أن حقق خير الدين مجدا كبيرا، وثروة لا تعد ولا تحصى قرر - وقد بلغ من العمر أرذله - أن يركن إلى حياة هادئة. على أنه أدرك أن ميناء الجزائر معقل القراصنة البربر الأساسية وقاعدتهم ليست هي المكان الأمثل لهدفه هذا، ومن ثم فقد توجه إلى القسطنطينية، حيث قضى ما تبقى له من العمر بصفته باشا الجزائر، وأقرب المقربين من سليمان الأكبر، وقد وافته المنية في الرابع من يوليو 1547م، بقصره المطل على مضيق البوسفور. لم يستمتع بارباروسا الثاني المتكبر بالمجد، سوى إبان حياته، وكان يتمنى لو أن أحفاده احتفظوا بذكراه إلى الأبد. شيد خير الدين مسجدا رائعا وضريحا تذكاريا دفن فيه بناء على رغبته.
ظلت كل سفينة تركية على مدى سنوات طوال تؤدي تحية الشرف أمام ضريحه، وذلك لدى مغادرتها لخليج القرن الذهبي، كما كان طاقم السفينة يصلي لقرصان البحر الأبيض المتوسط القوي، البحار التركي العظيم. ظلت ذكرى بارباروسا الثاني حية بين المسلمين، كما وجدت تعبيرا لها في الأسطورة البطولية التي صورت حياته.
خلفاء الإخوة بارباروسا
حلفاؤهم ... أعداؤهم ... ضحاياهم
جاء خلفاء الإخوة بارباروسا من بين أكثر أنصارهم موهبة، ولقد سعوا جميعهم للاحتفاظ بالمواقع التي احتلتها دولة القراصنة في البحر الأبيض المتوسط. لكن أحدا منهم لا يمكن أن يوضع موضع المقارنة مع ما كان يملكه أصحاب دولة البربر الأول من طاقة أو موهبة.
بعد وفاة بارباروسا الثاني يمكن أن تقسم تاريخ مملكة شمال أفريقيا - كما كان يسمى هذا الإقليم التركي - إلى الفترات الثلاث التالية:
حكم البايلربايات (1546-1587م).
حكم الباشاوات (1588-1659م).
ثم حكم الدايات
16 (1671-1830م).
في العشرين من يونيو عام 1544م، وصل إلى مدينة الجزائر حسن، ابن خير الدين، فبعد وفاة بارباروسا الثاني، منحه السلطان سليمان لقب بايلرباي أفريقيا، لكن اتضح أن حسن كان عدوا متطرفا لفرنسا؛ ففي فترة حكمه قام القراصنة بنهب أقاليمها الساحلية دون أدنى شفقة. لم يكن هذا التصرف يدخل ضمن حسابات تركيا على الإطلاق، حيث إن سياستها آنذاك كانت تميل إلى جانب فرنسا، وفي الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1551م - وبناء على إلحاح من السفير الفرنسي في القسطنطينية - قام السلطان برفع لقب بايلرباي عن حسن، وافق اتخاذ هذه الخطوة من جانب السلطان خرقه لاتفاقية الهدنة المعقودة بينه وبين آل هابسبورج، وتجددت العمليات ضد الإمبراطور في المجر وفي شمال أفريقيا.
وكذلك بدأت فرنسا أعمالها العسكرية في إيطاليا ضد الإمبراطور، لكنها لم تحقق نجاحا كبيرا فيها. لقد أدى تكتيك فرنسا في إيطاليا - بصورة رئيسية - إلى دعم أعداء الإمبراطور الذين كانوا يحاربون حلفاءه المحليين، تلا ذلك التكتيك لجوء فرنسا - إلى حين وبمساعدة أسطول القراصنة البربر - إلى دعم الانتفاضة التي هبت في كورسيكا ضد جنوده.
في شهر أبريل من عام 1552م قام السلطان بتعيين الريس صلاح - أحد أتباع بارباروسا المقربين - بايلربايا لأفريقيا. وعلى الفور أقدم الريس صلاح - مسترشدا بتعاليم أساتذة السياسة - على غزو الأراضي الواقعة في مؤخرة دولة القراصنة وهما: كابيليا، والمغرب. في عام 1555م استولى من الإسبان على بوجي، لكن موته المفاجئ لم يمكنه من استعادة وهران منهم. بعد موته، ادعى السلطنة لنفسه غصبا زعيم الإنكشارية ومساعد صلاح المدعو حسن كورسو، الذي قام بمحاصرة وهران من البر والبحر. على أن الأسطول الذي أخذ في التعرض للتهديد من جانب قوات دوريا، كان في مسيس الحاجة لمساعدة أسطول القراصنة؛ ولهذا فقد أصدر أمرا إلى حسن بالانسحاب من وهران والتوجه إلى ميناء الجزائر، حيث أصبح محمد كرد أوغلي بايلربايا عليها. كان لهذا التعيين أثره في قيام صراع مؤقت على السلطة بين منافسين عليها، وهما حسن كورسو ويؤيد جنود الانكشارية، وكرد أوغلي الذي يتمتع بثقة الأسطول. بعد أن قبض القراصنة على كورسو أنزلوه إلى صخرة في عرض البحر غير مأهولة، حيث ما لبث أن فارق الحياة بعد أيام قليلة.
لم يستمر حكم كرد أوغلي طويلا؛ إذ إنه في أبريل عام 1557م قتل على يد القائد
17
يوسف. صحيح أن الانكشارية استعادوا من جديد تأثيرهم المفقود في الأسطول، ولكن هذا التأثير لم يستمر هو أيضا طويلا؛ إذ ما لبث القائد يوسف أن هلك بعد عدة أسابيع بسبب الطاعون.
أعاد السلطان مرة أخرى تعيين حسن بن خير الدين بايلربايا لأفريقيا، حتى يضع نهاية للصراع على السلطة وللحرب الدائرة بين الإخوة. وقد نجح حسن إبان مدة حكمه التي استمرت عشر سنوات، أن يحقق انتصارين كبيرين على الإسبان. في اليوم الأول من شهر سبتمبر عام 1558م قتل الأمير الكانديتي بالقرب من ميناء المستغنم الواقع شمالي غرب الجزائر، وتم سحق جيشه، كما دمر الأسطول المسيحي في جزر جيليف عن آخره.
أبرزت المعارك مع الإسبان اسم دراجوت، أحد أتباع بارباروسا المقربين .
دراجوت هو أحد أكثر الشخصيات طرافة على ظهر سفن القراصنة البحارة، تعود أصوله إلى منطقة الأناضول في آسيا الصغرى، وكان قائدا في الأسطول التركي. وكان خير الدين قد أرسل إليه - لما سمع عن مآثره في البحر - يدعوه إلى الجزائر وائتمنه على قيادة أسطول له مكون من اثنتي عشرة سفينة. وفي إحدى المعارك البحرية، وقع دراجوت في يد دروي، وظل في الأسر أربع سنوات. كان خير الدين افتداه بمبلغ ثلاثة آلاف كرون، بعد وساطة زعيم فرسان مالطة، وخاصة الحاكم خوان باريو دي لافاليتا، ما إن حصل دراجوت على حريته، حتى قام على الفور «برد الجميل» إلى منقذيه، فاستولى على سفينة مالطية، كانت تحمل إلى طرابلس سبعة آلاف دوكات.
18
وافقت عودة دراجوت من الأسر رحيل خير الدين إلى القسطنطينية، وعلى الفور أصبح دراجوت قائدا لأسطول بارباروسا الثاني كله، وما لبث أن جدد نشاط القرصنة.
لم يكن دراجوت يستشعر الأمان على نحو كاف في الجزائر لتعرضها المستمر للتهديد من قبل الإسبان، ومن ثم فقد نقل مقر إقامته إلى جزيرة جربة، حيث حوله إلى قلعة حصينة، ومن هنا حقق دراجوت واحدة من أشهر أعماله على صفحة البحر. كان أندريا دوريا قد قام - تدعمه السفن الإسبانية - باحتلال آخر ميناء للقراصنة في القارة الأفريقية، بعد أن أوقع في الأسر الريس خيار ابن أخت دراجوت.
كان من أهم وأثمن الأشياء - من وجهة نظر القراصنة - تلك البحيرة الموجودة في جزيرة جربة، والتي قاموا بتوصيلها بالبحر عبر قناة ضيقة تحرسها عشرات المدافع.
قام دراجوت - بعد أن فقد كل الموانئ في القارة - بكامل أسطوله، واختبأ معه في جزيرة جربة. آنذاك كمن أندريا دوريا - وكان يعرف سر البحيرة - عند مدخل القناة، لكن الأيام والأسابيع مرت دون أن يظهر أي أثر لسفن القراصنة. عندئذ قرر دوريا - بعد أن نفد صبره - المخاطرة، فأرسل بعضا من السفن في عمق القناة، وكانت دهشتهم عظيمة؛ إذ لم تتعرض أي منها لقصف المدفعية، وعلى ذلك فقد واصلت سيرها بهدوء تام حتى وصلت البحيرة، فإذا بها خالية تماما من أي أثر لأسطول العدو. وسرعان ما انكشف سر اختفاء سفن القراصنة. لقد أجبر دراجوت - بعد أن تبين له مدى صعوبة اختراق حصار المسيحيين الذي ضرب حوله - أسراه إلى جانب أطقم سفنه بحفر قناة جديدة، يمكن بواسطتها وصل البحيرة بالساحل المقابل للجزيرة، وعندما أصبحت القناة معدة أخرج أسطوله عبرها إلى البحر.
في عام 1565م لجأ فرسان مالطة - الذين طردوا من ردوس على يد الأتراك ومن بعدها من طرابلس على يد أحد أتباع بارباروسا الثاني - لجئوا للاختباء بمالطة مدافعين بشراسة عنها ضد هجمات الأتراك المتتالية.
تسعة عشر عاما كانت قد مرت منذ وفاة خير الدين، وستة عشر عاما منذ أن بعث دراجوت الروح في أعمال القرصنة من جديد. وها هي الأوامر تصدر من القسطنطينية بدعم حملة تركية جديدة ضد قلعة مالطة، ومثله مثل رئيسه حسن يتسلم دراجوت رسميا العمل في خدمة السلطان التركي.
بلغ قوام الجيش الذي أرسله الباب العالي لضرب مالطة ثلاثين ألف رجل قادهم بيالي باشا، بينما قدم دراجوت من جانبه سفنا ورجالا يبلغ عددهم عدة آلاف من القراصنة الجزائريين. كان مجموع هذه القوات يزيد عما لدى فرسان مالطة بكثير؛ ولذا فقد بدا أن مالطة - وعلى رأس مدافعيها بارسيو دي لافاليتا، وكان قد جاوز السبعين من عمره - لن تستطيع المقاومة.
بعد معارك دامية ومضنية لكلا الجانبين استمرت ستة أشهر، قام دراجوت بهجوم كاسح، أما المدافعون عن القلعة فعبثا كانوا ينتظرون وصول النجدة إليهم، حتى أصبح على وشك الإنهاك التام، وحتى يضمن دراجوت النجاح التام لهجومه؛ إذ به يقف بنفسه على رأس قواته المهاجمة، ولكن حتى أشجع مقاتليه خذلوه إبان المعركة وتركوه يلقى حتفه فيها.
كان لموت دراجوت وقع شديد على بيالي باشا دفعه إلى الخوف من تكبد من مزيد من الخسائر، فسارع بإصدار الأمر بالانسحاب، وخاصة أن رسله القادمين من الجزيرة نقلوا إليه أنباء مفادها أن أسطول أرمادا الإسباني الجبار قد هب لمساعدة مالطة. لقد مرت على هذه الأحداث الآن أربعة قرون، وما تزال عاصمة مالطة تحمل اليوم اسم الرجل الذي دافع عنها: لافاليتا.
في عام 1567م، قام السلطان بتعيين حسن قائدا للأسطول العثماني، تماما كما حدث ذلك في يوم من الأيام مع أبيه خير الدين. وها هو مرة أخرى يغادر الجزائر، ولكن هذه المرة إلى الأبد، وبعد عام واحد تم تعيين محمد بن الريس صلاح بايلربايا مكانه.
في النهاية شغل أولج على أرفع منصب في الجزائر، ليكون بذلك آخر بايلرباي عليها. كان الرجل بلا شك أبرز خلفاء بارباروسا الذين حكموا دولة القراصنة البربر من مارس عام 1568م، وحتى وفاته في السابع والعشرين من يونيو عام 1587م.
الاسم الحقيقي لأولج علي هو أوتشالي من شبه جزيرة كالابريا الإيطالية، تلقى تعليمه الأول في فترة الصبا في أحد الأديرة، وكان في نيته أن يصبح راهبا في المستقبل، لكنه وقع في أسر القراصنة البربر عندما هاجم هؤلاء على السواحل الجنوبية لإيطاليا، وظل لسنوات طويلة يعمل بالتجديف في سفينة الريس علي أحمد، ثم قائدا للدفة في سفينة دراجوت.
دخل أولج علي في الإسلام على أمل أن يجد الفرصة يوما ما للانتقام، مضمرا الحقد والكراهية لكل من هو تركي، ومنذ ذلك الحين تغيرت أحواله تماما، فدأب - منذ أعتقه علي أحمد - على ملازمة القراصنة، وبدأ يشق طريقا له في هذا المجال بسرعة فائقة، ليصبح في عام 1557م واليا على تلمسان. أما في عام 1560م؛ فقد تم منحه لقب خليفة. فيما بعد يرث أولج ثروة طائلة عن دراجوت ويصبح باشا على طرابلس، ليصل في النهاية إلى منصب بايلرباي الجزائر.
لقد جرى تعيينه في هذا المنصب الرفيع فور احتلاله لتونس، واستيلائه - بعد معركة شرسة - على سفن حربية من سفن الفرسان المالطيين. كانت الغنيمة التالية أمام علي هي قبرص، التابعة آنذاك لفينيسيا.
كان البابا بي الخامس قد ناشد - بعد أن عرف بوقوع هذه الجزيرة في يد الأتراك - العالم المسيحي بأسره أن يقوم بحملة صليبية ضد الكفار، على أن أحدا لم يسارع لنجدة فينيسيا سوى الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا، الذي وضع أسطوله بكامله ليكون تحت تصرفها. أما العديد من الملوك فلم يستجيبوا لدعوة البابا ، وإن كان عدد من الفرسان من مختلف الدول الأوروبية قد انضموا إلى صفوف فرسان مالطة.
قامت الحرب ضد قوات الهلال تحت القيادة الروحية للبابا، على أن أهم شخصية في المعسكر المسيحي ظلت هي شخصية الملك الإسباني، الذي يبلغ من العمر آنذاك أربعة وعشرين ربيعا، تركز الأسطول المسيحي المؤلف من ثلاثمائة سفينة في ميناء ميسينا بجزيرة صقلية، وفي السادس عشر من سبتمبر عام 1571م كانت جميع الاستعدادات قد تمت وغادرت السفن الميناء لتلتقي في السابع من نوفمبر عند ليبانتو
19
مع القوات التركية. انتهت المعركة بهزيمة الأتراك الذين فقدوا حوالي خمسة وعشرين ألف رجل. علاوة على ذلك استطاع الأسطول المسيحي أن يطلق حوالي خمسة عشر ألفا من الأسرى كانوا على السفن التركية، على حين بلغت خسائر المسيحيين حوالي ثمانية آلاف قتيل وأكثر من ضعف هذا العدد من الجرحى، وقد استطاع أولج علي في هذه المعركة التي دارت بالقرب من ليبانتو أن يحقق مزيدا من المجد والشهرة، فقد قاتلت سفنه التي شغلت الجناح الأيسر من الأسطول التركي، ونجحت وحدها في صد الهجوم العنيف الذي شنته سفن خوان النمسوي. وفي الوقت الذي تمزق فيه الجناح الأيمن والصفوف المقاتلة التركية في القلب شر ممزق، فإن أولج الذي لا يقهر قام بعزيمة المستميت بمهاجمة سفن فرسان مالطة، واستولى على سفينة القيادة بأسلوب المصادمة.
استقبل السلطان أولج استقبال الأبطال، وعينه في منصب الأدميرال الأكبر للأسطول التركي تاركا إياه يحتفظ في الوقت نفسه بلقب بايلرباي أفريقيا، وهكذا استطاع هذا القرصان البربري الفذ - العبد سابقا - أن يرتقي أعلى درجات المجد.
كان أولج علي الأخير في قائمة الحكام البايلربايات في دولة القراصنة.
كانت تجارة العبيد دائما أحد أهم مصادر الدخل الرئيسية للقراصنة البربر، بل لقد ظهرت هناك في الجزائر وتونس وطرابلس شركات تجارية كانت تمول الحملات من أجل الحصول على البضائع الحية. ويرى الأب دان المؤرخ، والذي كان أسيرا في الجزائر في عام 1634م، أن عدد العبيد المسيحيين هناك بلغ آنذاك خمسة وعشرين ألف أسير، ناهيك عن ثمانية آلاف مسيحي اعتنقوا الإسلام .
كان من المتبع بعد تسليم العبيد في الميناء أن يسجنوا في سراديب واسعة، ثم يجري بعد ذلك تسجيلهم واستخراجهم واستجوابهم بواسطة مترجمين، ثم تصنيفهم وكتابة الاسم والكنية والجنسية والمهنة إلى آخر هذه البيانات. وكان الذين لهم أقارب أغنياء قادرون على دفع فدية كبيرة يوضعون بمفردهم، أما الآخرون فيرسلون إلى بيسيستان، وكان يعد آنذاك أكبر سوق للعبيد؛ حيث يعرضون هناك للبيع.
كان بعض الأسرى المسيحيين يعاملون معاملة قاسية، لكن هذه الحالات كانت نادرة للغاية، إذا استثنينا بالطبع إرسال الأسرى إلى الأعمال الاجتماعية والشاقة. كان السادة من الأتراك والمغاربة يعاملون عبيدهم في الغالب ببساطة كما يعاملون الماشية، معتبرين أنهم كلما أحسنوا تغذيتهم ومعاملتهم، كان هؤلاء أكثر إنتاجية لهم في العمل. كان هؤلاء المسلمون يتميزون كثيرا عن المسيحيين الذين كانوا يعاملون عبيدهم من المسلمين معاملتهم للمرتدين، أما ما كان يعنيه هذا الأمر إبان عصر التفتيش؛ فالأمر لا يحتاج إلى تفسير.
كان المغاربة يقدرون أصحاب الحرف والفنانين والأطباء تقديرا رفيعا، وكانوا كثيرا ما يعيدون العبيد إلى حريتهم، وقد اختلط الكثير من هؤلاء بالسكان، وتزوجوا منهم، واعتنق بعضهم الإسلام، وارتدوا العمائم، وذهبوا للعمل كقراصنة.
أما فيما يتعلق بالأسيرات المسيحيات؛ فالشابات والجميلات منهن أرسلن إلى الحريم، بيما جرى استخدام كبار السن وغير الجميلات في الأعمال المنزلية.
بقي بعد ذلك الأسرى الذين أرسلوا للعمل على السفن، وهؤلاء كانوا على موعد مع مصير مأساوي؛ فقد اختير لهذا الغرض رجال ممن كانوا يتمتعون بقوة جسدية، فكان يتم تقييدهم إلى سطح السفينة عند مكان المجداف، وكان طعامهم يتكون من الخبز الجاف، وأحيانا من العصيدة، ولم يكن يقدم لهم أي مشروب سوى الماء مضافا إليه قليل من الخل وزيت الزيتون، وعلى امتداد صفوف المجدفين كان هناك نفر من الملاحظين يمشون جيئة وذهابا يحثونهم على العمل بالكرابيج.
لعل أشهر من وقعوا في أسر القراصنة في التاريخ - عدا يوليوس قيصر - هو الكاتب الإسباني الشهير ميجل سرفانتيس الذي اشترك في المعركة التي دارت بالقرب من ميناء ليبانتو؛ ففي العشرين من سبتمبر عام 1575م، وقع سرفانتيس هو وأخوه في أيدي القراصنة البربر أثناء عودتهما من نابولي في طريقهما إلى إسبانيا. وفي الجزائر جرى بيعه لأحد اليونانيين المرتدين، والذي وجد معه عند تفتيشه خطاب توصية من خوان النمسوي، عندئذ أسرع اليوناني بمطالبة الأخير بفدية كبيرة مقابل إطلاق سراح أسيره.
في الوقت نفسه كان سرفانتيس مقيدا في الأصفاد، لا طاقة له بتحمل مشاق الحبس والمعاملة القاسية، ومن ثم فقد بدأ يفكر في الهرب، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، بل وفرضت عليه رقابة أشد.
ذات مرة نجح سرفانتيس في الاتصال بأخيه الذي أدى أبوه الفدية، وعندما حضرت السفينة لأخذه تسلل سرفانتيس سرا إليها، لكن أمره افتضح. تحمل سرفانتيس عاقبة فعلته وحده، ولم يشأ أن يشي إطلاقا بمن يسر له أمر الهرب، على الرغم مما تعرض له من صنوف العذاب. لم يستطع حسن نائب الملك والمشهور بقسوته، أن يجبر سرفانتيس على الوشاية بشركائه في المؤامرة إلى حد أن إصرار هذا الأسير أصبح موضع إعجاب حسن نفسه الذي دفع عنه الفدية لليوناني. سعى سرفانتيس مرة أخرى للهرب لكن أحد الدومينيكانيين خانه، وأخيرا وبعد مرور ما يزيد عن أربع سنوات وصلت الفدية. أطلق سراح سرفانتيس في شهر سبتمبر من عام 1580م، وكان يبلغ من العمر - آنذاك - ثلاثين عاما. كتب سرفانتيس إنتاجه الشهير عندما بلغ من العمر ستة خمسين عاما، وقد عانى في هذه السن أيضا مرارة السجن مرة أخرى.
كان الوقوع في أسر القراصنة كابوسا حقيقيا بالنسبة لسكان السواحل الأوروبية، وقد حاولت الدول بكل الطرق أن تخفف من وقعه؛ ففي عام 1624م أعلن مجلس اللوردات الإنجليزي الاكتتاب من أجل جمع فدية الأسرى الإنجليز. بعد ذلك بمائة عام خصص المدعو توماس بيتون جزءا كبيرا من ثروته لهذا الغرض.
في القرن الثاني عشر تأسست أول منظمة في أوروبا، كانت مهمتها افتداء الأسرى وإطلاق سراح المساجين تحت اسم جمعية الثالوث المقدس. كان مؤسسها هو القديس يوحنا من متا، وقد افتدت الجمعية خلال العام الأول من نشاطها ستة وثمانين أسيرا في السجون المغربية. وقد قام القساوسة الأتقياء بجلابيبهم البيضاء، تزينها على الصدور صلبان حمراء وزرقاء، بإجراء مفاوضات خطيرة مع القراصنة؛ إذ إنهم أنفسهم - ولا عجب - كثيرا ما كانوا يقعون في الأسر.
بمرور الوقت أصبح الدومنيكان يتولون هذه المهمة، الأمر الذي كان من نتيجته أن أصبح الأسرى الكاثوليك في وضع أفضل من وضع الأسرى البروتستانت. وهناك حادث شهير في هذا الصدد، فعندما دفع الآباء المخلصون إلى باي الجزائر مبلغ ثلاثة آلاف قرش كفدية لثلاثة من الأسرى الفرنسيين، نظر الباي إليهم نظرة عطف، فأضاف إليهم أسيرا رابعا بلا مقابل. إلا أن الآباء رفضوا أن يصطحبوه معهم؛ لأنه كان بروتستانتيا!
في النهاية قامت البلاد البروتستانتية بدورها بإنشاء منظمة تعنى بشئون فدية أسراها، وكان على رأسها سيدني سميث.
استمرت القرصنة البربرية بضع قرون اجتازت فيها مختلف التقلبات، إلا أنها بحلول القرن الثامن عشر، ونتيجة لفقدها نقاط الارتكاز السياسية في الإمبراطورية العثمانية، التي أخذت شيئا فشيئا في الضعف والتحلل - إلى جانب الأعمال المشتركة بين الدول الأوروبية - أخذت بدورها في الانهيار تدريجيا، لكنها كانت ما تزال - حتى في القرن التاسع عشر - على قدر كبير من القوة، حتى إنه في حوالي عام 1800م على سبيل المثال، كانت ممالك صقلية، وتوسكانا، وسردينيا، والبرتغال، والدنمارك، والسويد، وهانوفر، وبريمن، تدفع إتاوة ثابتة لقراصنة البربر.
في حوالي الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، انتهت تماما من الوجود دولة القراصنة البربر.
الفصل الرابع
القرصنة في البحر الكاريبي
أسهمت الطفرات الاجتماعية والاقتصادية الجذرية، التي حدثت في الكثير من الدول الأوروبية في القرن السادس عشر، والتي أدت إلى انهيار العلاقات الإقطاعية السابقة في القضاء على القرصنة في البحار المتاخمة لأوروبا، على أن النهب البحري عاد بعد أن طرأ عليه بعض التغيير الظاهري.
ففي أمريكا، ظلت الأشكال الاقتصادية التي انتهت في أوروبا، وما ارتبط بها من أشكال علاقات الإنتاج والتبادل المتخلفة، سائدة لبعض الوقت. كان بإمكان قراصنة العالم الجديد، مثلهم في ذلك مثل أسلافهم الأوروبيين والأفارقة، أن يربطوا في أحيان كثيرة بين نشاطهم في السلب واشتغالهم بالتجارة والملاحة.
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، أصبحت مياه البحر الكاريبي وجزر الأنتيل المنتشرة فيه هي المسرح الرئيس لتاريخ القرصنة الأمريكية الحافل، فقد تحولت هذه الجزر ذات الخلجان العديدة والمنيعة، التي اكتنفتها العزلة والهدوء، إلى أوكار وملاجئ على مدى عشرات السنين لكل أصناف المغامرين ولصوص البحر.
مارست القرصنة نشاطها في البحر الكاريبي على وجهين مختلفين؛ فمن ناحية دخلت القرصنة طرفا في الحروب التي دارت رحاها بين الدول الأوروبية الاستعمارية؛ من أجل الاستيلاء على أجزاء من العالم الجديد، وفي هذه الفترة توافق نشاط القرصنة البحرية، المقترن بنهب الشواطئ في بعض الأحيان، مع ظهور الأساطيل الحربية الجبارة في هذا البحر، واشتراك الأخيرة هي أيضا في عمليات نهب المدن على نطاق كبير. إن هذه العلاقة بين القرصنة والنهب كانت وثيقة إلى حد أنه كان من الصعب وضع حد فاصل بين هاتين الظاهرتين، وتحديد أي الشخصيات في الملاحم الكاريبية ينبغي أن يندرج في خانة القراصنة، وأيها في خانة اللصوص.
أصبحت هذه الظاهرة تشكل أحد أهم أسباب الخلط المتكرر في معرفة جوهر هاتين الظاهرتين المختلفتين؛ القرصنة البحرية، ونهب المدن على طريق البحر.
من ناحية أخرى؛ فقد مارس قراصنة الكاريبي بالفعل هذا النوع من النهب في أوقات السلم، حيث ارتبط هذا النوع من النشاط بالتجارة في أغلب الأحيان، هنا كان القراصنة يقومون بدور التجار والمهربين أكثر من كونهم رجال حرب.
كان البلاط الملكي الإسباني يرى أنه السيد الوحيد لكل الأراضي الممتدة باتجاه الغرب، بدءا من الحدود التي أقرتها الاتفاقية المعقودة في السابع من يوليو عام 1494م، في مدينة تورد سيلياس،
1
ومن ثم اتبع في مستعمراته الأمريكية سياسة خاصة تكفل لإسبانيا (المتروبول) عزلة تامة لممتلكاتها البحرية عن عالم بأسره. في الوقت نفسه سعت إسبانيا الكاثوليكية لإضفاء الصبغة الدينية على هذه السياسة، فقد حرم المرسوم الملكي دخول من أسمتهم بالمرتدين وخاصة القراصنة البروتستانت
Corsari-os Luteranas
إلى مستعمراتها.
على أنه سرعان ما ظهرت بالقرب من شواطئ العالم الجديد سفن إنجلترا وفرنسا وهولندا والدنمارك، التي لم تعترف بالاحتكار الاستعماري الإسباني. لقد اشتعل الصراع بين هذه الدول على إعادة تقسيم العالم الجديد ، وجرى الجزء الأكبر من وقائع هذا الصراع على المسرح الحربي للبحر الكاريبي، حيث لعب القراصنة واللصوص دورا لا يستهان به في هذا الصراع.
البوكانيون والفليبوستيون
عادة ما يلجأ باحثو «ملاحم» القرصنة في البحر الكاريبي إلى تقسيمها إلى عدد من المراحل التاريخية، متخذين من فترات سيطرة بعض الدول الأوروبية، التي اشتركت في هذا الصراع، أساسا لهذا التقسيم.
تحمل المرحلة الأولى اسم المرحلة الفرنسية (1530-1559م). يذكر أن فرانسوا ديكليرك، الذي سبق له أن بث الرعب في قلوب الإسبان في إسبانيولا
2
وبويرتوريكو؛ حيث نهب القرى الساحلية لهما، قام في عام 1554م بالهجوم على قرية سانتياجو دي كوبا، واحتلها ونهبها، ثم قام في العام التالي مباشرة بتجهيز حملة مكونة من عشر سفن، نجح بفضلها في احتلال هافانا دون عناء يذكر. وقد ظل اللصوص ثمانية عشر يوما يعيثون في هذه المدينة فسادا، ثم غادروها دون أن يتركوا لسكانها شروى نقير،
3
ناهيك عن أنهم أضرموا فيها النيران، وهم يغادرونها. في عام 1556م يعود الفرنسيون مرة أخرى، ليهاجموا جاميكا التي لم تنته سيطرتهم عليها إلا في عام 1559م، وذلك عندما عقدت فرنسا اتفاق سلام مع إسبانيا في «شاتو كامبريزي»، وهو الاتفاق الذي وضع حدا - إلى حين - لحملات النهب، التي كانت تخرج لمهاجمة الممتلكات الإسبانية في أمريكا تحت علم فرنسا، غير أن نشاط القراصنة واللصوص الفرنسيين لم يقف عند هذا الحد؛ إذ أخذ هؤلاء في مواصلته بعد أن استبدلوا بعلم فرنسا أعلاما أخرى.
كانت هذه هي الظروف التي بدأت في ظلها المرحلة الثانية من ملحمة البحر الكاريبي، والتي عرفت باسم المرحلة الإنجليزية (1560-1620م)؛ فعلى الرغم من أن اللصوص الإنجليز الأوائل كانوا قد ظهروا على صفحة الكاريبي في عام 1519م، أي بعد اكتشاف أمريكا على يد كولمبس بأقل من ربع قرن؛ فإنهم لم يوسعوا من نشاطهم إلا في النصف الثاني من القرن السادس عشر. امتلك كل من اللصوص والقراصنة سفنا كانت تعمل باسم الدول التي تمنحهم شهادات لممارسة القرصنة. كانت الشهادات تشير إلى اسم العدو واسم الحليف، كما تحدد شروط تقسيم الغنائم، أما القرصان فكان يحصل في الغالب على تسعين بالمائة منها، بينما تحصل الدول الراعية على العشرة بالمائة الباقية تعبيرا عن خضوع القراصنة، وكتعويض مقابل الحماية الشرعية التي تتمتع بها سفنهم.
وقد شرعت إنجلترا - التي لم يكن لديها حتى ذلك الحين أسطولا حربيا قويا - في إنشاء قوة مسلحة بحرية معتمدة في ذلك على هؤلاء القراصنة بالتحديد. كان هؤلاء الرجال الشجعان، الذين ظلوا يحاربون أعداء ألبيون ببسالة، يلقون تقديرا رفيعا من ملك إنجلترا وشعبه، وقد نال كثير منهم ألقابا رفيعة لما أدوه من خدمات.
يصعب حصر القراصنة الإنجليز الذين تركوا أثرا داميا في التاريخ العاصف لجزر الأنتيل، يكفي أن نذكر فقط في هذا الصدد بعضا من بين أكثرهم شهرة وشراسة، حتى ندرك حجم الدور الذي لعبوه في التاريخ. من أبرز الأسماء: جون هوكنز، فرنسيس درايك، توماس باسكرويل، والتر رايلي.
يعتبر جون هوكنز تاجرا أكثر منه قرصانا، سعى في الستينيات من القرن السادس عشر للعمل بالتجارة في سوق حوض البحر الكاريبي المليء بالاضطرابات. أما فرنسيس درايك الذي شارك هوكنز العمل بالقرصنة بعض الوقت؛ فبلغ ذروة نشاطه في الفترة ما بين عامي 1570 و1596م، ولم يستطع توماس باسكرويل الذي خلفه في نشاطه من الوصول إلى مرتبة أستاذه.
اشتهر درايك، الذي قام في الأعوام من 1577 إلى 1580م برحلة بحرية حول العالم، بهجومه الناجح على سانتو دومنجو؛ ففي التاسع من يناير عام 1586م، ظهر درايك على رأس ثلاث وعشرين سفينة بالقرب من عاصمة إسبانيولا. وفي اليوم التالي أنزل درايك بضع مئات من رجاله إلى الشاطئ، نجحوا في التسلل إلى سانتو دومنجو. وعلى الرغم من أن المدينة كانت محاطة بأسوار منيعة ولديها بعض الأسلحة، فإن حاميتها بأسرها لم تكن تزيد على ثلاثين رجلا، بالإضافة إلى ذلك فإن بوابة المدينة تركت مفتوحة، الأمر الذي جعل الإنجليز يدخلون المدينة دونما مقاومة. تمكن المحافظ الإسباني من الفرار، بينما طالب درايك السكان بدفع جزية بلغت مائتي الف دوكاتو، إلا أن المواطنين لم يكن بمقدورهم أن يجمعوا مثل هذا المبلغ الباهظ، وانتهى الأمر بأن سلموا زعيم القراصنة خمسة وعشرين ألف دوكاتو، عندئذ أمر درايك بتدمير المدينة.
في عام 1595م احتل رايلي مدينة ترينداد، بعدها قام الإنجليز في عام 1598م بنهب سان خوان، ثم اتجهوا ببصرهم بعد ذلك تجاه جاميكا، وكان هجومهم الأول عليها في مطلع شهر فبراير عام 1597م بقيادة أنتوني شبرلي، عندما أنزلوا فصيلة مكونة من مائتي وخمسين رجلا في بويرتو دي كاجوايا (تسمى الآن باسدج فورت)، ومنها واصلوا حملتهم نحو سانتياجو دي لافيجا عاصمة جاميكا، وقد ولت الحامية الإسبانية الصغيرة الموجودة بها أدبارها على الفور. إن بضع عشرات من الرجال في ظروف البحر الكاريبي آنذاك كانوا يمثلون قوة مؤثرة وخاصة؛ إذ كانوا يتمتعون بشجاعة مثل شجاعة هؤلاء اللصوص الذين يتميز هجومهم بالحنكة والمباغتة. لقد نهب اللصوص الإنجليز المدينة، ولم يتركوها إلا بعد أن حولوها إلى مجرد أطلال ورماد.
في عام 1600م يعود القراصنة من جديد، ليهاجموا جاميكا، ولكنهم يهاجمونها هذه المرة من الجانب الآخر من الجزيرة، ثم كانت الغزوة التي تلتها، والتي قادها وليم جاكسون في عام 1643م، من نصيب سانتياجو دي لافيجا. لقد نالت «جزيرة الجنة» إعجاب الإنجليز، حتى إن عشرين من القراصنة هربوا إليها بسفنهم، وانضموا فيها إلى الإسبان، ليستقر بهم المقام فيها أبد الآبدين.
سميت المرحلة التي تلت ذلك بالمرحلة الهولندية (1620-1640م)، في هذه الآونة قامت هولندا، وهي إحدى الدول المعادية لإسبانيا، بتطوير نشاطها الاستعماري على نحو مكثف في آسيا (إندونيسيا)، وفي أمريكا (نيو أمستردام وغيانا)، وخلال عام 1624 و1625م نجح القراصنة الهولنديون في الهجوم على بويرتوريكو.
إن «المآثر!» التي اجترحها اللصوص والقراصنة السابقون لتتضاءل أمام ما حققه البحار الهولندي بيتر بيترسون هاين، الذي اشتهر بين مواطنيه باسم بيت هاين، كان هاين ابن صياد هولندي يعمل في أعالي البحار، آخذا عن أبيه منذ نعومة أظافره فنون البحر، حتى إذا بلغ أشده تولى في عام 1628م قيادة أسطول شركة وست إنديا، الذي بنته هولندا في إطار استعداداتها للقيام بحملتها العسكرية على أمريكا. لقد بدا أنه أسطول كبير للغاية، يضم إحدى وثلاثين سفينة، يبلغ عدد البحارة العاملين عليها ثلاثة آلاف رجل، إلا أن هذا الأسطول كان في واقع الأمر أسطولا هشا على الرغم من كثرة العدد؛ فالأطقم العاملة عليه تفتقر إلى الخبرة، كما تفتقر إلى التسليح الجيد، ناهيك عن أن هاين قد تلقى مهمة صعبة، وأضحى يحمل على كاهله مسئولية جسيمة؛ إذ تلقى أمرا بالاستيلاء على قيادة إحدى سفن الأسطول «الفضي» الإسباني وما عليها من ثروة إبان إبحارها، محاطة بالحراسة في طريقها من أمريكا إلى أوروبا.
نظرا للمخاطر التي كانت تهدد الطريق البحري الذي يربط بين إسبانيا بممتلكاتها في أمريكا، والممثلة في لصوص البحر والقراصنة المنتشرين على طول هذا الطريق، فقد قررت الغرف التجارية الإسبانية، وكانت قد أسست في عام 1530م محتكرة كل التجارة البحرية، استخدام سفن حربية جبارة لتحمي قوافلها البحرية التجارية إبان نقلها للثروات من أمريكا إلى إسبانيا، لكن الأمر لم يكن دائما ليسير على هوى سفن الأسطول «الذهبي» أو «الفضي»، فعندما كانت إحدى سفن هذه الأساطيل تضطر، بسبب حادث يقع لها أو لسوء الأحوال الجوية للانفصال عن القافلة، كانت تصبح على الفور تحت رحمة اللصوص الإنجليز والفرنسيين والهولنديين، بل وكل قراصنة الكاريبي المنتشرين في البحر. لقد كان الجميع يترقبون وقوع مثل هذه الأحداث، وهم يتتبعون قوافل السفن الإسبانية تماما، مثلما تتبع أسماك القرش ضحيتها.
ذات مرة قامت إحدى سفن القراصنة الفرنسية ، وكانت مختبئة عند شواطئ كوبا، بالهجوم على سفينة إسبانية بطريقة التصادم، وقد عثر القراصنة في هذا الغليون
4 - إلى جانب ما وجدوه فيه من ذهب - على خرائط بحرية حربية موضح عليها طريق بحري كان ما يزال آنذاك طريقا مجهولا، وهو طريق يستخدمه الإسبان في نقل الذهب وغيره من كنوز العالم الجديد إلى إسبانيا. كانت هذه «اللقطة» سببا في وقوع سلسلة من الهجمات على القوافل البحرية الإسبانية سواء «الذهبية» أو «الفضية».
لم يتسن لبيت هاين من قبل أن يحقق نجاحا كبيرا، أما الآن فقد أصبح لزاما عليه أن يقود أسطوله للهجوم على أحد الأساطيل «الفضية» الإسبانية المكون من أربعة غلاوين حربية ضخمة، تقوم على حماية إحدى عشرة سفينة تجارية صغيرة. كانت قوة نيران الغليون الإسباني الواحد تفوق نيران الأسطول الهولندي بأكمله.
اختبأ «بيت هاين» بأسطوله بالقرب من ماتاناس الواقعة شرقي هافانا في كوبا، بعد أن نجح في خداع حرس السواحل اليقظ. لقد تنبأ هاين أن أحدا لن يتوقع أن يلاقي أعداءه عند مدخل كوبا نفسها، وهي التي تعد واحدة من أكبر القلاع الإسبانية في منطقة جزر الأنتيل، وقد صدقت نبوءته.
لقد كان هجوم القراصنة الهولنديين غاية في الدقة والمباغتة، حتى إنهم لم يلجئوا لاستخدام مدفعيتهم، وتم لهم الاستيلاء على تسع سفن ضخمة محملة بالمعادن الثمينة والتوابل. وهكذا ضاع مجهود عام بأكمله بذله الرعايا والمستعمرون الإسبان أدراج الرياح. أما في أوروبا فقد اهتزت الثقة في رجال المال والأعمال الإسبان، ولم يجد سكان كاستيليا حتى ما ينفقونه على الجيش.
أخذ الإسبانيون - بعد الهزيمة التي حاقت بهم من الهولنديين - في تقوية مواقع حرس السواحل العاملة في ممتلكاتهم في البحر الكاريبي، وقاموا بتغيير مواعيد الرحلات والطرق التي تسلكها الأساطيل الإسبانية التي تحمل بضائع قيمة. ولكن على الرغم من كل الإجراءات والاحتياطات التي اتخذت؛ فقد تمكن اللصوص والقراصنة من إنزال ضربات مؤثرة بالإسبان. لقد اتضح الآن أن الأساطيل الإسبانية التي أصابها الوهن لم تعد تصلح إلا لأعمال الدفاع، حتى إن الإسبان أخذوا في زيادة الاستحكامات في الحصون والقلاع المنتشرة في جزر الأنتيل، والتي ما تزال حتى اليوم شاهدا على الصراعات الدموية التي دارت رحاها في هذه المنطقة. لقد انهارت السيادة الاحتكارية لإسبانيا على البحر الكاريبي، كما انهارت حوائط الحصون بعد أن احتلها الإنجليز والفرنسيون والهولنديون، وأصبح من الجلي أن الإسبان ليس في مقدورهم بالفعل الدفاع عن مستعمراتهم. على هذا النحو تمكن الغزاة الجدد في ثلاثينيات القرن السابع عشر من اقتحام جزر الأنتيل الصغيرة، بعدها جاء الدور على جزر الأنتيل الكبرى، ثم ما لبث الاقتحام أن شمل في النهاية القارة الأمريكية ذاتها.
لقد دخل الصراع في حوض البحر الكاريبي مرحلة جديدة. ها هم القادمون من غرب وشمال أوروبا ومعهم القراصنة واللصوص، يفضلون الآن العمل بالتجارة والصيد وتربية الماشية، بل اتجه بعضهم أحيانا إلى امتهان الزراعة، وفي الوقت نفسه فقد ظل هؤلاء يواصلون حربهم ضد إسبانيا، وضد السكان المحليين على حد سواء.
وفي هذه الفترة بالتحديد ظهر على ساحة الكاريبي أشخاص جدد، ونعني بهم البوكانيين والفليبوستين.
والبوكانيون صيادون سموا بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا يعدون لحوم الوحوش التي كانوا يصيدونها بطريقة الهنود المعروفة باسم «بوكانا»، وذلك بتمليحها وتجفيفها، ثم تدخينها في دخان كثيف، كان إعداد اللحوم بهذه الطريقة يسهل من حفظها في ظروف المناخ الاستوائي، كما كانت تلقى رواجا كبيرا في جزر الأنتيل.
ظهر البوكانيون في الكاريبي بعد أن ترك الإسبان مستعمراتهم في جزر الأنتيل، متجهين إلى القارة الأمريكية بمجرد اكتشاف العالم الجديد، ووقوعهم في هوى ذهب قبائل الأزتيك والمايا والإينكا، ترك الإسبان في هذه الجزر الحيوانات المستأنسة التي أحضروها من أوروبا؛ البقر، الماعز، والأغنام، والخنازير التي خرجت من الأفنية المهجورة إلى الأحراش، لتضع بداية لنوع خاص متباين من الحيوانات المستأنسة المتوحشة. وهذه الجوانب المتوحشة بالذات هي التي أصبحت فيما بعد هدفا للصيد من جانب البوكانيين، الذين خرجوا من قبل إما من أوساط البحارة الفرنسيين أو من بين الذين تعرضت سفنهم لسطو اللصوص والقراصنة الذين استوطنوا إسبانيولا.
لقد ترك المستعمرون السواحل، لكن أعماق الجزر - حيث الغابات البكر - كانت مأهولة بشتى الأنواع من البشر، فخلافا للهنود الذين لم يكن لهم وجود آنذاك، امتلأت الأحراش بالمجرمين الفارين من السجون، أو من حملات التأديب الحكومية. كذلك عاش هنا من نكبتهم الحياة بمصائبها ومن لم يستطع التعايش مع الفاتحين
5
الإسبان إبان وجودهم في الجزر، تزوج هؤلاء من الهنديات واضعين بذلك بداية ظهور جيل من المولدين الذين جاءوا من أصول إسبانية هندية، وضعتهم في أدنى درجات السلم الاجتماعي، وسرعان ما انضم إليهم «رجال الغابات» الهراطقة الهاربون من محاكم التفتيش، وأقرانهم من الهاربين من الخدمة على السفن.
عندما عاد الإسبان الذين فشلوا في العيش في القارة الأمريكية إلى جزر الأنتيل، لم يرق ذلك البوكانيين، على أنهم - والحق يقال - عاشوا معهم في سلام، ولم يسببوا لهم أية مضايقات، ولقيت اللحوم التي كانوا يعدونها بطريقتهم استحسانا ورواجا كبيرا لديهم. على أن هؤلاء الإسبان عادوا لمعاملة البوكانيين الذين لم يدفعوا الجزية، ولم يعترفوا بسلطات ملك إسبانيا، وقوضوا الاحتكار الاستعماري بتجارتهم مع السكان المحليين معاملة سيئة، فأخذوا يرسلون بالحملات إلى أعماق الأدغال لتأديب البوكانيين، مستخدمين في ذلك الكلاب المدربة، التي كانت قد استخدمت من قبل في مطاردة هنود الكاريبي. لكن اتضح أن البوكانيين أشد بأسا من الهنود؛ إذ كانت لديهم أسلحة نارية، وكانوا يشدون أزر بعضهم عند مواجهة الخطر، متحدين في فصائل كبيرة، وقد لجأت إحدى هذه الفصائل إلى جبال سيرادل سكامبراي وسيرا مايسترا المنيعة في كوبا، بينما رحلت فصائل أخرى إلى القارة لتحتمي بالإقليم المعروف باسم شاطئ البعوض
Mosquito Coast
في نيكاراجوا، وقد تمكن الإسبان من طرد جزء من البوكانيين من إسبانيولا إلى جزيرة تورتوجا،
6
الصغيرة القائمة شمال شرق إسبانيولا.
في هذه الفترة أصبح «البوكانيون» يسمون أيضا ب «الفلوبستيين»،
7
كان الفرنسيون يفضلون استخدام هذا الاسم، بينما راح الإنجليز يسمونهم ب «البوكانيين»، على الرغم مما بين التسميتين من اختلاف، فالكلمتان كانتا تعنيان في أغلب الأحوال القراصنة أو الصيادين، ولم يكن الأمر محض صدفة، فحتى القرن السابع عشر لم يكن من المتعارف عليه احتراف القرصنة وحدها أو الصيد وحده؛ فقد كان الفلوبستيون يشتغلون يوما بعد الآخر بالأعمال المدنية، مثل: الزراعة، وتربية الماشية، والتجارة، ودبغ الجلود. وأما البوكانيون فقد فضلوا العمل في دبغ الجلود وبيعها. من الضروري هنا أن نعيد النظر بشكل حاسم في الأساطير التي نسجت حول الفلوبستيين، فهناك من يذكرهم كما لو كانوا فرسانا طيبين مفعمين بالمشاعر الوطنية والدينية العميقة، بينما يرى آخرون أنهم كانوا لصوصا متوحشين. الواقع أن الحقيقة تقع بين هذه الروايات وتلك، فالفلوبستيون كانوا يتميزون حقا بالشجاعة والإقدام، إلا أنهم كانوا يخرجون إلى البحر على سفنهم الخفيفة ذات القدرة الكبيرة على المناورة لنهب الصيادين في الأغلب، لا لمهاجمة السفن الإسبانية.
سمي الفلوبستيون أيضا ب «جماعة الشاطئ»، منذ أن أنشئوا على البر وفي البحر مجتمعا منظما على نحو غير عادي، مجتمعا يقوم على مبادئ الملكية المشتركة، وكانت عقوبة أي محاولة للاستئثار بجزء من الغنيمة هي الطرد من عشيرة القراصنة، وأحيانا تكون أشد قسوة. كانت دخول القراصنة متمايزة بشكل صارم، ويتم توزيعها تبعا للوظيفة التي يقوم القرصان بأدائها؛ فعلى سبيل المثال: كان قبطان السفينة يتقاضى أربعمائة بيسو؛ مساعد الطبيب: مائتين؛ نجار السفينة يتقاضى مائة وخمسا وسبعين؛ البحار: مائة؛ وصبي البحار: خمسين. أما المال العام فكان يستخدم في شراء السلاح والغذاء ومستلزمات السفينة وما إلى ذلك. كان لمجتمع القرصنة نظامه الاجتماعي الخاص الذي يكفل بواسطته دفع التعويض المناسب للذين يصابون في المعارك من أفراده، فالقرصان الذي يفقد ذراعه اليمنى يتقاضى ستمائة بيسو، أو ستة أسرى كمعادل لهذا المبلغ. أما القرصان الذي يفقد ذراعه اليسرى فيتقاضى خمسمائة بيسو، أو يعطى خمسة أسرى. وعلى هذا النحو يتم تعويض من فقد ساقيه، أما من تفقأ له عين أو يقطع له إصبع؛ فيدفع له مائة بيسو، أو يعطى أسيرا واحدا.
كان على جميع القراصنة أن يؤدوا يمين الولاء، وأن يلتزموا بالنظام المقرر الذي كان من النادر أن يقوم أحد منهم بمخالفته. كانت المساواة التامة واحدة من القواعد الملزمة، فجميع أعضاء طاقم السفينة من الصبي إلى القبطان يتناولون طعاما واحدا، وكان بمقدور كل شخص أن يتناول من الطعام والشراب كما يشاء إلا السكر؛ فعنده كان يواجه بأقسى عقوبة. أما عند اتخاذ القرارات المهمة، مثل تحديد هدف الحملة واتجاهها وما إلى ذلك من قرارات، فقد كان على القبطان أن يطرح مقترحاته ليصدق عليها من المجلس الذي يدخل طاقم السفينة بأكمله ضمن أعضائه. فإذا كان الطاقم يخضع دون اعتراض للقبطان؛ فإن هذا الأخير في المقابل كان يحاسب على ما يقوم به من أفعال أمام مجتمع القراصنة. لم يكن الانضمام للجماعة أمرا تكتنفه أية صعوبة، فمن كانت لديه الرغبة في الانضمام إلى القراصنة؛ فما عليه سوى أن يلقي بمرساته عند جزيرة تورتوجا، ويؤدي لقبطان السفينة يمين الولاء فيقبل من فوره.
بعد أن وطد قراصنة الكاريبي وضعهم، حولوا تورتوجا إلى حصن جبار، ومن ثم أخذوا يتطلعون لجعلها تقوم بدور متروبول حقيقي للقراصنة في منطقة بحر الكاريبي. لم يكن لهذه الجزيرة الصخرية المنيعة سوى خليج واحد يصلح لأن يكون ميناء. كنت هناك صخرة عظيمة تخفي مدخله، بنى القراصنة فوقها قلعة دفاعية، أسموها «برج الحمام» («إل بالومار» بالإسبانية).
يوما بعد الآخر تحولت تورتوجا إلى مستعمرة غنية، استحقت أن تعرف باسم لؤلؤة جزر الأنتيل.
كان وصول المهاجرين الفرنسيين والإنجليز القادمين من جزر نيفيس وسانت كبتس إلى جزيرة تورتوجا في عام 1629م، بداية لظهور الفلوبستيين المتعددي الجنسية، وسرعان ما توافد البحارة من مختلف البلاد على الجزيرة: إنجليز، فرنسيون، دنماركيون، هولنديون، برتغاليون، ألمان، بل ومن الإسبان أيضا. على الرغم من أن مسألة الأصول العرقية لم تكن ذات أهمية كبيرة في تورتوجا، فإن التفوق العددي كان للإنجليز الذين أصبحت لهم - على نحو رمزي - مقاليد السلطة في حوالي عام 1631م. وفي العامين 1634، 1635م سيطر الإسبان على الجزيرة، ولكن الأمر لم يستمر طويلا، فسرعان ما اضطره بعد عدة شهور لإعادة السلطة إلى الإنجليز مرة أخرى.
أخذ الإنجليز ينظرون إلى الجزيرة باعتبارها مستعمرتهم الخاصة، وكان أن أدت هذه السياسة إلى وقوع انقسامات بين الفلوبستيين المحليين، وخاصة بين الأغلبية الإنجليزية القوية والفرنسيين الأقل عددا وعدة، وفي حوالي عام 1639م تم طرد الفرنسيين من الجزيرة نتيجة لهذه المصادمات.
إلا أن القراصنة الفرنسيين لم يستسلموا للهزيمة، فبعد معركة لم تدم وقتا انسحبوا إلى سانتا دومنجو، حيث بقوا هناك بانتظار فرصة مواتية للعودة إلى تورتوجا، وكانت من المنعة بحيث يصعب الاستيلاء عليها، وفي الوقت نفسه لم يكن الدفاع عنها يتطلب جهدا كبيرا، وهي الميزات التي كانت ترفع من شأنها في أعين القراصنة.
وها قد سنحت لهم الفرصة عندما علموا أن السيد فيليب دي لونجوي دي بوانسي، محافظ القطاع الفرنسي من جزيرة سانت كيتس، قد جهز المدعو ليفاسير لمحاربة الإنجليز بهدف استرجاع تورتوجا منهم، كان تحت تصرف ليفاسير تسعة وأربعون رجلا. وعندما وصل إلى سانتو دومنجو دخل في مباحثات مع الإنجليز باءت بالفشل، فما كان منه إلا أن انضم الفلوبستيون الفرنسيون الموجودون في سانتوا دومنجو. وفي الواحد والثلاثين من أغسطس عام 1640م، نزل ليفاسير إلى تورتوجا وبصحبته مائة رجل تحدى بهم حامية الجزيرة المكونة من ثلاثمائة قرصان، وعلى الرغم من التفوق العددي للإنجليز بالجزيرة نجح الفرنسيون بعد أن استولوا على الحامية بهجومهم المفاجئ في إلحاق الهزيمة بهم وطردهم من الجزيرة، ظل ليفاسير حاكما لجزيرة تورتوجا ما يزيد على عشر سنوات بذل خلالها جل جهده لتحويلها إلى مستعمرة فرنسية مزدهرة.
وقد أوغرت طريقته القاسية في الحكم صدور القراصنة الذين اعتادوا على الحياة المستقلة، وفي عام 1652م لقي ليفاسير مصرعه على يدي اثنين من خلصائه، كما تنبأ هو بنفسه بذلك.
وعلى مدى السنوات الخمس التي تلت ذلك (1652-1657م) سادت الفوضى الشديدة أنحاء تورتوجا، وتوالى على حكمها عدد من المحافظين الفرنسيين، ومرة أخرى تعود الجزيرة منذ نهاية عام 1654م لتصبح الغلبة فيها للإسبانيين الذين خربوا الجزيرة، وأبادوا جزءا كبيرا من سكانها، الأمر الذي اضطر ما بقي بها من السكان إلى اللجوء إلى سانتو دومنجوا، بعد عام واحد فقط يعود الإنجليز ليحكموا الجزيرة. على أن الفرنسيين عادوا بدورهم ليستردوها، ثم يرسخوا هناك سلطة الملك لويس الخامس عشر.
خلال الأعوام من 1661 إلى 1663م حاول الإنجليز أن يستولوا على المستعمرة الفرنسية ، لكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح، وفي الفترة من 1665 إلى 1685م تنتقل هذه المستعمرة لتصبح تحت رقابة الجهاز الاقتصادي والإداري السياسي لمستعمرة هايتي الفرنسية.
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر تعود مرة أخرى فترة السيطرة الإنجليزية على الجزيرة (1640-1660م). كانت هذه فترة الفلوبستيين من مختلف الأجناس، وقد أدى التوسع الفرنسي في بحر الكاريبي إلى ظهور المجتمعات القومية للبوكانيين الذين توجه بعضهم للبحث عن نقاط ارتكاز لدى السلطات في الجزر التي يحتلها الفرنسيون، بينما توجه البعض الآخر ليبحثوا لأنفسهم عن أماكن للعيش في الجزر التي يسكنها الإنجليز.
إلى جانب سفن اللصوص والقراصنة الصغيرة التي تميزت بالسرعة وسهولة المناورة، أخذت في الظهور يوما بعد الآخر سفن حربية ضخمة ثقيلة مسلحة تسليحا جيدا.
لقد بدأ الفلوبستيون في إنشاء أساطيل كاملة من هذه السفن، ما لبثت أن أبحرت رافعة الراية السوداء في وسطها رسم للجمجمة، وهي الراية المعروفة باسم راية «روجر المرح»، وما هي إلا برهة حتى اشتهرت أسماء مثل: شيفالييه مونبار، جامب دي بوا أو ذو الساق الخشبية، فرانسوا لولونيه (وربما دي لونيه)، لويس سكوت، جون ديفس، لاوربانت دي جراف، فان هورن، مانسفيلد، ومورجان.
وقد حاول الأخيران أن يقيما جمهورية للبوكانيين، كان من المفترض أن تكون دولة من نوع خاص للقراصنة، وتكون عاصمتها أولد بروفيدنس، لكن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح، ومن ثم اتخذ أسطول هنري مورجان، وقد كان بلا شك أعظم أساطيل قراصنة الكاريبي، اتخذ من جامايكا - الإنجليزية آنذاك - ومن تورتوجا الفرنسية قاعدتين له.
لقد أدى استيلاء الإنجليز على جاميكا في عام 1655م إلى دعم مكانتهم السياسية والاقتصادية في منطقة الكاريبي، وأصبحت بورت رويال عاصمة الجزيرة، والتي كانت تسمى «بابل القراصنة» السوق الرئيسية لتصريف الغنائم التي يتم الاستيلاء عليها من الإسبان، وكان السكان المحليون والتجار يشترون البضائع من القراصنة وهم في رضا بالغ لرخص ثمنها.
إلى جانب هاتين الجزيرتين تغلغل القراصنة في جزر الأنتيل الصغرى والكبرى، ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر استطاعوا النزول إلى القارة الأمريكية، بل وبلغت بهم الجرأة إلى حد أنهم هاجموا مدنا كبيرة، مثل بويرتوبيلو (عام 1668م)، وبنما (عام 1672م). وفي عام 1683م قامت سفن القراصنة بالالتفاف حول رأس هورن، ليظهروا بعد ذلك في مياه الجزء الجنوبي للمحيط الهادي. وفي عام 1695م وصل أسطول القراصنة إلى برزخ بنما من ناحية المحيط الهادي، بعد أن أعمل النهب في المستعمرات الإسبانية الواقعة على الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية وخاصة بيرو.
لقد كانت الفترة التي تلت عام 1660م وحتى عام 1690م فترة للسيطرة الفرنسية على منطقة الكاريبي، بعد أن فقدت إنجلترا جزءا لا يستهان به من قوتها بعد انقضاء عهد كرومويل. أضف إلى ذلك أن الوضع في حوض الكاريبي كان قد بدأ في الاستقرار، وانتهت عملية التقسيم السياسي لجزر الأنتيل التي بدأت في حوالي النصف الثاني من القرن السابع عشر. بحلول عام 1640م كان الإسبان ما يزالون يحتفظون بجزء من إسبانيولا وكوبا وبويرتوريكو وجاميكا، أي جزر الانتيل الكبرى، بينما كان الفرنسيون يضعون أيديهم على جزر المارتينيك، وجواديلوب
Guadeloupe ، وماري جالانت، والهولنديون يحتلون سانت أستاتيوس، وثلاث جزر صغيرة بالقرب من سواحل فنزويلا هي: كوارساو، وأوروبا، وبونايري، والإنجليز: باربادوس، وجزءا من جزيرة سانت كيتس، فضلا عن جزر نيفيس، وأنتيجوا، ومونتسيرات.
على أن هذا التقسيم لم يكن ثابتا، وإنما كان عرضة دائما للتغيير. لقد كان الفلوبستيون ينتمون إلى أجناس شتى مما دفعهم دائما إلى السعي وراء الحصول على نقاط ارتكاز لهم تارة لدى تلك الدول وتارة لدى دول أخرى، حتى إنهم في بعض الأحيان كانوا ينجحون في إقامة دويلات عابرة لهم على هذه، أو تلك من الجزر التي يتخذون منها قواعد ينطلقون منها في حملاتهم للسرقة والنهب.
وسرعان ما انضمت للدول الاستعمارية الأربع السابقة الذكر؛ إنجلترا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، ودولة أخرى هي الدنمارك، التي قامت في عام 1671م باحتلال جزيرة سانت توماس.
أخيرا يسود الهدوء النسبي هذه المنطقة المضطربة بفضل معاهدة مدريد التي تم توقيعها في عام 1670م، والتي تنازلت إسبانيا بمقتضاها عن حقوقها في جزيرة جاميكا، وليستقر الأمر للفرنسيين بشكل نهائي في عام 1697م في الجزء الغربي من جزيرة سانتو دومنجو.
وبعد أن استقرت الأوضاع في حوض البحر الكاريبي قامت الدول الاستعمارية بعمل مشترك، اجتثت فيه شأفة القرصنة من هذه المنطقة، بعد أن دخل جزء من البوكانيين والفلوبستيين ضمن التحالفات الجديدة في منطقة الكاريبي، بينما هاجر الآخر إلى مناطق أخرى من الكرة الأرضية لمواصلة أعمال القرصنة. «جماعة الشاطئ» من تورتوجا
تعود الأحداث التي ستذكرها فيما يلي إلى عام 1665م.
من المعروف أن جزيرة تورتوجا كانت - من الناحية الرسمية - مستعمرة فرنسية، وعلى الرغم من أنها فقدت أهميتها بصفتها قاعدة للقرصنة، فإنها ظلت مع ذلك وكرا هائلا للقرصنة، لقد نمت في تورتوجا قرية مأهولة بالسكان تنتشر في أنحائها المنازل المريحة النظيفة، الجيدة الترتيب، نال أهلها حظا وفيرا من الثروة، ومع ذلك فقد ظلوا يكسبون عيشهم من القرصنة.
كان بيير ليجران النورماندي من بلدة دييب واحدا من الضيوف الدائمي التردد على تورتوجا، تمرس طويلا على يد القراصنة، ثم ما لبث صيته أن ذاع باعتباره بحارا مقداما، وسرعان ما شغل منصبا متميزا في الجزيرة.
بفضل مواهب ليجران في التجارة، استطاع أن يمتلك سفينة صغيرة خاصة ذات أشرعة، يبلغ قوام طاقمها ثمانية وعشرين فردا، ولم يكن ليجران يعتزم اجتراح أية مأثرة من أي نوع خاص، وإنما حزم أمره - كعادة قراصنة تورتوجا - على العثور على خليج ما يكون مستترا على نحو جيد، يستطيع التربص فيه لأية سفينة إسبانية تجارية من النوع المتوسط الحمولة.
وقد بدأ ليجران مشروعه بالهجوم على إحدى الشركات العاملة على ساحل سانتو دومنجو، ليوفر قدرا كبيرا من المواد الغذائية، بعدها أبحر باتجاه الغرب عبر مضيق وندوارد
Windward
.
وظل ليجران مبحرا لعدة أيام بامتداد الساحل الكوبي، ولكنه لم يصادف أي غنائم تستحق الاهتمام، عندئذ قرر أن يواصل رحلته للغرب مارا بجزيرة كوسوميل، دون أن يعثر أثناء ذلك على ضالته، وأخيرا يصل ليجران إلى رأس كاتوشا عند شبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك.
كانت هذه الفترة التي قضاها ليجران في البحر كافية لنفاد احتياطاته من المؤن، الأمر الذي دفعه للإحساس بالخوف من أن تنتهي أولى رحلاته المستقلة بالفشل، ومن ثم تقضي على هيبته أمام طاقمه، ناهيك عن اعتزاز سمعته داخل مجتمع القراصنة بأسره، إلا أن رجاله العالمين بتاريخه البحري السابق كانوا يولون قبطانهم ثقتهم الكاملة.
ذات مرة والجميع عائدون من الغرب، وقد اقتربت سفينتهم من الساحل الكوبي، إذ بمجموعة من السفن تتراءى لهم في الأفق. كانت السفينة الأخيرة في هذه القافلة قد تأخرت بشكل ملحوظ عن بقية السفن. اهتز قلب ليجران من الفرح، فأرسل في طلب أكثر بحارته خبرة، وعندما وصل هذا إليه بادره سائلا: انظر هناك يا توم، انظر إلى هذه الغلاوين المسلحة التي تنقل الذهب من فيراكروس، ألست معي في أن الأخيرة تسعى جاهدة للحاق بالأخريات؟ أليست غنيمة رائعة يستحقها أناس مثلنا على أتم الاستعداد لفعل أي شيء؟!
نظر البحار العجوز إلى سيده، وقد تملكته الدهشة، ولم يفهم ما إذا كان القبطان يتحدث جادا أم أنه يمزح! - سيدي لم يحدث إطلاقا أن قرصانا إنجليزيا قد هاجم مثل هذا النوع من السفن. - إذن لأكن أنا أول هؤلاء! إن لنا ستة أسابيع لم نر فيها خبزا ولا خمرا، إن وضعنا ميئوس منه، ولقد بعنا روحنا للشيطان، فليتول انتشالنا من مأزقنا الآن، اجمع الرجال يا توم!
وما هي إلا بضع دقائق حتى كان ليجران يقف خطيبا وسط رجاله موجها إليهم الكلمات التالية:
أيها الأصدقاء، لقد أبى الحظ إلا أن يشيح بوجهه عنا، على أن الرجال الأشداء كثيرا ما يحققون المعجزات. من المحتمل أن يكون هناك مئات الرجال فوق ظهر هذا الغليون، وهذا معناه أن على كل رجل منا أن يتولى أمر أربعة من الإسبان ليس فيهم عاجز أو جبان. وفي هذه الحالة لا يبقى أمامنا إلا اللجوء للحيلة، أو أن نلجم أعداءنا بالمفاجأة. إن الإسبان لن يتصوروا أننا سنهاجمهم؛ لأنه لم يحدث إطلاقا أن القراصنة قد هاجموا بمفردهم سفينة حربية تسير ضمن قافلة، فكروا مليا في الأمر، إن الشمس قد قاربت على المغيب، وعندما تعود لتشرق ثانية نكون قد أصبحنا أغنياء، قرروا بأنفسكم أيها الأصدقاء!
ذهب النورماندي العملاق يتمشى على سطح السفينة، حتى يعطي لرجاله الذين تحلقوا حول توم الفرصة في التفكير في الأمر، وسرعان ما جاء أحد البحارة ليخبر القبطان أن الطاقم قد وافق بالإجماع على الخطة، وأنه بانتظار الأوامر.
كان ليجران واثقا من نجاحه، حتى إنه أمر بخرق قوارب النجاة، لم يكن بنيته الانسحاب، بل إنه اقترح إغراق السفينة ذاتها، حتى لا يشك أحد في نتيجة عمله. لقد قرر القراصنة أن يقاتلوا لا في سبيل الحياة، بل في سبيل الموت!
بعد ساعتين من قيام بحارة ليجران بخرق قاع سفينتهم، أخذوا في الاقتراب خلسة من الغليون الإسباني ليتسلقوه في مهارة القردة، ثم شرعوا في تنفيذ الجزء الثاني والأخير من الخطة، بعد أن أطاحوا بالجنود القائمين بالحراسة ومقود السفينة، ودانت لهم السيادة على سطح السفينة.
تسلل ليجران بحذر ناحية كوة
8
غرفة الضباط، وتطلع ببصره إلى داخلها ... كان القبطان يجلس مع ثلاثة من ضباطه حول مائدة مستديرة يلعبون الورق على ضوء الشموع.
قال ليجران لنفسه: سنتولى أمر هؤلاء.
ثم أومأ إلى رفاقه، وأصدر إليهم أوامره بصوت هامس: توم، اختر خمسة عشر رجلا من خيرة رجالك، واهبط على وجه السرعة إلى أسفل السفينة، باغت هناك الطاقم المستغرق في النوم! اقتل كل من يقاوم، عندئذ سيستسلم لك الباقون، سيأتي معي أونسييه، ورين، وأندريه، ويونج، وعلى الآخرين تمشيط المكان.
اندفع ليجران ورجاله الأربعة المسلحون بالمسدسات إلى غرفة القيادة، تجمد الضباط من فرط الرعب، وانهاروا جالسين على مقاعدهم، ولم يكن لدى أحدهم القدرة على أن ينبس ببنت شفة. صاح ليجران: إما أن تستسلموا، أو أن أطلق عليكم النار!
دوت من أسفل السفينة طلقات متفرقة. لقد نشب القتال في مسكن الطاقم، وها هو الرصاص يعيد إلى الإسبان وعيهم، فإذا بالقبطان وضباطه الثلاثة يندفعون ناحية القراصنة، لكن هذا الاندفاع كلفهم حياتهم!
في الوقت نفسه كان قاع السفينة ما يزال يشهد صراعا مستميتا، فبعدما تخلص البحارة من هول المفاجأة، شرعوا يقاومون رجال العصابات بكل قواهم، لم يجدوا مفرا من الاستسلام عندما شاهدوا ليجران قادما ليساعد رفاقه.
لقد فاقت الكنوز التي وجدت على السفينة أكثر التوقعات جنونا، وعلى الرغم من أن البحارة في تورتوجا اعتادوا الاستيلاء على ثروات ضخمة، فإن أحدا من القراصنة لم ير طوال حياته مثل هذه الكمية من الذهب دفعة واحدة. لقد كانت هذه الكنوز كفيلة بضمان حياة رغدة لهؤلاء اللصوص جميعهم حتى نهاية أجلهم.
بعد أن تخلص القراصنة من جثث القتلى بإلقائها في البحر، أخذوا في معالجة الجرحى وإيداع الأسرى سجن السفينة. وقد دفع ليجران إلى طاقمه ببرميل من النبيذ وحده على السفينة، لم يكن ليجران نفسه ممن يطيقون السكر، إلا أنه كان يدرك جيدا أن أحدا منهم لم يكن ليرفض أمرا كهذا بعد المعركة. ذهب القبطان إلى غرفة القيادة ليخلد إلى النوم، تاركا رجاله يحتفلون بانتصارهم في غرفة الطاقم.
وفي الصباح عقد ليجران اجتماعا لرجاله فوق سطح السفينة، بعد أن عادوا جميعا إلى وعيهم، وتوجه إليهم بالكلمة الآتية: أيها الأصدقاء الأعزاء، نحن الآن أغنياء، لقد سنحت لنا الفرصة الهائلة، لنتخلص من الحياة المليئة بالمخاطر التي لا تنتهي والتي دفعتنا الحاجة لأن نخوضها. أتوجه إليكم أيها الأصدقاء أن تتركوا هذه الأماكن وأن تعودوا إلى أوطانكم، وإن كان لكل واحد منكم بالطبع الحق في اختيار مصيره. لقد لقي اليوم ستة رجال من رفاقنا حتفهم، ولعله نفس المصير الذي سيئول إليه غدا كل منا. إن الثروة لا تغشي إلا أبصار هؤلاء الأغبياء الذين يرفضون رؤية ما يمكن أن يكسبوه ... من شاء البقاء هنا؛ فيمكنه النزول في جاميكا، ومن لم يشأ فيمكنه الذهاب معنا إلى أوروبا.
خمسة قراصنة فقط هم الذين بقوا في بورت رويال بصحبة أنصبتهم من الغنيمة، بينما واصل الآخرون رحلتهم إلى أوروبا. استقر ليجران في مدينة دييب مسقط رأسه، حيث قضى بها بقية عمره باعتباره مواطنا ثريا وموضعا لاحترام الجميع، ولم يعد مطلقا للتنزه على سطح السفينة كما كان يفعل.
برج بابل القراصنة
لم يكن جميع البوكانيين يتمتعون بمثل هذه الشخصية اللينة العريكة التي يتمتع بها ليجران . لقد كان مواطنه الفرنسي فرانسوا لولونيه واحدا من أكثر اللصوص شراسة في سجل القرصنة في الكاريبي، فهو أول قرصان يمتلك الشجاعة الكافية لغزو مدينة واحتلالها من البر، حدث ذلك بعد أن قام لولونيه بجمع أسطول كبير، توجه به إلى شواطئ فنزويلا، حيث هاجم مدينة ماركايبو
Maracaibo
الواقعة عند البحيرة الكبيرة التي تحمل الاسم نفسه، والتي تربطها بخليج فنزويلا قناة عريضة، وكانت هذه المدينة مشهورة آنذاك بثرائها العريض. لم يكن الدخول إلى هذه القناة أمرا هينا؛ إذ كان يقف على حراستها أسطول قوي، اشتبك في معركة دموية دامت ثلاث ساعات مع القراصنة الذين نجحوا في نهايتها في إخضاع القلعة لهم، ثم عبر أسطول البوكانيين القناة، ليصلوا إلى البحيرة دون أن يلقوا أية مقاومة، ليستولوا على المدينة التي أخذ معظم سكانها في الفرار إلى الأدغال،
9
وقد استولى عليهم الفزع الشديد!
في اليوم التالي انطلقت فصيلة مسلحة من البوكاتيين على إثر سكان ماركايبو الفارين، لتعود في المساء وقد أوقعت في الأسر عددا كبيرا منهم إلى جانب قافلة من البغال كانت محملة بمختلف الممتلكات، وكان من بين ما استولى عليه القراصنة عشرون ألف قرش من الذهب.
وبعد أن قضى لولونيه ما يزيد على عشرة أسابيع في ماركايبو توجه إلى إسبانيولا، وفي الطريق توقف عند جزيرة فاش الصغيرة، حيث اقتسم القراصنة غنائمهم التي بلغت من القروش الذهبية وحدها ستة وعشرين ألف قرش ذهبي، فضلا عن الممتلكات الأخرى التي سرقوها.
كانت خاتمة حياة لولونيه بشعة؛ إذ لقي مصرعه على أيدي هنود دارين
10
الذين قاموا بفصل يديه وقدميه، ثم رأسه عن جسده بسكاكينهم! ومع هذا فلا يمكن اعتبار لولونيه أكثر القراصنة البوكانيين في الكاريبي شراسة، إذا ما قورن بلويس سكوت، وروك البرازيلي، وشيفالييه مونبار الذي كان معروفا باسم «المدمر»، أو يبارتولمو البرتغالي، إلا أن أحدا حتى من هؤلاء لم يبلغ صيته ما بلغه الإنجليزي هنري مورجان، الذي خلد التاريخ اسمه في هذا الميدان.
بعد أن استولى الفرنسيون على تورتوجا في عام 1680م بدا - لبرهة من الزمن - أن شمس القرصنة في منطقة الكاريبي قد آذنت بالمغيب، على أن هذا لم يحدث في واقع الأمر، بل الذي حدث هو العكس؛ إذ إن عدد البوكانيين والفلوبستيين قد ازداد عن ذي قبل، وأصبحوا كالجراد، ليس فقط على السفن في عرض البحر، وإنما أيضا على المستعمرات الإسبانية والفرنسية والإنجليزية، دون أن تأخذهم رحمة حتى بأفقر القرى التي يدخلونها.
بعدما فقد القراصنة تورتوجا أقاموا لأنفسهم مركزا جديدا للقرصنة في الكاريبي في بورت رويال عاصمة جاميكا. في الوقت نفسه قام الإنجليز الذين انتزعوا جاميكا من الإسبان بتأسيس «الشركة الأفريقية الملكية» التي كانت تعمل بتجارة الرقيق
11
من الزنوج. وكان من نتيجة هذا أن تحولت جاميكا إلى أكبر سوق لتجارة العبيد في العالم، وهي السوق التي كانت بمثابة الوسيط في تجارة هذه البضاعة الحية بين أفريقيا وأمريكا، وبمرور الوقت أصبحت بورت رويال القاعدة الرئيسية لقراصنة الكاريبين، وأهم سوق يصرفون فيها غنائمهم.
في جاميكا عقد كبار التجار صفقاتهم مع القراصنة، وكسبوا من وراء المسروقات من الثروات ما يفوق الخيال، وبفضل هذه الشركة حصل القراصنة على منفذ مجاني لبضائعهم في بورت رويال، وهناك حرصوا على ألا يدركهم أي نوع من الملاحقة أو العقاب، إذن أصبح هذا الميناء هو القاعدة الأساسية والوكر الأثير إلى قلوب القراصنة.
ويوما بعد يوم امتلأت المدينة بأناس من شتى الأجناس والشعوب، أغراهم الكسب السهل، حتى لقد أصبحت المدينة بالفعل أشبه ببرج بابل؛ فيها أفارقة ومولدون وهجين، وأناس من أجناس سوداء وبرونزية وصفراء وبيضاء، وهولنديون، وإنجليز، وألمان، وفرنسيون، وإسبان، وبرتغاليون، وأيرلنديون، ومن البلاد الإسكندنافية جاءوا إلى هنا، وأنشئوا مقاهي وخمارات وبيوتا للدعارة والميسر واستراحات للمسافرين العابرين ومحالا وورشا للصناعات اليدوية، لم يكن أحد في المدينة ليعبأ بمصدر هذه السلعة أو تلك، من أين جاءت؟ ومن صاحبها؟ ... كانت نوافذ العرض في المحال مكتظة بالأحجار الثمينة والقطيفة والديباج، والعديد من البضائع الأخرى. كانت التجارة كلها في جاميكا تتوخى هدفا واحدا، هو التخفيف من أحمال جيوب القراصنة الباحثين في نهم عن المتعة والتسلية.
رجال مجهولون من شتى الأجناس كانوا في شوارع المدينة يحلون آذانهم بالحلقان، ويعصبون رءوسهم بالمناديل الزاهية، ويرفلون في ملابس من القطيفة والحرير، وكان القراصنة يشغلون كل نزل بالمدينة، وتغص بهم المطاعم والحانات، يتناولون طعامهم وشرابهم فيها من آنية وكئوس من الذهب والفضة، ويبعثرون أموالهم يمنة ويسرة.
جابت سمعة هذه المدينة الإنجليزية الفاجرة أنحاء الدنيا، ووصلت إلى أوروبا التي أطلق سكانها على بورت رويال اسم «برج بابل القراصنة»، وكان الرأي العام في الدول الأوروبية يزداد إلحاحا يوما بعد الآخر مطالبا حكوماته بوضع حد للأعمال الإجرامية التي تقع في هذه المدينة، التي كانت يوما ما إحدى جواهر التاج البريطاني. لكن أيا من الإجراءات التي اتخذت لم تفلح، بما في ذلك التدخل الشخصي لملك إنجلترا في الأمر. ولقد بذل المستعمرون في جزيرة جاميكا أموالا طائلة، بلغ من ضخامتها أنهم استطاعوا أن يشتروا أصحاب أكبر المناصب وأرفعها لدى البلاط الملكي، وبهذا ضمنوا لأنفسهم النجاة من أية عقوبة.
ونتيجة لما سبق ذكره أخذت القرصنة في النمو يوما بعد الآخر، وازداد عدد القراصنة عما كان عليه من قبل، وأصبحت أساليبهم أكثر عنفا وشراسة بسبب اندفاعهم المحموم وراء الثراء، ومن بين هؤلاء كان هنري مورجان الذي أتينا على ذكره من قبل، والملقب ب «مورجان الشرس».
ولد هنري مورجان في إحدى ولايات جلامور جنشاير، في مزرعة من مزارع ويلز المتواضعة في قرية تسمى لانزيمني، وعندما أصبح صبيا بحارا تسنى له أن يزور جزيرة باربادوس، ليبحر منها إلى جاميكا، وهناك انضم إلى البوكانيين، وشارك في حملاتهم على شواطئ هندوراس.
كانت المرة الأولى التي يستقل فيها مورجان بقيادة سفينة، عندما رأى القبطان إدوارد مانسفيلد فيه شخصا جديرا بذلك. وإدوارد مانسفيلد هو قائد حملة القراصنة على كيوراساو، والتي تعد واحدة من أغنى جزر الأنتيل الصغرى. كان السير توماس موديفورد محافظ جاميكا هو الذي يضع بنفسه خطط هذه الحملة، وكان لتوماس علاقات وطيدة مع البوكانيين، وكثيرا ما استثمر خدماتهم لتحقيق أهدافه السياسية والعسكرية. كان مانسفيلد قد أبلغ بأنه في حاجة نجاح رجاله في طرد الإسبان من جزيرة كيوراساو ؛ فسوف يسمح لهم بنهبها. مثل هذه الوعود كانت تبذلها السلطات الاستعمارية في القرن السابع عشر، وكانت تعد آنذاك من الظواهر العادية.
الذي حدث أن الحملة التي قادها مانسفيلد إلى هناك باءت بالفشل، ووقع قائدها في أيدي الإسبان الذين حكموا عليه بالإعدام شنقا.
وأعطى تسلسل الأحداث على هذا النحو الفرصة لمورجان لأن يرتقي سلم مستقبله بوصفه قرصانا. كان البوكانيون قد توصلوا إلى استنتاج مفاده أن هذا الشاب المقدام الذي شاركهم حملتهم الفاشلة سوف يصبح قائدا ممتازا، فأولوه ثقتهم، وأسندوا إليه قيادة الأسطول بأكمله إبان العودة، وهكذا وجد مورجان نفسه وقد ارتقى فجأة إلى رتبة «أدميرال»، ليصبح على رأس عشر سفن مسلحة ومجهزة على نحو رائع، وتحت إمرته طاقم من خمسمائة قرصان لا يهابون الموت!
لم يكن هذا الارتقاء المفاجئ ليدير رأس مورجان، فسرعان ما أثبت أنه أهل له، وقد كان آنذاك شابا فارع الطول قويا لم تتجاوز سنه ثلاثة وعشرين عاما، كان مورجان - إلى جانب كونه يمتلك صفات كالحزم والمباشرة والحكمة والقسوة - يمتلك بصيرة نافذة غير عادية، فعندما برزت مشكلة إمكانية عودة الأسطول إلى جاميكا، نحى مورجان هذه الفكرة جانبا، وتوجه لرجاله بقوله: إذا عدنا مهزومين؛ فسوف تسخر منا كل امرأة في الجزيرة، ناهيكم عن أن المحافظ سيلقي على أكتافنا بمسئولية موت القبطان مانسفيلد، ويصادر السفن ... إن علينا أن نعوض ما خسرناه في كيوراساو في مكان آخر.
وضع مورجان نصب عينيه أن يحتفظ بهذا المنصب الذي أعطي له مؤقتا، فقد كان يعي جيدا أنه في حالة عودته إلى جاميكا، فإن هذا المنصب سوف ينتقل حتما إلى شخص آخر أكثر خبرة ودراية بأمور الملاحة البحرية منه. في الوقت نفسه وضع مورجان في حسبانه أنه في حالة نجاحه في الانتقام من مصرع مانسفيلد، وتعويض الخسائر التي مني بها الأسطول على حساب الإسبان، ثم العودة إلى بورت رويال في هالة المنتصر، فإن وضعه بالنسبة لمنافسيه الأشداء سوف يكون أقوى بدرجة لا يستهان بها، وكعادته دائما فقد صحت افتراضاته جميعا.
قرر مورجان بعد أن استحسن رفاقه خططه أن يتخذ طريقا نحو كوبا، ثم يشن هجوما على بويرتو برينسيبي، وقد دلت هذه الخطة على مدى شجاعة هذا القرصان وجرأته، تقع بويرتو برينسيبي في عمق الجزيرة، ولم يحدث إطلاقا أن تعرضت لأي هجوم من جانب القراصنة الذين كانوا يقصرون نشاطهم دائما على المدن الساحلية، وعلى أية حال فقد قرر مورجان أن يسير بحملته عبر الأدغال الكثيفة، وأن يداهم المستعمرين بغتة.
فاقت نتائج هذا الهجوم توقعات مورجان. كان القراصنة قد وصلوا إلى بويرتو بينسيبي عند منتصف الليل، حيث كان السكان يغطون في نوم عميق، وبعد أن اتخذ القراصنة موقعا استراتيجيا هاجموا أهم المباني بالمدينة في آن واحد، أيقظت أصوات الطلقات ونباح الكلاب سكان المدينة، فانطلق الرجال والنساء والأطفال يهرولون في شوارع المدينة في ملابس النوم، وقد تملكهم الخوف، وسيطر عليهم الفزع، وتلقى الجميع أمرا بأن يقوموا طواعية بإحضار ما لديهم من مجوهرات ونقود وملابس وأسلحة وأطعمة وخمر، وكان جزاء من يحاول الدفاع عن ممتلكاته الخاصة أو يخفي جزءا من ثروته عن اللصوص طعنة خنجر. تم جمع الغنائم كلها في عدة أكوام هائلة رصت في ميدان السوق، ولم يقف طمع مورجان عند حد، فقد طلب من السكان أن يسلموه ألف رأس من الماشية من المرعى القريب مهددا بإحراق المدينة إذا لم يجب طلبه. كان القرصان يفكر وهو يصدر هذا الأمر في أن عليه أن يطعم خمسمائة رجل، وبعد أن تم له ما أراد، أرغم السكان المنهوبين على شحن الغنائم على السفن!
في طريق العودة رفع القراصنة كئوسهم ليشربوا نخب صحة هنري مورجان!
على أن «الأدميرال» أعلن أن موعد العودة لم يحن بعد، واعتبر أن الهجوم على بويرتو برينسيبي لم يكن إلا مجرد افتتاحية لنشاطهم القادم، وأعلن عن مخطط جسور للاستيلاء على مدينة بويرتو بللو المنيعة الواقعة عند برزخ بنما. كانت هناك حصون ثلاثة تحمي المدينة وتعوق الوصول إلى الميناء.
واتخذ معظم الضباط ذوي الخبرة موقفا اتسم بالريبة تجاه خطة مورجان، التي رأوا أنها ليست سوى ضرب من الجنون، بل إن ثلاثة سفن فرنسية انسحبت من أسطول القراصنة!
وكما كان متوقعا فقد أبدت بويرتو بللو مقاومة شديدة، ومع ذلك - وبرغم الخسائر الفادحة التي نزلت بالبوكانيين - فقد تمكنوا من الاستيلاء على حصنين والدخول إلى المدينة. على أن المحافظ الإسباني الذي لجأ مع حامية صغيرة العدد إلى القلعة الرئيسية للاحتماء بها، فقد رفض الاستسلام، عندئذ لجأ مورجان إلى واحدة من أكثر وسائل إدارة الحرب شراسة وقوة، فقد أمر بإعداد سلالم عالية، ثم أخذ في إخراج الرهبان والراهبات من الأديرة القريبة، وأمرهم بإسناد السلالم إلى حوائط القلعة. لقي هؤلاء جميعهم مصرعهم تقريبا، لكن الإسبانيين هزموا، وانهار آخر خطوط مقاومتهم، أما المحافظ نفسه فقد قتل في الالتحام الشديد الذي وقع بين الفريقين!
أثبتت التصرفات التي قام بها مورجان بعد ذلك صدق الرأي السائد حوله باعتباره شخصا يتمتع بقسوة طاغية. لقد تعرضت الكنائس والبيوت الخاصة في بويرتو بللو إلى نهب منظم ، وأخذ القراصنة في تمشيطها بدءا من البدورمات وانتهاء بالأسطح، ورغم ذلك فلم يقنع المنتصرون بالغنائم التي حصلوا عليها، فقد بقي لديهم شعور بأن السكان يخفون عنهم كنوزا ما، خاصة وأنهم لم يعثروا فيما نهبوه من ممتلكات الكنيسة على متعلقات نفيسة، وحتى يتسنى له العثور على هذه الكنوز قام مورجان بتعذيب القساوسة؛ إذ كانت الشفقة التي قلما كان يبديها مورجان، وإن حدث فهي لا تكون إلا للنساء، فمورجان يعامل الفتيات والجميلات بأدب جم وحذر بالغ، وكان التكلف والادعاء من الصفات المميزة لهذا القرصان الطموح، وربما كان لها الفضل في أن أصبحت حياته موضوعا لرواية عالمية!
أخيرا عاد مورجان إلى بورت رويال، حيث استقبل استقبال الفاتحين، وقد اتسم سلوك «الأدميرال» وطاقمه بالغطرسة، فراحوا يتصرفون كما لو كانوا أمراء إقطاعيين ينفقون الأموال ببذخ وسفاهة. التقى السير توماس موديفورد بمورجان، وقد أخذ ذهب القرصان بلبه، لكنه تحفظ في البداية، ثم ما لبث أن أبدى ملاحظة مفادها: أن القرصان الجسور، وقد عقد النية على أن يستغل قدراته هذه لأغراضه السياسية في أول فرصة مناسبة تلوح له.
إبان ذلك اشترى مورجان فرقاطة أسماها «أكسفورد»، ثم راح ينهمك في الولائم والملذات.
وما هي إلا بضعة شهور حتى نفد آخر ما معه من نقود، وهو ما كان متوقعا بالطبع، وعندئذ قرر مورجان أن يعود مرة أخرى للنهب، فأعلن عن عزمه القيام بحملة جديدة، ودعا من لديهم الرغبة للاشتراك فيها للاجتماع وخاصة ملاك السفن. استهدفت الحملة مدينة ماركيبو التي سبق وأن قام لولونيه نهبها منذ عدة سنوات خلت، كادت الإجراءات التي اتخذت من أجل هذه الحملة أن تمنى بالفشل في بدايتها؛ فبعد وصول مورجان إلى جزيرة فاش في يناير عام 1669م، أقام مأدبة غذاء فاخرة على شرف رفاقه فوق ظهر سفينة القيادة «أكسفورد». وبينما كان الجميع منهمكين في وليمتهم، إذ بانفجار ضخم يدوي داخلها، لتتساقط ألواح خشب مقدم السفينة فوق رءوس السكارى المولمين. اتضح أن أحد البحارة الذين أدارت الخمر رءوسهم قد أشعل نارا بالقرب من البارود الموجود في مخزن السفينة، وعلى الرغم من الأضرار التي وقعت، بل ومصرع عدد من البحارة، أصدر مورجان، الذي لم يصب بأذى من جراء الانفجار، أمره بخروج الأسطول إلى البحر.
واستطاع مورجان أن يستولي على ماركايبو بعد أن عبر المضيق، مثلما حدث مع لولونيه من قبل، وتحولت ماركايبو على مدى خمسة أسابيع إلى ساحة لمهازل لم يسبق لها مثيل، عاد بعدها الأسطول إلى بورت رويال بغنيمة ضخمة.
وفي هذه الفترة تحديدا كان محافظ جاميكا يعاني من وضع عصيب، فقد نزل الإسبان عند الجزء الشمالي للجزيرة، وأخذوا في اختراقها باتجاه بورت رويال؛ انتقاما للهجمات التي شنها القراصنة، وكان الموقف يهدد بفقدان الجزيرة. آنذاك كان القراصنة الإسبان قد ضيقوا الحصار على الأسطول التجاري البريطاني، حتى أخرجوه من حوض الكاريبي، وأصبح السير توماس موديفورد هدفا للنقد الشديد من جانب الأوليجاركية المالية للجزيرة، الذين عرضت مصالحهم الحيوية للتهديد.
هنا ظهر مورجان في بورت رويال، بعد أن عاد منتصرا من ماركايبو.
وانتهز الموظف البريطاني الاستعماري الحصيف
12
الفرصة، فعاد ليذكر مورجان بلباقة أنه - أي مورجان - قد تجاوز صلاحياته، واقترح عليه أن يمنحه شهادة القرصنة، التي تعطيه الحق في اغتصاب مراكب وسفن الإسبان، وتدمير موانيهم ومخازنهم ونهب مدنهم. كان المحافظ يعول على مورجان في طرد الإسبان من الجزيرة؛ لعلمه بمدى الطاقة الجامحة والمواهب الفائقة التي يمتلكها هذا القرصان.
وتلقى مورجان اقتراح المحافظ بسرور بالغ، على أمل أن يستطيع بدعم من موديفورد أن يصبح الملك غير المتوج لقراصنة جاميكا، وحتى يتجنب أية مشكلات يمكن أن تظهر فيما بعد، طلب مورجان من المحافظ أن يعقد معه اتفاقا مكتوبا.
وبعد أن امتلك مورجان شهادة القرصنة أصبح باستطاعته أن يجند علنا القراصنة في بورت رويال، وما إن اجتمع لديه ألفا رجل حتى قرر التوجه على رأسهم لغزو بنما، وكان مورجان يحلم بالوصول إلى المحيط الهادي، كما فعل ذلك من قبله فاسكونونيس دي بالبوا، فشرع يستعد لرحلته شهورا طويلة، اتسم عمله فيها بالدقة والإحكام، وفي التاسع من يناير عام 1671م نزل ألف وثمانمائة قرصان من رجاله في خليج دارين.
لم يبحر أسطول مورجان بالطبع تحت الراية البريطانية، فمثل هذه المخاطرة لم يكن ليقدم عليها رجل في دهاء موديفورد. كانت أعلام القراصنة التقليدية، المزينة برسوم الجماجم والعظام المتقاطعة والهياكل العظمية، ترفرف فوق صواري السفن.
وقع أول صدام بين القراصنة والإسبان بالقرب من قلعة سان لورنزو، عند مصب نهر تشاجرس، ولم يجد مورجان صعوبة في احتلال القلعة التي لم يكن يتولى الدفاع عنها سوى حامية مكونة من مائتي شخص، ثم غادرها بعد أن ترك فيها فرقة خاصة لتأمين مؤخرته.
كان مورجان على علم بأن نهر تشاجرس يصلح لسير السفن التي تمخر المحيطات لمسافة قصيرة لا تتعدى أربعين ميلا، وقام مورجان بقطر عدد من زوارق الكنو
Canoe ، وهي زوارق هندية خفيفة تعمل بمجداف واحد، قرر مورجان أن يبحر بها أعلى النهر، وفي نهاية الطريق كان عليهم أن يتوغلوا عبر الأدغال الاستوائية.
تعرض القراصنة لخسائر فادحة نتيجة عدم اعتيادهم على مثل هذه الرحلات، لم تكن التماسيح الأمريكية والثعابين السامة والنمور والأسود الأمريكية هي الشر الأعظم الذي قابلوه في طريقهم، إذا ما قورن ذلك بعذاب لدغات البعوض والعناكب والديدان السامة التي تعج
13
بها أحراش أمريكا الوسطى، وبعد رحلة استمرت ثلاثة أيام شاهد رجال مورجان أخيرا مياه خليج بنما شديدة الخضرة ذات اللون الزمردي والمدينة الجميلة الراقدة على شواطئها.
أوقف مورجان مقاتليه حتى يتعرفوا جيدا على موقفهم، لجأ المدافعون عن المدينة إلى حيلة ذكية بأن أطلقوا على القراصنة المهاجمين بضع مئات من الماشية المتوحشة، ولكن يبدو أن كيدهم قد رد في نحورهم، فالحيوانات - وقد أصابها الجنون من جراء الطلقات - رجعت القهقري، واندفعت مجتاحة الفرسان الإسبان، الذين كانوا يدفعونها وهي تنطح بقرونها الخيل. على أية حال استمرت المدينة تدافع باستماتة إلى أن اضطر مدافعوها إلى شحن الذهب والفضة والنفائس على سفن القراصنة.
عندما غادرت الحامية الإسبانية المدينة وجدها مورجان خالية من السكان، وكان لهذا الانتصار الباهظ الثمن أثره السيئ إلى حد كبير على نفسية القراصنة، إلى جانب ما رأوه من عذاب إبان عبورهم الأدغال. ومع ذلك فقد كان هناك عذاب آخر شديد الوطأة، يرجع سببه إلى الخطر الصارم الذي فرضه مورجان على تعاطي الخمور التي عثروا عليها في المدينة.
كان مورجان خائفا من عودة الإسبان، ومن أن يسرف رجاله في الشراب بعد الانتصار الذي حققوه، على أية حال فقد سرب مورجان إشاعة مفادها أن الخمر الذي تركه الإسبان خمر مسموم! نجحت الحيلة، وظل القراصنة على مدى العشرين يوما التي قضوها في المدينة محتفظين بوعيهم، ينتقلون من بيت لآخر طمعا في الغنائم. ترك مورجان المدينة بعده مجرد أطلال
14
وخرائب، متبعا في ذلك التعليمات التي أصدرها محافظ جاميكا!
فيما بعد أظهر مورجان وجهه الحقيقي، رجل بلا ضمير!
كان على القراصنة - الذين وصلوا إلى مصب النهر - أن يبدءوا في اقتسام الغنائم وفقا للاتفاق، وذلك قبل أن يصعدوا على السفينة، وقد نشب جدل شديد مع القبطان الذي لم يكتف بأن خرق القواعد التقليدية «لأخوة الشاطئ»، بل استولى على الجزء الأكبر. طالب الضباط عندما علموا بذلك بزيادة مكافآتهم، مما ترتب عليه أن القراصنة العاديين لم يتبق لهم شيء!
أصبح البحارة الصغار يهددون رؤساءهم الذين خدعوهم، ووصل الأمر إلى حد التشاجر بالسكاكاين ... عندئذ قرر مورجان الإفلات من الموقف دون أن يلحظ ذلك أحد، فأنزل جنوده - البالغ عددهم أكثر من ألف من البوكانيين - إلى الشاطئ دون مئونة، أو قوارب، أو سلاح.
وأخيرا ضاق صدر كل من حكومتي إسبانيا وإنجلترا من جراء هذه الحرب غير المعلنة فوق مياه العالم الجديد، والتي من الممكن أن تؤدي في النهاية إلى انهيار الإمبراطوريتين الاستعماريتين، وتم التوصل إلى قرار بإيقاف الحرب، والشروع في استئصال جذور القرصنة في البحر الكاريبي، التي كانت تهدد التجارة البحرية للدولتين سواء بسواء. وفيما يتعلق بهذا الأمر تقدم البلاط الإسباني بشكوى إلى كارل الثاني ملك إنجلترا بشأن أعمال النهب التي جرت في بنما، مطالبا بتسليم مورجان إلى العدالة. وهكذا صدر الأمر إلى السير موديفورد باعتقال مورجان على وجه السرعة وإرساله إلى لندن، لكن المحافظ الذي شارك في المسئولية عن الأعمال التي ارتكبها القرصان ، كانت لديه المبررات الكافية لعدم تنفيذ الأمر. كان موديفورد يلجأ دائما إلى مورجان العقل المدبر، كلما انتابته الهواجس والشكوك، وكان يقدر فراسته تقديرا رفيعا.
في هذه المرة استمع القرصان باهتمام إلى المحافظ، ثم قرر الأمر الذي أدهش الأخير، أن يتوجه بأسرع ما يمكن إلى إنجلترا. نظر السيد توماس إلى قرار القرصان بمزيد من الشك، كان بوده لو أن صديقه فهم النقاش الذي دار بينهما في هذا الصدد باعتباره مجرد تحذير، حتى يتسنى له أن يبحر بسفينته مبتعدا عن الجزيرة. ولكن يبدو أن مورجان لم يكن ليشغله الأمر كثيرا، فلم يستطع المحافظ أن يغري هذا الراجل الذاهب طوعا لمصيره بالفرار!
ظل مورجان طليقا حتى لحظة رحيله إلى إنجلترا، وكان إبان ذلك يقوم بترويج البضائع المسروقة! كان مورجان يعتقد أن الحرية يمكن شراؤها بالرشاوى الباهظة، كما كان يرى أن لكل شخص سعرا، وأن العدالة وجدت فقط لإنزال العقاب بالفقراء لصالح الأغنياء!
ظل مورجان يتمتع بحرية كاملة، حتى وهو على السفينة الحربية
Welcome ، التي كان من المقرر أن تسلمه للسلطات في إنجلترا، وكان البحارة يعاملون هذا القرصان باحترام باعتباره واحدا منهم، فإذا أضفنا إلى ذلك الهبات التي كان مورجان يغدق بها على من معه، لعرفنا كيف كانت الرحلة مريحة ذات بهجة.
تميز استقبال مورجان في إنجلترا بالحفاوة أيضا، وقد عامله القضاة بتسامح ظاهر، متماشين في ذلك مع الرأي العام الذي وضعه في مصاف بحارة أليبون العظام أمثال: درايك، وهوكنز، ورايلي. وحتى الملك نفسه تمنى أن يتعرف شخصيا على هنري مورجان. ترك القرصان انطباعا قويا لدى الملك، إلى حد أن عرض عليه منصبا رفيعا في جاميكا، وكلفه بمحاربة البوكانيين المسلحين في حوض البحر الكاريبي، حتى لا تتكرر مستقبلا مأساة بنما.
ها هي ذي الفرصة تسنح لمورجان، ليأخذ بثأره من رفاقه السابقين، وهو ما كان بدأه إبان رحلته إلى مصب نهر تشاجرس، ولم يكن تطور الأحداث على هذا النحو من حسن طالع السير توماس موديفورد، فالحكومة الإنجليزية كانت تسعى بإخلاص للاحتفاظ بعلاقات طيبة مع إسبانيا، وعلى هذا فقد استبدل السير موديفورد باللورد فوجانوم أحد المحافظين الأشداء.
وبعد عدة سنوات هنيئة قضاها مورجان في لندن عاد إلى جاميكا، ليقدم نفسه للمحافظ ويتسلم المنصب الجديد الذي كلفه به الملك. بدأ مورجان حملته ضد البوكانيين بأن وعد بالعفو عن الذين يتوقفون عن السرقة في البحر، ويلتزمون بتنفيذ القانون بحذافيره، صاحب هذا الوعد اتخاذ عدد من الإجراءات الصارمة، تقرر تطبيقها على أعمال القرصنة الإجرامية. على أن هذه الخطوة الأولى لم تؤت ثمارها، وهو أمر كان يتوقعه مورجان نفسه الذي كان عازما على مواصلة التنكيل المسلح.
وعلى الرغم من أن مورجان الآن أصبح يرتدي السترة العسكرية الإنجليزية، فقد واصل العمل دون رحمة في إنزال العقوبات الصارمة ضد القراصنة، من أجل الحفاظ على قوانين جلالة الملك وأوامره. وسرعان ما آتت هذه السياسة ثمارها. فراح القراصنة السابقون يوما بعد الآخر يمارسون الأعمال البحرية الشريفة، وأخذت التجارة البحرية في البحر الكاريبي في الازدهار، وبدأت جاميكا تقطع صلاتها بالقراصنة، بينما تحولت بورت رويال إلى مركز بحري تجاري ضخم.
ظل مورجان حتى نهاية حياته يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة البريطانية في جاميكا، صحيح أنه لم ينجح في القضاء نهائيا على القرصنة في الكاريبي، غير أنه أنزل بها ضربة قاصمة، وتوفي مورجان بعد أن طعن في السن في بيته الخاص في بورت رويال.
السابع من يونيو عام 1692م، كان الوقت يقترب من الظهيرة، والطقس يزداد حرارة، وهناك بضع سفن شراعية تتهادى فوق أمواج الخليج اللينة. وبينما الحمالون يعملون في تفريغ عنابر السفن من حمولتها، كانت المطاعم المصطفة بطول الطريق الرئيسي، قد بدأت في إعداد الطعام للبحارة. تصاعدت من المطابخ المعتمة روائح الطعام الشهية من الخراف المشوية على الأسياخ، إلى أطباق الكاريبي التقليدية من لحوم السلاحف مع الأسماك والمقبلات، لتقديمها في أوان نحاسية كبيرة!
فجأة تغطي السحب الرمادية الداكنة صفحة السماء الزرقاء الصافية، وتجتاح المدينة عاصفة استوائية عاتية، وسرعان ما تهتز الجزيرة كلها بتأثير هزات أرضية جبارة. وفي غمضة عين تتحول البيوت إلى تراب وأنقاض ... الحرائق تشتعل هنا وهناك، ومن بقي حيا تملكه الهلع، فأخذ يهرول مذعورا! موجات ضخمة تأتي من البحر لتكتسح الشاطئ، وتحيل شوارع المدينة إلى أنهار متدفقة!
جزء هائل من الساحل ينهار مع جزء آخر من المدينة، ليختفي في أعماق البحر الهادر خمسة آلاف نسمة، يلقون حتفهم في لجة
15
البحر، وكنوز لا تقدر بمال تغرق في الأعماق؛ ذهب، فضة، بضائع، عنابر، ومخازن الشاطئ بأكملها. هكذا تختفي من على ظهر الأرض مدينة غنية كانت تفيض بالحياة!
كانت هذه هي النهاية المرعبة لمدينة «بابل القراصنة»، وعلى الرغم من أن بورت رويال أعيد بناؤها؛ فإنها لم تبلغ إطلاقا ما بلغته من ثراء وعظمة من قبل.
في الآونة الأخيرة قام علماء الآثار بأعمال تنقيب تحت الماء بالقرب من عاصمة جاميكا المستقلة، فقادتهم أعمال البحث التي يقومون بها إلى اكتشافات شيقة، تدل بشكل واضح على تلك الأيام المجيدة التي عاشتها عاصمة القرصنة.
القراصنة النساء
اليوم وبعد أن أصبح «الجنس الضعيف» ممثلا في كل المهن بما في ذلك التحليق في الفضاء الكوني، يصبح الحديث عن أن المرأة لم تعمل إطلاقا بالقرصنة أمرا مدهشا! على أنه حتى في تلك الأزمنة الغابرة، عندما كان المكان المناسب الوحيد للمرأة هو البيت، فإنها وقفت وراء دفة السفينة متمنطقة مسدسا وسيفا، وهي معتبرة ذلك أمرا عاديا تماما!
تعتبر أنا بونين، وماري ريد هما أشهر السيدات القراصنة في التاريخ، الأولى أيرلندية، وهي ابنة غير شرعية لمحام من إقليم كورك، سافرت مع أبيها إلى كارولينا، وقد سببت هذه الفتاة الحسناء لأبيها كثيرا من الهموم والمشكلات بسبب طباعها الحادة. وقد وصل الأمر إلى حد أنها قتلت في إحدى ثورات غضبها خادمتها الإنجليزية! ولأن أنا كانت تعد فتاة حسنة التربية ومن بيت طيب، فقد جرى «دفن» هذه الحكاية المزعجة.
تزوجت أنا بعد العديد من المغامرات والقصص الغرامية من بحار نكرة، ولما علم أبوها بذلك طرده من البيت. أبحر العريس البائس على أول سفينة وجدها، ولم يظهر مرة أخرى لدى عائلة بونين. وعلى الفور ظهر من بين معجبي أنا شاب ثري وسيم هو القبطان جون ريكام، أشهر قراصنة الشاطئ الشرقي الأمريكي، والذي كان يقوم بعملياته تحت اسم «كاليكوجاك». كان جون من أسرة قراصنة، ولكي يحصل على فتاته أنا الحسناء؛ فقد رسا بقارب صغير أمام منزل أبيها، ثم اختطفها وأبحر معها إلى الأفق الأزرق!
لم تنزعج أنا من جراء زواجها الأول الفاشل من بحار، ووافقت عن طيب خاطر أن تقاسم القرصان العاشق حياته في السراء والضراء. قضى الزوجان شهر العسل في البحر، وعندما أخبرت أنا زوجها أنها تنتظر طفلا أخذها إلى عزبته الصغيرة القائمة على شواطئ كوبا. هنا كان البيت والأصدقاء الذين وعدوا بالاعتناء بالزوجة وطفلها، وبعد بضعة شهور عادت أنا إلى السفينة، لتشارك في كل أعمال القرصنة، وأظهرت شجاعة ومهارة كبيرتين.
على أن الحياة السعيدة للقرصان والقرصانة ما لبثت أن تهاوت، ففي أكتوبر عام 1720م عندما كانا يبحران في المياه المتاخمة لشاطئ جاميكا هاجمتها بغتة سفينة حربية مسلحة تسليحا جيدا، وأخذهما القراصنة لتسليمهما في جاميكا، ثم أحيلا للمحاكمة في سانتياجو دي لافيجا، حيث حكم عليهما بالإعدام. كانت أنا وقتئذ حاملا للمرة الثانية ، فطالبت بتأجيل الحكم، فأجيب التماسها، ولم يعرف مصيرها بعد ذلك، وإن كان من المرجح أنها استطاعت الإفلات من العقوبة، كان الحكم بالإعدام قد صدر على أنا بونين، وعلى صديقتها الحميمة ماري ريد.
كانت حياة ماري ريد مليئة بالمغامرات معظمها بعيد تماما عن الحقيقة، إن ما وصلنا عنها هو بعض التفاصيل عن طفولتها؛ فأم ماري كانت «أرملة شابة لعوبا»، يمكن من بعض الشواهد أن نقول، انطلاقا من تصوراتنا الشخصية عنها: إنها قامت بتربية ماري الصغيرة كما لو كانت ولدا! وعندما بلغت الفتاة الثالثة عشرة من عمرها، أخذتها امرأة فرنسية لتعمل خادمة، على أن هذا العمل لم يرق لها، وسرعان ما انتقلت لتعمل مربية لدى بحار يعمل على سفينة حربية، غير أن هذا العمل أيضا لم ينل رضاها. عملت ماري جنديا في فيلق للمشاة كان يرابط في فرنسا، اشتركت معه في العديد من المعارك، وأظهرت شجاعة وحنكة غير عادية، وأثناء انتقالها من المشاة إلى سلاح الفرسان وقعت في حب زميلها في الفوج، وكان هذا الحادث سببا في أن تخلع ماري زي الجندية لترتدي بدلا منه فستان الزفاف. وقد أثار زفافها ضجة كبيرة في الجيش؛ إذ كان كثير من كبار الضباط يقدرون وجودها بينهم، ويكنون لها احتراما كبيرا. انتقل العروسان ليسكنا في منطقة بريد
Brede
بإنجلترا بالقرب من مطعم يسمى «تافرنا الحدوات الثلاث»، ما يزال موجودا حتى اليوم، لم تستمر حياة الزوج طويلا مما اضطر ماري للالتحاق بالجيش وارتداء ملابس الرجال مرة أخرى، على أنها في هذه المرة لم تستطع أن تتعايش مع مشاق الحياة العسكرية، ففرت من الخدمة، وعملت بحارا على إحدى السفن. كانت هذه السفينة في طريقها إلى جزر الأنتيل، عندما استولى عليها القرصان الشهير ريكام، الذي سبق أن تعرفنا عليه، وهكذا يعود مصير ماري ريد ليرتبط مرة أخرى بأنا بونين.
أخيرا تجد ماري متنفسا لطبعها النزق من خلال العمل بالقرصنة، فتنضم إلى جماعة من لصوص البحر، لتعمل معهم دون أن تكشف لأحد عن كونها امرأة، وذات مرة تلحظ ماري على ظهر إحدى السفن، التي تم الاستيلاء عليها، شابا وسيما ممشوق القوام، فإذا بها تهيم به حبا، لكن هذا الشاب يدخل في أحد الأيام في عراك مع أحد القراصنة. ولما كانت السفينة ما تزال راسية فقد تقرر - وفقا لتقاليد القراصنة التي تحظر المشاجرات على السفينة - أن ينزل المتنازعان إلى الشاطئ ليسويا حسابهما هناك. لنا أن نتخيل مدى ما عانته هذه العاشقة الولهى، عندما عرفت أن من اختاره قلبها لم يبد من الشجاعة ما كانت تتوقعه وترجوه! استفزت ماري الفتى لمبارزة استخدمت فيها السيوف والمسدسات، وانتهت بأن قتلت ماري حبيبها التعس! وشجعت هذه الحادثة المرأة الشابة على أن تكشف عن شخصيتها التي ظلت تخفيها بحزم لمدة طويلة، ثم ما لبثت أن بدأت سلسلة من المغامرات العاطفية، انتهت بعلاقة وطيدة مع أحد القراصنة.
انتهى الأمر بأن مثلت كل من ماري وصديقتها أنا في قفص الاتهام أمام القضاء في سانتياجو دي لافيجا، حيث أصدرت المحكمة عليهما حكما مخففا للغاية، بل وكادت أن تبرئ ساحتهما تماما، لولا أن تقدم أحد المتهمين ببعض الأدلة باعتباره شاهدا ... لم يجد القاضي بعد اطلاعه على القضية في ضوء أدلة هذا الشاهد، أن يجد أي ظرف مخفف، فما كان منه إلا أن أصدر حكمه بإعدام ماري ريد مع باقي القراصنة.
الفصل الخامس
قراصنة بحار أمريكا الشمالية
بحلول القرن الثامن عشر بلغ النهب البحري عند سواحل أمريكا الشمالية حدا لم يبلغه من قبل. كان للقراصنة نظامهم الخاص، كما كان لهم إلى جانب هذا وكلاؤهم في معظم موانئ الساحل الشمالي لأمريكا من سالم في الشمال إلى شارلستون في كارولينا الجنوبية. كما اكتظت بهم شبه جزيرة فلوريدا، وكذلك شاطئ خليج المكسيك بأكمله، وفي حالات الضرورة القصوى كانت سفنهم تجد الملجأ الآمن لها بكل سهولة في جزر الأنتيل، أو في المناطق التي كانت إسبانيا تضع يدها عليها، كما أنهم يعرجون على موانئ نيويورك ونيوبورت وفلادلفيا.
وبعد التقرير الذي كتبه إدوارد راندولف - المفتش العام للمستعمرات البريطانية في أمريكا آنذاك - بعنوان «دراسة حلول القراصنة والإجراءات الواجب اتباعها لمكافحتهم»، المؤرخ عام 1695م، وثيقة طريفة بصدد القرصنة الأمريكية. وهذه الدراسة هي واحدة من المذكرات العديدة التي كان يبعث بها راندولف بدأب بالغ إلى السلطات في عاصمة الدولة المستعمرة.
يصف صاحب التقرير عادات وممارسات القراصنة الأمريكيين الذين كانوا يسطون على السفن الإسبانية، وتحدث بالتفصيل عن أوكار القراصنة وعن علاقات الصداقة التي قامت بينهم وبين السلطات الاستعمارية في جزر البهاما.
إلى هذه الفترة يرجع نشاط وليم كيد أحد أشهر القراصنة في التاريخ، ولد كيد في حوالي عام 1645م في جرينوك
1
في عائلة قس من أتباع المذهب الكالفيني،
2
حاول أن ينشئه نشأة صالحة، ويعلمه أفضل تعليم، ظل كيد لسنوات طويلة يبحر على ظهر السفن الإنجليزية بوصفه بحارا بسيطا، ويوما بعد الآخر؛ إذ به يحمل على عاتقه مسئولية قيادة سفن القرصنة الإنجليزية في البحار الأمريكية، كان كيد متزوجا وله أطفال ومسكن رائع في نيويورك يعيش حياة رغدة ميسرة، وخاصة بعد أن أصبح مالكا لعدد من السفن التجارية فيما بعد.
في عام 1695م تلقى الكونت بلومنت محافظ ماسا شوسيتس أمرا من إنجلترا بالقضاء على القرصنة عند شواطئ نيوانجلند، وقد أنيط بالكابتن وليم كيد هذه المهمة الصعبة، ومن أجل هذه المهمة منحه الملك وليم الثالث شهادة قرصنة.
3
في سبتمبر 1696م غادرت ميناء نيويورك سفينة وليم كيد المسماة «أدفنشر جالي»، وعلى ظهرها طاقم مكون من مائة وخمسين رجلا، ما برحت الشهور تمر دون أية أخبار عنها، وعلى الفور انتشرت الشائعات التي تقول إن كيد بدلا من أن يحارب القراصنة انضم هو نفسه إليهم، وأنه يعيث فسادا في مكان ما بالمحيط الهندي، وبناء على هذه الأقاويل اقترح بلومنت اعتقال كيد على وجه السرعة في حالة عودته إلى أمريكا.
وفي عام 1699م ظهر كيد بالفعل في بوسطن، وعلى الفور تم إلقاء القبض عليه، وأرسل إلى إنجلترا. وقد اتضح أن كيد قد اتجه - بعد مغادرته نيويورك - إلى جزر ماديرا، حيث ملأ عنابر سفينته بالفواكه والخمور. ومنها يمم
4
صوب جزر الرأس الأخضر، حيث تزود بالماء العذب. دار كيد حول أفريقيا بمحاذاة رأس الرجاء الصالح، وبعد عام من مغادرته أمريكا وصل إلى البحر الأحمر، وفي العشرين من سبتمبر من عام 1697م، استولى كيد على سفينة أحد التجار المغاربة، وكانت تحمل شحنة من الفلفل الأسود والأعشاب والبن والمر. وفي أحد سورات غضبه قتل كيد قائد مدفعيته المدعو وليم مور، ومنذ هذا الحادث شرع وليم كيد في نهب كل ما يعترضه من سفن، وفي عام 1701م أدانت المحكمة في أولدييلي وليم كيد بتهمة ممارسة القرصنة، وأصدرت حكمها عليه بالإعدام.
وفي يوليو من عام 1703م أعطى جوزيف دادلي شهادة القرصنة للسفينة «تشارلز» الشراعية ذات الصاريين، والتي قام ببنائها وتسليحها الأغنياء من أبناء مدينة بوسطن بأنفسهم، وتم التصريح لقبطانها بالاستيلاء على السفن الفرنسية عند سواحل أكاديا ونيو أسكتلندا.
وذات يوم - وكانت السفينة «تشارلز» راسية بالقرب من ماربهليد - إذ بطاقمها يعلن العصيان، فيلقي من فوقها بالقبطان، ليحل محله زعيم المتمردين المدعو جون كلفتش، لتظهر «تشارلز» بعد ذلك بثلاثة أشهر عند شواطئ البرازيل ترفرف عليها راية «أولد روجر» السوداء، يتوسطها رسم لهيكل عظمي بشري ممسك في إحدى يديه بسيف، وفي الركن سهم نافذ في قلب تقطر منه ثلاث قطرات من الدم تسقط في كف اليد الأخرى، وقد قامت سفينة القرصنة المذكورة بالاستيلاء على تسع سفن برتغالية، بما تحلمه من ذهب وأموال وذخائر ومنسوجات وأطعمة وروم.
5
قرر كفلتش - بعد أن جنى ثروة هائلة هو وطاقمه في بحار أمريكا الشمالية - العودة إلى ماربلهيد، ومن الصعب أن ندرك سبب اختيار كفلتش لهذا الميناء بالتحديد دون جميع موانئ العالم، على الرغم من أن الجميع كانوا ما يزالون واقعين تحت تأثير تمرد البحارة، ومصرع قبطان «تشارلز» الذي لم يمض عليه وقت طويل. وما إن وصل كفلتش إلى الشاطئ حتى مثل أمام النائب العام، وقد أمكن القبض أيضا على رفاقه الآخرين الذين كانوا قد فروا بغنائمهم إلى أماكن متفرقة. وفي التاسع من يونيو عام 1704م تمت إدانة خمسة وعشرين قرصانا من قبل إدارة البحرية ببوسطن، وحتى عام 1704م لم يكن يسمح بمحاكمة من يتهم بممارسة القرصنة إلا في إنجلترا. وقد وضع هذا القانون العراقيل بشدة أمام مكافحة القرصنة في المستعمرات، وكذلك كانت هناك مصاعب جمة تتعلق بنقل المساجين إليها، ناهيك عن أن الكثير منهم كان يطلق سراحهم على أيدي رفاقهم في عرض البحر.
في عام 1701م أصدر الملك وليم الثالث مرسوما خاصا يعطي للمحاكم الإنجليزية، خارج إنجلترا، صلاحية مطلقة لنظر قضايا القرصنة.
لو أن الأمر اقتصر على مجرد إغارة كفلتش على السفن الفرنسية، فربما كان قد اتهم بالشغب فقط، ولكن بما أنه أصبح يسرق ويقتل أصدقاء وحلفاء ملكته، فقد صدر الحكم عليه هو وشركاؤه الخمسة والعشرون بالإعدام شنقا، كما جرى العفو عن ثلاثة عشر من القراصنة المتهمين بشرط الالتحاق بخدمة الملكة.
كان يوم الجمعة الموافق عشرين من يونيو عام 1704م عيدا كبيرا لسكان بوسطن، لقد تحول الإعدام العلني الذي تحدد له هذا اليوم إلى عرض مسرحي هائل. كانت تلك الحالة من الحالات النادرة آنذاك التي تجرى فيها معاقبة القراصنة، الذين كانوا ينجحون في معظم الأحوال من الإفلات من العقاب، بفضل فساد ذمم السلطات الاستعمارية. زد على ذلك أن أعضاء الكونجرس في بوسطن قد استفادوا كثيرا من قضية كفلتش بعد أن تقاسموا فيما بينهم الذهب الذي كان القراصنة قد نهبوه. وقد أشار المؤرخ الذي درس هذه القضية بدقة أن البرتغاليين - أصحاب هذا الذهب الشرعيين - لم يستعيدوا منه ولو جراما واحدا على الإطلاق.
لقد كان للحروب، التي دارت رحاها في القرن الثامن عشر، أثرها في انتشار القرصنة في بحار أمريكا الشمالية، التي سرعان ما تفتحت أمام القرصنة العلنية. وعلى مدى سبع سنوات من الثورة الأمريكية، بدءا من عام 1775م ظل القراصنة يعملون النهب في جزر الأنتيل، وكان من بينهم إنجليز وفرنسيون وإسبان لديهم شهادات قرصنة.
ولقد تركز عدد كبير من الصيادين على وجه الخصوص عند ساحل أمريكا الشمالية إبان الحروب الفرنسية الإنجليزية، أي في السنوات من 1793 إلى 1815م أملا في الحصول على غنائم سهلة. وقد التزم غالبية القراصنة الذين ورد ذكرهم بالحيدة التامة آنذاك، ولم تكن بهم أدنى رغبة في إسداء العون لأي من الأطراف المتاحة، مولين جل اهتمامهم إلى الغنائم الضخمة، غير مبالين بنتائج الحرب التي سوف يتحول الآلاف من لصوص البحر بمجرد انتهائها إلى احتراف القرصنة.
وقد اتضح فيما بعد أن هؤلاء اللصوص أسوأ مائة مرة من كل من سبقوهم في تاريخ القرصنة البحرية، فلم يكن من بينهم من يمتلك، ولو مسحة من النبالة التي اتسم بها القراصنة البوكانيون القدامى، وإنما كانوا يتحركون يدفعهم أمر واحد هو الجشع.
ربما كانت الشخصية الوحيدة المضيئة قليلا وسط هذا الجو المظلم، هي شخصية جان لافيت الذي بسط نفوذه في وقت ما على مياه خليج المكسيك. كان هذا الرجل ممثلا لكل التقاليد الكلاسيكية للقرصنة في الكاريبي، كما كان يتمتع بقدر كبير من خفة الظل، فعندما خصص محافظ لويزيانا مكافأة قدرها خمسة آلاف دولار لمن يأتي برأس لافيت، قرر لافيت أن يرد له الصاع صاعين، فأعلن عن مكافأة قدرها خمسون ألف دولار لمن يأتي برأس المحافظ.
لا إنجلترا، ولا فرنسا، ولا إسبانيا استطاعت القضاء على القرصنة، ومما زاد من صعوبة الأمر عليهم في حروبهم ضدها، انتشار وباء الحمى الصفراء الذي اجتاح حوض الكاريبي آنذاك.
القرصان الشريف
إذا كان مجد القرصان يتوقف على مقدار ما يأخذه غصبا من سفن، فإن بارتولمي روبرتس يستحق بناء على هذا أن يعطى قصب السبق، فهو يتحمل - بشهادة كتاب السيرة - مسئولية اغتصاب أربعمائة سفينة. وليست هناك أية معلومات عن طفولته ولا عن سنوات شبابه؛ أين وفيما أنفقهما، ولكن يعتقد أنه من «ويلز».
في عام 1719م أبحر بارتولمي باتجاه شواطئ غرب أفريقيا باعتباره قبطانا للسفينة الشراعية «برنسيس»، بعد أن حملها «بضاعة حية» تتمثل في زنوج مقيدين بالسلاسل في سجن أسفل سطح السفينة، على أنه لم تمض بضع ساعات فقط من خروجه إلى البحر، حتى سقطت سفينته في أيدي القراصنة بقيادة هويل ديفيس.
أدرك بارتولمي روبرتس بالطبع أنه بهذا قد وقع في هوة الإفلاس؛ إذ إن رأسماله عن آخره كان موضوعا في السفينة وما كانت تحمله ، وهب أن القراصنة قد أطلقوا سراحه، وسمحوا له بالعودة إلى إنجلترا؛ فالمتوقع عندئذ أن يعيش هناك حياة ملؤها الفقر والعوز، ولم يبق أمامه شيء سوى أن يقبل اقتراح الكابتن ديفيس بالانضمام إلى قراصنته، بعد أن أبدى نحوه رئيس القراصنة - وكان هو الآخر من ويلز - شعور التعاطف لكونه من أبناء بلدته.
إبان إحدى الحملات التي انتهت بالفشل في أعماق القارة الأفريقية، أظهر روبرتس شجاعة فائقة. وعندما لقي ديفيس حتفه أثناء معركة حامية الوطيس
6
دارت رحاها مع السكان المحليين، حل محله روبرتس في قيادة القراصنة المنسحبين حتى وصل بهم إلى الشاطئ دون خسارة تذكر؛ الأمر الذي أكسبه احترام رفاقه. كان روبرتس يتوقع أن التنافس الحاد، والذي لا هوادة فيه، بين القراصنة من أجل السلطة، من الممكن أن يؤدي بهم إلى معركة صريحة بينهم. على أن مسألة انتخاب القائد الجديد قد جرى حلها نسبيا على نحو هادئ، خلافا لمخاوفه، وقد وقع الاختيار عليه هو بالذات، على الرغم من أنه كان مستجدا في عالم القرصنة.
كان أول ما استهل به روبرتس أعماله، أن قام بالانتقام لموت ديفيس، فأحاط بالقرية التي أنزلت بهم الهزيمة سابقا، ثم دمرها، وبعدها توجه إلى شاطئ البرازيل. وهناك التقى بأسطول من السفن البرتغالية، قوامه اثنان وأربعون سفينة محملة عن آخرها بالبضائع، تزمع الرحيل إلى لشبونة لتوزيعها في أوروبا. هنا يقوم روبرتس باجتراح «مأثرة» لعلها الأولى من نوعها في هذا المقام؛ إذ يستولي على إحدى السفن، وهي ما تزال بعد في المرساة. لم يكن هذا العمل محض جنون على الإطلاق، لقد وزن القرصان الأمر بكل دقة، ثم أغار على السفينة ليلا مستغلا لحظة مواتية، لم يدر بخلد قبطان السفينة أن يكون الخطر متربصا به في الميناء ذاته. أما المخاطرة فقد أسفرت عن نجاح أكبر من المتوقع، ولقد عاد القراصنة من هذه «الحملة»، ممتلئين زهوا وفخارا بقائدهم الجديد.
وقرر روبرتس أن يمد نشاطه إلى المحيط الهندي، بعد أن ابتسم له الحظ مرة أخرى في جزر الأنتيل، وقد عانى تجار كل من جاميكا وباربادوس على الفور من جراء وجوده فيه، استقر المقام بروبرتس في جزر الأنتيل أطول كثيرا مما كان قد عقد عليه العزم في أول الأمر؛ إذ إن كل الأمور هنا قد سارت على نحو دفع بخططه إلى النجاح، وها هو يستبدل بسفينة ديفيس القديمة سفينة أخرى أكثر مهابة، أسماها «رويال فروتشن» (السعادة الملكية).
وذات مرة، إذ بروبرتس يواجه بالقرب من جزيرة باربادوس بسفينة تجارية مسلحة تسليحا جيدا، وعلى الرغم من أن «رويال فورتشن» لم تصب إصابات بالغة، فقد أفلت القرصان من المواجهة، ونجح في الاختفاء بصعوبة بالغة. وفي مرة أخرى تصاب خططه بالفشل الذريع في إحدى القرى الواقعة في المارتينيك، وذلك بسبب المقاومة العنيفة التي أبداها الأهالي.
والحقيقة أن هاتين الهزيمتين اللتين كانتا الوحيدتين في سلسلة طويلة من الانتصارات الباهرة، فقد نالتا بشدة من كرامة روبرتس، ومنذ ذلك الحين، كان الرجل من أهالي جزر المارتينيك أو باربادوس، والذي يوقعه حظه التعس في أسره، يستطيع أن يودع حياته إلى الأبد. كان العلم الجديد الذي رفعه روبرتس قد رسم عليه قرصانا ممسكا بسيفه، وقد وضع قدمه على جمجمتين رمزا للانتقام.
كان روبرتس ذا شخصية قوية، طموحا، حازما، على استعداد للصراع مع المصاعب أيا كانت، على أنه كان حقيقة يمتلك بعض الخصال الحسنة، فقد كان لا يعترف من بين جميع المشروبات إلا بالشاي. وحتى لا يفرط الطاقم في شرب الخمر، وضع روبرتس جميع المشروبات المسكرة تحت إمرته في خزانة، ولم يكن من حق أي بحار أن يخفي ولو زجاجة واحدة. كانت الأنوار تطفأ على السفينة في الثامنة مساء، تماما كالمدرسة الداخلية، فإذا استبدت بأحد من البحارة فكرة أن يحتسي شيئا من الروم بعد هذا الموعد، كان لزاما عليه أن يصعد إلى سطح السفينة، وأن يشرب على مرأى من القبطان.
كذلك حرم روبرتس ألعاب القمار بالورق، أو الزهر، ولم يكن يسمح باصطحاب النساء إلى السفينة؛ إذ كان اكتشاف نساء متخفيات في ملابس الرجال على ظهر السفينة أمرا يهدد المتورطين فيه بالإعدام. وكان العراك بين البحارة محظورا؛ فعلى البحار الذي كان لديه الرغبة في تسوية حساباته الخاصة مع أي شخص آخر، أن يغادر السفينة إلى الشاطئ، حيث يقف الخصمان مسلحين بالمدافع أو المسدسات، وقد وليا ظهريهما بعضهما لبعض في البداية، ثم يبدآن المبارزة بعد ذلك بإشارة من رفاقهما الشهود، كان لزاما على المنتصر أن يقدم - لدى عودته للسفينة - تقريرا لرئيسه عن نتائج المعركة.
وعلى الرغم من أن الكابتن روبرتس كان يعد من الخارجين على القانون، فإنه سعى لأن يذيع صيته مسيحيا غيورا، فكان يرغم بحارته على الالتزام بالاحتفال بجميع الأعياد، وقام بتكوين فريق موسيقي من العاملين على السفينة، وكانوا يأخذون راحة تامة من العمل في أيام الآحاد.
بل ذهب القبطان روبرتس بنزواته الطيبة إلى أبعد من ذلك، عندما حاول أن يحصل على تأييد أحد القساوسة. كان بوده أن يقوم هذا القس بقراءة المواعظ على البحارة أيام الآحاد وفي الأعياد. وعلى الرغم من أنه لم ينجح في تحقيق رغبته هذه؛ فإن زعيم البحارة قد بذل مع هذا كل ما في وسعه لإنقاذ نفوس مرءوسيه الآثمة، وذات مرة علم روبرتس أن هناك قسا بين أسراه، فأمر باستدعائه، ليجيئه الرجل وقد ملأ الرعب قلبه، فبادره باقتراح قائلا: لو أنك انضممت إلينا، لأصبح بإمكانك إنقاذ هذه النفوس البائسة من الجحيم المقيم، ولتكن على ثقة بأنني سوف أغدق عليك مقابل هذا، ثم إن الله القدير لن ينسى لك هذا الصنيع.
أصبح القس المسكين في حيرة من أمره، فمن ناحية كانت المسدسات المعلقة في حزام القرصان، قد أثارت الفزع في قلبه وأوصاله، ومن ناحية أخرى كان عليه أن يسرع بالرد، فقد تقرر إنزال البحارة صبيحة اليوم التالي في أقرب ميناء.
قال القس مسترحما القرصان: لا، الأفضل أن تطلق سراحي.
وقد كان أن أطلق القرصان سراحه.
إن القواعد التي كان هذا القرصان يدير بها سفينته لأمر مثير للاهتمام، وقد احتواها النص التالي: (1)
يجب تنفيذ الأوامر التي يصدرها القبطان بكل همة، وعن طيب خاطر، ما لم تتعارض مع القواعد الأساسية للأخوة. (2)
للقبطان سهم ونصف من إجمالي الغنائم، ويستحق الضابط، والنجار، وصانع السلاح سهما وربع السهم من الغنيمة. (3)
إن أي فرد من أفراد الطاقم يحاول الفرار، أو تتسم تصرفاته تجاه «الأخوة» بعدم الولاء، يتم إنزاله في أول فرصة على أحد الشواطئ المهجورة، ويعطى زجاجة ماء واحدة، وحفنة من الحمص، وسلاحا يستطيع بواسطته الحصول على طعامه. (4)
إن أي فرد من أفراد الطاقم يعترف بإدانته بالسرقة على ظهر السفينة، أو يراهن في ألعاب القمار بما يزيد عن قرش واحد، تتم معاقبته العقاب المناسب طبقا للقواعد المعمول بها، وفي حالة ارتكاب جرائم أشد ضررا، يتم إعدام المتهم - بالطبع - رميا بالرصاص. (5)
لا يجوز لأي فرد من أفراد الطاقم عقد اتفاقات، أو إبرام عقود مع قراصنة آخرين على غير علم «الأخوة». كل من يخالف هذه القاعدة يعد خائنا. (6)
المشاجرات على ظهر السفينة ممنوعة منعا باتا، من يخالف أمر القبطان يعاقب بأربعين جلدة على ظهره العاري. (7)
تطبق العقوبة السابقة أيضا على من يفسد سلاحه، أو يدخن غليونا
7
بدون غطاء، أو يحمل مصباحا مشتعلا بدون واقي غطاء . (8)
على أفراد الطاقم أن يحتفظوا بأسلحتهم في حالة نظيفة، وعلى نحو منظم، وكل من يتراخى في أداء هذا الواجب يفقد نصيبه من الغنائم. (9)
إن الرجل المهذب يعامل النساء دائما باحترام، والضابط، أو البحار الذي يتعرض بالإهانة سواء باللفظ، أو بالفعل، لامرأة من الأسرى، سوف يعاقب فورا بالإعدام شنقا.
على الرغم من هذا النظام الصارم الذي فرضه روبرتس؛ فإنه كان يتمتع بحب أتباعه واحترامهم، وعلى أية حال لا وجه للغرابة هنا، فقد كان الجميع مدينين فيما أحرزوه من نجاح لمواهبه التنظيمية. وكان من نتائج العمليات التي قام بها القراصنة في منطقة جزر الأنتيل، والتي استمرت ما يزيد على العام، أن ضمنوا لأنفسهم حياة رغدة، وتوقف بعض من أثروا ثراء كبيرا عن العمل، تاركين «أخوة» القرصنة.
وقد ألحقت أعمال النهب التي قام بها روبرتس في منطقة جزر الأنتيل قدرا هائلا من الخسائر بالتجارة البحرية، الأمر الذي دفع بإنجلترا، وفرنسا، وإسبانيا، لعقد اتفاق فيما بينهم، وجهوه ضد نشاطه في هذه المنطقة، وعندئذ رأى روبرتس أن عليه أن ينسحب إلى مناطق أخرى.
ظهر روبرتس عند جزيرة نيوفوندلاند كما تظهر الصاعقة في سماء صافية، فها هو ذا ينقض على الصيادين الذين كانوا يقومون باصطياد سمك الماكريل وعلى القرى الساحلية للجزيرة، واستولى القراصنة على الزوارق والمراكب التي يستخدمها الصيادون، لكن الهدف الرئيسي من حملاتهم أصبح هو النقود التي تملكها جمعيات الصيادين التعاونية. وأصبح خليج نيو أسكتلندا، وسانت لورانس المعزولان يمثلان ملجأ هادئا للقراصنة من سوء الأحوال الجوية ومن المطاردة. على أن روبرتس كان يدرك أن وجوده الطويل في هذه المياه، أمر يكتنفه الخطر بسبب العمليات التي تقوم بها سلطات نيوانجلاند. في عام 1721م يعود روبرتس عدة مرات حول رأس الرجاء الصالح، وكان يعرج أحيانا في طريقه على معاقل القراصنة في مدغشقر.
وذات مرة علم روبرتس أن الفرقاطة الملكية التي تحمل اسم «صوالو» (عصفور السنونو) تجد في البحث عنه، وأن قبطانها المدعو «تشالونر أوجل» قد حاز سمعة مدوية عند أعدائه اللدودين من القراصنة. على أن روبرتس - الذي كان يمتلك آنذاك سفينتين - قرر أن باستطاعته أن يتغلب على الإنجليز، ومن ثم أبحر بدوره لملاقاتهم.
ولقد انتهى هذا التدبير نهاية فاجعة للقراصنة، فما إن اكتشف أوجل السفن التي كان يطاردها حتى هدأ من سيره، ثم اختبأ غير بعيد من الجزر. أرسل روبرتس إحدى سفينتيه للاستطلاع، وما إن رآها أوجل تخرج إلى عرض البحر وحيدة حتى سارع دونما جهد يذكر في إغراقها، ثم استدار لمطاردة الأخرى.
وفي العاشرة من صباح العاشر من فبراير عام 1722م، عثر «أوجل» على القراصنة عند الشاطئ بعد ليلة قضوها في احتساء الخمر، وما إن رأى روبرتس ما يحدث، حتى سارع باستدعاء طاقمه، وأمرهم جميعا بالخروج إلى عرض البحر، على أن «أوجل» قطع عليه الطريق، فلما بلغ روبرتس اليأس، أصدر أمره بالتوجه مباشرة نحو الفرقاطة الإنجليزية وهو يطلق عليها نيران مدفعه. جرت وقائع هذه المعركة في أحد الخلجان الصغيرة، وقد قتل فيها روبرتس على إثر إصابته بشظية من قذيفة مدفع، بعدها استسلمت «رويال فورتشن».
بعد هذا الانتصار الذي حققه قائد الفرقاطة الإنجليزية، قرر أن يكرم هذا القرصان الشجاع الذي سقط في المعركة بإجراء مراسم الجنازة البحرية في حضور طاقمي سفينتي روبرتس، أقيم نعش مرتحل على سطح السفينة، وضع فيه جثمان القرصان، وقد ارتدى سترته الاستعراضية المفضلة والمرصعة بالذهب والأحجار الكريمة الباهرة، ثم وارى جثمانه البحر.
ولم يفلت واحد من رفاق روبرتس من العقاب الذي استحقه بسبب الفظائع التي ارتكبها، أعدم الجميع شنقا في رأس كوست كاسل على ساحل الذهب.
قرصان رغم أنفه
تعود أحداث هذا التاريخ إلى شهر أبريل عام 1821م، عندما التحق المدعو أهارون سميث بالعمل على السفينة «زيفير» التي كانت متجهة من كنجستون في جاميكا إلى إنجلترا بوصفه ضابطا أول، وكان القبطان لومسدن على رأس هذه السفينة.
بعد خمسة أيام قضتها السفينة في البحر، إذ بركابها يلاحظون - وهم عند رأس أنطونيو جنوب الساحل الكوبي - سفينة شراعية مشبوهة تظهر في الأفق، اتضح لهم بعد ذلك أنها سفينة قراصنة، لم تجد كل أشكال المقاومة التي أبدتها «زيفير» نفعا، وكان هروبها ضربا من المستحيل، فاستسلم القبطان لومسدن على الفور. قام القراصنة بنقل كل ما وجدوه على السفينة من نفائس إلى سفينتهم، ثم سمحوا للومسدن بمواصلة رحلته، إلا أنهم احتجزوا أهارون سميث، وأمروه بأن يقود سفينتهم إلى ريوميدياس في كوبا.
وفي نفس اليوم وصلوا إلى المكان المحدد، حيث شاهد العديد من القوارب والأطواف التي خرجت لاستقبال القراصنة.
يصف سميث هذا اللقاء بقوله: «أخبرني القبطان أنه ينتظر ضيوفا قادمين من البر؛ اثنين أو ثلاثة من الموظفين وعائلاتهم، وكذلك عددا من القساوسة»، ثم أضاف قائلا: «إنك سترى عددا كبيرا من الفتيات الإسبانيات الجميلات»، سألته وقد تملكتني الدهشة عما إذا كان غير خائف من وجود هؤلاء الموظفين. فانفجر القبطان ضاحكا، وقال لي: «إنك على ما يبدو لست عليما بعادات الإسبان، إن بضع هدايا صغيرة كفيلة بأن تكسبك صداقة الموظفين.» ثم فسر لي أنه بفضل هؤلاء بالذات سوف يعرف كل ما يحدث في هافانا، وأنه سوف يتلقى في حينه المعلومات اللازمة حول الأعمال الموجهة ضده حتى يبقى على حذر.
عندما وصلت القوارب والأطواف إلى سفينة القراصنة، استقبلها الطاقم بحفاوة بالغة، وكان هناك اثنان من الموظفين، وقس، وعدد من النساء، وكان مما زاد من دهشة سميث، هو هذه التهاني الحارة التي قدموها للقبطان على ما حققه من نجاح بكل كياسة ولطف، قدم الكابتن ضابطه سميث إلى ضيوفه، بوصفه الرئيس الجديد للبحارة. بعد ذلك نزل الجميع إلى القمرة صحبة ليشربوا نخب القبطان وأصحابه البواسل. وبعد أن تناولوا الأنخاب، اقترحت إحدى السيدات الرقص، فوافق الرجال على ذلك بسرور بالغ، وقامت إحدى الشابات، وتدعى سيرافينا بدعوة سميث إلى الرقص، وأكدت له تعاطفها معه، ووعدت بأن تقنع أباها الموظف أن تحصل له على حريته من القبطان.
وفي الصباح الباكر، أخذ الضيوف يتهيئون للعودة إلى الشاطئ، فأحضر القبطان لهم الهدايا التي كان قد سبق له إعدادها، وكان أول الهدايا عبارة عن صندوق - كان سابقا ملكا لسميث - يحتوي على أقمشة وحرائر، سلمها للقس الذي فرح بها، وأعلن للقبطان أن باستطاعته أن يعتمد دائما على صلواته! ولم يغادر أحد من الضيوف بخفي حنين.
عند الظهيرة تقريبا أحاطت السفينة قوارب وأطواف الكوبيين الراغبين في الحصول على بضائع القراصنة، وكان أول المشترين الذين صعدوا على ظهر السفينة هي سيرافينا وأبوها. أخبرت سيرافينا أهارون - بعد أن انتحت به جانبا - أن أمها ترغب في أن تراه بشدة، وأنها ستبذل جهدها للحصول على تصريح له بالنزول إلى الشاطئ. في هذه الأثناء بدأت حركة البيع على السفينة، وكان أهارون سميث مكلفا بمراقبة الموازين التي يوزن عليها البن للمشترين؛ إذ لم يكن هناك أحد من البحارة يعرف كيفية استخدامها، بعد ذلك تم إعداد غذاء فاخر، وطلب القبطان - الذي كان يتحدث الإنجليزية قليلا - من سميث أن يقوم بإعداد أي كوكتيل قوي على الطريقة الإنجليزية، وما إن لعبت الخمر برءوس جميع المشترين، حتى بدأ القبطان المرحلة الثانية من عملية البيع، فعرض الملابس المسروقة من السفينة «زيفير».
لقد نجح سميث بجدارة في مهمته، فقد احتوت كئوس الضيوف على خليط من النبيذ، والروم، والفودكا،
8
والبيرة، فكان كوكتيلا اعترف بعظمته كل من حضر الوليمة، فاقت النتائج أبعد توقعات القبطان، فارتفعت الأسعار ارتفاعا باهظا، ودفع المشترون مبالغ خيالية مقابل أقمشة متواضعة.
عندما ذهبت الصحبة التي لعب برأسها الخمر للراحة، ظل أهارون وسيرافينا وحدهما على ظهر السفينة، واعترف كل لصاحبه بحبه بطريقة إسبانية محضة، ثم قررا أن يهربا معا، ويتزوجا في أول فرصة تلوح لهما. وعلى مدى اليومين التاليين ظل القراصنة يطوفون في البحر بحثا عن غنيمة جديدة. وقابلوا في اليوم الثالث مركبا شرعيا هولنديا وافق على أن يتبعهم طائعا إلى كوبا دون طلقة واحدة. عندما دخلت السفينة إلى الميناء أفادت الأنباء أن أبا سيرافينا قد جرحه أحد اللصوص، وأنه يدعو إليه سميث ليتفحص جرحه. وافق القبطان على الفور على إرسال سميث إلى الشاطئ، لم يكن الجرح خطيرا بالمرة، لكن سميث أشاع أنه خطير جدا حتى تتاح له فرصة أن يلتقي بسرافينا بشكل أكثر. وأخيرا أخبرت الفتاة عشيقها أنها على أتم الاستعداد للهرب، على أنه اتضح في الدقيقة الأخيرة أن الدليل الذي أولياه ثقتهما، ليس سوى خائن، ومن ثم أصبح على العاشقين أن يؤجلا تنفيذ خططهما إلى موعد آخر بعد أن يتمكنا من إزالة الشك وتجنب انتباه القراصنة.
أثناء ذلك أدخل لصوص البحر إلى الميناء عددا من السفن التي استولوا عليها، ومن بينها سفينة إنجليزية ضخمة، وما إن علم محافظ هافانا بهذا الأمر، حتى أرسل بفصيلة قوية من البوليس حتى يقاسم اللصوص الغنيمة.
ما إن وصل البوليس إلى الميناء، حتى أسرع بالتوصل إلى اتفاق مع القراصنة، ثم عدل عنه بسرعة في الوقت المناسب، فبمجرد وصولهم دخلت إلى الميناء إحدى سفن القراصنة، وعليها مسروقات من ثلاث سفن إنجليزية، كما كان على ظهرها غنيمة أخرى لها وزنها: ضابط إسباني وزوجه، وقد ألمت بالزوجة أثناء الطريق وعكة شديدة، فاستدعوا لها سميث، الذي كان قد حاز على سمعة طيبة كطبيب ذي خبرة، وبفضل مساعدته لها، برئت المرأة من مرضها بسرعة، مما دفعها إلى أن تعبر بصراحة عن امتنانها لهذا الرجل الإنجليزي. وذات مرة وبسبب الازدحام في السفينة - اضطر سميث أن يقضي الليل في قمرة الضابط الإسباني وزوجه، في الوقت الذي كانت المشاجرات تشب بشكل مستمر بين الأسرى.
وكان سميث من هذا النوع المحظوظ - أو التعس - من الرجال الذين يحالفهم النجاح عند النساء. استمر سميث يناور الزوج الغيور تارة، وتارة زوجته الولهى به، وتارة أخرى سيرافينا العاشقة، وطال الوقت بسفينة القرصان وهي رابضة لا تغادر الميناء، وأخذت شئون القلب التي يمارسها أهارون سميث تزداد تعقيدا يوما بعد الآخر.
وذات يوم، أرسل أحد موظفي الدولة بخطاب إلى القرصان ينصحه فيه بسرعة الخروج من المرسى، كان محافظ هافانا قد عزم على اتخاذ قرار حاسم ضد لصوص البحر، فأرسل بمئات الجنود، وخمس سفن بهدف محاصرة ملجأ القراصنة الذين أفلحوا في تلك الليلة في الخروج إلى البحر فور تلقيهم تلك المعلومة.
وثارت ذات ليلة عاصفة شديدة اضطرت سفينة القرصان إلى الاحتماء بأحد الخلجان الصغيرة المعزولة، لزم القبطان - الذي كان يعاني من نوبة الملاريا - قمرته، بينما ظل البحارة يعاقرون الخمر حتى فقدوا وعيهم. هنا قرر سميث أن الفرصة مواتية للهرب، فوضع أدواته البحرية في مخلاة، مع بعض الخبز الجاف، وأنزل إلى البحر قاربا شراعيا، ثم قطع الحبل الذي يربطها بالسفينة، وترك التيار يحمله بعيدا. وبعد أن ابتعد عن الشاطئ رفع الشراع، وأبحر في اتجاه هافانا، التي وصلها بعد يومين، متصورا أن ضياعه قد آن له أن ينتهي. على أنه ما كاد يظهر في واحد من شوارع هافانا حتى اصطدم بالقبطان الذي مكث معه في الأسر لدى القراصنة، لقد قرر الزوج الغيور أن يثأر لشرفه ورجولته التي أهينت من سميث، وطالب بالقبض عليه فورا.
كان على سميث أن يظل حبيس زنزانته بسجن المدينة الرطبة مدة طويلة، قبل أن يقف أمام المحقق. بعد استجوابات مطولة، اقتيد إلى السجن العمومي، حيث مكث هناك بين مئات المسجونين من النصابين، والمهربين، ورجال العصابات، من شتى الجنسيات عدة أسابيع في انتظار محاكمته. وقد تقدم للمحاكمة عدة مرات، ولكن قضيته كانت تؤجل لسبب أو لآخر، وفي نهاية الأمر زاره في السجن أحد أصدقاء القضاء، وعرض عليه أن يطلق سراحه مقابل مائة دوبلون،
9
وإلا - هذا ما أعلنه القاضي - فسوف يسلمه لسلطات جاميكا، التي تطالب به.
لم يكن سميث عندئذ يمتلك شروى نقير، في اليوم التالي اقتيد السجين مخفورا بثلاثة من الضباط الإنجليز من سفينة الأدميرالية التي يرأسها السير تشارلز دولي، ليوضع على ظهر السفينة الحربية «سيبيل»، وهناك تم قيده بالأغلال، مثلما يحدث مع عتاة المجرمين، الأمر الذي أدهش سميث. بعد رحلة طويلة وصلت «سيبيل» إلى دبتفور، وأرسل سميث إلى السجن في نيوهايت، حيث كان عليه أن يمكث به إلى أن تنظر محكمة الأدميرالية في قضيته بتهمة ممارسة القرصنة.
بدأت محاكمة سميث - التي أثارت ضجة هائلة - في يوم الجمعة الموافق 20 ديسمبر 1823م في أولدبيلي. اصطف أمام المحكمة طابور طويل من الشهود، وبفضل شهادة الآنسة الجميلة الفاتنة مس صوفي نايت - خطيبة المتهم - حكم لسميث بالبراءة. أعلنت صوفي للقضاة - وهي تذرف الدموع مدرارا - أنها تنتظر عودة حبيبها سميث من أمريكا منذ ثلاث سنوات، وقد دفع اعترافها المحكمة نحو إصدار حكم البراءة.
لم يخبرنا التاريخ عما إذا كانت مس نايت المخلصة، قد تزوجت من سميث (وهو أمر غير محتمل)، أم أن سميث قد عاد إلى سيرافينا؟
قضية «باندا»
في الثاني من مارس عام 1836م أصبح المشاة، الذين كانوا يتنزهون في الشوارع المطلة على البحر لميناء بوسطن، شهودا بمحض الصدفة لحادث غير عادي!
في وقت واحد تقريبا، ومن جهتين مختلفتين، دخلت إلى الميناء سفينتان من ذوات الأشرعة الثلاثة، وبينما كانت إحداهن ترسو على الرصيف، كانت الأخرى تدخل إلى الميناء، ومن السفينة التي كانت قد رست لتوها، قفز نفر من المكسيكيين يرتدون ملابس مبتكرة، يحركون أيديهم بإشارات عنيفة، ويرفعون عقيرتهم
10
بالصياح. استطاع رئيس الميناء، الذي هرع إلى المكان أن يعرف من قصتهم المتقطعة، أن القراصنة قد هاجموهم في البحر. عندئذ دعاهم إلى مكتبه حتى يكتب بذلك محضرا رسميا، كان المشاة ينظرون بفضول شديد إلى هذا الحشد الغريب من الرجال ومعهم بعض السيدات، وهم يتسكعون في شوارع المدينة، وقد غطوا أجسادهم بالبطاطين، والملاءات، وستائر النوافذ. اتضح فيما بعد من الحكايات التي قصها هؤلاء الذين حلت بهم المصيبة، أنهم منذ ثلاثة أيام مضت وقعوا ضحية للقراصنة، عند سواحل الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت سفينة البضائع المكسيكية «أجيلو» (النسر)، متجهة صوب بوسطن، وعليها - إلى جانب البضائع - عدد قليل من الركاب، من بينهم الزوجان مارتينيز، وابنتاهما، وعدد من الخدم. وبالقرب من سواحل أمريكا، وفي حوالي الخامسة ظهرا بدا أن السفينة قد دخلت إلى منطقة كثيفة الضباب، عندئذ صاح القبطان سيجوميو بضابط الحرس قائلا: أشعل النيران المميزة! لكن صوتا غريبا على ظهر السفينة أجابه: لا داعي ألبتة! إننا نراك جيدا مع ذلك. هنا أدرك القبطان - وقد أصابه الذعر - أن سفينة أخرى ذات أشرعة ثلاث تلتصق تقريبا بسفينته، وقبل أن ينجح في اتخاذ أية خطوة مع السفينة المجاورة، إذا بالسلالم تلقى منها، ويتسلقها في لمح البصر ثمانية بحارة مسلحين، ليقفزوا منها إلى ظهر «أجيلو».
أدرك القبطان سيجوميو أنه يتعامل الآن مع لصوص البحر، ولقد حاول الرجل أن يشرح لهم أن السفينة لا تحمل سوى أخشاب، لكن زعيم القراصنة «بدور خيبرت» عاجله بضربة من قبضة سيفه، فأطاح باثنين من أسنانه الأمامية. لم يهتم القراصنة بالأخشاب، لكن الذي جذب اهتمامهم هو رجل يدعى مارتينيز يرتدي ثيابا فاخرة، فجذبوه إلى سطح السفينة، وأخذوا في ضربه حتى يخبرهم أين يخفي نقوده وثروته. ظل المكسيكي يحاول إقناعهم بعدم وجود أموال لديه، لكنه بعد أن وقع في قبضة رئيس البحارة العملاق المدعو فارس، الذي وضع على رقبته سكينا حادة، اعترف أنه يملك في قمرته صندوقا حديديا، أخفى بداخله ثلاثين ألف دولار. كانت سعادة القراصنة لا توصف عندما سمعوا هذا الرقم الهائل، وعلى الفور أمر خيبرت بدفع برميل من الروم ليبدأ الجميع حفل الشراب.
صباح اليوم التالي أخذ القراصنة في حبس جميع الأسرى من الرجال والنساء في باطن السفينة، بعدما أمر خيبرت بإضرام النار فيها، ما إن غادر اللصوص «أجيلو» حتى أخذ الأسرى في كسر الأبواب المغلقة بالمزاليج، وعلى الفور اندفعوا إلى السطح ليطفئوا النار.
أما المشهد التالي من هذه الدراما فقد جرت أحداثه في شوارع بوسطن، فور إدلاء الضحايا بشهاداتهم، وخروجهم من عند رئيس الميناء؛ ففي طريق عودة الجميع إلى السفينة، إذا بالفتاة إيزابيلا ابنة مارتينيز تشير، وهي تصرخ بهستيرية إلى جماعة من البحارة كانت تسير على الجانب الآخر من الشارع: ها هم، ها هم!
وعلى الفور صاح من خلفها مارتينيز: اقبضوا عليهم، ثم انطلق يعدو في إثر البحارة الذين لاذوا بالفرار في اتجاه سفينة ذات ثلاثة أشرعة ترسو في الميناء، كان من السهل قراءة اسمها المكتوب على مقدمتها: «باندا».
كشف البحث الذي جرى على سطح السفينة أن البحارة الذين تم القبض عليهم في الشارع، هم نفس القراصنة الذين هاجموا السفينة التجارية المكسيكية «أجيلو». بفضل اتفاق هذه الظروف غير العادية، التقى المجرمون بضحاياهم في قاعة الاجتماعات بمحكمة بوسطن. على الرغم من أن أدلة الاتهام كانت دامغة، فإن القراصنة جميعهم أنكروها، وقد بدت جهود المحامين دقيقة، وصدر الحكم على طاقم السفينة «باندا» بأقصى درجات العقوبة، وهو الإعدام شنقا، ولم ينج من هذا الحكم سوى بحار واحد يدعى أنطونيو.
فبينما اتجه البحارة جميعهم في ذلك اليوم للهو والتسلية، ظل أنطونيو على ظهر السفينة، وعندما شاهد وهو على سطحها كيف يتم القبض على رفاقه، قفز إلى الماء، وعبر سابحا إلى الشاطئ الآخر من الخليج، مفلتا بهذه الطريقة من البوليس.
عندما نطق رئيس المحكمة بالحكم بالإعدام شنقا على أنطونيو، اتجهت أنظار المحكوم عليهم الآخرين نحو رجل فارع الطول، عريض الأكتاف، يجلس وسط جمهور الحاضرين في الصف الأول، كان من السهل التعرف فيه على البحار المطلوب القبض عليه؛ إذ إن القضاة، والمحلفين، والحراس، والجمهور، قد تابعوا باهتمام كيف اتجهت أنظار البحارة السبعة إلى هذا الرجل عند سماع الحكم. ساد القاعة سكون مطبق، ولم يتمالك الرجل، الذي لفت انتباه الجميع أعصابه فهب واقفا، واتخذ طريقه إلى باب الخروج. في هذه اللحظة، قفز القرصان خوان مونتجرو من مكانه في قفص الاتهام بصوت حاد: أنطونيو، اهرب بجلدك!
ارتفع الصخب، وعمت الفوضى القاعة، وإلى أن استطاع البعض أن يمحص الأمر، كان أنطونيو قد اختفى، وظل مصيره بعد ذلك مجهولا.
بعد عدة أيام استطاع المحامون أن ينجحوا في تخفيف العقوبة إلى اثنين من موكليهم، وقد راعت المحكمة أيضا أن القرصان سوتو قد حاول مرتين الدفاع عن الضحايا، فاستبدلت الحكم بالسجن بالحكم بالإعدام شنقا، وقد تفادى توماس رويس أيضا الحكم بالإعدام، بعد أن اعترف الأطباء بمرضه النفسي.
وقد نفذت أحكام الإعدام شنقا على القراصنة الباقين في الحادي عشر من يونيو عام 1836م.
سفينة العبيد المتمردين
في عام 1836م عندما كانت سفينة حرس الشواطئ «واشنطن» التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، تقوم بدوريتها البحرية على اتساع شاطئ نيويورك، أبلغ النوبتجي - عند وجوده بالقرب من لونج آيلاند - عن ظهور سفينة شراعية كانت تقوم بمناورات ما غامضة.
استمر القبطان لفترة طويلة يراقب التحركات الغريبة غير المفهومة لهذه السفينة، في البداية قرر القبطان أن هذه السفينة - لسبب ما - ليس بها طاقم، وأنها تسير كيفما شاء لها التيار، ولكنه عندما اقترب منها بالسفينة الحربية لاحظ على ظهرها أشباحا لأفارقة داكني البشرة، فارعي القامة، يرتدون ملابس نسائية مختلفة ألوانها كأنهم في حفل تنكري.
أصدر القبطان أمره بإنزال زورق، بعد أن وضع فيه أربعة وعشرين بحارا مسلحا، أرسل بهم إلى السفينة بعد أن جهز سفينته في وضع الاستعداد القتالي. عندما قرأ قائد الفرقة التي على الزورق اسم السفينة الغامضة «أمستاد»، أدرك على الفور مع من يتعامل، فمنذ وقت غير بعيد تلقت قيادة الأسطول البحري العسكري الأمريكي، بلاغا عن ظهور السفينة «أمستاد» التي كانت قد غادرت ميناء هافانا منذ شهرين متجهة إلى جوانا خواتو بالمكسيك - في عدة بقاع في الخليج المكسيكي والشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها لم تصل إطلاقا إلى وجهتها المنشودة.
عندما صعد مساعد قبطان السفينة «واشنطن» في صحبة بحارته المسلحين إلى ظهر «أمستاد»، خرج من بين صفوف الأفارقة رجل أبيض أشيب الشعر، توجه إليه ، ثم أخذ يلوح بيده بطريقة عصبية وهو يقول: ساعدونا! هؤلاء العبيد أعلنوا التمرد! لقد قتلوا الطاقم! اقبضوا على زعيمهم!
ظل الرعب مرتسما على وجه الرجل الأشيب، حتى في وجود البحارة المسلحين، ثم أشار إلى رجل أفريقي عملاق، كان يقف عند مؤخرة السفينة ويداه مشبوكتان على صدره، كان يراقب المشهد في صمت.
كان هذا الأفريقي يتميز عن بقية أفراد قبيلته، لا بطوله وبنيته القوية فحسب، وإنما بنظرته المسيطرة وسلوكه المتعجرف، وعندما اقترب منه بعض البحارة، إذا به يختفي فجأة في عنبر السفينة. وعلى مدى شهرين كاملين، ظل الزنوج العاملون في المزارع الجنوبية للولايات المتحدة، يتناقلون همسا قصة «أمستاد» سفينة الحرية.
وها هي الأحداث التي دارت على ظهرها:
ذات يوم توجه المدعو دون خوسيه رويس الثري الإسباني الذي كان مقيما في المكسسيك إلى هافانا لشراء شحنة من العبيد، وبعد معاينة دقيقة للبضاعة الحية، اشترى السنيور رويس تسعة وأربعين عبدا، من بينهم الأفريقي العملاق جوزيف سينكس، وقد تبين من القصص التي تناقلها التجار أن هذا الرجل هو حفيد إحدى السلالات الملكية الأفريقية في حوض نهر الكونغو، وقد رفض الأمير الأسود الأبي الانصياع لأوامر سادته. اتفق السنيور رويس - بعد أن تدارك الموقف - مع قبطان السفينة «أمستادا» التي كانت متجهة إلى المكسيك، على نقل العبيد والبضائع إلى ميناء جونا خواتو، وكان من المفترض أن تستمر الرحلة خمسة أيام فقط، ولم يكن السنيور رويس يشعر بالقلق من أن السفينة لم تكن مجهزة لنقل العبيد.
وفي اليوم الرابع اندلع التمرد بين العبيد المحبوسين في سجن السفينة، لقد استمر هؤلاء العبيد على مدى أربعة أيام يعملون خلسة تحت زعامة سينكس، في تكسير الأصفاد التي كانت تغل بعضهم ببعض، وكانت بضع دقائق كافية جدا حتى يفرض العبيد سيطرتهم على السفينة، بعد أن أعملوا القتل في طاقمها، غير أن البحار الذي كان جالسا على الدفة استطاع بسرعة البرق أن ينزل إلى الماء أحد قوارب النجاة الصغيرة، ونجح في الابتعاد عن السفينة، وعندما وصل إلى الشاطئ أبلغ السلطات عن التمرد الذي اندلع على السفينة «أمستاد».
إلى جانب هذا البحار كان هناك الخادم أنطونيو، ورويس، والسنيور مونتيس القبطان السابق للسفينة الذي أبقى سينكس على حياته على أمل أن يقود السفينة، وما إن تولى سينكس القيادة، حتى قيد مونتيس إلى الدفة، ثم أمره مهددا إياه بالموت، بعد أن لاحظ أن السفينة تأخذ وجهتها نحو الغرب، أن يتجه إلى وطنه الحبيب أفريقيا، حيث البلاد التي يسكنها الأفيال، والتماسيح، والزراف.
غير أن مونتيس حاول أن يسير - مستغلا جهل القائد الجديد - بالقرب من الشاطئ المكسيكي أولا، ثم جزر الباهاما بعد ذلك، على أمل مقابلة أية سفينة حربية. كان الزنوج - الذين لم تكن لديهم أدنى معرفة بالملاحة - يتطلعون من يوم لآخر إلى شاطئ أوطانهم، حيث تنتظرهم الحرية.
ولما طالت الرحلة، أخذ الأفارقة يمرحون كالأطفال، فأخرجوا من الصناديق الملابس النسائية، التي أحضرها رويس لأسرته، وبعد جدل طويل بينهم، اقتسموها فيما بينهم، وعلى أنغام الآلات الموسيقية التي اشتراها رويس، أخذوا يرقصون رقصاتهم الأفريقية الصاخبة. وها هو السنيور رويس يراقب في فزع كيف صنع أحد المتمردين من أوتار آلة الهارب عقدا لابنته . انقضى الوقت، وأوشك الطعام والماء على الانقضاء، عندما اقتربت السفينة من جزر الباهاما، أرسل سينكس إلى الشاطئ قاربا عليه ثلاثة أفراد، استطاعوا على مدى عدد من الرحلات جيئة وذهابا، أن يأخذوا احتياطيا كبيرا من الماء، وفي الطريق أيضا قابلوا إحدى السفن طلب منه مونتيس - بناء على أوامر سينكس - أن تمدهم بالمواد الغذائية التي دفع المتمردون ثمنها من النقود الإسبانية المنهوبة. وكان سينكس إبان إجراء هذه الصفقات، يخفي مواطنيه في سجن السفينة، على أن الفضول لديهم كان أقوى من الخطر نفسه، فكان بحارة السفن التي قابلتهم ينظرون بدهشة بالغة إلى هذه الرءوس السوداء من أركان «أمستاد»، وقد تغطت بالقبعات الملونة الغريبة، لم يكن مونتيس يعود كثيرا على المساعدة، إذ كان يدرك تماما أن كلمة واحدة تقال بغير حرص، قد يدفعها ثمنها هو ورويس حياتهما.
أبحرت «أمستاد» ببطء باتجاه الشمال بمحاذاة الشاطئ الأمريكي، وعندما لاحظ سينكس أن الأرض تقع غربا أدرك أن مونتيس خدعه، عندئذ قرر أن يستأجر بما بقي لديه من نقود ملاحا يمكن أن يقود السفينة إلى شواطئ أفريقيا.
عندما اقتربت «أمستاد» من جديد من ساحل الولايات المتحدة الأمريكية، أرسل سينكس إلى الشاطئ رجلا ممن يثق فيهم، ويدعى كاتاهوم عده من الأذكياء، وأوكل إليه مهمة استئجار أحد الملاحين. على أن كاتاهوم، الذي لم يكن يعرف لغة السكان البيض، لم ينجح في مهمته، وقد أحدث نزول كاتاهوم هو ورفاقه إلى الشاطئ هرجا في إحدى القرى الأمريكية، حيث سارع السكان لدى رؤيتهم لهؤلاء الناس الذين يرتدون الملابس الغريبة، إلى إغلاق مساكنهم بالمزاليج، وإغلاق النوافذ كذلك، بل إن المزارعين أخذوا في إطلاق النار على هؤلاء العبيد، وهم في طريق عودتهم إلى السفينة.
مرة أخرى يكرر كاتاهوم المحاولة، فينزل إلى الشاطئ ويلتقي بمزارع سلبت لبه العملات الذهبية، فأخذ يتفاهم من خلال إشارات، مع مبعوثي سينكس. وافق المزارع دون تردد على بيع كلبين لهم، ولما أدهشه الثمن الذي دفعوه، أعطاهم بالإضافة إلى ذلك بندقيته القديمة.
وكان من الممكن أن تثمر الجولة الثانية لكاتاهوم إلى الشاطئ ، لولا أن الظروف قد تغيرت، فبالقرب من مصب نهر صغير يسمى كولودين، قابل الأفارقة اثنين من الأمريكيين خبراء في الملاحة، يعرفون الطريق جيدا إلى أفريقيا، ما إن شاهدا الصندوق بالذهب، حتى دخلوا في مفاوضات مع العبيد، لكن السفينة الحربية «واشنطن» كانت قد دخلت إلى الأحداث.
ظهر سينكس - الذي كان قد نجح في الاختفاء في سجن السفينة من بحارة «واشنطن» - عند مؤخرة السفينة. كان خصره محاطا بحزام عريض وسميك، ويبدو أن الرجل كان قد أعد العدة لمثل هذه الظروف، فقد قام بخياطة العملات الذهبية في حزامه. قفز سينكس إلى الماء، مستغلا الارتباك الذي حدث، وطفق يسبح باتجاه الشاطئ، بينما أخذ الجنود يرشقونه برصاصهم، لكن هذا السباح الماهر استطاع أن يتفادى الطلقات. عندئذ لم يكن هناك من بد سوى اشتراك «واشنطن» في المطاردة، وعلى الفور تم القبض عليه، على أنه كان قد نجح في فك الحزام عن خصره، وأغرق الذهب في البحر، حتى لا يقع في أيدي مطارديه.
جرى عزل سينكس عن باقي العبيد، تجنبا لتمرد جديد، ثم نقل إلى السفينة «واشنطن» تحت الحراسة. أصبح الزنوج في موقف لا يحسدون عليه. كان من حق قبطان السفينة الحربية - طبقا للقوانين المعمول بها آنذاك - أن يقوم بإعدام جميع القراصنة الذين تم القبض عليهم على الصاري دون محاكمة، لكن القبطان لم يفعل هذا تحسبا للرأي العام، الذي كان شديد الاهتمام بقضية العبيد المتمردين الشهيرة، ومن ثم جرى إرسال الأفارقة إلى سجن في نيو لندن.
كان لموقف سينكس البطولي أثره في إكسابه العديد من الأصدقاء، بل والاحترام، حتى في صفوف أعدائه. وعلى الرغم من روح التعاطف التي سادت المجتمع الأمريكي تجاه قضية سينكس، فإن الهيئات القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بنيتها أن تدفن القضية، فقد تم إعدام سينكس شنقا هو وثلاثة من رفاقه، على أن اسم جوزيف سينكس أحد أول المناضلين في سبيل تحرير الزنوج الأمريكيين قد بقي في ذاكرة محبي الحرية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما فيما يخص القرصنة عند سواحل أمريكا الشمالية، فقد تم اجتثاثها نهائيا في منتصف القرن التاسع عشر.
الفصل السادس
قراصنة المحيط الهندي
مرة أخرى تصبح مياه النصف الشرقي من الكرة الأرضية مسرحا للنشاط الحيوي للقراصنة، وذلك على تخوم القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان النهب البحري الملاحي قد ازدهر منذ زمن بعيد على السواحل الشرقية لأفريقيا، وفي المحيط الهندي، وفي بحار جنوبي شرق آسيا، والشرق الأقصى. لقد كان القراصنة ذوو الأصول الأوروبية، الذين طردوا من المياه الأمريكية، ومن حوض الكاريبي على وجه الخصوص، كثيرا ما ينقلون نشاطهم إلى البحار المتاخمة لشواطئ أفريقيا وآسيا، التي كان يدفعهم إليها ما يصلهم عنها من معلومات عن غنائم يمكنهم الاستيلاء عليها فيها.
كان القراصنة البوكانيون، والفليبوستيون يمارسون مهنة السرقة في المحيط الهندي، إما اعتمادا على شجاعتهم الخاصة، ومخاطرتهم، أو بانضمامهم إلى صفوف القراصنة المحليين من العرب، والهنود، والصينيين، وأبناء الملايو، فكانوا يتحدون معهم مشكلين بهذا منظمات جبارة، كان البحارة ذوو الأصول الأوروبية المحنكون يقومون بالدور القيادي فيها.
في تلك الفترة ظهرت في منطقة المحيط الهندي ثلاثة مراكز مهمة للقراصنة، كان لكل منها تقاليده العريقة فيها، عن شاطئ مالابار، وفي مياه مدغشقر، وفي منطقة الخليج الفارسي.
وقد صادف انبعاث القرصنة في هذه المناطق، النضال الذي خاضته شعوب أفريقيا، وآسيا ضد الاستعمار، وعلى رأسه الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والهولندي، والبرتغالي، وفي الوقت نفسه أصبح النضال ضد القرصنة - حقيقة وتظاهرا - حجة مناسبة للتوسع الاستعماري.
القرصنة عند ساحل مالابار «سيوان صن»
1
رحالة صيني من القرن السابع، زار الإمبراطورية الهندية في فترة حكم خارشا،
2
سرقه اللصوص مرتين في الأراضي الخاضعة لحكم الأخير، وذات مرة كاد أن يلقى حتفه في قلب هذه الدولة ذاتها على يد القراصنة الذين أرادوا أن يقدموه قربانا للإلهة دورجا، وإلى «سيوان صن» تنسب الكتابات الأولى عن القرصنة في هذه المنطقة.
اتخذ العديد من قراصنة الهند السرقة مهنة لهم من جيل إلى جيل، وكانوا ينظرون إلى قتل ضحاياهم كما ينظرون إلى أي طقس من الطقوس. وكان هؤلاء القراصنة يهاجمون القوافل البرية للتجارة، كما كانوا يهاجمون الصنادل والسفن في البحر، على الرغم من أنها تسير عادة في مجموعات كبيرة، وتحت حراسة مسلحة. حتى أقوى الأمراء الهنود كانوا يجدون صعوبة في التغلب على السرقة التي اتسع نطاقها. وقد أصبحت أكثر السفن عرضة لهجمات القراصنة هي تلك السفن التي كانت تسير عبر أنهار مثل الجانج أو الهند، وهما النهران اللذان كان يؤديان أهم دور في التجارة والاتصال.
على أن الهند لم تعان بشدة في تلك الآونة من قراصنة الأنهار المحليين فحسب. لقد أصابت البلاد خسائر فادحة من جراء نشاط القراصنة الذي كان يقوم به حكام جزر الملايو، والذي شكل عائقا كبيرا في نمو العلاقات التجارية الحيوية بين الهند والصين. وفي النهاية أصبح هذا النشاط أحد أسباب الحملات التي قادها اثنان من الأمراء من أسرة تشولا:
3
رادجاراجي الأول (985-1014م)، ورادجيندرا (1014-1042م). أخضع الأول سيلان، ونجح الثاني في توسيع نفوذه على البر حتى منابع الجانج نفسه، وجهز حملة بحرية ضخمة استطاعت أن تحتل جزءا من بورما، والملايو، وسومطرة، بعد أن وضع حدا - لحين من الزمن - للقرصنة التي كانت قد انتشرت في كل من الملايو وإندونيسيا.
طبقا للمعلومات التي أوردها المؤرخون العرب في القرون الوسطى، فإن راجوت الساحل الغربي لهضبة ديكان، قاموا في القرنين العاشر والحادي عشر بتجهيز أساطيل للقرصنة. آنذاك لم يكن بإمكان الأمراء الهنود - الذين لم يكن بحوزتهم أسطول بحري - أن يواجهوا التطور السريع لمعاقل القرصنة في هذا الإقليم، حيث احتشد القراصنة عند ساحل مالابار من بومباي، وحتى «جاوا» نفسها.
ولم يسلم مغول الأكبر
4
حاكم الإمبراطورية الكبيرة في الهند من الوقوع هو نفسه ضحية للقرصنة البحرية عند ساحل مالابار. لقد جذبت ثروته الخرافية أنظار الدول الاستعمارية، فضلا عن القراصنة المحليين، بل والأجانب أيضا. ولم تكن إمبراطورية المغول التي تأسست عام 1526م على يد بابور حفيد تيمورلنك الأكبر، واستمرت حتى نهاية القرن السابع عشر، لم تكن تملك أية سفن حربية، ومن ثم فلم يكن بمقدورها الوقوف في وجه هجمات قراصنة مالابار. أما الإنجليز الذين كانوا يجنون الأرباح الطائلة من جراء تجارتهم مع مغول الأكبر عن طريق شركة الهند الشرقية، التي تأسست عام 1600م فقد ظلوا غير عابئين بالمصاعب التي كان يتعرض لها عاهل الهند في البحر، مولين جل عنايتهم لمصالحهم الاستعمارية والتجارية، بيد أنهم أخذوا في الاهتمام بنشاط القرصنة في «مالابار» فقط، عندما بدأ أمن الملاحة البريطانية في المنطقة، يتعرض تعرضا فعليا للتهديد من جانب القراصنة.
مع اقتراب نهاية القرن السابع عشر، ظهر على ساحل مالابار «آل أنجريا»، وهم أسرة قراصنة من المهراجات
5
الهنود، استمرت على مدى ستين عاما تحتكر هذه المهنة.
كان كونادجي هو أول زعيم للقراصنة من آل أنجريا في ساحل مالابار. في حوالي عام 1698م ترأس كونادجي الأسطول، وشيئا فشيئا أخذ في التحرر من التبعية الإقطاعية الطويلة لحكام إمارة بونا
6
الإقطاعية، وفرض سلطانه دون شريك على شريط طوله خمسمائة كيلو متر بامتداد ساحل مالابار جنوبا من بومباي، وعلى امتداد هذه المسافة أقام كودناجي عددا من الحصون الساحلية مثل ألبياج وسافندروج وجيريا (خلافا لفيدجايدورج) انطلقت منها حملاته. استطاع هذا الملك غير المتوج خلال فترة قصيرة أن يصيب التجارة البحرية بالكامل بالشلل، الأمر الذي ظهر أثره مباشرة بشكل ملحوظ على شركة الهند الشرقية، وعلى المحتلين البرتغاليين.
وفي نهاية الأمر، نفد صبر سلطات الاحتلال المحلية، وقام ممثلو الحكومة البريطانية، وشركة الهند الشرقية بشكل رسمي بإبلاغ كونادجي أنه ليس في نيتهم السكوت أكثر من ذلك على مهاجمة سفنهم. أجاب زعيم القراصنة بأن الإنجليز سيتعين عليهم أن يتذكروا اسمه مرة أخرى. وقد وضع كونادجي بالفعل تهديده موضع التنفيذ، حتى إن الإنجليز أرسلوا في عام 1704م خاصا إلى كونادجي ببلاغ بمنع سفنه من الاقتراب من المياه المتاخمة لبومباي، وفي الوقت نفسه، أبلغت شركة الهند الشرقية إدارتها في لندن، أن سفنها الضخمة فقط هي التي استطاعت اختراق حصار قراصنة مالابار الممتد بطول الساحل من سورات إلى دابول، وتوسلت الشركة لإرسال مساعدة من جانب الحكومة.
وبعد عدة سنوات أصبح كونادجي مالكا لجزيرة صغيرة تقع عند مدخل ميناء بومباي، وعلى الفور قام بتحصينها، وحيث إن أسطولا من السفن القوية (يصل تسليح بعضها إلى ستين مدفعا، وتعمل تحت قيادة بحارة أوروبيين محنكين من هولندا في الأغلب)، أخذ يرابط منذ ذلك الحين عند هذه الجزيرة، فقد أصبحت مدينة بومباي معرضة لتهديد حقيقي. كان نظام الدفاع عن بومباي آنذاك بدائيا للغاية، وعندما اقترحت إدارة الشركة بناء التحصينات المناسبة، رفضت سلطات المدينة البناء، بحجة معاناتها من صعوبات مالية.
بهذه الطريقة أصبح بمقدور القراصنة احتجاز كل سفينة كانت تصل إلى بومباي أو تغادرها، عندئذ وجهت الشركة حملة تأديبية ضد القراصنة قوامها عشرين سفينة، وفي تقرير موجز أجملت نتائج الحملة على النحو التالي: «عادت سفننا في التاسع من يونيو، ونتيجة للأعمال غير المتقنة التي ارتكبها القائد، فقدت الحملة خمسين شخصا، ولم تضرب سوى مدينة واحدة من المدن الخاضعة لآل أنجريا».
على أن أسباب فشل الحملة التي قادتها الشركة لم يكن مردها إلى عدم الإتقان، الذي شاب العمليات التي أدارها القادة، بقدر ما كان مردها إلى سياسة إنجلترا الاستعمارية الاستغلالية في الهند؛ ولهذا فقد امتنع المواطنون عن تقديم العون للإنجليز في صراعهم مع القراصنة. بالإضافة إلى هذا، فقد كان الجيش الذي قامت الشركة بتجهيزه عبارة عن حشد غير منظم من حثالة بلاد أوروبية مختلفة، جاءوا للبحث عن كسب سهل في المستعمرات.
في عام 1715م وصل إلى بومباي محافظ جديد يدعى تشارلز بون، يتمتع بالحيوية والنزاهة، وكان يرى أن القضاء على القرصنة في مالابار أحد المهام الأساسية. وما إن تقلد زمام منصبه حتى قام على الفور بعمل التحصينات حول مقر الرئاسة في بومباي، ثم شرع بعد ذلك في إنشاء أسطول حربي صغير. وقد ظهرت هناك العديد من المصاعب في تشكيل الأطقم؛ إذ إن الشركة كانت تعين البحارة برواتب منخفضة جدا، إلى حد أن أفضل البحارة كانوا يفضلون الخدمة على سفن أنجريا، الذي لم يكن يبخل بالمال على بحارته، وبقدر بالغ من الصعوبة نجح بون أخيرا في تكوين أسطول من تسع عشرة سفينة مختلفة المقاييس والطرز؛ بدءا من القوارب ذات المجاديف، وحتى الفرقاطات ذات الأشرعة. وربما كان من الممكن أن ينجح هذا المحافظ في استئصال شأفة القرصنة على الرغم من نقص الكفاءة، وعدم انضباط مرءوسيه، لولا أنه في عام 1721م وصل إلى بومباي - وعلى حين غرة - قادما من مدغشقر، القائد توماس ماتيوز.
وربما كان من الصعب العثور على قائد عام آخر للحملة العسكرية أسوأ منه؛ فقد كان ماتيوز يمتلك قدرا كبيرا من الشجاعة، مع غياب تام للتفكير السليم. كان نزفا، ليست لديه على الإطلاق قدرة على التآلف مع غيره من الناس، كما كان يتميز على وجه العموم بالقسوة.
غادر ماتيوز مدغشقر على ظهر السفينة «لابون». ولما لم يلتق في طريقه بالقراصنة، اتخذ مساره مباشرة نحو بومباي دون أن ينتظر السفينتين «سالزبوري» و«اكزيتر»، اللتين كانتا عليهما أن تقدما له المساعدة. كان ماتيوز لدى إبحاره قد سلم أحد مواطني الجزيرة خطابا موجها للقبطان كوكبني، قبطان «سالزبوري» عرض فيه تفصيلا خطة العملية كاملة، وما إن غادرت «لايون» الميناء، حتى حصل اثنان من القراصنة هما: تايلور، ولبابوش على هذا الخطاب، ثم أسرعا بتسليمه إلى «جهة معينة».
ما إن وصل ماتيوز إلى بومباي، حتى دب الشجار بينه وبين المحافظ، حول من الذي عليه أن يؤدي التحية أولا للآخر. وبسبب سلوكه المتعجرف، اكتسب ماتيوز عداء كل موظفي الشركة، وأصبح الصدام بينه وبين ضباط الأسطول في بومباي ظاهرة يومية. لو لم يكن سلوك ماتيوز على هذا النحو، لاستقبل مجيئه من أجل الاستعداد للعمليات الإنجليزية-البرتغالية المشتركة، ضد قلعة آل أنجريا الرئيسية - ألبياج - استقبالا حافلا. على أن ماتيوز ضرب قائد القوات البرتغالية إبان مشاجرة ما بينهما على وجهه بالسوط، فما كان من الأخير؛ إلا أن غادر حلفاء الإنجليز تاركا إياهم وحدهم في حومة المعركة.
انتهت الحملة على القراصنة، تلك الحملة التي كان ينبغي لها أن تكون نهاية الإعداد الطويل، الذي قام به المحافظ بون بفشل ذريع، غير أنه أنزل على أية حال بقراصنة مالابار خسائر أكبر من التي أنزلها بهم أي من الذين سبقوه. في التاسع من يناير عام 1722م أبحر ماتيوز عائدا إلى إنجلترا، وقد تعرضت سفنه الثلاث - عند مرورها بمحاذاة الساحل - لهجوم القراصنة، ولكنه نجح في التصدي لهم، وعلى مدى اتساع جزيرة أندجيدف، قاد ماتيوز معركته الأخيرة ضد القراصنة، بعد أن انتزع من أيديهم سفينة كانوا يهاجمونها آنذاك.
وفي عام 1729م توفي كونادجي أنجريا تاركا خمسة أبناء ما لبثوا أن تنازعوا ميراث أبيهم. استغل البرتغاليون هذا الظرف، فعقدوا حلفا مع أحدهم أولا، ثم أعقبوه بحلف مع آخ آخر. لكن البرتغاليين لم يهتموا بكسب ود أكثر الإخوة موهبة، وهو تولادجي، الأمر الذي كان سببا في انهيار خططهم. نجح تولادجي في زمن قصير في توحيد ميراث أبيه وزيادته. وفي السنوات التالية دار الصراع الشرس من أجل السيطرة على المياه الهندية بشكل رئيس بين تولادجي وبين الإنجليز، حيث إن سيطرة البرتغال، وهولندا، وفرنسا، على شبه الجزيرة الهندية كانت قد مالت للانهيار.
أعطت النزاعات الداخلية لأسرة أنجريا لشركة الهند الشرقية عشرين عاما لالتقاط الأنفاس، نجحت إبانها في بناء أسطول من سفن النقل حسن التسليح، قادر على مقاومة القراصنة، وكانت هذه السفن من طراز جديد تماما، واستطاعت أن تحقق انتصارات عدة عندما التقت بلصوص البحار، على أنه بعدما وطد تولادجي سلطته، بدأ من جديد عمليات نهب تكللت بالنجاح، فقد هاجم ذات مرة قافلة من السفن الإنجليزية، كانت تسير تحت حراسة شديدة، واستطاع - على الرغم من النيران التي أطلقتها عليه سفينتان حربيتان - أن يستولي على خمس سفن شراعية، وفي عام 1749م، وبعد معركة استمرت من الظهيرة إلى منتصف الليل، وقعت في يده أفضل سفينة كانت في خدمة بريطانيا في بومباي، وهي السفينة «ريستورشن».
ولم يمض زمن طويل حتى بسط هذا القرصان سلطانه على ساحل مالابار بأسره، ولو لم يتم إرسال نجدة من أربع سفن حربية مسلحة أفضل التسليح من مدارس تم تخصيصها لحماية بومباي، لأصيبت الملاحة التجارية في هذا الميناء بالشلل التام. عندئذ فقط أدركت الشركة أن الوسيلة الوحيدة الفعالة للدفاع عن سفن النقل هي حراسته بسفن حربية مسلحة تسليحا جيدا تعمل بانتظام.
على أية حال، لم تكن السفن الإنجليزية وحدها هي التي تعاني من هجوم قراصنة مالابار عليها، فقد كان البرتغاليون، والهولنديون، هم أيضا يفقدون كل عام عددا كبيرا من سفنهم التجارية العاملة في المحيط الهندي. وكانت أكبر خسارة حلت بالهولنديين في عام 1754م عندما استولى القراصنة على إحدى السفن المحملة بالذخائر، وبعد معركة حامية الوطيس أغرقوا سفينتين أخريين.
نظرا لتعاظم قوة الاحتلال البريطاني في الهند، فقد بدأ نفر من القراصنة الهنود في السعي نحو عقد اتفاقات مع السلطات في بومباي، وبمرور الوقت أرسل حتى تولادجي الجبار مبعوثيه إلى بومباي عارضا المصالحة. لا شك أن شروطه كان من الممكن قبولها في ذلك الزمن، عندما كان أبوه ما يزال على قيد الحياة. أما الآن فقد تغيرت موازين القوى بشدة لتميل لصالح المحتل الأجنبي؛ ولهذا السبب قوبل العرض الذي تقدم به تولادجي بإعطاء السفن الإنجليزية «شهادة حديدية»، تكفل لها الحق في الملاحة الحرة في المياه التي يسيطر عليها القراصنة برفض قاطع.
في عام 1739م عقد الإنجليز اتفاقا مع دولة ماراتهي الواقعة جنوب غربي الهند، بشأن النضال المشترك ضد القراصنة برا وبحرا. وفي الثاني والعشرين من مارس 1755م أبحر الأسطول الموحد البالغ قوامه خمسين سفينة من مختلف الطرز بقيادة وليم جيمس، الذي ظل يقود القوات البحرية لإنجلترا في هذا الإقليم لمدة أربع سنوات باتجاه سافاندورج التي يحتلها القراصنة. وفي التاسع والعشرين من مارس بلغ الأسطول المكان المحدد، لم يعقد القراصنة عزمهم على الدخول في معركة، وإنما لاذوا بالفرار. إبان المطاردة التي استمرت طوال اليوم التالي، وجد الأسطول نفسه مشتتا في البحر الواسع الممتد، عندئذ أصدر جيمس أمره - بعد أن ترك عقب المطاردة - بالعودة إلى سافاندورج.
كانت المدينة تقع على حافة صخرية تطل على البحر من شبه الجزيرة، تحرسها «القلعة الذهبية» المسلحة بخمسة وأربعين مدفعا، وإلى جنوبها توجد قلعتان أخريان. أدرك جيمس أن الحصار قد يستمر لمدة لا تقل عن شهر؛ ولهذا قرر اقتحام القلعة من جهة البحر، فاقترب بسفنه منها، حيث أخذت مدفعيتها تمطرها بوابل من النيران طوال يومين كاملين، اختفت بعدها قلعة القراصنة من فوق سطح الأرض.
غمرت الفرحة سلطات مدينة بومباي بهذا الانتصار، واتخذ قرار بتدمير قلعة القراصنة التالية في جريا، وهي قلعة أكثر تحصينا من الأولى، في الحادي عشر من فبراير عام 1756م خرج من بومباي أضخم أسطول قامت بتسليحه المدينة في تاريخها، فإلى جانب ثماني عشرة سفينة حربية ثقيلة تولى قيادتها الكومانور جيمس، أبحرت ست أخرى من بينها أربع بوارج بقيادة اللواء بحري واطسون. وعلى متن السفينة كانت هناك فرقة من قوات المشاة قوامها 800 أوروبي و600 من الجنود المحليين تحت قيادة روبرت كلايف. وطبقا للتعليمات التي صدرت إلى قائد الحملة، فقد حظرت سلطات المدينة الدخول في أية مفاوضات مع تولادجي، وما إن اقتربت الحملة من جريا، حتى وجدت هناك جيش ماراتهي الذي قام قائده بإبلاغ الإنجليز، أن بإمكانهم الاستيلاء على القلعة دون طلقة واحدة؛ إذ إن تولادجي قد أعرب عن استعداده للتفاوض. طلب واطسون أن يكون الاستسلام دون قيد أو شرط، الأمر الذي رد عليه تولادجي بالرفض، عندئذ بدأ الإنجليز في قصف القلعة.
كان تولادجي قد حشد في الميناء أسطولا قوامه ثمان وخمسون سفينة حربية، على رأسها «ريستورشن» السفينة الحربية التي كان قد تم له الاستيلاء عليها منذ ست سنوات خلت. وبعد قصف دام ساعتين، اشتعلت «ريستوريشن» نتيجة لسقوط شظية فوقها، وانفجرت لتنشر الدمار في السفن التي كانت واقفة في مساحة ضيقة. وها هي ألسنة النيران تلتهم الأسطول الذي أشاع الرعب بطول ساحل مالابار لمدة نصف قرن كامل.
فيما بعد نزل كلايف إلى الشاطئ على رأس قواته، بعد أن اتخذت قواته مع قوات ماراتهي موقعا لهم في مواجهة القلعة. امتدت نيران السفن المشتعلة إلى الأسواق والمخازن المليئة بالبضائع والموجودة على الشاطئ، وأصبح الهدف أمام السفن الحربية الإنجليزية واضحا جليا. في صباح اليوم التالي أرسل واطسون إلى القراصنة عضوا من أعضاء البرلمان، يطلب منهم مرة أخرى الاستسلام. رفض تولادجي الامتثال لهذا الطلب، فجدد الإنجليز القصف بعد أن كانوا قد أوقفوه، وفي الوقت نفسه أخذ كلايف في مهاجمة القلعة من اليابسة، في الرابعة بعد دوي انفجار هائل رفع بعده المحاصرون الراية البيضاء.
وفي القلعة جرى اكتشاف كميات من الذهب والفضة والنفائس تبلغ قيمتها مائة وثلاثين ألف جنيه استرليني. وقد تم تقسيم هذه الغنائم بين القوات البرية والقوات البحرية. وكان من نصيب دولة ماراتهي تولادجي نفسه الذي لم يرغب في أن يستسلم للإنجليز، فسلم نفسه للمهاراتهيين وظل أسرا لديهم حتى وافته المنية.
وضع الاستيلاء على جريا في واقع الأمر نهاية للقرصنة على ساحل مالابار، وظلت سواحل مالابار - التي لم تقع إطلاقا في أيدي الغزاة الأوروبيين - زمنا طويلا محط أنظار لصوص البحر. كان القراصنة يختبئون في خلجان الجزيرة من العواصف والمطاردات، وهناك كانوا يتربصون لسفن التجار الهولنديين والبرتغاليين والإنجليز، التي كانت تبحر عبر رأس الرجاء الصالح، فينهبون ما على ظهرها من بضائع وبخاصة الفلفل، والقرفة، والعاج، والقرنفل، والكافور، والحرير، والديباج، والأحجار الكريمة، والحلي، ثم يبيعونها في موانئ نيوانجلند، حيث لا يهتم أحد بأصلها.
قرر توماس ماتيموز - الذي سبق ذكره، والذي كان قد تشاجر مع الجميع في بومباي - العودة إلى مدغشقر، وإنهاء مهمة القضاء على القرصنة التي كان قد كلف بها. وما إن وصل ماتيوز إلى خليج كارينتر عند جزيرة موريشيوس، حتى وجد رسالة له مكتوبة بالفحم على القبر الحجري للكابتن كاربنتر، يفهم منها أن القراصنة قد أبحروا إلى فورت وفين، وهي قلعة تقع في جزيرة سانت ماري. على الفور انطلق ماتيوز على إثرهم ليلحق بهم. على أنه، وبعد أن وصل بأسطوله إلى المكان المحدد، لم يعثر للقراصنة على أي أثر في الجزيرة.
وقف الزعيم المحلي على سطح السفينة عارضا على ماتيوز خدماته مستقبلا القادمين باعتبارهم فرقة أخرى من القراصنة. عب الزعيم المحلي مع الإنجليز الكئوس المليئة بخليط من ماء البحر مع البارود، كما اعتاد القراصنة الذين كانوا أحيانا ما يزورون الجزر أن يفعلوا، مقترحا على الجميع أن يشربوا نخب الصداقة. بعد أن أنهى الزعيم مهمته، ظهر على سفينة ماتيوز ضيف آخر غير عادي، عبر بدوره عن عظيم احترامه للكابتن، كان رجلا أبيض يدعى جيمس بلانتاين، قرصان، وفي الوقت نفسه واحد من أغنى ملاك الأرض في الجزيرة. اعتاد السكان هنا أن يسموه «ملك رانتر. باي»، كان الضيف مسلحا يرافقه عشرون حارسا، وبدلا من أن يقوم ماتيوز باعتقال بلانتاين، عقد معه صفقة تجارية مربحة، فباع له قبعات ومشروب العرق. دفع «ملك رانتر. باي» مقابلها - كما يفعل الملوك بحق - ذهبا وماسا.
بعد أن غادر بلانتاين السفينة، ترك البضائع التي اشتراها على الشاطئ تحت حراسة ملاحظي الرقيق. على أنه ما إن ابتعد بلانتاين، حتى أصدر ماتيوز أوامره إلى طاقمه بإعادة شحن البضائع جميعها إلى السفينة غير عابئ باحتجاج الحراس، ثم ما لبث أن أبحر إلى البنغال، بعد أن أخذ معه، علاوة على ذلك، عددا من سكان الجزيرة.
يعتبر جيمس بلانتاين، الذي سرقه ماتيوز واحدا من أكثر شخصيات عالم القرصنة في مدغشقر ترفا. بدأ جيمس احتراف القرصنة منذ أن كان يافعا في نيوانجلند، وقد تعلم هذه الحرفة على يد «أستاذ» من أمثال وليمز صاحب السفينة «تريب». على ظهر هذه السفينة أبحر بلانتاين إلى غينيا، حيث انضم إلى القراصنة الذين كانوا يعملون على ساحل غرب أفريقيا. وبعد أن أثرى جيمس بشكل لا يستهان به، ترك هذه العصابة واستقر به المقام في «مرانتر. باي»، حيث شيد قلعة صغيرة يعيش فيها كما لو كان ملكا حقيقيا.
كون جيمس بلانتاين من بين عدد من السكان المحليين لواء صغيرا، ولكنه حسن التسليح، جيد الإعداد، كما جند عددا آخر ليعملوا في حاشيته، بل إنه اتخذ لنفسه كذلك حريما من أجمل فتيات الجزيرة، كان يطلق عليهن أسماء إنجليزية: مولي، كايت، سو، وبجي. على أن كل ذلك لم يكن كافيا بالنسبة له، فإذا به يشتهي حفيدة ميساليدج ملك الجزيرة، وكانت تدعى إليانورا. فأرسل إليه بالخطاب، لكن الملك ديكا - كما كان الشعب يسميه - رفض عرض القرصان بشكل قاطع، الأمر الذي اعتبره بلانتاين إهانة له، فدخل معه في حرب انتهت بهزيمة ديكا، وما إن عاد بلانتاين إلى قلعته حتى أطلق من فيها من الحريم، وتزوج من إليانورا.
كان قرصان «مرانتر. باي» يبني خططا طموحة للغاية، كان الرجل يعتزم أن يصبح ملكا على مدغشقر بأسرها، ومن هنا فقد بدا أنه قد تورط في شبكة معقدة من المؤامرات السياسية. بدأ القرصان عمله باستكشاف رأي المحتلين الأوروبيين بهدف استمالتهم إلى جانبه، ثم أخذ يقيم الولائم الفاخرة للهولنديين، والفرنسيين، والإنجليز، الذين كانوا يقيمون في الجزيرة، بالإضافة إلى ذلك فقد تخير رجلين ليعملا لديه كمستشارين، أحدهما أسكتلندي، والآخر دنماركي، دعاهما ليقيما معه. على أن السكان لم يكونوا يكنون مشاعر الحب لهذا الملك غير المتوج. فلما استشعر بلانتاين أن تمردا يعد ضده، أعد زورقا أبحر به وزوجه إلى ساحل مالابار، حيث استقبل استقبالا حافلا من جانب أنجريا.
إلى هنا لم يعرف مصيره بعد ذلك.
جون آيفري المحظوظ
لم يكن جون آيفري المحظوظ - الشهير بابن الطويل - بحارا ذا خبرة إذا ما قورن بغيره من القراصنة، فهو لم يقم بغير عدد قليل من الرحلات البحرية قبل أن يبلغ سن الرشد، على أنه في عام 1680م قرر التطوع بالعمل صبيا على إحدى السفن التجارية في بلايموث، واضعا نصب عينيه هدفا وحيدا، هو أن يصبح قبطانا لسفينة قرصنة، كان جون يعلل النفس بهذا الحلم، بعد أن استمع إلى العديد من الحكايات الخيالية من البحارة الذين كانوا بديفون مسقط رأسه.
7
بمرور الزمن تلقى جون عرضا ليشغل منصب ضابط على إحدى سفن القرصنة اسمها «دوق»، كانت تبحر من بريستول إلى كاديس
8
وعلى الفور وافق جون آيفري دون أدنى تردد، وكان قد بلغ من العمر آنذاك ثلاثة وعشرين عاما، واكتسب بعض الخبرة في شئون الملاحة البحرية، وها هو يقرر أن الحظ قد ابتسم له في النهاية.
طال الوقوف في ميناء كاديس انتظارا لأوامر الحكومة الإسبانية التي كانت قد استأجرت هذه السفينة لمحاربة القراصنة الفرنسيين في منطقة جزر الأنتيل. أثار الانتظار المستمر - في هذا الميناء الممل - السخط بين أفراد الطاقم الذين كانوا يأخذون أجورا منخفضة، عندئذ قرر آيفري - الذي ظل سنين طويلة يحلم بامتلاك سفينة خاصة - أن ينتهز الظروف التي سنحت له الآن.
ظل جون آيفري، على مدى الليالي الطويلة التي كان بحارة «دوق» يقضونها في حانات الميناء في احتساء الخمر، يعمل ذكاءه وفصاحته في إشعال السخط بينهم راسما لهم آفاقا مغرية للغنائم الثمينة. ولم يتطرق الشك في هذا إطلاقا إلى قلوب البحارة، الذين استمالهم جون آيفري ليصبحوا قراصنة، فصدقوه من فورهم، وهم العارفون تمام المعرفة بالوضع في البحر الكاريبي، وعلى الجانب الآخر من رأس الرجاء الصالح، وهكذا تحولت أحاديث المساء تدريجيا لتأخذ شكل المؤامرة، وعندما صدر الأمر بمغادرة كاديس، كانت الأغلبية العظمى من البحارة على أهبة الاستعداد للتمرد. ما إن خرجت «دوق» إلى عرض البحر، حتى اختلق آيفري حجة ما، فخرج على مقصورة القبطان، الذي كان جالسا منصرفا إلى لعب الورق، واقترح عليه تحويل السفينة من سفينة مرتزقة إلى سفينة قرصنة. ظل القرصان جيبسون يتفرس طويلا في عيني الضابط الشاب محاولا أن يكتشف نياته الحقيقية، ومن ثم يتخذ قراره. كانت يد البحار العجوز قد استراحت فوق جراب المسدس، الذي لم ينزل آيفري عينيه من عليه. في الوقت نفسه أخذ البحارة يتجمعون فوق سطح السفينة، في انتظار ما سوف تسفر عنه المباحثات، بعد أن تلقوا تعليمات مسبقة من آيفري، بشأن الإجراءات التي يجب عليهم اتباعها في حالة انهيار هذه المباحثات.
شرع جون آيفري في إغراء جيبسون قائلا: سوف تظل - إن شئت - قبطانا لسفينتنا، إننا لا نتخذ منك موقفا عدائيا بصفة خاصة. وفي النهاية، جاءت النهاية المفاجئة، فإذا بجيبسون يأخذ خطوة إلى الخلف، ويسحب مسدسه من جرابه، لكنه لم يستطع أن يستخدمه، فقد تلقى القبطان ضربة قوية في فكه أفقدته توازنه. وبحلول الليل، كان جيبسون وثلاثة آخرون من الطاقم رفضوا الانضمام إلى المتمردين قد وضعوا في قارب، وقد سمح آيفري لهم أن يأخذوا معهم أمتعتهم الشخصية، وزودهم بالماء، والخمر، والخبز الجاف، وأنزلهم إلى المياه.
بهذا بدأ جون آيفري يشق طريقه في عالم القرصنة، وعلى الفور قام بتغيير اسم السفينة، فأصبحت «تشارلز الثاني»، ثم غير مسارها من الغرب إلى الجنوب، بمحاذاة سواحل غرب أفريقيا. وكان من الضروري أن تتزود السفينة إبان إبحارها الطويل باحتياطات من المواد الغذائية، غير أن آيفري لم يكن يمتلك نقودا لشرائها؛ ولهذا قرر الاستيلاء على إحدى القرى البرتغالية الصغيرة الواقعة في جزر الكناريا، وقد لجأ القراصنة إلى حيلة استهدفوا من ورائها القضاء على الرغبة في المقاومة لدى سكان القرية، بأن قاموا بإطلاق الرصاص في الفضاء محدثين جلبة شديدة عند هجومهم، ولم يسعوا للجوء إلى العنف، وتجنبوا بمهارة إراقة الدماء، لم يفكر السكان البيض في الجزيرة، الذين أخذوا بغتة في منتصف الليل في الدفاع عن أنفسهم.
على أن القراصنة لم يجدوا في مخازن القرية الصغيرة كمية كافية من الغذاء. ومن حسن الحظ فقد كان البرتغاليون الذين اجتاحهم الذعر، على قدر كبير من لين العريكة، حتى إنهم اقترحوا بأنفسهم الحصول على الغذاء من النقاط المجاورة، لكن هذا الأمر بدا لآيفري مدعاة للشك، فطلب منهم تسليم عدد من السكان البارزين باعتبارهم رهائن، شحن آيفري الأغذية التي حصل عليها على المركب، وكذلك الرهائن، ثم خاطب سكان القرية قائلا: سوف أنتظر المواد الغذائية ثلاثة أيام، وإنني أضمن لكم حسن معاملة الرهائن، ولكن ويل لهم إذا لم تحفظوا عهدكم.
نجحت خطة القراصنة، فبعد عدة أيام استطاعوا أن يواصلوا طريقهم بهدوء.
قبل أن يصل آيفري إلى خليج غينيا، نجح في الاستيلاء على ثلاث سفن إنجليزية تحمل شحنة كبيرة من الحرير، والجذور، والعاج، والمشغولات الذهبية والفضية. وهكذا فقد فاق نشاطه في الأسابيع القليلة الأولى في هذا المجال الجديد، أكثر أحلام شبابه شجاعة عن مهنة القرصنة.
وصل آيفري بعد رحلة استمرت ثلاثة أسابيع حول رأس الرجاء الصالح إلى مدغشقر على رأس أربع سفن محملة بالغنائم، وقد كان وصوله إلى هناك أمرا مثيرا للغاية، فقد كان القراصنة المتقاعدون ينظرون إلى هذا الفتى، الذي استطاع أن يزهو بما حققه من نجاح بأعين تملؤها الغيرة، وإن كانت هذه النظرات نفسها لا تخلو في ذات الوقت من الاحترام والتقدير. على أن عجوزا ما، يبدو من سماته أنه كان قرصانا، لم يستطع أن يقبل بكون الشباب قد انتزعوا منه إكليل الغار، فراح يؤكد في كل مكان أنه سوف يقطع لهذا الجرو أذنيه، ويرغمه على السكوت، وحتى لا يقال عنه: إنه جبان؛ فقد قبل آيفري الدعوة التي وجهت إليه للقتال بالسيوف.
كان المجد الذي حققه آيفري باعتباره قبطانا، وكذلك شبابه، والحظ منقطع النظير الذي حالفه من جانب، والشهرة التي كان العجوز يتمتع بها باعتباره قبطانا لا يقهر من جانب آخر، من الأمور التي ساعدت على تحول هذه المبارزة إلى عرض مسرحي. كان لفوز جون آيفري في هذه المعركة، أثره في تدعيم مركزه بين قراصنة مدغشقر، لقد أصبح حليفا له وزنه، وعدوا يخشى بطشه، وراح الجميع الآن يسعون لكسب وده.
عندما عرف آيفري أن أسطول مغول الأكبر
9
يرسو في ميناء موكا العربي الشهير، في انتظار أعيان دلهي العائدين من الحج في مكة، توجه إلى البحر الأحمر، واضعا في حساباته غنيمة من الذهب والنفائس. ظل آيفري بضعة أيام يتربص بالقرب من ميناء موكا، حتى لاح في الأفق أسطول مغول الأكبر المكون من ست سفن كبيرة. هاجم آيفري من وضع الحركة أكبر السفن، وكانت سفينة رائعة ذات شراع، بنيت في إحدى الترسانات الإنجليزية، ثم أمطرها بوابل من القذائف، وأشعل النيران في شراعها، ثم هاجمها بأسلوب التصادم. وبعد أن قذف بالسفينة العاجزة عن الحركة إلى مصير مجهول، أسرع القرصان في مطاردة سفن أسطول المسلمين الأخرى.
فجأة تلبدت السماء بغيوم رمادية، وبدأت عاصفة قوية، كانت الأمواج الهائلة تقصف سطح السفينة، أما الظلام الكثيف الذي غطى المكان، فلم يكن ينقشع إلا من حين إلى آخر بواسطة البرق، الذي كان يخطف سناه الأبصار. كان المطر ينهمر شديدا قويا، وساد الذعر سطح السفينة، وغطى دوي الريح على صوت القائد.
لم يعد آيفري يفكر في السفينة ذات الشراعين، التي استولى عليها، ولا في كنوز مغول الأكبر، لقد كثف جل جهده للصراع مع الطبيعة. وفي النهاية أخذت العاصفة التي ظلت تعوي طول الليل في الهدوء، وبدا أن الخطر قد زال، ولكن آيفري اكتشف، عندما صحت السماء بعض الشيء، وقد أصابه الرعب، أن سفينته على وشك الاصطدام بصخور الشاطئ. وفي هذه المرة أيضا، يكون التوفيق والحظ، إلى جانبه، فينجح بطريقة ما في الخروج ب «تشارلز الثاني» من تيه الصخور الكامنة تحت الماء.
كم كانت دهشته بعد أن خرج من منطقة الخطر، عندما لاحت أمام عينيه السفينة التي استولى عليها بالأمس، تنساب مع المياه! لقد حمل الصباح الجديد لآيفري مفاجأة أخرى: لم تكن السفينة الشراعية تحمل ذهبا فقط، فمن بين كوكبة وجهاء البلاط كانت هناك ابنة مغول الأكبر نفسه. كانت الأميرة تبدو منتعشة، باسمة الوجه، تماما كما لو أن أحداث الليلة الماضية لم تكن تعنيها، فاستقبلت آيفري استقبالا جديرا بها كسليلة لملوك.
انعقدت بين الفتى والفتاة أواصر صداقة، تحولت على مدى الرحلة الطويلة إلى حب جارف. وبعد أن وصل آيفري والأميرة الجديدة إلى مدغشقر، أعلنا عن عزمهما الزواج، الأمر الذي أصاب رجال بلاط مغول الأكبر بالاستياء الشديد، لكن آيفري وعد بإطلاق سراحهم، لو وقعوا على عقد زواجه على الأميرة بوصفهم شهودا عليه. ومن عجائب المصادفات أن يكون هناك قس بروتستانتي بين القراصنة، أغراه المال الوفير، فوافق على مباركة هذا الارتباط.
أوفى آيفري بعهده، فأطلق سراح الأسرى، بل إنه شملهم برعايته حتى تم توصيلهم إلى الهند، إلا أنه بالرغم من حبه الشديد لزوجه، فإن هذا القرصان لم تعتره أدنى رغبة في أن يعيد إلى حميه سفينته التي استولى عليها، أو النفائس، إذ قرر أن هذه الدوطة
10
التي حصل عليها ليست كبيرة إلى هذا الحد بالنسبة لابنة إمبراطور. لكن «حماه» قرر أن ينتقم لهذه الإهانة التي تلقاها كأب، وكعاهل. وقد أدان ابنته لأنها لم تمتلك الشجاعة الكافية لأن تضع حدا لحياتها بالانتحار، بدلا من استسلامها لغزل القرصان، بالإضافة إلى أنه لم يكن يريد أن يفقد سفينته الشراعية الرائعة، وكنوزه الضائعة. صب الإمبراطور جام غضبه أولا، وقبل كل شيء، على شركة الهند الشرقية، ثم أعلن أنه سوف يهدم كل مبانيها ومنشآتها الموجودة فوق الأراضي الهندية، إذا لم تسارع الشركة بالقبض على القرصان.
أخذ رؤساء الشركة هذا التهديد مأخذ الجد، فتقرر تخصيص جائزة كبيرة مقابل رأس جون آيفري، إلا أن القرصان العاشق لم يكن يرى في هذا العالم، سوى بيته الذي كانت تزينه الأميرة الحسناء. في الوقت الذي ظلت «تشارلز الثاني» راسية في الميناء، وتحول طاقمها إلى رجال فاسدين، لا أمل فيهم، من جراء وجودهم لفترة طويلة على الشاطئ. وفي النهاية قرر آيفري الخروج إلى عرض البحر، وإلا انهار كل أسطول القرصنة الذي يملكه، إلا أن الحملات التي كان يشنها كانت نادرة وقصيرة.
استمرت الحياة العاطفية الرغدة بضع سنوات، حتى وصل آيفري في النهاية إلى استنتاج مفاده أنه أصبح غنيا بما فيه الكفاية، وأن بإمكانه أن يبدأ حياة أسرية هادئة في أي ركن من أركان الأرض، لم تصل إليه أنباء أعماله الإجرامية. رأى آيفري أن زوجه سوف تشعر بالسعادة لو أنه وفر لها احترام «المجتمع الراقي»، وابتعد بها عن أجواء القرصنة، فاتجه في عام 1696م إلى بوسطن، وقد حمل سفينته بكل ثروته، واصطحب معه أقرب الأصدقاء.
وصل آيفري إلى أمريكا تحت اسم مستعار، لكنه لم ينجح في الاختفاء من شكوك المحافظ، الذي لم يكن يولي المهاجرين ثقته، فلم يكن أمام آيفري إلا أن يلجأ إلى أسلوب الرشوة ليزيل العقبات من طريقه، ولكنه كان يشعر أن أحواله في أمريكا ليست على ما ينبغي، ربما بسبب حنينه إلى وطنه، سواء كان هذا هو السبب أم أنه كان هناك سبب آخر؛ فقد رحل على الفور إلى شمال أيرلندا، حيث باع سفينته، وودع أصدقاءه القدامى، فكان هذا تأكيدا لقراره الحاسم بهجر حياة القرصنة بلا رجعة.
والآن بعد أن تخلى الحظ عن آيفري بعد ما رافقه طويلا، ومجرد أن حاول استثمار جزء من المجوهرات المسروقة في دبلن، ثارت الشكوك في نفوس التجار تجاهه، فاضطر من جديد إلى تغيير اسمه، ومحل إقامته. وكان انتقاله هذه المرة إلى إنجلترا، حيث ديفون مسقط رأسه. هناك تولى أحد أصدقائه القدامى في منطقة تدعى بيدفورد، العمل كوسيط له في بيع المجوهرات، إلا أن آيفري هاجم عصابة من محتالي لندن، كانوا قد دفعوا له عربونا بعد أن وعدوه بتسديد المبلغ الباقي فيما بعد، وعلى الرغم من تذكيره المتكرر لهم، فإنه لم يتمكن من استرداد ما تبقى له لديهم من أموال، لم يكن باستطاعة آيفري اللجوء للقضاء لأسباب غنية عن التفسير. مرت بضعة أعوام توفي بعدها آيفري في أشد حالات الفقر، لاعنا تلك الساعة التي قرر فيها أن يعيش حياة شريفة.
على أن آيفري لم يمت بالنسبة لمن جاءوا بعده، فها هو دانيال ديفو مؤلف «روبنسون كروزو» يخلد اسمه في كتاب بعنوان «حياة القبطان الشهير سينجلتون ومغامراته»، الذي على أساسه كتب تشارلز جونسون بعد ذلك كوميديا «القرصان المحظوظ».
قراصنة أصحاب رسالة
ولد ميسون في منطقة البروفانس المشمسة في جنوب فرنسا، وكان من أسرة كثيرة الأطفال، ولما توسم فيه والداه الموهبة، فقد أحسنا تعليمه، حتى أنهى المدرسة الثانوية، وأرسلاه بعدها إلى الأكاديمية العسكرية في مدينة أنجي. قرر ميسون - بعد أن أنهى الأكاديمية - أن يصبح بحارا، فأخذ في تعلم فنون الملاحة البحرية، بنفس الحمية التي تعلم بها باقي العلوم، وعلى الفور حقق نجاحا باهرا أدهش أساتذته، على أنه في بعض الأحيان، يتحدد مصير الإنسان على نحو غير عادي، فإبان الرسو الطويل للسفينة التي كان يخدم على ظهرها ميسون في خليج نيابوليتان، طلب من القبطان فورين السماح له بالسفر إلى روما؛ ليتسنى له مشاهدة آثار «المدينة الخالدة».
التقى ميسون في روما بشخص كان له تأثير كبير على نظرته، كان هذا الشخص هو الدومينيكاني كاراتشيولي، الذي أخذ في بسط أفكاره على الفتى، وهو يعرض عليه كنائس وقصور روما، كانت هذه الأفكار في أساسها تتعارض مع مذهب روما الكاثوليكي الأرثوذكسي. تحولت الدهشة التي استمع بها ميسون إلى الأفكار الغريبة لهذا الدومينيكاني، إلى اهتمام عميق بالهواجس الاصطلاحية التي تدور في رأس القس.
كان هذا الفيلسوف الفذ يؤكد أن العقبة الرئيسية أمام تطور العلاقات الأخوية الحقة بين البشر تكمن في وجود النقود ... يكفي أن نزيل هذا الاختراع الشيطاني حتى يختفي تقسيم البشرية إلى طبقة تملك، وأخرى لا تملك، كما يختفي أيضا معها الجشع، أصل كل الشرور. اقترح ميسون - الغر، عديم الخبرة، الذي تحمس بكل جدية لهذه الأفكار الطوباوية - على كاراتشيولي أن يترك ملابس الرهبان، ويصبح بحارا، بعد أن يتطوع للعمل على السفينة «فيكتوار»: «يجب ألا نفترق مطلقا يا أستاذي العزيز». قالها ميسون باضطراب، وقد اقتنع تماما أنهما بالذات قد اختيرا لحمل رسالة حددت لهما دور الحواريين لإيمان جديد، وأنهما جاءا لإنقاذ البشرية.
كان القس سعيدا؛ لأنه نجح في إدخال أول تلميذ إلى عقيدته، وعبر بدوره عن رغبته في ألا يفترقا. لعبت ثروة هذا التلميذ المبتدئ دورا لا يستهان بصفتهما دعما كبيرا للدخل المتواضع الذي كان يحصل عليه الدومينيكاني، هكذا بدأت سلسلة المغامرات الخطيرة التي خاضها هذان الرجلان الفريدان، الغريبا الأطوار، اللذان لم يفترقا حتى النفس الأخير.
وسرعان ما أثبت كاراتشيولي أنه يصلح للعمل على ظهر السفينة أكثر مما يصلح لخدمة الله، بعد مرور يومين من مغادرة «فيكتوار» لميناء نابولي، قامت هذه السفينة بالهجوم على سفينة قرصنة مسلحة على نحو جديد. لم يتطرق الخوف إلى قلوب القراصنة من جراء ظهور هذه السفينة الحربية، بل حاولا الاستيلاء عليها. جرى التحام شديد بالأيدي بين الجانبين، سقط على إثره عدد كبير من بحارة «فيكتوار»، وقد أظهر ميسون والقس السابق في هذه المعركة شجاعة فائقة، حتى إن القبطان فورين عني بأمر نقلهما - كنوع من المكافأة - إلى سفينة المرتزقة الفرنسية «تريومف» المخصصة للهجوم على السفن التجارية الإنجليزية. أثبت ميسون وكاراتشيولي إبان خدمتهما الشاقة في سلك المرتزقة، مقدار ما يتمتعان به من شجاعة، وها هما يعودان مرة أخرى إلى «فيكتوار» بعد أن نالا مجدا وشهرة لا ينالهما إلا المحاربون الصناديد، ليتخذوا طريقهما معها نحو جزر الأنتيل. لم تخمد المآثر الحربية التي اجترحها كل من ميسون وأستاذه من حميتهما لقضية إصلاح العالم، فراحا ينشران أفكار الحرية، والمساواة، والأخوة، بين أفراد طاقم السفينة، حيث وجدت هذه الأفكار أرضا خصبة، وعلى الفور أصبح جميع البحارة - باستثناء الضباط - متورطين في المؤامرة.
أخيرا قرر الفيلسوف البدائي أن يقوم بوضع خططه الطوباوية موضع التنفيذ، فدعا إلى التمرد على السفينة بهدف تحويلها إلى جمهورية صغيرة عائمة، إلى جنين لدولة المستقبل التي تحكمها مبادئ المساواة. كان على مبعوثي هذه العقيدة الجديدة - في رأي القس السابق - أن يطوفوا البحار السبعة؛ لينشروا مذهبهم في أقصى أطراف المعمورة، ولم يكن يعكر صفو الروح المرحة التي سادت الجميع، بعد أن صارت السفينة ملكا خالصا لهم، سوى الجدل الذي ثار حول اختيار العلم. البعض رأى أن يكون لونه أحمر بلون الدم، والبعض الآخر رأى أن يكون أسود. أخيرا احتدم الجدل حتى اتخذ طابعا عنيفا، مما حدا بكاراتشيولي أن يتدخل في الأمر قائلا: إنه ليحزنني ألا نتفق فيما بيننا - إننا لسنا بقراصنة، وإنما أناس أحرار، نحارب من أجل حق الإنسان في أن يحيا وفقا لقوانين الله والطبيعة. إننا نختلف تمام الاختلاف عن القراصنة ، غير أننا نبحث مثلهم عن السعادة في البحر؛ ولهذا فإنني أقترح أن نرفع راية بيضاء كتب عليها «في سبيل الله والحرية».
وافق الجميع على اقتراح «الفيلسوف»، أما بقية اليوم فقد قضاه ميسون مع أستاذه في إعداد مشروع دستور الجمهورية الوليدة. في نفس الوقت كانت السفينة - التي سرقت من الملك - تتأرجح في سكينة فوق أمواج البحر، ثلاثة وسبعون رجلا من طاقم السفينة لم يكن يعنيهم كثيرا هذه الخطط البعيدة لإقامة الجنة على الأرض. كان أهم شيء بالنسبة لها هو أغراضهم الدنيوية. كانوا يلحون في طلب المشروبات الروحية من رؤسائهم. فأقنع كاراتشيولي ميسون أن يجيبهم إلى طلبهم؛ لأنه كان يخشى أن يرفض البحارة تنفيذ خططه، فأجابه ميسون: لا مانع لدي ... إن تظهر أية سفينة في مرمى مدافعنا، فسوف نسد حاجاتهم إلى الكحول.
في اليوم التالي مباشرة، تلتقي «فيكتوار» بسفينة تجارية إنجليزية، فيقفز بحارتها إليها بعد أن أطلقوا نصف دستة من طلقات الإنذار، ويستولون على السفينة الإنجليزية دون مقاومة تذكر. تعامل المهاجمون مع السفينة بكل وداعة، وبحذر بالغ. اتجه ميسون بعد ذلك إلى الربان، واعتذر إليه لاضطراره أن يأخذ من السفينة ثلاثة براميل من الروم، وعلى الرغم من اكتشافهم لوجود ستة براميل بالمخزن ، فإن ميسون تمسك بعهده للربان، فلم يسمح لرجاله أن يأخذوا أكثر من البراميل الثلاثة التي طلبها، والتي تمثل نصف احتياطي السفينة.
في الوقت نفسه، أعلن البروفنسالي الشاب أنه وطاقمه ليسوا بقراصنة، إنما هم رسل لعقيدة جديدة، وما لبث أن أخذ في عرض المبادئ الأساسية لهذه العقيدة على الإنجليز الذين عقدت الدهشة ألسنتهم، واختتم ميسون حديثه معلنا أن كل بحار إنجليزي له الحق في الانضمام إلى الطاقم الفرنسي إذا شعر بميل إلى ذلك، انتهز ميسون الفرصة، فقرأ على الإنجليز محاضرة طويلة شرح فيها العقيدة التي يدين بها أعضاء جمهورية القرصنة العائمة، لم يكن القبطان «بطلر» ليصدق عينيه، لولا أن الشحنة بأكملها، وكذلك خزينة السفينة، وجميع المتعلقات الشخصية لطاقمها، ظلت سليمة لم تمس، الأمر الذي لم يسمع أحد إطلاقا أنه يمكن أن يحدث من جانب القراصنة، وسط هذه الملابسات الغريبة، قرر بطلر أن يقابل الإحسان بالإحسان، فجمع طاقمه كله على ظهر السفينة، وصفهم في صفين، وأمرهم أن يؤدوا التحية إلى القراصنة، وأعلن القبطان أنه يعتبر ميسون وكاراتشيولي سادة محترمين بكل معنى الكلمة.
ظل ميسون ورجاله بعد ذلك يسلكون هذا النهج تماما كلما احتجزوا سفينة، فكانوا يحتجزون المواد ذات الأهمية القصوى التي يحتاجون إليها بشدة في اللحظة الراهنة وعلى رأسها: المواد الغذائية، المشروبات الكحولية، البارود، والذخائر دون أن تمتد أيديهم إلى الأشياء الأخرى، غير عابئين على الإطلاق بالأموال، والحلي، والبضائع، ولم يحدث على الإطلاق أن حرموا أطقم السفن التي هاجموها من المواد الغذائية، بل كانوا «يستعيدون» مالا لا يزيد عن نصفها. كان هؤلاء القراصنة في غاية الكرم على نحو خاص، فإذا ما دفعتهم الضرورة إلى الرسو على الشاطئ لإصلاح عطب ما ألم بالسفينة، أو لأي سبب اضطراري آخر، لم يكونوا يلجئون إلى العنف، أو حتى لمجرد التهديد، وفي كل مكان كان ميسون وكاراتشيولي، يلقون بعظاتهم، داعين الفقراء للتمرد على الظلم وطغيان المال.
أثارت الخطب الحماسية التي اتسمت بتماسك شديد، لا يمكن أن يصدر عن قراصنة، جدلا كبيرا في صفوف ضحاياهم، نجح ميسون في كبح جماح طاقمه، فقضى على عادة السكر والسباب، وغرس فيهم الشعور بالاحترام المتبادل، والتعامل مع النساء، والشيوخ، والضعفاء، بنبل وفروسية. بالطبع فإن هؤلاء البحارة لم يتحولوا بين عشية وضحاها إلى ملائكة، لكنهم بدءوا في التصرف كما يتصرف ذوو الأخلاق الحميدة، مما جعل كاراتشيولي يعقد آمالا جادة على إنقاذ أرواحهم. أخيرا داعب القراصنة الحنين إلى منطقة الأنتيل، فشدوا رحالهم إلى سواحل غرب أفريقيا، وهناك تم لهم الاستيلاء على السفينة الهولندية «نيفستان» التي كانت في طريقها إلى أمستردام. ولما تبين لميسون أن السفينة تحمل بضاعة حية تتمثل في عبيد سود، جمع رجاله وخطب فيهم، وقد استبد به الغضب قائلا: هاكم مثالا على القوانين والأعراف المخزية التي نحاربها! هل من الممكن أن نجد أمرا منافيا للعدالة الإلهية مثلما نجده في المتاجرة بأناس أحياء ؟ هل من الممكن أن يباع هؤلاء التعساء كما لو كانوا قطيعا من الماشية، لمجرد أن لون بشرتهم يختلف عن لون بشرتنا؟ إن هؤلاء اللصوص الذين يتكسبون من وراء تجارة الرقيق لا روح لهم ولا قلب. إنهم يستحقون العذاب الأبدي في نار جهنم، إننا ننادي بالمساواة بين البشر جميعا بلا استثناء. وعلى هذا، وبناء على ما نؤمن به من أفكار، أعلن أن هؤلاء الأفارقة أحرار، وأدعوكم جميعا يا إخوتي أن تعلموهم لغتنا، وديننا، وعاداتنا، وفنون الملاحة البحرية، حتى يتمكنوا من كسب قوتهم من عمل شريف، ويتمكنوا من الدفاع عن حقوقهم الإنسانية.
ما إن انتهى ميسون من خطبته، حتى دوت الأصوات في وئام: عاش القبطان ميسون.
لم يفهم البحارة الهولنديون لفظا واحدا من الخطاب الذي ألقاه ميسون، ومن ثم ظلوا يحملقون،
11
وقد أخذتهم الدهشة في هذه المظاهرة. على أنهم وقد أدركوا الحالة النفسية التي عليها رجال ميسون، طلبوا في دهاء أن يسمح لهم بالانضمام إليهم، فأجيب طلبهم بشرط الخضوع التام لقواعد الجمهورية العائمة.
انتزعت القيود والأصفاد عن الرقيق الأسود، وأعطيت لهم الملابس التي أحضرها التجار لبيعها، فارتدوها، ثم جثا الأفارقة على ركبهم أمام محرريهم اعترافا بفضلهم عليهم. وما هي إلا أيام معدودة حتى كان على ميسون أن يعض إصبع الندم؛ لأنه وافق على قبول غرباء وسط جماعته، فإذا كان الأفارقة يتميزون بالوداعة والطاعة محاولين كسب رضا محرريهم، فإن الأمر كان مختلفا بالنسبة للهولنديين، الذين سرعان ما أخذوا يخلقون المتاعب. لقد بدءوا في إفساد طاقم «فيكتوار» بالسكر والسباب وأنواع السلوك المنحط الأخرى.
لم يكن أمام ميسون، والحال على هذا النحو، إلا أن يتوجه إلى معلمه طلبا للنصيحة التي تضيء له الطريق، بعد أن اقترح إنزال الهولنديين عند أقرب شاطئ. غير أن كاراتشيولي، الذي كان متحمسا لدعوته، رأى أن على الجماعة أن تبذل قصارى جهدها، وأن تعمل على إصلاح حال الهولنديين ... هذا ما اتفقنا عليه.
جمع ميسون الفرنسيين والهولنديين جميعهم، وقد حزم أمره على أن يعيد تربية هؤلاء الجدد، فقرأ عليهم موعظة طويلة، حذرهم فيها أن وجود الجمهورية العائمة وأمنها سوف يتعرضان للخطر، إذا لم يغير الطاقم من سلوكه. وفي ختام كلمته أعلن ميسون أنه من الآن فصاعدا، سوف يعاقب كل بحار يخرج عن طاعة الله بخمسين جلدة. لقد شعر ميسون بمرارة الإحباط بعد أن اقتنع أن التهديد وحده هو الذي أفلح في تحقيق النتائج التي لم تفلح في إحرازها الطيبة والتسامح. الآن فقط أصبح الهولنديون يطيعونه ويحترمونه، ويسمونه ب «القبطان الطيب». في الوقت نفسه أخذت آراء معلمه كاراتشيولي تأخذ منحنى آخر. ها هو يعلن أنه في المرحلة الأولى من عملية إنقاذ البرية، لن يمكن - مؤقتا - التخلي عن النقود تماما، وأنه سوف يتحتم التعامل معها باعتبارها شرا لا بد منه، بل إنه أعلن أن النقود يمكن أن تكون وسيلة مفيدة لتحقيق نياتنا الحسنة. نتيجة لذلك اعترف بأن من المستحب جمع المال، وأقنع ميسون بأن يتخلى عن تحفظه القديم، وألا يستخف أكثر من ذلك بالكنوز التي تنقلها السفن. أخذ القبطان نيات معلمه بحسن نية، فالرجل قد أعلن أنه سوف يصبح بإمكانهم إقامة جمهورية ديمقراطية على الأرض، بعد أن يجمعوا المصادر المالية الضرورية.
وهكذا عاد ميسون ليصبح لصا بحريا، وإن كانت الأمانة تقتضينا أن نقول هنا إنه كان أكثرهم إنسانية وعطفا، فعندما كان رجاله يستولون على أية سفينة غريبة، كانوا يتجنبون استخدام العنف الذي لا مبرر له، كما أنه لم يكونوا يتعاملون بقسوة وغلظة مع طاقمها، ناهيك عن أنهم كانوا يقدمون العون الضروري للجرحى والمرضى، وعندما كان يتبين لهم أن السفينة التي أخذوها لأناس متوسطي الحال يعيشون من كدهم - كالصيادين على سبيل المثال - كان ميسون يتركهم لحال سبيلهم، دون أن يأخذ منهم شيئا، بل كان يعتذر لهم عما أحدثه من اضطراب، وفي المقابل لم يكن ليرحم الأغنياء، فكان يستولي على كل ما تطوله يداه.
لسنوات عدة ظلت جزيرة أنجوان (إحدى جزر القمر)، هي القاعدة الرئيسية التي ينطلق منها ميسون في حملاته للقرصنة في المحيط الهندي. هنا بالتحديد قرر أن يؤسس جمهوريته، حاول ميسون أن يكتسب ثقة أهل الجزيرة، فسعى إلى استمالتهم إليه، وقد نصحه كاراتشيولي أن يتزوج من ابنة زعيمهم. الفكرة على أية حال ليست مبتكرة، ولكنها مبشرة بالنجاح. على أنه لم ترق ابنة الزعيم لميسون، فقد تزوج من أخت الزعيم نفسه، وهي شابة تتمتع بالجمال. تم الزفاف في جو من الأبهة والفخامة، ثم ما لبث عدد كبير من الطاقم أن حذوا حذو رئيسهم، فتزوجوا من فتيات الجزيرة.
لكن خطط إقامة الجمهورية على أرض هذه الجزيرة اصطدمت بالعديد من المصاعب والعقبات؛ إذ كان السكان شديدي الارتباط بدينهم وعاداتهم القديمة، ولم يفهم ملك الجزيرة ولا زعماؤها معنى الاصطلاحات التي جاء بها الأغراب إليهم، بالإضافة إلى أنهم لم تكن لديهم أدنى رغبة في التنازل عن المزايا الإقطاعية التي كانوا يتمتعون بها. أخيرا فقد الزعيم صبره، فاستهان بعلاقات النسب مع ميسون، وبدأ يهدده بالحرب إذا لم يتخل عن أفكاره الإصلاحية. استسلم القراصنة لليأس، فحملوا زجاجاتهم، وأطفالهم، وممتلكاتهم، على ظهر سفينتهم، وأبحروا إلى مدغشقر، حيث أقاموا في أحد خلجان الساحل الشرقي للجزيرة متجنبين بذلك الاتصال بالقراصنة الآخرين الذين كانوا يحتلون الجانب الغربي من الساحل. كان رجال ميسون يأملون أن يحققوا هنا حلمهم، وقد عاملهم أهالي مدغشقر بكل ترحاب. بعد نزول ميسون وكاراتشيولي إلى الشاطئ، وقد صاحبتهما مراسم احتفالية مهيبة، أعلنا على الفور قيام جمهوريتهما المثالية التي أسماها «ليبرتاليا».
12
وخلافا لمخاوف الصديقين من أن يعوق مزاج المغامرات الذي طبع عليه القراصنة في أن يعتادوا حياة الدعة والاستقرار، فإن هؤلاء ما لبثوا أن باشروا العمل بسرعة، وعن طيب خاطر، وأظهروا انضباطا تغبطهم عليه كثير من المنظمات الحكومية في ذلك الزمان. وبفضل ما تمتعوا به من حب للعمل، استطاع مواطنو ليبرتاليا أن يبنوا في وقت قصير بلدة صغيرة تضم مباني سكنية مريحة، وأخرى للأغراض الاقتصادية، بل إنهم أنشئوا أيضا تحصينات قوية تتيح لهم الدفاع عنها من الهجوم والمطاردة؛ إذ إن سكان ليبرتاليا لم ينقطعوا عن مهنة القرصنة المربحة على الرغم من أفكارها السامية، وحتى يؤمنوا ظهورهم، فقد عقدوا حلفا مع القبيلة المحلية، على أن يدافعوا عنها ضد القبائل الأخرى، وضد الأوروبيين، في مقابل الأيدي العاملة، والمساعدة المسلحة.
كانت الجمهورية تحكم بواسطة مجلس يرأسه ميسون الذي حمل لقب «الحامي»، كان هذا المنصب يتم شغله بالانتخاب لمدة ثلاث سنوات. لم تكن الجمهورية تعترف بالملكية الخاصة. بالطبع كانت هناك خزانة عامة، ولكنها كانت تستخدم فقط لإشباع حاجات ومواطني الجمهورية. وكانت البضائع التي يتم الحصول عليها، تقسم طبقا لمبادئ محددة، بحيث يتمتع الأوروبيون والسكان المحليون بحقوق متساوية. لم تكن هناك أية مكافآت خاصة تمنح مقابل العمل؛ لأنه كان يعتبر واجبا على كل مواطن. أما كاراتشيولي - الذي قام بكتابة دستور الجمهورية - فقد اختير وزيرا للدولة، كما شغل القبطان تيو، القرصان الإنجليزي الشهير الذي انضم بطاقمه إلى جماعة المواطنين الأحرار، فقد تولى منصب القائد الأعلى للأسطول.
بمرور الزمن، انضم إلى الجمهورية - فضلا عن الإنجليز - بحارة كثيرون من أجناس أربعة لتصبح جمهورية القراصنة أشبه ببرج بابل،
13
وأصبح التفاهم هنا يتم بأربع لغات: الفرنسية، والإنجليزية، والهولندية، والبرتغالية، ناهيك عن عدد كامل من اللهجات المحلية. في الوقت نفسه لجأ ميسون إلى توسيع حدود جمهوريته من أجل تحقيق مخططاته، وفي البداية راح يكتشف ساحل مدغشقر، فطاف حول الجزيرة على ظهر السفينتين «أنفاس» و «ليبرتي»، اللتين تم صنعهما في الترسانات الخاصة بالجمهورية، وعكف على وضع خارطة مفصلة للمياه المتاخمة للجزيرة، إبان عملية رسمه للخرائط كان يحرر العبيد، ويأتي بهم إلى ليبرتاليا.
ازدهرت ليبرتاليا، وانقسمت الجماعة إلى فريقين: فريق يعمل مباشرة في القرصنة، والآخر - وهو يرتبط رسميا وماديا بالأول - يعطي جهده لأعمال الزراعة ورعاية الماشية والعمل بالحرف، لكن الكارثة حلت بغتة، لقد شنت القبائل الموجودة بالمناطق الداخلية للجزيرة، والتي كانت تعيش في فقر مدقع هجوما على البلدة الغنية الواقعة على البحر، فقتلت أعدادا كبيرة من السكان، وفر جزء من السكان إلى البحر طالبين النجاة بحياتهم مستقلين السفن، لكنهم ما كادوا ينجحون في الفرار من الموت على الأرض، حتى أصبحوا فريسة لمصائب الطبيعة في البحر، حيث وقعوا في قلب الإعصار ذاته، وهكذا استقرت في القاع أحلام ميسون وكاراتشيولي وطاقمهم في إنقاذ العالم، وبناء الجنة على الأرض!
ساحل القراصنة
كان الساحل الواقع شرقي شبه الجزيرة العربية والبالغ امتداده ما يزيد عن مائتي كيلو متر يسمى بساحل القراصنة، وترجع هذه التسمية إلى المستوطنات التي أقامها القراصنة هناك، والتي لم تجر إزالتها إلا في مطلع القرن الماضي.
لقد اعتبر الخليج الفارسي منذ أقدم العصور بأنه مهد للملاحة البحرية، هنا وجدت واحدة من أقدم الطرق التجارية التي ربطت بين الشرق والغرب، حيث تركزت فيه - لسنوات طويلة - تجارة الصين، والهند، من ناحية، وأوروبا وأفريقيا من ناحية أخرى في أيدي سكان شبه الجزيرة العربية، وقد ورد ذكر هذه التجارة التي استمرت خمسة آلاف سنة، أول ما وردت، على حوائط نينوى، وبابل. عمل العرب الذين عاشوا على ساحل الخليجين الفارسي والعماني أولا بالصيد واستخراج اللؤلؤ، وبمرور الوقت أخذوا في تطوير مراكبهم المسماة بالباركات، فأدخلوا التعديلات على أشرعتها، وزادوا من أحجامها، لينتقلوا بعد ذلك إلى النقل البحري الذي يدر عليهم أرباحا أكثر.
وقد مارس عرب مسقط التجارة مع عدد من البلاد، مثل: الصين، وسيام، وجاوه، وسومطرة، منذ القرن التاسع الميلادي، فكانوا يحملون التوابل، والعطور الشرقية، والحرير، والأقمشة الأخرى الغالية الثمن، بحرا إلى موانئ الخليج الفارسي. كان سكان عمان على وجه التحديد هم الذين تولوا مد المصرين القدماء باحتياجاتهم من المر، والزيوت العطرية الضرورية لعمليات تحنيط الموتى. أما البضائع المجلوبة من الشرق والمتجهة إلى موانئ الخليج الفارسي، فكانت تنقل شمالا عبر نهر الفرات وحتى بابل نفسها، ثم تحملها الجمال عبر الصحارى حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث تنقل عبره إلى المدن الغنية في أوروبا، وكانت المرحلة الأخيرة من هذه الرحلة الطويلة من اختصاص الفينيقيين، الذين كانوا يجنون من وراء عملهم بالوساطة أرباحا هائلة، لم يدخل البحر الأحمر كمنافس ناجح للخليج الفارسي إلا بعد خمسمائة سنة تقريبا.
لقد ارتبطت التجارة والملاحة البحرية في منطقة الخليج الفارسي ارتباطا وثيقا في تلك العصور بالقرصنة. آنذاك كانت هناك بضع قبائل من سكان الجزيرة العربية قد استوطنت شاطئ القراصنة، لكن قبيلة واحدة من بينها - وهي قبيلة القواسم الكبيرة العدد - هي التي كانت تعمل أساسا بالقرصنة، وهذه القبيلة لم يكن الأوروبيون يعرفون عنها شيئا حتى ذلك الحين، إلى أن عبرت السفن البرتغالية في القرن السادس عشر مضيق هرمز الواقع على الخليج الفارسي.
يتميز شاطئ القراصنة بكونه متعرجا، الأمر الذي ساعد على أن تتحول الخلجان والخور العديد إلى مخابئ وأوكار مثالية للسفن. كانت مدينة رأس الخيمة عاصمة قبيلة القواسم أحد آخر معاقل تجارة الرقيق في العالم، بل إنها كانت تمثل سوقا مفتوحا لتجارة البشر عند نهاية القرن التاسع عشر، وبانتقال طريق التجارة الرئيسي من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر، أخذ نشاط القواسم في القرصنة البحرية يتراجع تدريجيا، على أن ظهور المستعمرين الأوروبيين بعث القرصنة من جديد في هذا الإقليم، في عام 1763م تأسست شركة الهند الشرقية في ميناء بوشير،
14
فمكنت الأوروبيين من احتكار التجارة في منطقة الخليج الفارسي، الأمر الذي أفقد تجار الجزيرة العربية مصادر دخلهم، عندئذ بدأ هؤلاء في ممارسة التجارة الممنوعة والتهريب اللذين تحولا إلى قرصنة صريحة، كان لها تقاليد عريقة في هذا الإقليم، استمرت عدة قرون، كانت المرة الأولى التي مارست فيها قبيلة القواسم نشاطها في القرصنة على نطاق واسع في ديسمبر عام 1778م، عندما هاجمت ست باركات تابعة لهم سفينة إنجليزية، كانت تحمل بريدا حكوميا من المستعمرات إلى إنجلترا عبر الخليج الفارسي. بعد معركة شرسة استمرت ثلاثة أيام، استطاع قراصنة الجزيرة العربية الاستيلاء على السفينة واقتادوها إلى رأس الخيمة، فلما أدار رءوسهم هذا النجاح عادوا في العام الذي تلاه، فهاجموا سفينتين إنجليزيتين أخريين. وفي أكتوبر 1797م توج القراصنة نشاطهم الطويل بهجوم سافر، لا على سفينة تجارية مجردة من السلاح هذه المرة، وإنما على السفينة الإنجليزية «فايبر» إحدى سفن الأسطول الحربي، وكانت راسية في ميناء بوشير. كان القراصنة على وشك الاستيلاء على هذه السفينة؛ نتيجة للإهمال الجسيم الذي ارتكبه الوكيل المحلي لشركة الهند الشرقية، الذي قام - بناء على طلب قائد أسطول قبيلة القواسم بتوصية القبطان كيروزيرس قبطان السفينة فايبر - ببيع البارود وقذائف المدفعية للقراصنة.
وما إن وصلت براميل البارود إلى سفينة القراصنة، حتى سارعوا بعدها بفتح نيران مدفعيتهم على السفينة الإنجليزية، في الوقت الذي كان طاقمها بأكمله يتناول طعام الإفطار في اطمئنان كامل. على أن البحارة الإنجليز سارعوا على الفور بالصعود إلى سطح السفينة، ثم قاموا بفك حبالها، وانطلقوا بها إلى البحر، ثم اشتبكوا في القتال. كان أول من سقط في هذه المعركة البحرية الشرسة هو القبطان كيروزيرس نفسه، فعندما جرحت صدغه شظية، أخذ يحاول إيقاف النزيف الذي أصابه بمنديل يده، وبقي صامدا في موقعه حتى باغتته شظية ثانية هشمت رأسه. من بين خمسة وستين من أفراد طاقم «فايبر»، سقط اثنان وثلاثون بحارا بين قتيل وجريح.
وفي نهاية القرن الثامن عشر، يترك أبناء الشيخ جابر عتبة الأربعة من أهالي البحرين وطنهم، ليجوبوا مياه الخليج الفارسي على سفينتهم عدة سنوات، استقروا بعدها بالقرب من خليج يسمى خور حسن، حيث كونوا عصابات للقرصنة وترأسوها. وفي تلك الفترة لم تكن الدولتان المتنافستان: تركيا، وفارس، تمتلكان أساطيل قوية في هذه المنطقة تمكنهما من تصفية القرصنة العربية التي كانت قواعدها ترتكز في جزيرة قيس (منذ عام 1805م)، وكذلك في رأس الخيمة.
كان سلطان عمان النشيط الذي ظل فترة طويلة يقاوم لصوص البحر من أبناء قبيلة القواسم، هو واحدا من أعدى أعداء القراصنة في شبه الجزيرة العربية. وفي سبتمبر عام 1804م جهز سلطان عمان حملة لمحاربة القراصنة، بعدما بلغ به الغضب أشده نتيجة الهجوم المتكرر على شواطئ سلطنته. وتوجه السلطان على ظهر سفينة عربية صغيرة إلى باسيدا، حيث قرر التسلل من هناك إلى وكر القراصنة برا، وبحيث يتحرك أسطوله في نفس الوقت ببطء متابعا إياه بمحاذاة الساحل، لكن هذه الخطة المفتقدة إلى الحصافة كلفته ثمنا غاليا، فقد خرجت له بغتة من إحدى الخلجان الصغيرة ثلاثة زوارق مليئة بالقراصنة، وبعد معركة لم تدم طويلا سقط السلطان ورجاله قتلى.
كان لموت السلطان أثره في تهدئة القراصنة من قبيلة القواسم الذين قاموا بشن عدد من الهجمات الجريئة على السفن الإنجليزية. وكان الوحيد الذي استطاع إقناع الحكومة الإنجليزية بتنظيم حملة تأديبية ضد القواسم القبطان ديفيد سيتون، الذي كان يعيش في مسقط. قاد سيتون بنفسه أسطول الجزيرة العربية، وشن هجوما مباغتا على جزيرة قيس. وفي السادس من فبراير عام 1806م، وبعد مباحثات طويلة مع قوات الاحتلال البريطاني في بومباي، تم عقد اتفاقية مع القواسم في بندر عباس، التزم القراصنة بموجبها بإعادة السفن الإنجليزية التي كانوا قد استولى عليها، ودفع التعويضات، وعدم التعرض بعد ذلك للملاحة البحرية الإنجليزية، وفي الوقت نفسه سمح لهم بدورهم بالتجارة مع القراصنة الإنجليز، في المنطقة الواقعة بين سوارت والبنغال.
على أن الإنجليز ما لبثوا أن عرفوا على الفور الثمن الحقيقي لعقد اتفاقات مع القراصنة، لقد هاجمت أربع باركات تابعة للقراصنة سفينة إنجليزية تتبع شركة الهند الشرقية بعد الاتفاق مباشرة. وبمضي الوقت لم يعد العرب يخشون السفن الحربية الإنجليزية، حتى إنهم راحوا يهاجمونها بكل وقاحة بعد أن حالفهم النجاح في عملياتهم. وفي أبريل من عام 1808م شن القراصنة هجوما على السفينة الإنجليزية «فيوري»، وحاولوا الاستيلاء عليها بطريقة الهجوم بالمصادمة. كان كل تسليح «فيوري» يتمثل في ستة مدافع مما جعلها تبدو لهم غنيمة سهلة، إلا أن قائدها الملازم جوين أعطى اللصوص درسا لا بأس به .
وفي العام نفسه عاد القراصنة ليهاجموا السفينة الإنجليزية «سليف»، التي كانت في طريق عودتها من بوشير تحرسها سفينتان حربيتان، كان على ظهر إحداهما السير بريدجيس، الذي تم تعينه سفيرا في إنجلترا لدى فارس. وإذا بالسفينة «سليف» التي كانت تسير متأخرة قليلا عن السفينتين الأخريين تجد نفسها فجأة محاصرة بباركات القراصنة. التزم قبطان السفينة الملازم جريم بكل دقة بتعليمات سلطات بومباي، فلم يفتح النار إلا عندما اقتربت الباركات العربية من سطح السفينة، لكن الوقت كان قد تأخر لاتخاذ أي قرار. أباد القراصنة طاقم السفينة المغتصبة بأكمله، والذي بلغ عدد أفراده اثنين وعشرين رجلا. أما جريم فقد أفلت من الموت، فبعد أن أصيب بجرح بالغ في القتال المتلاحم، نجح في خضم الفوضى السائدة أن يسقط في إحدى الفتحات دون أن يلحظه أحد. اتجه القراصنة صوب رأس الخيمة، على أنهم التقوا في طريقهم بالفرقاطة الإنجليزية «نيدييد» التي نجحت في استعادة جريم وسفينته.
وفي العام 1808م نفسه وقع واحد من أغرب الصدمات بين الإنجليز والقواسم، فقد وقعت البارجة «فلاي» التابعة لشركة الهند الشرقية، والمجهزة بأربعة عشر مدفعا إبان وجودها في مياه جزيرة قيس في أيدي القرصان الفرنسي الشهير القبطان ليميم، الذي كان مبحرا على ظهر السفينة «فورتون». على أنه وقبل أن يستولي العدو على البارجة، ألقى قائدها القبطان ماينورانج بالبريد الدبلوماسي، والوثائق، وخزانة السفينة في البحر بعد أن حدد المكان على الخارطة، حتى يعود إليه في أقرب فرصة تلوح له؛ ليستخرج هذه الأشياء الثمينة. اقتيد ماينورانج واثنان من الضباط إلى جزيرة موريشيوس، بينما أطلق سراح باقي أفراد الطاقم في بوشير. ولما كان الضباط الذين نجوا، والموجودون في بوشير يعلمون أن البريد الدبلوماسي القادم من إنجلترا، والذي كان على ظهر البارجة، له أهمية سياسية فائقة، فقد اشتروا قاربا كبيرا، وقاموا على تسليحه، ثم أبحروا به في محاذاة ساحل الخليج باتجاه بومباي.
بعد جهود طويلة نجحوا في انتشال البريد الغارق، على أنهم التقوا عند أحد المضايق المؤدية إلى الخليج الفارسي بسفن القراصنة، مما اضطرهم للدخول معهم في معركة حامية الوطيس، كان للقراصنة التفوق العددي، ومن ثم تم أسرهم واقتيادهم إلى رأس الخيمة، حيث ألقي بهم في السجون أملا في الحصول من ورائهم على فدية كبيرة؛ لكن شهورا عدة مضت دون أن يتقدم أحد بالفدية. عندئذ قرر القراصنة التخلص من هم هؤلاء المساجين. هنا أخبر الإنجليز المحكوم عليهم بالموت زعيم القراصنة أنهم قد أغرقوا في مياه جزيرة قيس كنزا، باستطاعتهم أن يستخرجوه بواسطة غواصين مهرة إذا أطلق سراحهم بالطبع. وقد وافق اللصوص، ما إن وصل القراصنة إلى المكان الذي حدده الإنجليز، حتى أخذوا في الغوص في المياه واحدا بعد الآخر طمعا في الحصول على الغنيمة. وفي لحظة ما، بدا أن السفينة الراسية قد خلت تماما، فقرر الإنجليز أن الفرصة قد سنحت لهم للهرب، غير أن القراصنة الذين يسبحون حول السفينة لاحظوا السلوك الغريب من جانب أسراهم فعادوا إليها، ومنعوهم من الاستيلاء عليها.
على الرغم من هذا الحادث، فقد أوفى القراصنة بعهدهم، فأطلقوا سراح الأسرى بعد أن تمكنوا من العثور على الأموال من خزانة السفينة الإنجليزية. واتخذ الإنجليز مسارهم بمحاذاة الساحل في طريقهم إلى بوشير سيرا على الأقدام. كان الطريق في غاية الصعوبة، كما أنهم لم يكونوا على علم بلغة السكان. والآن، وبعد أن قايضوا كل ملابسهم بالماء والطعام، باتوا يواجهون الموت جوعا وعطشا. اثنان فقط استطاعوا الوصول إلى بوشير: الضابط جوليو، والبحار ببنيل، لكنهما ما إن وصلا في النهاية إلى بومباي ومعهما البريد الدبلوماسي القيم، الذي بذلا من أجل إنقاذه كل هذا الجهد؛ إذ بهما يقابلان بكل برود وغطرسة من جانب المحافظ وانكين، وذلك بدلا من كلمات الشكر والترحاب.
ومع مطلع القرن التاسع عشر كانت القرصنة قد انتشرت في مياه الخليج الفارسي، إلى حد أنها تسببت في انهيار التجارة والملاحة البحرية في هذه المنطقة تقريبا. عندئذ، قررت شركة الهند الشرقية، التي كانت مصالحها قد أضيرت، أن تأخذ على عاتقها محاربة القراصنة على نحو مستقل. فقامت - مستخدمة ما لها من نفوذ كبير - في تنظيم ثلاث حملات ضدهم. قامت الشركة بحملتها الأولى في عام 1806م، تلتها حملتان عامي 1809 و1810م.
في عام 1809م أعد القواسم أسطولا قوامه ثلاث وثلاثون سفينة ضخمة (بلغ عدد الطاقم العامل على بعضها ثلاثمائة شخص، بينما تراوح تسليح الوحدة منها ما بين أربعين إلى خمسين مدفعا)، إلى جانب ثمانمائة وعشرة من المراكب أقل حجما، بلغ إجمالي بحارتها تسعة عشر ألف شخص. في مواجهة هذا الأسطول جهزت السلطات في بومباي في سبتمبر من عام 1809م أسطولا مكونا من ثماني عشرة سفينة، قرر قائد الحملة العقيد لايوتبل سميث، بعد أن طالت مماطلة حكومة فارس في الرد على ما اقترحه الإنجيلز عليها بخصوص الانضمام لهم في العمليات ضد القراصنة، قرر التوجه إلى مسقط، حيث طلب مساعدة اثنين من شيوخ عمان. وفي الحادي عشر من نوفمبر وصلت السفن إلى المكان المحدد، ألا وهو رأس الخيمة عاصمة قبيلة القواسم. استولت الوحدات العسكرية التي أنزلت على شاطئ المدينة، وكذلك المواقع الحصينة بها، وقد سمح سميث لجنوده أن ينهبوا ما شاءوا، وأن يحرقوا البلدة. تم تدمير ما يقرب من ستين سفينة كانت راسية في الميناء، وقتل ثلاثة آلاف شخص، وتم أسر ألف آخرين. انتهت الحملة بتدمير مائة وعشرين سفينة من سفن القراصنة وإغراقها، ثم اتجهت بعد ذلك النصر الذي حققته إلى وكر القراصنة الثاني من ناحية الحجم الواقع في ميناء شفاس لتعمل فيه التدمير على النحو السابق. في هذا الوقت قام الأسطول الفارسي - الذي انضم إلى الحملة - بمطاردة قراصنة القواسم الذين فروا من باسيدا.
نقل قراصنة القواسم نشاطهم إلى البحر الأحمر، واستطاعوا بالفعل أن يوقفوا الملاحة بين الهند وميناء موكا، واستطاعوا في عام 1816م أن يستولوا على أربعة سفن تحمل بضائع ثمينة للغاية، مما دفع سلطات بومباي أن تطالب الشيخ حسن، شيخ رأس الخيمة، أن يدفع لها التعويضات المناسبة، لكن الشيخ لم يكتف بالرفض، بل طالب أن يعطى له حق الاستيلاء على السفن الهندية.
في السنوات التالية قام القواسم ببث الذعر على امتداد الساحل الهندي مهاجمين سفن الملاحة الساحلية التي كانت تسير على مسافة لا تبعد عن بومباي بأكثر من سبعين ميلا. كان عام 1817م هو العام الذي سجل فيه القراصنة رقما قياسيا في الاستيلاء على الغنائم، آنذاك كان أسطول القراصنة العرب مكونا من أربع وستين سفينة كبيرة، إلى جانب عدد هائل من الباركات، يعمل على ظهورها نحو سبعة آلاف قرصان.
قرر الإنجليز - بعد أن بلغ السيل بهم الزبى - أن يضعوا حدا للنهب البحري في الخليج الفارسي إلى الأبد، فتولى السير وجرانت كاير قيادة العمليات، فوضعت تحت تصرفه سفينتان حربيتان كبيرتان؛ «ليفربول» ذات المدافع الخمسين، و«إيدن» ذات الستة والعشرين مدفعا، أضف إلى ذلك ست سفن مرافقة، بلغت قوة الحملة ألفا وستمائة جندي أوروبي، وألفا وأربعمائة من الأهالي، كما استعانت الحملة الإنجليزية بدعم تمثل في ثلاث سفن من مسقط، وأربعة آلاف جندي عربي، دفع بهم السيد سعيد ملك عمان الذي تحالف مع الإنجليز ضد القراصنة.
في عام 1819م وضعت الحملة، وإلى الأبد، خاتمة للقرصنة في هذه المنطقة، وفي الثامن من يناير عام 1820م سارعت معظم القبائل العربية - خوفا من أن تواجه مصير قراصنة القواسم - بتوقيع معاهدة كان قد تم إعداد نصها، عرفت باسم المعاهدة العامة
General Treaty ، أقر بموجبها «السلام الوطيد بين الحكومة البريطانية والقبائل العربية». كان الهدف الرسمي للاتفاقية هو النضال المشترك ضد القراصنة، وضد تجار الرقيق في منطقة الخليج الفارسي، وفي الواقع كشفت هذه المعاهدة السياسية الاستعمارية لبريطانيا، التي كانت تسعى لإخضاع الدويلات العربية الساحلية لسلطانها. لقد وضعت معاهدة 1820م نهاية القرصنة، إلى جانب أنها محت أيضا استقلال دول الخليج الفارسي، وأصبحت هي الحلقة الأولى في سلسلة كاملة من المعاهدات التي أخضعت هذه الدول لبريطانيا.
في عام 1835م عاد الإنجليز من جديد، فأرغموا الشيوخ العرب على توقيع معاهدة تقضي هذه المرة بعقد هدنة بحرية
Maritime Truce ، وهكذا تغير اسم ساحل القراصنة، ليصبح ساحل المعاهدة
Trucial Coast . لقد تجددت المعاهدة الخاصة بالهدنة البحرية عدة مرات، حتى جعلها الإنجليز في عام 1853م هدنة خالدة، بل إنه حتى هذا الشكل من أشكال إخضاع ساحل شبه الجزيرة العربية، بدا لهم إجراء غير كاف. وما برحوا يفرضون على الدول العربية الواقعة على الساحلين الشرقي والغربي حمايتهم، على سبيل المثال: كان على شيخ البحرين - بناء على البنود الواردة في المعاهدة المبرمة عام 1861م - أن «يستأصل شأفة الحرب والقرصنة والرق» مقابل «الوصاية» التي تفرضها عليها بريطانيا.
في مقابل تمثيل شركة الهند الشرقية في بوشير - وهو التمثيل الذي فقد في الواقع طابعه التجاري - أنشئ منصب المندوب السامي البريطاني، الذي كان يمثل المصالح الرسمية لبريطانيا، في علاقتها مع الحكام العرب الواقعين تحت حمايتها. على الرغم من احتجاج كل من تركيا وفارس، فقد استقرت الهيمنة المطلقة للإنجليز على مياه الخليج الفارسي، ولم يعد للقراصنة فيه أي نشاط، أي ساد فيه «السلام البريطاني» و
paks
.
الفصل السابع
قراصنة بحار الجنوب
نظرة سريعة إلى خارطة جنوب شرقي آسيا تكفي لأن يقتنع المرء بأن هذه المنطقة التي تنتشر فيها الجزر هنا وهناك، تمثل ساحة مثالية للنهب البحري، فالسفن هي وسيلة النقل والاتصال الوحيدة بين الجزر العديدة، فهي تمثل مصدرا مهما للثروة. أما الخلجان المعزولة فهي بالنسبة للقراصنة أوكار رائعة، ليس من المدهش أن تزدهر القرصنة في هذا الجزء من العالم.
تعود أصول القراصنة الذين بدءوا في احتراف مهنتهم عند سواحل الصين وأستراليا إلى أهالي الملايو وإلى الدياكي بصفة أساسية، والدياكي صيادون سيئو السمعة، كانوا مجرد قبيلة من الصيادين والمحاربين في الوقت الذي كان فيه أهالي الملايو - الذين استقروا في جزيرة بورنيو - ملاحين ذوي خبرة حقيقية، على أن الدياكي انضموا بمضي الوقت إلى مجتمع قراصنة الملايو الذين قبلوهم بينهم، لما وجدوهم يتمتعون بمزايا المقاتلين الشجعان الرفيعة.
كان احتكار الشركات الأوروبية للتجارة وراء انتعاش القرصنة في هذه المنطقة، التي عمل سكانها منذ قديم الزمان كوسطاء في تبادل البضائع بين الشرقين الأقصى والمتوسط، بين الصين واليابان من ناحية، وفارس والجزيرة العربية من ناحية أخرى. بظهور الأوروبيين في المنطقة ساءت حركة الملاحة البحرية، وباءت التجارة بالكساد، ومن ثم بدأ تجار الملايو في ممارسة التهريب الذي سرعان ما تحول إلى نهب بحري صريح.
كان أول ضحايا قراصنة الملايو هي قوارب وجونكات مواطنيهم أنفسهم؛ إذ إنها لم تكن مسلحة تسليحا جيدا على غرار السفن الأوروبية. وبمرور الوقت سمحت الثروات التي جمعها القراصنة أن يمتلكوا جزرا بأكملها، أسسوا فيها دويلات صغيرة تعيش على النهب، فبعد أن استولى قراصنة الملايو على جزيرة سولا، وسواحل برناويس، وسلطنة بورنيو الشمالية، وكذلك على سواحل جزر مولوكا، مدوا نشاطهم إلى المحيط الهندي، فصاروا يهاجمون سفن الدول الاستعمارية التي كانت تدعم خطوط الاتصال بين كل من المستعمرات الآسيوية والدول المستعمرة الأم في أوروبا. كان لهذا الأمر صدى كبير في بريطانيا وهولندا والبرتغال، تلك الدول التي كانت تجني أرباحا هائلة من وراء مستعمرات في جنوب آسيا.
يعد القرصان «راجا» أحد أشهر قراصنة هذه المنطقة، وقد ظل لمدة سبعة عشر عاما يفرض سلطانه على مضيق «مكاسار»، الذي يفصل بين جزيرتي بورنيو وسيليبيس، وبفضل ما اجتمع له من صفات الشراسة، والإقدام، والذكاء، اشتهر باسم «أمير القراصنة».
في عام 1813م نجح «راجا» في مهاجمة ثلاث سفن إنجليزية والاستيلاء عليها، بل قام هو نفسه بالإطاحة برءوس قباطنتها، وسرعان ما أرسل الإنجليز بعد هذا الحادث سفنهم الحربية لمطاردة راجا، لم يأل الهولنديون جهدا في تقديم المعونة للإنجليز؛ إذ إن ممتلكاتهم في باتافيا (جاكارتا الآن) كانت تتعرض لهجمات منظمة من قبل «أمير القراصنة»، على أن هذه الحملة التأديبية لم يكتب لها النجاح.
وفي صبيحة يوم اكتنفته الغيوم، لاحظ قبطان إحدى السفن الشراعية الملاوية المعروفة باسم «البراو»، إحدى سفن الحملة الإنجليزية، وكانت تحمل اسم «إلك». وقد ظنها القراصنة سفينة تجارية، فاتخذوا قرارهم بالهجوم عليها، وما إن أصبحوا على مسافة مائتي متر منها، حتى أطلقوا صيحة الحرب، وفتحوا نيرانهم عليها، لم يكتشف القراصنة خطأهم الفادح إلا بعد فوات الأوان؛ إذ انهال عليهم وابل من القذائف، ما لبث على إثره «البراو» أن أخذت في الغرق، ولم ينج من أفرادها سوى خمسة أفراد.
لما بلغ «راجا» نبأ هذه السفينة، أقسم أن يحطم كل ما يقابله في طريقه من سفن أوروبية. وهذا ما حدث بالفعل، فعلى مدى سنوات عدة، بعد هذا الحادث، وصل عدد السفن التي استولى عليها «راجا»، وقتل أطقمها، ما يزيد على الأربعين سفينة. وقد انتشرت سمعة «راجا» المدوية إلى مسافة مائتي ميل من شواطئ جزيرة سيليبيس، حيث كان يحتفظ دوما من سفن «البراو» يتراوح ما بين خمسين إلى مائة جاهزة للخروج إلى البحر عند أول إشارة من الزعيم، أقام «راجا» نقاطا للمراقبة على قمم التلال في الجزيرة التي كانت تستخدم الرايات البيضاء نهارا والمشاعل ليلا؛ للإبلاغ عن أية سفينة تبدو لها في الأفق.
في سبتمبر عام 1831م وصلت إلى كوالاباتو - المعقل الرئيسي للقراصنة على الساحل الغربي لجزيرة سومطرة - السفينة الشراعية الأمريكية «فرندشب» تحمل شحنة من الفلفل. لم تكن هناك أية حراسة تحيط بالسفينة، الأمر الذي أتاح لمجموعة من الناس - بدا أنهم مسالمون - فرصة الصعود إلى سطحها دون عائق يذكر، وبغتة تنشب معركة على السفينة يروح ضحيتها تقريبا كل طاقمها الذي لم يكن متأهبا لقتال، ولم ينج منه سوى ستة من البحارة نجحوا في الهروب على متن أحد قوارب النجاة. عندما وصل خبر الهجوم على «فرندشب» إلى الولايات المتحدة الأمريكية، سارعت الحكومة الأمريكية على الفور بإرسال الفرقاطة «بوتوماك» إلى كوالاباتوا بقيادة الكوماندور داونيس، الذي تلقى أمرا بالقصاص من المجرمين.
وصلت إلى كوالاباتو السفينة الحربية، وقد تخفت في هيئة سفينة تجارية، وألقت بمرساتها في الميناء، وفي نفس الليلة نزل إلى الشاطئ ثلاثمائة بحار كانوا على متن «فرندشب»، يقودهم ضابط سابق، وفي الفجر هاجمت الفرقة الأمريكية القلعة، وبعد معركة حامية الوطيس استولت عليها، وقد جرى بعد ذلك إحراق البلدة وقتل سكانها، وبهذا اختفت قاعدة القراصنة في كوالاباتو من الوجود.
وفي عام 1842م تم تعيين جيمس بروك حاكما لولاية سرواك بجزيرة بورنيو، وكان الرجل يعي جيدا أنه لا سلام على الجزيرة دون استئصال شأفة القرصنة عليها، وفي يوليو عام 1849م قام بروك بالاشتراك مع القوات الإنجليزية بالتنكيل بقراصنة الملايو، بعد أن دمر لهم خمسين من سفن «البراو»، واستولى على ثمانين سفينة أخرى، وبعد شهر واحد وضعت الحملة التأديبية الإنجليزية خاتمة للقرصنة الملايوية في إقليم بورنيو.
وكان من نتيجة التقسيم الذي جرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بين هولندا وبريطانيا، أن أصبحت جميع جزر إندونيسيا تحت السياسة الاستعمارية باستثناء سلطنة أتشي في سومطرة، التي احتفظت باستقلالها بسبب التنافس الحاد بين الدولتين هولندا وبريطانيا، اللتين حاولتا كل منهما احتلال أكبر جزء ممكن من الجزيرة، على الاتفاقيتين اللتين أبرمتا في عامي 1815 و1824م تعهدت الحكومة البريطانية بألا تقيم أية قاعدة لها فوق أراضي أتشي، وقد تعهد الهولنديون من جانبهم باحترام استقلال السلطنة.
وحين انتهى الصراع على تقسيم إندونيسيا واستقرار الوضع نسبيا، بدأ المحتلون الهولنديون يشعرون بالضجر تجاه جارهم السلطان المستقل، كانت لاهاي تشعر بالقلق من أن يقع السلطان الضعيف فريسة لأية دولة ، ومن ثم يتحول إلى رأس جسر يمكن أن يمثل تهديدا لسيادة هولندا في المنطقة، على أن الفرصة لم تسنح للهولنديين للإطاحة بالسلطان. وكان الإقدام على حرب استعمارية جديدة، معرضا ألا يجد قبولا في هولندا نفسها، خاصة بعد المعارك الدموية البشعة التي جرت منذ فترة طويلة في جزيرة جاوا، ولكي يتمكن القائمون على الأمر من تبرير استعدادهم للعدوان على أتشي، أخذوا يكيلون الاتهامات للسلطان بزعم تورطه في أعمال القرصنة، مؤكدين على أن هولندا ملزمة بالقضاء على هذا الشر بناء على شروط الاتفاقات المعقود، وتجدر الإشارة هنا - إحقاقا للحق - أن بعضا من رعية السلطان كانوا لا يتورعون عن ممارسة النهب البحري، لكن هذه الممارسات كانت فردية وقليلة.
مرة أخرى تعود هولندا لتمزق الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقات المبرمة في عام 1871م بعقد اتفاق جديد بينها وبين إنجلترا، تتراجع فيه عن «حقوقها» في ساحل الذهب مقابل أن توافق إنجلترا على السماح لها بضم سلطنة أتشي. عندئذ لم يجد السلطان أمامه، إلا أن يلجأ لتركيا طلبا للعون، على أن تركيا - التي كانت قد أصبحت خاضعة لبريطانيا بعد حرب القرم - لم تشأ أن تثير ضدها الحلفاء. ومن ثم آثرت أن تقف بعيدا عن النزاعات والمؤامرات الاستعمارية، وفي أبريل عام 1873م، قامت هولندا بهجوم مسلح ضد أتشي، وبعد ثمانية أسابيع من المقاومة البطولية الباسلة انهزم جيش السلطان المكون من ثلاثة آلاف رجل، تحت ضربات الحملة العسكرية للفيلق الهولندي المكون من سبعة عشر ألف رجل.
أرو ودولوريس
كانت الحسناء أرو داتوي إحدى ثلاث بنات لأحد الرجوات من جزيرة بالاباك، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعلى مدى عشرين عاما تزعمت أرو عصابة من لصوص البحر، ظلت تمارس النهب والسرقة عند شواطئ الجزر الفلبينية، بل وجرؤت على نشر نشاطها حتى وصلت به إلى مشارف مانيلا ذاتها. كانت أور تهاجم جونكات التجار الصينيين الأثرياء والسفن الأوروبية والمدن الساحلية، وكانت كثيرا ما تقوم بأسر المواطنين الأغنياء بهدف أخذ فدية كبيرة مقابل إطلاق سراحهم، كما كانت تقوم بقطع أذن أسيرها التعس، وترسلها إلى ذويه باعتبارها دليلا ماديا، محافظة بذلك على تلك العادة البشعة التي انتشرت آنذاك في بحار الجنوب!
في حوالي عام 1860م أمضى تاجر قصب السكر الثري السنيور فيكتوريس من مدينة مانيلا ثلاثة أشهر أسيرا لدى أرو داتوي، وكتب قصة شيقة عن هذه الفترة، على أن هذا التاجر لم يستطع بدقة تحديد مكان إقامته؛ لأنه كان محبوسا طوال الرحلة في قفص عانى بداخله من شدة الحرارة والبعوض، وفي جزيرة القراصنة كانوا يعاملونه معاملة حسنة، على أمل أن يأخذوا في مقابله فدية كبيرة، استطاع هذا العجوز السمين المرح أن يكتسب عطف القراصنة؛ إذ كان قريب الصلة بالأوساط العليا في مانيلا، وكم من أمسيات قضاها يحتسي الكروم مع القراصنة، وهو يمتعهم بحكاياته المرحة، ويقال: إن أرو داتوي نفسها كانت تضحك بشدة، وهي تستمع إليه حتى تفيض أعينها من الدمع.
وفي أبرل من عام 1866م قرر الإسبان أن يضعوا حدا للقرصنة في منطقة الفلبين، اتجهت إلى جزيرة ميندانا - والتي كانت تمثل آنذاك القاعدة البحرية للصوص - حملة رأسها فرانشيسكو بافيا، وقد شارك في هذه الحملة ضباط متطوعون من مختلف البلاد، كانوا يتطلعون للدخول في حرب مع القراصنة باعتبارها مغامرة شيقة ورياضة من نوع خاص.
استطاع الإسبان عبر معارك دموية الاستيلاء على قلاع القراصنة قلعة تلو الأخرى، وفي الوقت نفسه أخذ القراصنة في الانسحاب إلى عمق الجزيرة عبر طرق سريعة لا يعرفها غيرهم ، وعندما اقتحم الإسبان آخر قلعة وقعت في أيديهم، قام جميع المدافعين عنها من الذين بقوا أحياء في الانتحار، وكان من بينهم أيضا أرو داتوي.
عام 1825م ظل القراصنة الملايو يخطفون سنويا ما يقارب الألفين من المستعمرين، أغلبهم من الإسبان، وقد أصبحت هذه الحوادث من الأمور المعتادة، حتى إنها أصبحت تمر مر الكرام، على أن بعضا من هذه الأحداث مثل مغامرات دولوريس الحسناء ابنة قائد إيلويلو الإسبانية في الفلبين، قد جرى وصفها لتصبح جزءا من تاريخ القرصنة.
عندما بلغت دولوريس من العمر ستة عشر ربيعا، أصبحت فتاة ذات جمال خلاب، الأمر الذي كان يشكل في تلك الأزمنة، وفي بلد مثل تلك التي عاشت فيها خطرا على فتاة شابة، غير أن أباها السنيور كرفاخول رأى أن مدافع القلعة الست، إلى جانب ثلاثين جنديا تحت إمرته، ثم العلم الإسباني بصفة خاصة، يمثلون ضمانا كافيا لأمن ابنته، ومن ثم أتاح لها حرية نسبية. اعتادت دولوريس - التي كانت تتمتع بالورع أيضا - اعتادت زيارة كنيسة صغيرة، كانت توجد وسط الحدائق القائمة عند أطراف المدينة على مشارف الأحراش، وعادة ما كانت تتنزه في الأمسيات قبل غروب الشمس وسط الصخور المتناثرة بامتداد شاطئ البحر مع محبوبها. وذات يوم لم تعد دولوريس من رحلة المساء، فتوجه الجنود الثلاثون على رأسهم السنيور كرفاخول، وجدوا في البحث عنها في كل أنحاء الشاطئ طوال الليل، وقبيل مطلع الصبح عثروا في إحدى المغارات القريبة من البحر على الشاب مطعونا برمح، كما عثروا على شال دولوريس ملقى على الأرض وعليه آثار دماء. أما الفتاة نفسها فلم يعثر لها على أثر، وقد شهد أحد الصيادين من أبناء الملايو بأن قاربين من نوع البراو مرا بجانبه، وكان في طريق عودته من رحلة، وكان من الواضح من حركة مجاديفهما أنهما في عجلة من أمرهما.
هز نبأ اختطاف ابنة رئيس القلعة الإسبانية سكان المستعمرة الفلبينية، على أن محافظ المدينة لم تكن لديه أدنى رغبة في أن يتورط في حرب مع كل قوى القرصنة في جنوب شرقي آسيا؛ من أجل أية سنيوريتا مهما كانت رائعة الحسن. صحيح أن القراصنة نكلوا بالمدنيين من السكان، لكنهم في المقابل لم يلحقوا أي أذى بالجيش الإسباني أو القس، كما أنهم لم يتجسروا على سرقة الأديرة أو مهاجمة الثكنات والحاميات العسكرية، ظلت هذه الهدنات الصامتة المبرمة دون كتابة بين المستعمرين الإسبان وقراصنة الملايو سارية المفعول لمدة طويلة وبدقة متناهية من قبل الجانبين، أضف إلى هذا أن السفن الإسبانية كان أمامها مهام أهم بكثير من البحث عن الحسناء المخطوفة، ولا سيما أن كرفاخول نفسه لم يكن يعرف من الذي اختطف ابنته بالضبط.
بعد مرور الوقت نجح الأب من خلال التجار والبحارة أن يعرف أن الفتاة موجودة في جزيرة خولو المنيعة التي تعد القاعدة الرئيسية للقراصنة، حتى إن الهولنديين القادمين من قلعة باتافيا (جاكارتا)، والذين تم إنزالهم في هذه الجزيرة بصحبة الفرسان والمدفعية، اضطروا للتراجع عنها، ليعودوا صفر اليدين، كما كان على السفن التي تنقل البضائع بين جزر سومطرة وتسيليبس ومكاو أن تحمل تصاريح خاصة موقعة من سلطان خولو، الذي كان - وفقا للتقاليد المحلية - وريثا لسلطان البحار، بالإضافة إلى أنه كان يتربح أيضا من أعمال النهب البحري. كان من الضروري أن يكون حائز التصاريح التي يصدرها سلطان خولو صينيا فقط؛ وذلك من أجل إضفاء جو الغرابة الشرقية على التقاليد المستقرة؛ ولهذا كان على أصحاب السفن أن يستأجروا هؤلاء الصينيين مقابل أجور مرتفعة، الأمر الذي كان يعد وسيلة أخرى للحصول على مكاسب إضافية، أي إنها كانت في الواقع جزية يتم تحصيلها من أصحاب السفن.
لقد تبين أن دولوريس بحالة طيبة، وذلك بناء على أنباء وصلت إلى والدها الذي كاد اليأس أن يفتك به. واتضح كذلك أنها موجودة لدى أحد كبار الموظفين الذين ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، والذين يعملون في بلاط السلطان، فقد كان هناك موظفون يعملون في حكومة السلطان في الشئون العسكرية وفي شئون التجارة والقضاء، وكان الرجل الذي توجد عنده دولوريس الحسناء موظفا مختصا في شئون القضاء، ويدعى ميرافال، كان يحيط الفتاة بكل أنواع البذخ الشرقي، آملا أن تبادله الفتاة مشاعره في نهاية الأمر.
قرر السنيور كرفاخول أن يدفع فدية مقابل إطلاق سراح دولوريس، فأرسل إلى الجزيرة صديقه القديم الذي كان فيما مضى بحارا رائعا، كما كانت تربطه علاقات صداقة بالقراصنة، غير أن الصديق عاد إلى إيلويلو بخفي حنين، فقد أعلن الموظف الكبير أنه لن يفرط في دولوريس بأي ثمن. مرت الأيام ولم يتوقف اهتمام الإسبان في جزر الفلبين بمصير دولوريس الحسناء، وأخيرا أرسل المحافظ إلى سلطان خولو بأحد كبار الموظفين يعرض فدية رسمية ضخمة مقابل إطلاق سراح دولوريس، على أن الرسول تلقى ردا بالرفض، كان من الواضح أن السلطان لا يتمتع بتلك السلطة المطلقة كما يتصورها البعض، بل بدا أنه مضطرا لأن يضع في اعتباره الأوليجاركية الإقطاعية التي يعتمد عليها، واضطر محافظ الفلبين تحت ضغط الرأي العام إلى أن يلجأ إلى عمل مظاهرة عسكرية، فأبحرت السفن الإسبانية في استعراض للقوة بالقرب من سواحل خولو نفسها، على أنه مكان، محظورا عليها تماما أن تبدأ هي العمليات العسكرية، وكان المحافظ يقصد بذلك مجرد التلويح بتهديد السلطان الذي أظهر في الواقع تماسكا ورباطة جأش، فلم يستفز، ومن ثم عادت السفن الإسبانية بخفي حنين.
ولم يكن باستطاعة دولوريس أن تعتاد بأي حال من الأحوال على حياة الأسر، كما أنها لم تشأ أن تستسلم لقدرها، ولا سيما أن البحارة والتجار الذين كانوا يأتون إلى خولو - والذين كانت أحيانا ما تلتقي بهم - كانوا يخبرونها بالجهود التي تبذل من أجل إطلاق سراحها، وقد أقنعوها أن حبيبها قد شفي من إصابته، وأنه سرعان ما يأتي إلى خولا لإنقاذها.
في الواقع كان الفتى العاشق قد لقي حتفه منذ زمن بعيد، ولكن تم العثور على فتى إسباني آخر يدعى مارتينيز، كان يمتلك قاربا صغيرا ذا شراعين. كان مارتينيز كثيرا ما يلاحق بنظراته دولوريس وهي ترتاد شوارع البلدة، ويكتفي بزفرات الحسرة من بعيد؛ إذ كانت الفتاة هدفا لا يمكن الوصول إليه لمن كان في مثل وضعه، فلما بلغه نبأ اختطاف دولوريس، اهتزت جوانحه بشدة، وقرر أن يذهب بنفسه لإنقاذها من أيدي القراصنة، وكان هذا القرار محض جنون مطبق، لولا أن مارتيزنيز كان إسبانيا حتى النخاع، فلم يتراجع عن عزمه قيد أنملة.
واستطاع مارتينيز - بعد وصوله إلى خولو - أن يكتسب بسرعة ثقة وعطف التجار المحليين بالتوابل، والعطور، واللؤلؤ، ثم أخذ يقص عليهم بفصاحة إسبانية حقيقية مغامراته العاطفية الفريدة، كان مارتينيز يظهر هنا وهناك، لعقد صلات المعرفة اللازمة له، وبفضل شخصيته المرحة استطاع أن يأسر قلوب سكان البلدة من القراصنة.
وأخيرا وصلت أخبار البحار الشاب إلى بلاط ميرافال، وكان الرجل آنذاك يشعر بالملل من جراء المهاترات الفلسفية التي كانت تدور بينه وبين «آسام»، وكان عالما ذا لحية، يعمل لديه في قصره. قرر ميرافال أن يستبدل الفيلسوف بشخص مرح محب للحياة، فكان أن رأى أن خير من يصلح لذلك هو مارتينيز، ولا سيما أن وجود شخص من بلديات دولوريس يمكن أن يجلب إليها شيئا من السرور. وسرعان ما أصبح مارتينيز من رجال ميرافا في البلاط، وكاتما لأسرار دولوريس التي أطلعها على خطة الهرب، وسرعان ما حانت الفرصة، فقد اعتاد الموظف الكبير أن يصطحب معه مارتينيز من حين لآخر إلى إحدى الجزر القريبة لمتابعة عمل صائدي اللؤلؤ، وذات مرة طلبت دولوريس من ميرافال - بناء على نصيحة مارتينيز - أن يأخذها معه ... اندهش الرجل لهذا الطلب في البداية، ولكن لأن كل رغبة للمحبوب كانت بالنسبة له أمرا، فقد وافق على الفور.
أبحرت زوارق الموظف الكبير في المقدمة تتبعها سفينة مارتينيز، حتى وصلوا جميعا إلى جزيرة صغيرة، وهناك تظاهرت دولوريس بالتعب، وركنت للجلوس في ظلال النخيل على الشاطئ، في الوقت الذي ذهب فيه ميرافال لمتابعة صيد اللؤلؤ، وما إن ابتعد حتى انطلق مارتينيز ومعه دولوريس إلى أحد الزوارق، فركباه، ومنه انتقلا إلى السفينة الشراعية. في البداية لم تثر هذه التحركات أية شكوك لدى خدم ميرافال، ولكن عندما لاحظوا أن الهاربين فردا الأشرعة، سارعوا بإبلاغ سيدهم، ولقد حالف الشجاعين الحظ، فقد آزرتهما ريح قوية، وما هي إلا لحظات حتى اختفت السفينة الشراعية عن الأنظار.
أدرك ميرافال المحنك أن قوارب البراو الثقيلة لن تمكنه من اللحاق بسفينة شراعية خفيفة الحركة، ولكن - ودون أن يضيع الوقت - أبحر بها في اتجاه خولو، وهناك أسرج أفضل حصان في إسطبل السلطان، وانطلق به إلى الشاطئ الآخر من الجزيرة. كان يعلم جيدا أن مارتينيز مضطرا للدوران حول الجزيرة، ليسير متقدما نحو الرأس البارز لها، وإلا لما استطاع الوصول إلى أيلويلو.
لم يول مارتينيز ولا دولوريس اهتماما بمن يلاحقهما، فقد كانا على يقين من نجاحهما، كما أنهما لم يقدرا خبرة ومهارة قراصنة الملايو. لم يتبق أمامها سوى الجزء العلوي من جزيرة خولو وينتهي الأمر تماما، وإذا بالريح بغتة تهدأ، وأسوأ من هذا إذا ببراوات القراصنة تظهر لهم في الأفق. هنا أدرك مارتينيز على الفور أن وضعه لا رجاء فيه، على أنه قرر أن يخوض المعركة إلى نهايتها كما يليق بإسباني، اقترح على دولوريس أن تهبط إلى قمرة أسفل السفينة، وأخذ في إطلاق النيران نحو البراوات التي كانت تتجه نحوه بسرعة، وبعد أن نفدت ذخيرته نزل ليقف عند باب القمرة التي بداخلها دولوريس منتظرا قدوم القراصنة وفي يديه مسدسان. أما ما آلت إليه هذه المعركة فليس من العسير التنبؤ به.
عفا الموظف الكبير عن هروب محبوبته التي ارتضت مصيرها نهائيا، بل إنها بدأت بعد ذلك في ارتداء الملابس على طريقة نساء الجزيرة، وتدهن شعرها بزيت الزيتون، ويمضي الزمن، وتلد دولوريس لزوجها عددا من الأطفال. يحكي البحارة الأوروبيون الذين كانوا يأتون إلى جزيرة خولو أن شيئا من البدانة قد أصاب دولوريس، ولكنها ما تزال امرأة جميلة كسابق عهدها، وعندما كانوا يتحدثون إليها كانت تسألهم عن وطنها وعن أبيها، ولكنها لم تبد أية رغبة في ترك وطنها الجديد.
كنز جزيرة جريجان
تحتفظ جزيرة جريجان الصغيرة الواقعة ضمن أرخبيل ماربانا أيلاند في المحيط الهادي في أعماقها بكنز تبلغ قيمته مليونان من القروش الذهبية، ويرتبط مصير هذا الكنز باسم القرصان روبرتسون.
كان روبرتسون الأسكتلندي الأصل صريحا في كراهيته للإسبان ولإسبانيا، ولكل ما يمت لها بصلة، وقد لعب هذا الإحساس دورا حاسما في مصيره، خدم روبرتسون في الأسطول البحري في تشيلي، ثم في بيرو، وذلك إبان ثورة التحرر الوطني في أمريكا الجنوبية، وأظهر مهارة فائقة أهلته للوصول إلى رتبة قبطان. في عام 1822م، علم روبرتسون أن شخصا يدعى بينافيدس يقوم بقيادة عدد من فصائل قطاع الطرق واللصوص الإسبان والهنود، يساعدون الإسبان في حربهم ضد جيوش التحرر الوطني التشيلي والبيرواني، وأنه يجري إمداده بالسلاح في مكان ما من إقليم كونسيبسيون في شيلي. كان روبرتسون آنذاك قبطانا للسفينة «جلفارين»، فأبحر بها إلى مدينة أراوكا، حيث تمكن رجاله هناك من القبض على رجل إسباني يدعى باتشكيو، يعمل ضابطا للاتصال، كان عائدا لتوه من معسكر بينافيدس، ولما رفض الضابط أن يخبره بمكان الفدائيين، أمر روبرتسون بربطه إلى شجرة وجلده، وقد أحدث الضرب أثره بالفعل، تركه روبرتسون الإسباني، وانطلق يطارد بينافيدس، حتى عثر على فرقته، فباغته ليلا، وأسر سبعين شخصا، أمر بإعدامهم في الفجر، غير أن بينافيدس ومساعده الإيطالي ومارتينيلي تمكنا من الفرار، جرى القبض على بينافيدس بعد ذلك في ميناء توبوكالما، وأطيح برأسه، وبعد إعلان استقلال شيلي صدر قرار بالعفو عن مارتينيلي ورفاقه.
بعد انتهاء الحرب بين إسبانيا وجمهوريات أمريكا الجنوبية، تغير أسلوب حياة روبرتسون كلية، فاستقر في جزيرة غير مأهولة تسمى «موتشا» تقع بالقرب من مصب نهر تيرو على بعد ثلاثين ميلا من خليج كونسيبسيون، على أن حياة روبرتسون الهادئة هذه لم تستمر طويلا، لقد عاد الإيطالي مارتينيلي الذي كان العفو قد صدر عنه إلى فالبراسيو، حيث عهد بقيادة السفينة التجارية «الأخوات الأربع» التي كان يمتلكها تجار كاكاو إسباني، كان طاقم سفينة مارتينيلي بأكمله تقريبا مكونا من رفاقه القدامى من عصابة بينافيدس، فلما عرف مارتينيلي أن روبرتسون بقي وحيدا في جزيرة موتشا، اتجه إلى هناك لينتقم لمن أعدموا من رفاقه، وعندما شاهد روبرتسون سفينة تحمل العلم الإسباني وتدخل إلى الخليج، أدرك على الفور أن خطرا يتهدده، وأسرع بالاختباء في غابة قريبة، غير أن رجال مارتينيلي استطاعوا بعد يومين من البحث أن يقبضوا عليه، وأن يزجوا به في زنزانة السفينة.
قرر مارتينيلي أن ينتقم من الأسكتلندي بنفس القسوة التي عامل بها رفاقه، فاتجه بالسفينة نحو أراوكا، حتى يقتل روبرتسون في نفس المكان الذي جرى فيه إعدام رفاقه، وفي طريق مارتينيلي وعصابته التي كانت تتكون من فئران برية أكثر منها ذئابا بحرية، إذا بعاصفة عاتية تهب عليهم. عندئذ تذكروا أن هناك بحارا محنكا محبوسا لديهم، فأخرجوه من محبسه - يكاد يتجمد من البرد - إلى سطح السفينة، وأعطوه كأسا من الروم حتى عاد إلى صوابه. لم يجد الإيطالي أمامه مخرجا آخر، فعهد بقيادة السفينة إلى روبرتسون. ابتعد الأسكتلندي بالسفينة عن شاطئ أراوكا، وما إن أخذ الجو في التحسن حتى قفز من السفينة، وسبح حتى وصل إلى سفينة اتضح أنها إنجليزية الجنسية.
كانت هذه الحادثة سببا ليزداد روبرتسون كراهية للإسبان، وما إن عاد إلى كونسبيسون حتى أرسل خطابا إلى مارتينيلي، أقسم فيه أن ينتقم منه أشد انتقام، ولكي يسهل على نفسه هذه المهمة عمل روبرتسون مساعدا لقبطان الأسطول البحري البيرواني يانج، الذي كان يقود السفينة المعروفة باسم «كونجرسو»، وكان من مهامه اقتفاء أثر القراصنة عند سواحل أمريكا، وبعد مغامرات عديدة خاضها روبرتسون طرأت على حياته بعض التحولات التي كان لها أكبر الأثر في مصيره فيما بعد. من هذه التحولات أنه وقع في الحب.
وكانت المرأة التي وقع اختيار روبرتسون عليها تدعى تيريزا منديس، الصديقة السابقة لمحافظ ليما الإسباني، كانت تيريزا أرملة جميلة متوسطة العمر، لكنها كانت تتمتع إلى جانب جمالها بقدر كبير من الحذر والحرص. ولما كان القبطان روبرتسون لا يتميز بجمال أو جاذبية خاصة، فقد استطاع أن يعتمد على عطفها، طالما أنها كانت تجني من وراء رابطتها به فائدة مادية، على أن الدخل المتواضع الذي كان يحصل عليه الضابط البحري، لم يكن يكفي لسداد مطالب تيريزا الجميلة، وكان روبرتسون مدلها
1
في حبه، حتى إنه كان مستعدا لأن يفعل أي شيء لمجرد أن يظل إلى جانبها.
وذات مساء حضر إلى منزل تيريزا أحد الضباط الشبان، وكانت تقيم حفل استقبال رسميا، وبينما هي جالسة في الشرفة وإلى جوارها روبرتسون توجه الضابط الشاب نحوهما، ودار بينهم حديث عن الكنوز، ثم إذ به يشير إلى السفينة الإنجليزية ذات الأشرعة الثلاثة «بيروفيان»، وكانت تقف على المرسى، وأخبر روبرتسون وهو بين الجد والهزل قائلا: لو امتلكت هذه السفينة فسوف تتخلص من مشاكلك إلى الأبد.
سأله روبرتسون: لماذا؟
فأجاب الشاب مبتسما: لأنها تحمل مليونين من القروش الذهبية، وقد رحل ربانها اليوم إلى ليما، اقتنص هذه السفينة، وسوف يكون المال لك!
تظاهر روبرتسون بأنه استمع لكلام الضابط باعتباره مزاحا لا أكثر، لكن اتضح فيما بعد أنه أخذه على محمل الجد. فور انتهاء الحفل توجه روبرتسون إلى إحدى الضواحي المشبوهة على أمل أن يجد هناك بعض الشركاء، وسرعان ما جاء ليسبح خلسة تجاه «بيروفيان»، وبصحبته أربعة عشر مقاتلا داهموا دون أدنى ضجة، وعلى نحو مفاجئ هاجموا طاقم السفينة الذي كان نائما، وبعد ربع ساعة كانت السفينة التي استولى عليها اللصوص في طريقها إلى عرض البحر.
وكان أول ما فعله صاحب السفينة الجديدة أن نزل إلى العنبر، ليتأكد مما تحويه الصناديق الكبيرة. ولقد كان الضابط الشاب على حق، إلا أن روبرتسون لم يكن يرغب في تقسيم الذهب بينه وبين شركائه، وإنما قرر أن يماطل في تقسيم الغنيمة، عندما أصبحت السفينة على مسافة من ليما، واتضح أن مخزون الماء العذب قد بدأ ينفد، فعهد روبرتسون إلى اثنين من الأيرلنديين هما: وليمز، وجورج بالتوجه إلى الشاطئ لإحضار الماء، على أنهما رفضا الانصياع للأمر - ومثلهم مثل الباقين - خوفا من أن يبحر رفاقهم ويتركوهم، ومن ثم فقد قرروا أن يتركوا شخصا واحدا يقوم بحراسة صناديق الذهب، وأن يذهب الجميع للحصول على الماء. كان لهذا الأمر أثره في إقناع روبرتسون بأن إخضاع مرءوسيه لقيادته أصبح أمرا بالغ الصعوبة، لا سيما أنهم أصبحوا شركاء، على أنه لم يفقد الأمل، واستمر يسوف في تقسيمه الغنيمة.
وأخيرا استدعى روبرتسون الجميع إلى سطح السفينة لاتخاذ قرار بشأن ما يجب عمله مستقبلا، كان البحارة الذين عاشوا من قبل فاقة
2
شديدة متعطشين للحياة الرغدة التي سيوفرها لهم ما سرقوه من ذهب، ولقد تخيلوا أن إقامة الجنة على الأرض أمر بالغ البساطة؛ نساء حسناوات، وبحر من الخمر، لعل من الممكن أن تتحقق هذه الحياة في إحدى الجزر النائية الخالية من البشر من جزر بحار الجنوب، ولقد تقرر الهجوم على تاهيتي للحصول على الروم والنساء، ثم الاستقرار في إحدى جزر ماريان.
وكان روبرتسون يعي جيدا أنه لن ينجح في أن يخدع العصابة بأكملها، عندئذ قرر التآمر بالاشتراك معه وليمز وجورج، أسفرت حسابات المتآمرين الدقيقة على أن قيادة السفينة تستلزم ستة أشخاص على الأقل، ونجحت مساعيهم في إقناع أربعة من الرفاق بضرورة التخلص من الثمانية الباقين. كان اقتراح روبرتسون يتلخص في إلقائهم ببساطة في البحر، لكن المتآمرين اعترضوا بشدة على ذلك، لتعارضه مع أخلاقياتهم، لكنهم رأوا أن يضعوهم في قارب، ثم يلقوا بهم في عرض المحيط، وهو قرار يعادل في مضمونه حكم الإعدام سواء بسواء، لكن بفضل الاتفاق الغريب للظروف، فقد عثرت سفينة عابرة على القارب، وكان بداخله جثث سبعة رجال وبحار منهك. وصلت السفينة إلى جزر هاواي، وهناك قص عليهم البحار التعس كل المصائب التي مرت بهم، وأخبرهم بالكثير من التفاصيل المتعلقة بما اقترفه روبرتسون من أعمال.
حدث هذا بينما اللصوص الذين بقوا أحياء يواصلون إبحارهم على صفحة المحيط الهادي؛ بحثا عن جزيرة الجنة، أما الذهب فكان راقدا في قاع السفينة في الصناديق المغلقة إلى جوار براميل النبيذ الضخمة، وفي أعلى كانت النسوة اللاتي تم اختطافهن من تاهيتي، يتذكرن ما حدث أمامهن من إلقاء الثمانية في قارب إلى مصير مجهول في عرض المحيط، دون أن يفقهوا كلمة مما يقوله القراصنة، فيما بعد أخذن يجتمعن معا، ثم يأخذن في التهامس. عندئذ نجح روبرتسون الذي كان جنون الملاحقة قد أهاجه في إقناع الآخرين أن هؤلاء النسوة يتآمرن عليهم، وأنه ينبغي التخلص منهن، على أن القتل الجماعي للنساء قد قطع ما تبقى من روابط الثقة الواهية بين أفراد العصابة بعضهم ببعض.
مرة أخرى جرى اجتماع تقرر فيه تأجيل تقسيم الكنز، بل وانتهى الأمر إلى إخفائه في جزيرة جريجان، بعد أن أخذوا منه عشرين ألف قرش ذهبي فقط، وهذه كان قد تم العثور عليها قبل ذلك في قمرة القبطان، كان المفروض أن يكفيهم هذا المبلغ كحصيلة لبيع السفينة في أحد موانئ الفلبين، وذلك حتى موعد التقسيم النهائي للغنيمة.
وافق روبرتسون عن طيب خاطر على هذه المقترحات، ظنا منه أنه بهذا يستطيع أن يستفيد من الوقت، إلى حين أن يتسنى له التخلص من شركائه. على أن هؤلاء لم يكونوا يكنون لزعيمهم أدنى قدر من الثقة، فأخذوا يتناوبون الحراسة ليلا فيما بينهم. على أية حال لم يكن من وراء عملهم هذا أي طائل؛ فقد نجح روبرتسون مرة أخرى في إقناع وليمز وجورج بضرورة التخلص من الطامعين في تقسيم الكنز معهم. وعندما دخلت السفينة إلى ميناء جزيرة فاو، استطاع المتآمرون غدرا أن يجردوا رفاقهم الأربعة من أسلحتهم، ثم زجوا بهم في عنبر السفينة بعد أن أحكموا وثاقهم. بعدها أخذوا في إغراق السفينة، وغادروها على زورق من زوارق النجاة، ومعهم العشرون ألف قرش الذهبية، وعندما التقطتهم إحدى السفن الشراعية، ادعى القراصنة أنهم ضحايا إحدى السفن الغارقة، وسرعان ما وصلوا إلى ريودي جانيرو.
وذات يوم إذ بجورج بطريقة ما يخسر في لعب الورق جزءا من المال المخصص لشراء سفينة. كان القراصنة قد خططوا أن تحملهم إلى جريجان، وعندما قص جورج ذلك على روبرتسون اشتاط الأخير غضبا، فما كان إلا أن أطلق الرصاص عليه، ليرديه قتيلا. أبحر من تبقى من الشركاء الأحياء على ظهر إحدى السفن إلى سيدني بأستراليا.
وأصبح واضحا للقرصانين أن كلا منهما سوف يسعى للتخلص من صاحبه، وعلى هذا فقد قرر كل واحد أن يراقب الآخر بكل حيطة وانتباه. كان موقف وليمز في هذا الصدد ضعيفا؛ إذ كان بحارا رديئا، بالإضافة إلى هذا ظل روبرتسون يحتفظ طوال الوقت بالإحداثيات الجغرافية الدقيقة لجزيرة جريجان التي لم يكن وليمز يعرف حتى اسمها.
من سيدني اتجهوا إلى مدينة هوبارت في جزيرة تاسمانيا، وهناك تعرف الشركاء على بحار إنجليزي معتزل يدعى طومسون، يمتلك سفينة صغيرة يتكسب منها باصطياد الفقمة.
3
عرض روبرتسون ووليمز على طومسون خمسة آلاف من القروش التي تبقت معهما، مقابل أن يقوم بتوصيلهما إلى إحدى الجزر التي لم يذكروا له اسمها، وقد قبل طومسون العرض.
ذات مساء كان البحر عاصفا، بينما وقف روبرتسون ووليمز عند أقصى طرف مؤخرة السفينة، ولم يكن هناك شهود على ما حدث سوى ما ذكره روبرتسون نفسه، من أن وليمز ألقى إليه بكلمات كما لو كانت كلمات الوداع، أخذها روبرتسون في البداية على أنها مجرد مزاح، إلا أن وليمز بعد ما عانقه ألقى بنفسه فجأة من ظهر السفينة.
بعد الحادث الذي جرى لوليمز، أصبح طومسون يرتاب كلية في روبرتسون، الذي صمم على ألا يذكر الهدف من رحلته. وأخيرا لم يتمالك طومسون، وإذا به على نحو ما يعترف لروبرتسون أن وليمز كشف له وهو مخمور عن سر الكنز، ولم يكن طومسون الطائش يعرف إلى أي حد من السهولة يتخلص روبرتسون من الأشخاص الذين لا حاجة له بهم، وها هو ذا يمسك بالقبطان المسكين ويلقي به من ظهر السفينة. على أن طومسون كان سباحا ماهرا، فأخذ في السباحة وهو يصيح طالبا النجدة. هنا وعد روبرتسون البحارة باقتسام الكنز معهم، إذا هم لم يقدموا للقبطان أي عون. كان لذكر الكنز وقع السحر، فكان أن انصاع البحارة لأوامر روبرتسون، فتركوا القبطان لقدره، ولم يخطر ببال أحدهم مجرد التفكير في إمكانية نجاته. على أية حال فقد استطاع القبطان بفضل التيار البحري المواتي أن يصل بعد عدة ساعات إلى جزيرة تينيان.
استقبل السنيور ميدينيلي - المحافظ الإسباني لجزر ماريان - استقبل طومسون الذي قص عليه قصة القرصان روبرتسون، والكنز الأسطولي المخبوء في جزيرة جريجان. وبينما راح القبطان يتحدث كان أحد ضباط حاشية والمحافظ يولي اهتمامه الشديد بالحديث، ثم ما لبث أن أخذ يلاحق القبطان بأسئلته عن مزيد من التفاصيل حول مظهره وماضي هذا القرصان، ما إن استيقن الضابط من أن بطل القصة هو روبرتسون، حتى اتجه صوب المحافظ متوسلا أن يرسله للبحث عن القرصان. كان هذا الضابط هو باتشيكو نفسه الذي أصدر روبرتسون ذات يوم حكما بربطه إلى شجرة وجلده. بعد يومين اثنين وصلت الحملة التأديبية إلى جزيرة جريجان، ولم يكن العثور على روبرتسون هناك أمرا صعبا على الإطلاق. وفي هذه المرة اقتيد روبرتسون مكبلا في الأغلال إلى الأسر، وفي الطريق باءت كل محاولاته لإغراء باتشيكو بأن يكشف له عن مكان الكنز بالفشل. وأثناء وجوده على سطح السفينة قفز روبرتسون منها إلى البحر ليموت غريقا. وقد ذهبت محاولات ستين رجلا من سكان جريجان، جيء بهم خصيصا للبحث والتنقيب عن الكنز في كل شبر منها، تحت الرقابة الشخصية للمحافظ أدراج الرياح. أما مصير هذا الكنز المخبوء الذي راح ضحيته عدد كبير من الأرواح؛ فما يزال سرا إلى يومنا هذا!
الفصل الثامن
قراصنة الشرق الأقصى
مارس الصينيون واليابانيون القرصنة في بحار الشرق الأقصى منذ أقدم العصور، مثلهم في ذلك مثل الإغريق والفينيقيين الذين مارسوها في البحر الأبيض المتوسط والعرب في البحر الأحمر. ظلت الحروب والتجارة في العصور القديمة والوسيطة هي المورد الأول للقرصنة في الشرق الأقصى، ولقد حقق النقل المائي في الصين تطورا كبيرا منذ مطلع القرن الثامن. استخدمت مختلف أنواع السفن على نطاق واسع في كل المناطق الشرقية بهدف نقل البضائع والمسافرين، وقد احترف المهنة - مهنة النقل - أصحاب المراكب الكبيرة، ومن ثم فقد توطدت العلاقات بين الهند وفارس والجزيرة العربية في الجنوب، وكوريا واليابان في الشمال من خلال الموانئ البحرية. ومثلت الأساطيل النهرية والبحرية المحملة بالبضائع إغراء كبيرا أمام التجار القراصنة الذين ما برحوا يسطون بعضهم على بعض. ولعل أوضح تصوير لهذه الحالة بأجمعها تعكسه الكلمات التالية من أغنية «جونكي التاجر»، والتي ترجع للفترة التي تم فيها وصفها: «ليس بوسع التاجر أن يقيم دوما في مكان واحد، فإذا ما استشعر ربحا وفيرا في مكان ما، فإنه يتخذ طريقه إليه من فوره، إنه يبدأ أولا بالبحث عن رفيق لسفره، ثم يذهب بعدها إلى بيته مودعا أهله وعشيرته، وهؤلاء يصفونه بقولهم: «المال خير من المجد والشهرة»، إلى «السعي وراء المجد نادرا ما يكلل بالنجاح. أما السعي وراء المال فدائما ما يحالفه التوفيق، يجب أن يشد الرفاق أزر بعضهم، عليك أن تمتلك القدرة على الخداع عندما تشرع في بيع بضاعتك، كما أن عليك أن تنجح في خداع رجل الجمارك عند بوابات الحدود. بهذا ينمو رأسمالك، ولا تصيب الخسارة أموالك ... تعلم لغة التجار السرية، ولا تجامل عند الحساب حتى أبناء جلدتك.»
ظهرت في القرن الثامن في الطرق البحرية الموصلة بين الصين والهند وفارس السفن الصينية أيضا ، جنبا إلى جنب مع السفن الهندية والفارسية، وقد بلغ التنافس سواء على التجارة العالمية أو على التجارة الداخلية حد الصراع بكل الوسائل الشرسة، التي دخلت في عداد ترسانتها القرصنة أيضا، ففي عام 760م استولى تيان شان-جون على مدينة يانتشجوا، وقتل فيها ما يزيد على ألفي عربي وفارسي وكثير غيرهم من الأجانب.
كانت الحروب الخارجية والداخلية تمثل موردا حيويا آخر للقرصنة في الشرق الأقصى، لا يقل أهمية عن التجارة نفسها. في الفترة من عام 1280 إلى 1281م شن الإمبراطور الصيني خوبيلاي هجوما على اليابان، غير أنه مني بهزيمة منكرة، كان من نتيجتها أن فرض على سكان الدولتين حظر الاتصال فيما بينهما حتى نهاية حكم يوان (1333م). على أن التجار لم يوقفوا التبادل التجاري فيما بينهم، صارفين النظر عن هذا الخطر، الأمر الذي ساعده على ازدهار التهريب الذي كان يتحول في أحيان كثيرة إلى قرصنة، كانت سفن التهريب تنقل الأسلحة، وما إن تتيقن أن الدفاعات الساحلية في أي مكان قد أصابها الوهن، حتى تصب هجوما على المواقع السيئة التسليح على الفور، وعلى هذا النحو كان المهربون يخرقون العزلة التي فرضتها الدولة عنوة.
وقد نشبت الحرب الأهلية في اليابان في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، عندما استعان القادة العسكريون والجنود اليابانيون الذين منوا بالهزيمة من قبل بحارة مرتزقة، ثم عقدوا اتفاقا مع التجار استطاعوا بمقتضاه أن يعملوا النهب على سواحل الصين، مستغلين المناوشات العسكرية التي لم تتوقف في تلك الفترة، التي بدأت فيها شمس أسرة يوان في الأفول.
في نهاية القرن الرابع عشر تمت وحدة اليابان، ولم تؤد إعادة العلاقات التجارية مع الصين إلى وقف الهجوم على سواحلها، بل إن هذه العمليات جرى تصاعدها، فقد استطاع القراصنة اليابانيون إبان فترة النهب البحري أن يصلوا إلى شبه جزيرة الملايو نفسها وإلى جزر الهند الغربية.
على الرغم من أن اليابانيين عملوا بالقرصنة علانية، فقد بذلت أسرة مين جل جهدها لدعم العلاقات التجارية الطبيعية مع جاراتها، فأدخلت اليابان في منتصف القرن السادس عشر تطورا ملحوظا على تجارتها، ونجح الإقطاعيون اليابانيون في الحصول على حق ممارسة التجارة مع الصين، التي كانت تمثل سوقا مربحة للغاية لتصريف سلعهم، ومن أجل هذا الغرض أرسل ساكافا أودزي رئيس ضياع الإقطاع الياباني أسيكاجا أدودزي، أرسل في عام 1523م نائبه سون سوتسين إلى الصين، كذلك فعل الأمير أوتي أودزي الذي أرسل دونج شي، وقد وصل المبعوثان إلى ميناء نينبو، وعقد كلاهما عزمه للحصول لموكليهما على امتيازات للتجار مع الصين، نجح سون سوتسين في دفع رشوة للخصي الذي كان يتولى إدارة التجارة البحرية، ومن ثم بات من حقه التجارة مع الصين، عندئذ لم يكن أمام الموكل الآخر دونج شيء سوى نهب نينبو.
أقنع الوجهاء الصينيون الإمبراطور تسيز توان بحل إدارة التجارة البحرية وإغلاق الحدود، وقد ألحقت هذه الخطوة أضرارا بالغة بالاقتصاد الصيني تفوق ما جلبته عليه من فائدة، فهي لم تقض على القرصنة، وإنما أدت إلى تقويض أسس الحرف والتجارة الصينية، فبعد إغلاق الحدود البحرية للصين، انتشر التهريب على نطاق واسع، وأخذ التجار الصينيون الذين كانوا يعملون بالتجارة غير المشروعة، هم وملاك الأراضي، الذين كانوا مهتمين بأمر استيراد المنتجات الزراعية، أخذوا مرة أخرى في إقامة علاقات غير مباشرة مع التجار اليابانيين والقراصنة، وهنا قام أصحاب النفوذ وكبار الموظفين والنبلاء بدعم التجارة غير المشروعة، تدفعهم إلى ذلك مصالحهم الشخصية، الأمر الذي أدى على نحو غير مباشر إلى نمو القرصنة، وفي هذه الظروف بدا أن السلطات المحلية عاجزة تماما عن اتخاذ أي إجراءات، وليس من المستغرب أن تشوفان - قائد دفاع منطقة فوتزيان - أعلن دون مواربة: «أن الدفاع عن المناطق الساحلية ضد هجوم القراصنة الأجانب أصبح أسهل بكثير من الدفاع عنها ضد أبناء البلد أنفسهم».
كثيرا ما كان المضاربون الصينيون يأخذون البضائع من التجار اليابانيين بالأجل، ثم لا يردون لهم أثمانها فيما بعد، عندئذ لم يكن أمام المتضررين سوى أن يلجئوا لطلب المعاونة من القراصنة اليابانيين من أجل استعادة أموالهم المستحقة.
وفي عام 1547م تلقى تشوفان أمرا بدراسة الوضع في إقليم تشيتسزيان، وفي ذات الوقت قامت مائة سفينة يابانية بالهجوم على ميناء نينبو ومدينة تايتشجو الصينيتين، وقد نما إلى علم تشوفان أن ملاك سفن القراصنة من بين كبار الإقطاعيين الصينيين، فسارع بإبلاغ الإمبراطور علما بذلك، حظر تشوفان على الصينيين التعامل مع التجار اليابانيين خوفا من الموت، كما حظر عليهم الخروج إلى البحر، على أنه في الوقت الذي قام فيه تشوفان بأسر عدد من المضاربين متلبسين، قام كبار الملاك بتقديم شكاواهم عن طريق المفتش الإمبراطوري لإقليم فوتسزيان إلى السلطات المركزية، ضد إصرار تشوفان على إصداره أحكاما بالإعدام على الناس دون إذن بذلك. كان من نتيجة هذا أن نقل تشوفان إلى منصب أقل، ثم ما لبث أن انتحر في عام 1550م، بعدها لم يجرؤ أحد على منع التجارة. بأوامر رسمية، تم تدمير التحصينات الساحلية، وأخذ التهريب في الازدهار علانية، وعندما لم يجد القراصنة اليابانيون أية مقاومة، راحوا ينبهون سواحل الصين دون أن يتعرضوا لأدنى عقوبة.
وفي عام 1553م قامت شرذمة من الخونة بحث بضع مئات من السفن الحربية اليابانية على التدخل، فقامت هذه السفن بمهاجمة إقليمي تشجيتسزيان وتسزياسو، وقام اليابانيون - بعد أن توغلوا في عمق البلاد - بنهب المدن والقرى الصينية، وأعملوا القتل في سكانها. استغل اللصوص والقراصنة الصينيون هذه الفرصة، فارتدوا الملابس اليابانية، وأخذوا بدورهم في نهب السكان، وقد اتضح فيما بعد أن ثلاثين بالمائة من اللصوص فقط كانوا من اليابانيين، وفي عام 1665م تم القضاء نهائيا على القرصنة اليابانية.
وفي العشرينيات من القرن الرابع عشر استولى البرتغاليون على مقاليد التجارة في المحيط الهندي وفي عام 1516م اقتربت من شواطئ الصين سفينة الإيطالي رفايلي بيريستويلو، الذي كان يعمل ضمن الأسطول البحري الحربي البرتغالي، وعلى الفور وصل إلى كانتون سفير البرتغال، ومنذ ذلك الحين ازداد وصول الأوروبيين من تجار ومبعوثين رسميين، ثم ما لبث أن تبعهم القراصنة الأوروبيون الذين سرعان ما نالوا قصب السبق من اللصوص اليابانيين الذين كانوا يفوقونهم قسوة ووحشية. وقد أعمل البرتغاليون، بكل ما أتوا من قوة، النهب وقتل سكان السواحل الجنوبية الشرقية للصين.
تلا ظهور البرتغاليين في الصين ظهور الإسبان والهولنديين والإنجليز الذين مارسوا بدورهم النهب والقتل واغتصاب السكان الصينيين. ولا شك أن أبرز القراصنة الصينيين كان كوكسينجا الممثل الثاني لأسرة عريقة من لصوص البحر، انتقلت عبر أجيالها حرفة القرصنة، الأمر الذي لم يكن بالمناسبة يمثل ظاهرة فريدة. كان لين تشين-تسي والد كوجسينجا عاملا فقيرا، يتقاضى أجرا يوميا، واضطرته الحاجة بعد ذلك إلى أن يلتحق أجيرا في مستعمرة ماكاو البرتغالية، وهناك تمكن من ادخار مبلغ من المال استطاع بفضله أن يذهب إلى اليابان بهدف رؤية عمه، وهناك أيضا تزوج من يابانية تدعى تاجا، فأنجبت له في عام 1623م بطل قصتنا.
امتلك تشين بعد مغادرته اليابان أسطولا صغيرا للقرصنة، دفع فيه ما اكتسبه من نقود علاوة على الدوطة التي حصل عليها من زوجه، وسرعان ما نما الأسطول حتى أصبح بالفعل يسيطر على التجارة البحرية عند الساحل الجنوبي الشرقي للصين، واحترف أسطول تشين القرصنة فنهب قرى الصين الساحلية والجونكات، فضلا عن المراكب التجارية الهولندية الكبيرة التابعة لشركة الهند الشرقية.
قبل عدة سنوات من هذه الأحداث، كانت الصين قد تعرضت لغزو من منشوريا، واستمرت أسرة مين في نضالها ضد الغزاة في جنوب الصين، إلى أن قرر إمبراطور الصين أن يتخذ قرارا يائسا، فعرض على تشين منصب أميرال الأسطول الصيني حتى يشارك أسطول القرصنة معه في النضال ضد منشوريا. على أن تشين طالب أن يتبنى الإمبراطور ابنه، وأن يخلع عليه لقب أمير، وذلك مقابل خدماته. اعتبرت طلبات القرصان أمورا مبالغا فيها، الأمر الذي استغله المنشوريون، فوجهوا الدعوة لتشين للحضور إلى بكين، اقترحوا عليه لقب إمبراطور جنوب الصين، ولكن عندما وصل تشين في عام 1640م إلى المدينة تم إلقاء القبض عليه، وأودع السجن، حيث تعرض للتعذيب، وانتهى الأمر بإعدامه.
بعد مصرع تشين، تولى ابنه كوكسينجا قيادة أسطول القرصنة. ولما كانت الرغبة تحدوه في الانتقام من منشوريا، فقد انضم عن طيب خاطر إلى الإمبراطور مين، واستمر على مدى عشرين عاما في نهب سواحل الصين. عندئذ لجأت السلطات المنشورية إلى تكتيك «الأراضي المشتعلة»! فأخلت السواحل، فضلا عن جزء كبير من اليابسة، من جميع السكان، وأمرتهم بحرق مساكنهم وتدميرها. قرر كوكسينجا بعد أن فقد مصدر غنائمه أن ينقض على الهولنديين أعداء أبيه القدامى، الذين كانوا قد بدءوا آنذاك في احتلال فورموزا (تايوان).
وفي مايو عام 1661م قام كوكسينجا على رأس أسطول مكون من ستمائة سفينة بالهجوم على الهولنديين، الذين كانوا متحصنين في قلعة زيلاند، وبعد حصار دام عشرة أشهر استسلمت الحامية الهولندية بعد أن أنهكها الحصار، ومن بعدها انتقلت السيطرة الفعلية على فورموزا بأسرها إلى يد كوكسينجا، على أنه لم يتمكن من أن يجني ثمار انتصاره، إذ هاجمه الموت، فتوفي بعد عام ليتولى ابنه تشين تسين قيادة منظمة القرصنة، لقد كان لانتصار كوكسينجا تأثير غير مباشر على مستقبل فوزموزا، فقد أوقف طرد الهولنديين عملية الاحتلال، وبعدها قل ارتباط الجزيرة بالقارة الصينية.
السيدة تسين
جاءت بداية نهضة القرصنة عند تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على يد سيدة تدعى تسين، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبحت هي الأدميرال غير الرسمي لأسطول القرصنة الصين بأسره، وقد أضفى هذا الوضع احتراما رسميا، حتى إن الإمبراطور الصيني منحها في عام 1802م لقب الفارس الملكي، الأمر الذي لم يفعله ملك إنجلترا لأبرز قراصنته، وكان يمنحهم ألقابا سامية. على أية حال فقد كان ما حصلت عليه تسين مجرد لقب.
كانت سفن القراصنة المنتمية إلى أساطيل مختلفة تسير رافعة أعلاما مختلفة الألوان: حمراء، وصفراء، وخضراء، وسوداء، وزرقاء، وبيضاء، قبل وفاة زوج القرصانة السيدة تسين، تولت قيادة أقدم أسطول كان يمخر
1
عباب البحر تحت راية حمراء، ولكنها بعد وفاته أصبحت تقود الأساطيل الستة جميعها. سنت تسين نظاما محكما، لتسير عليه جماعة اللصوص، فقد طبقت القواعد الصارمة التالية على مرءوسيها: (1)
إذا هبط البحار إلى البر، دون إذن تقطع أذناه في حضور طاقم الأسطول بأكمله، فإذا تكرر هذا الفعل يتم إعدامه. (2)
محظور امتلاك حتى أقل المسروقات قيمة بلا تصريح بذلك، بل تخضع جميع الأشياء للحساب، ثم يأخذ القرصان جزأين من عشرة (20٪)، وتدخل الثمانية أعشار الأخرى في المخزن، لتكون ملكية عامة. امتلاك أشياء من الرصيد العام يعرض من أخذها للإعدام.
وقد وضعت هذه المرأة الماهرة في حسبانها أن تكون هي الوحيدة التي لا تأخذ لنفسها شيئا، وجدت في البحث عن حلفاء، وكذلك عن دعم من السكان. هناك مادة في ميثاق القراصنة تنص على الحظر الصارم لنهب الفلاحين، كما يفرض هذا الميثاق عليهم أن يدفعوا ضرائب على الخمر والأرز وبقية المنتجات الزراعية الأخرى. وقد مكن الحفاظ على هذه القواعد القراصنة من ضمانهم المواد الغذائية والذخائر بشكل دائم.
أظهرت تسين في إحدى المعارك البحرية مع أسطول الحكومة - دارت رحاها عام 1808م - موهبة استراتيجية عالية، فعندما اقتربت سفن الحكومة منها دفعت نحوها ببضع سفن، بعد أن أخفت باقي السفن وراء الرأس. وما إن انشغلت القوة الرئيسية بالمعركة مع تلك السفن، حتى هاجمتها تسين على رأس بقية السفن من الخلف، وقد لقي أسطول الحكومة هزيمته بعد معركة دامت طوال اليوم.
انتقاما من هذه الهزيمة أصدرت الحكومة الصينية أمرا للجنرال «لين-فا» بمعاودة الهجوم على القراصنة، ولكن «لين-فا» شعر بالخوف عند لقائه بأعدائه، وجبن عن مواجهتهم، وشرع في الانسحاب، ولكن القراصنة أسرعوا بمطاردته، ولحقوا بأسطوله بالقرب من ألونجابو، وما إن بدأت المعركة حتى هدأت الريح تماما، ووجد الأسطولان أنفسهما في مواجهة بعضهما البعض، وقد حكم على كليهما بالشلل التام، وفقدوا القدرة على القيام بأية أعمال عسكرية، عندئذ ترك القراصنة سفنهم، وأخذوا في الوصول إلى السفن الحكومية سباحة، ومرة أخرى يحرز القراصنة انتصارا باهرا ... في العام الذي تلا هذه الهزيمة، قام الأدميرال «تسون مين-صن» على رأس مائة سفينة بمهاجمة القراصنة. وبعد معركة هائلة انتهى الأمر بهزيمة لصوص البحر، على أن الحكومة لم تكن قد تمكنت بعد من مكافأة المنتصرين، إذ بها تفاجأ بالسيدة تسين تسيطر مرة أخرى على الموقف، فبعد أن استجمعت قواها المبعثرة، واستدعت لنجدتها عصابتين أخريين من القراصنة، انطلقت تبحث عن أسطول الحكومة المنتصر، وما إن عثرت عليه حتى صبت عليه جام غضبها انتقاما من الهزيمة التي منيت بها قبل فترة قصيرة.
بعد أن استنفد الإمبراطور الصيني كل طرق النضال ضد القرصنة لجأ - مثله في ذلك مثل الحكام الأوروبيين قبله في غابر الزمن - إلى إغراء القراصنة بوعود العفو عنهم، إذا هم توقفوا عن حرفتهم الإجرامية، الأمر الذي أتى ببعض الثمار. كانت أولى هذه الثمار هي ترك «أوبو-تايي» قائد الأسطول الأسود الذي يبلغ قوام طاقمه ثمانية آلاف بحار ومائة وستين سفينة للسيدة تسين، وبصحبته قراصنته ليستسلم للإمبراطور. كان بحوزة هذا الأسطول خمسمائة مدفع ثقيل إلى جانب خمسة آلاف وستمائة قطعة سلاح خفيفة (تدل هذه الأرقام، بالمناسبة، دلالة بليغة على ما كان لمنظمة السيدة تسين للقرصنة من قوة جبارة). كنوع من المكافأة قامت الحكومة الصينية بتقديم قريتين للقراصنة الذين فروا من الخدمة، أما «أوبو-تايي» فقد استحق منصبا رفيعا ولقبا حكوميا ساميا.
أصيبت السيدة تسين بالدهشة البالغة من جراء هذه الخيانة، على أن ما حدث قد ترك أثره عليها، إذ راحت تفكر: «كيف إذن ستكافئني حكومة الصين وأقوى عشر مرات من أوبو-تايي؟» على أن مسألة استسلام منظمة القرصنة الجبارة بكامل هيئتها كان أمرا أكثر تعقيدا من مجرد استسلام أسطول واحد، وبدأت المباحثات الطويلة والشاقة بين الحكومة والقراصنة. كان الوسيط فيها طبيبا من جزيرة ماكاو التي يحتلها البرتغاليون، ويدعى تشان.
وفي نهاية الأمر تم الاتفاق على أن يحصل كل قرصان يتخلى عن حرفة النهب على خنزير صغير، وبرميل من الخمر، ومبلغ من المال يمكنه من بدء حياة جديدة، لاقت هذه الشروط رضا البعض. أما القلة من القراصنة الذين رفضوا الاستفادة من هذا العرض؛ فقد سوت حكومة الصين حساباتها معهم بكل سهولة. منذ هذا الحين ساد الهدوء مياه الصين مؤقتا، أما السيدة تسين فقد أكملت حياتها تعمل بوصفها زعيمة عصابة للمهربين.
الفصل التاسع
قراصنة زماننا
بانتهاء القرن التاسع عشر، لم تعد القرصنة تمثل خطرا حقيقيا على الملاحة البحرية، مثلما كانت في بداية ظهورها، أما القرن العشرون فقد شهد بعض الأعمال الفردية للنهب البحري خاصة في البحر الأحمر وفي البحار المتاخمة للصين. لقد اتخذت عصابات القرصنة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي أشكالا منظمة على غرار المؤسسات الرأسمالية، إذ كان يتم إنشاء المؤسسة باستئجار عصابة من المجرمين، يخرجون للبحث عن الضحية المرتقبة. كان زعيم العصابة ومساعدوه يبدءون بجمع المعلومات عن السفينة الذين ينوون نهبها، وعن قائدها وبنائها وطاقمها، وما إلى ذلك من معلومات، فإذا ما جاءت نتائج الاستخبار المبدئي إيجابية، يأخذ القراصنة في التسلل إلى السفينة على هيئة مسافرين، بينما يتسلل البعض إليها للعمل ضمن طاقمها، ولا يبقى بعد ذلك إلا مهمة توصيل الأسلحة والذخائر إلى سطحها.
كانت الصعوبة تتمثل في أن شرطة الموانئ في كل من شنغهاي، وهونج كونج، وسنغافورة تقوم بتفتيش أمتعة الركاب الصينيين بدقة متناهية، غير أن الأمر كان مختلفا تماما في الموانئ الصغيرة التي يزدحم مئات الصينيين فيها فوق حواجز الأمواج وأرصفة الموانئ، حيث يصعب تماما تفتيش كل صرة؛ ولهذا فإنه بتطور أعمال القرصنة ضد السفن التي كانت تحمل عددا كبيرا من المسافرين الصينيين، جرى استئجار الخفراء المسلحين، وعمل أصحاب السفن على فصل غرف مختلف الدرجات بعضها عن بعض بحواجز، حتى يصعب التنقل بين أجزاء السفينة.
هاكم نموذجا لهجوم القراصنة الصينيين على السفن في فترة ما بين الحربين:
1 «تصوروا المشهد التالي، غروب الشمس، سفينة تبحر بصعوبة بمحاذاة الشاطئ مجتازة للرياح الموسمية الجنوبية الشرقية العاصفة، الحر خانق في عنابر المقدمة والمؤخرة، حيث تنزل جمهرة من الرجال والنساء والأطفال يجلسون فوق أمتعتهم، البعض منهمك في إعداد الطعام، والبعض الآخر مشغول في أخذ زينته، بينما تحلق آخرون في جماعات، من الممكن مشاهدة الركاب - سواء في أيام الصحو أو في أوقات القيظ - وقد افترشوا الأرش شبه عراة أسفل قوارب النجاة بامتداد جانب السفينة، وعلى السطح العلوي عدد من ركاب الدرجة الأولى: إنجليز، وصينيون، هنا توجد كذلك غرف طاقم القيادة وبرج القبطان.
الآن وقت الغذاء، كبار القادة وأصحاب الرتب الكبيرة في الطاقم يجلسون في غرفة الطعام بدون أسلحتهم، فجأة تعطى إشارة ما - قد تكون مجرد إشعال سيجارة - وعلى الفور يدوي نداء مرتفع: «ارفعوا أيديكم!» تنعقد ألسنة الموجودين من الدهشة وقد بوغتوا، ثم تتجه نظراتهم إلى الرشاشات الموجهة إليهم في أيدي الحمالين والتجار والبحارة. يسلم الجميع سلاحه تبعا لدوره، يتم إبلاغ كل الذين تم حبسهم في الغرف، أو في الصالونات، بأن أي مقاومات مهما بدت صغيرة جزاؤها الموت. يتكرر المشهد ذاته في برج القبطان، وفي حجرة عامل اللاسلكي، وفي قسم الماكينات، أمر مباغت مع توجيه المسدس إلى الوجه، ثم استسلام لا مناص عنه، يلي ذلك أمر «مهذب» بالتوجه إلى خليج بياس، بحيث يكون الوصول إليها في تمام السادسة والنصف صباحا، لن يصاب أحد بضرر طالما لم تجر أية محاولة لاستعادة السفينة ... بعد هذا يبدأ نهب السفينة بالاستيلاء على الأشياء الثمينة والملابس الغالية بانتزاعها من فوق أجساد أصحابها الذين ينتابهم الهلع الشديد.
تتخذ السفينة مسارها في الظلام الدامس، وقد تم إخماد المشاعل المميزة، وكذلك الإضاءة بالغرف نحو خليج بياس، أحد أكثر الخلجان غموضا على الشاطئ الصيني، حيث المياه فسيحة وغير عميقة وتحيطها الهضاب الرملية. من البحر يمكن مشاهدة عدد قليل من القرى الصينية الصغيرة، وزوج من جونكات الصيادين، وجميعها تترك في النفس إحساسا بالهدوء والسكينة، ولكن ما إن تدخل السفينة التي اغتصبها القراصنة إلى الخليج، حتى يهرع لاستقبالها أسطول كبير من قوارب الجونكات، يرسل راكبوه الغلاظ ذوو الوجوه العابسة اللامبالية بالتحية إلى القراصنة، ثم سرعان ما يشرعون في عملهم بتفريغ السفينة من حمولتها على وجه السرعة، بل ويأخذون أيضا أجهزة الكرونومتر، وآلة السدس التي تستخدم لقياس ارتفاع الأجرام السماوية، وكذلك ينتزعون الأجزاء النحاسية الكبيرة، وكثيرا ما تحدث وقائع مفجعة؛ إذ يتم اقتياد الآباء والأمهات تحت تهديد المسدسات إلى داخل البلاد في اتجاه الجبال، حيث يرغمون على القيام بالأعمال الشاقة، وهؤلاء قد يقضى عليهم بالموت من الجوع والإجهاد في انتظار الفدية. أخيرا تصل السفينة بصعوبة، وفي أسوأ حال إلى هونج كونج، حيث تتولى الشرطة الأمر، فيتم عمل جرد للخسائر التي حدثت من جراء السرقة، على أنه بمرور الوقت يتوقف الرأي العام عن الاهتمام بالقضية برمتها.»
نادرا ما كان القراصنة يتعاملون بمثل هذا «التسامح» مع ضحاياهم، فكثيرا ما كانوا يعملون الذبح في الحراس الهنود، فعندما تعرضت السفينة «سولفيكن» للهجوم قتل قبطانها باستوف، لمجرد أنه تأخر في فتح باب غرفته، وعلى السفينة «أنكينج» قام القراصنة بإطلاق الرصاص على ضابط الحرس، وعلى ضابط صف السفينة، وأصابوا القبطان بجراح بالغة.
تعد حادثة السفينة «سانينامخا» من الحوادث المشهورة، فقد حاول ما يقرب من ثلاثين قرصانا الاستيلاء عليها، عندما كانت موجودة على مسافة لا تبعد عن ميناء بيخاي خمس عشرة دقيقة، إذ نجح القبطان ج. سبارك في الوصول إلى غرفة القيادة. وهناك استطاع ببندقيته الآلية أن يقاتل بشجاعة القراصنة، الذين اتضح أنهم ليسوا محترفين في أعمال السرقة، وقد اضطروا للهروب من جراء خدعة بسيطة، قام بها القبطان سبارك، الذي أعطى أربع إشارات صوتية، أخذ بعدها في تغيير مسار السفينة؛ فقد ظن اللصوص أن القبطان لا بد وأنه شاهد سفينة خفر السواحل، فأخذوا يقفزون إلى البحر.
بعد عام 1923م جرى تسجيل نمو ملحوظ لنشاط القرصنة في المياه الصينية، ففي عام 1924م وحده أربعة عشر هجوما، وفي عام 1925م وقع سبعة عشر. أما في السنوات التي تلت ذلك فقد قلت هجمات القراصنة، ثم أخذت في التلاشي، حتى كادت تصبح من الأمور النادرة. على أنه، وحتى الآن، ما تزال تقع هنا أو هناك أحداث متفرقة من النهب البحري. في نهاية عام 1952م على سبيل المثال تم القبض على سفينته تمتلكها عصابة من لصوص البحر، يرأسها أمريكي يدعى س . بيل.
وفي السادس من أكتوبر عام 1965م قام ما يقرب من مائة قرصان يجرون على ظهر ستة قوارب من نوع الباركة تحمل علم الفلبين بمهاجمة السفينة اليونانية «إيكوس»، وتبلغ حمولتها سبعة آلاف طن في مياه جنوب شرقي آسيا، وكانت تحمل شحنة من لب جوز الهند المجفف من الفلبين في طريقها إلى أوروبا. وقد نجح ثلاثة من البحارة في الهرب بواسطة أحد قوارب النجاة، وأبلغوا عن حادث الهجوم، وعلى الفور قامت السلطات بمطاردة القراصنة.
في مايو 1968م قام خمسة وعشرون قرصانا على ظهر زورقين بمهاجمة مركب من نوع البراو، يحمل اسم «لورد» عليه عدد من الركاب، كانوا قد غادروا لتوهم ميناء زامبوانج الذي يبعد تسعمائة كيلومتر جنوب مانيلا في جزر الفلبين. دخل القراصنة المسلحون على نحو جيد في معركة مع طاقم المركب، وأثاروا الرعب في قلوب ركابه المائتين، ونجحوا في الاستيلاء على مائتي ألف بيسو (حوالي ستين ألف دولار)، وقد قتل في هذا الاشتباك أحد الركاب الذين أبدوا مقاومة، بينما التهمت أسماك القرش ثلاثة آخرين، قفزوا من الماء محاولين الوصول إلى الشاطئ سباحة.
تحت راية الفاشية
كان من المتصور أن القضاء على المراكز الرئيسية للقرصنة نتيجة للعمليات المشتركة، التي قادتها الدول البحرية الكبرى على مدى المائة عام المنصرمة سوف يؤدي إلى الاختفاء التام للنهب البحري. هذا ما افترضته بالفعل حكومات بعض الدول، فقد أكدت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في معرض إجابتها على استجواب لجنة خبراء الأمم المتحدة، المكلفة بوضع تشريع القانون الدولي في عام 1962م: «إن القرصنة بهذا الشكل الذي يعنى به القانون الدولي لم يعد لها وجود تقريبا؛ ولهذا فإن دراسة هذه المشكلة من وجهة نظر ضرورة معالجتها من خلال اتفاقية دولية، ليس لها في الوقت الحالي مغزى كبير.»
على ضوء الحقائق الفعلية، فإن مثل هذه النظرة المتفائلة لم تكن تستند على أساس قوي إطلاقا؛ لأن القرصنة لم يكن قد تم القضاء عليها نهائيا، فما زال النهب البحري مستمرا حتى أيامنا هذه، وإن اتخذ له أشكالا أخرى تمثل - تماما كما كان يحدث في الماضي - تهديدا لأمن الملاحة البحرية، فأعمال القرصنة لم تعد الآن تمارس بواسطة سفن خاصة، وإنما باتت تمارس بإيعاز من الدوائر الحكومية لأشد الدول الاستعمارية عدوانية. إن أعمال القراصنة المعاصرين تتم بمؤازرة فعلية من جانب بعض الدول، وتتمثل في المصادرة غير القانونية للسفن التجارية للدول الأخرى، والاستيلاء عليها، وعلى ما تحمله أو إغراقها في عرض البحر. ونتيجة لتطور مفهوم القرصنة، فقد توصل عدد من فقهاء القانون أخيرا غلى استنتاج مؤداه أن القرصنة تشمل كل الأعمال الإجرامية التي تهدد أمن الملاحة البحرية، وكذلك استخدام العنف المسلح في عرض البحر.
إن الاتجاه نحو اعتبار القرصنة مجرد أعمال عنف تقوم بها سفن وطائرات خاصة لأغراض شخصية، وكذلك التصنيف الخاطئ لمثل هذه الأعمال التي تقوم بها سفن حربية أمران يؤديان إلى حرية لا تقوم على أساس بالنسبة لأخطر شكل من أشكال النهب البحري المعاصر، ونعني به تحديدا قرصنة الدولة، بلغت أعمال القرصنة في البحار مستويات ضخمة، وخاصة إبان الحرب العالمية الأولى، فقد أدخل الطرفان المتحاربان أنواعا جديدة من الأسلحة، تتناقض بشكل صارخ والمفاهيم السائدة عن وسائل الصراع التي يبيحها القانون الدولي. لقد تسببت حرب الألغام والغواصات والحصار الكامل في هزيمة جيوش الأعداء، فضلا عن أنها تسببت في خسائر جسيمة بين المدنيين، سواء في الدول المحاربة أو في الدول المحايدة.
إن إغراق الغواصات الألمانية للسفن التجارية لمختلف الدول يمكن اعتباره عملا من أعمال قرصنة الدول. في السابع والعشرين من يوليو عام 1918م، قامت إحدى الغواصات الألمانية بقصف السفينة (المستشفى الإنجليزية) «ليندوفيري كاسل» بقذائف الطوربيد قرب شواطئ أيرلندا، على الرغم من وجود علامات إرشادية واضحة عليها يمكن رؤيتها من مسافة كبيرة. ولكي تتمكن الغواصة من محو آثار فعلتها الشائنة، أصدر الضباط الألمان أوامرهم بضرب قوارب النجاة التي لجأ إليها الضحايا؛ لتنقلهم إلى الشاطئ، وكانت النتيجة أن لقي (324) شخصا حتفهم. أصبحت هذه الواقعة موضوع التحقيق الجنائي الذي أجرته محكمة الرايخ في لايبزج عام 1921م، وقد أصدرت المحكمة العسكرية حكما على الضباط القراصنة يقضي بعقوبتهم عقوبة كانت مثارا للسخرية؛ إذ حكمت عليهم بالسجن لمدة أربع سنوات، ثم ما لبثت السلطات الألمانية أن أتاحت لهم فيما بعد فرصة الهرب من السجن.
في عام 1915م قصفت إحدى الغواصات النمساوية العاملة في البحر المتوسط سفينة تجارية أمريكية، وكانت الولايات المتحدة آنذاك ما تزال على الحياد، وعندئذ طالبت الحكومة الأمريكية النمسا بتقديم اعتذار رسمي «للإهانة المتعمدة لعلم الولايات المتحدة الأمريكية»، وبمعاقبة قائد الغواصة، ودفع التعويضات المستحقة عن الخسائر التي لحقت بالسفينة .
أدى اتساع نطاق هذه الجرائم في البحر - وخاصة الأعمال الإجرامية التي قامت بها الغواصات الألمانية، التي وقع ضحيتها العديد من السفن التجارية لدول محايدة (تشير بعض التقديرات إلى أن عددها جاوز سبعة عشرة ألف سفينة)، إلى جانب إصابة السفن - المستشفيات العسكرية - إلى طرح قضية قرصنة الدول للدراسة العميقة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
وقد أدت الحرب الأهلية في إسبانيا إلى عقد اتفاق يقضي بوضع تعريف قانوني لقرصنة الدولة؛ ففي الفترة ما بين عامي 1936 و1937م كانت بعض الطائرات والغواصات التي لا تحمل أية علامات تقوم بمهاجمة السفن التجارية في البحر المتوسط، والتي كانت تتجه إلى شواطئ الجمهورية الإسبانية، فضلا عن أنها كانت تهاجم كل السفن المسالمة التي تمر عبر مضيق جبل طارق. لم تشأ أية دولة من الدول أن تعترف بمسئوليتها عن هذه الأعمال المخالفة للقوانين، على الرغم من أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن تلك الغواصات كانت تتبع الدولتين الفاشيتين؛ إيطاليا، وألمانيا. في تلك الفترة أيضا وقعت سفن كل من بريطانيا وفرنسا والدنمارك والنرويج ودول أخرى ضحية لهجمات القرصنة. في الواحد والثلاثين من أغسطس والأول من سبتمبر عام 1937م، هاجمت غواصات «مجهولة» السفينتين السوفيتيتين «تميريازيف» و«بلاجوييف»، وكانتا تبحران عبر البحر المتوسط. وقد أعربت حكومة الاتحاد السوفييتي آنذاك عن احتجاجها الشديد لدى الحكومة الإيطالية؛ إذ أمكن التعرف في حينه على المتهمين في هذه الأعمال. وقد نفى وزير خارجية إيطاليا السيد تشيانو مسئولية إيطاليا عن ضرب السفن السوفييتية، على أن الوثائق التي استخرجت فيما بعد من أرشيف وزارة الخارجية الألمانية الهتلرية، والتي نشرت بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تدل بما لا يدع مجالا للإنكار على أن حكومتي موسوليني وهتلر، قد تورطتا في أعمال القرصنة المذكورة عن عمد وإصرار.
على الرغم من أن الفاشيين قد ألحقوا ضررا جسيما بخطوط الملاحة التجارية لكل من بريطانيا وفرنسا، فإن حكومتي هاتين الدولتين قد التزمتا سياسة عدم التدخل، بل كانتا متعاطفتين في الوقت نفسه مع الجنرال الفاشي فرانكو، وظلتا لفترة طويلة تعانيان من جراء هذا الاستبداد الجاري في البحار المتاخمة لشبه جزيرة أيبيريا. وفي صيف عام 1937م فقط - وهو العام الذي بلغت فيه هجمات القرصنة ضد السفن الفرنسية والإنجليزية ذروتهم - صممت حكومتا الدولتين على تقديم مذكرة احتجاج، الأمر الذي لقي تعاطفا وتأييدا من جانب الدول الصغيرة؛ فقد أعلنت حكومة هولندا على سبيل المثال في عام 1937م، أنها ستنظر في استيلاء السفن الإسبانية الفاشية على السفن الهولندية باعتباره «عملا من أعمال القرصنة».
أما الاتحاد السوفييتي الذي كان يقف بحزم دائما ضد جميع مظاهر النهب البحري، فقد أيد بحرارة الاقتراح بعقد مؤتمر دولي يكرس لمكافحة القرصنة، وقد تم عقد هذا المؤتمر في مدينة نيون بسويسرا، وانتهت أعماله في الرابع عشر من سبتمبر 1937م باتفاق وقع عليه ممثلو تسع دول، هي: الاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وفرنسا، وبلغاريا، واليونان، ومصر، ورومانيا، وتركيا، ويوغوسلافيا. ويقضي هذا الاتفاق باتخاذ إجراءات جماعية لمكافحة أعمال القراصنة الفاشيين. وفي السابع من سبتمبر عام 1937م، وقعت هذه الدول نفسها على اتفاق تكميلي، يتم بمقتضاه مكافحة القرصنة بجميع أشكالها بما في ذلك السفن والطائرات، بعد أن كانت مقصورة قبل ذلك على الغواصات فقط. وهكذا أمكن القضاء في فترة وجيزة على أعمال القرصنة التي كان يقوم بها الفاشيون في البحر المتوسط. وما إن دارت رحى الحرب العالمية الثانية حتى أصبحت الطرق البحرية من جديد ساحة لعدد كبير من أعمال القرصنة، التي كان لألمانيا الهتلرية النصيب الأكبر منها، تليها اليابان. كانت هاتان الدولتان تقومان بالاستيلاء على السفن التجارية وتدميرها، سواء كانت تابعة للدول المتحاربة أو المحايدة، مخالفتين بهذا المبادئ الأساسية للقانون الدولين، بل إن ألمانيا الهتلرية قامت ببث الألغام في مياه الدول المحايدة، وكانت تستولي على البضائع التي تحملها السفن بدعوى أنها مواد عسكرية مهربة، وراحت تغرق السفن، المستشفيات العسكرية دون مراعاة للعلامات المميزة التي تحملها!
ونتيجة للهجوم الذي كانت تقوم به الغواصات على السفن الأمريكية عند سواحل جرينلاند، أكد الرئيس روزفلت في رسالة له بتاريخ 11 أكتوبر 1941م، أي قبل دخول الولايات المتحدة الحرب، أن هذه العمليات تعتبر من أعمال القرصنة سواء من الناحية القانونية أو من الناحية الأخلاقية. وقد ظهرت بشكل خاص الأدلة المذهلة على أساليب القرصنة التي اتخذها الأسطول البحري النازي في إدارة الحرب إبان محاكمات نوربدج، إذا ثبت أن المسئولين الرئيسين عن تلك العمليات هما الأدميرال دينيس والأدميرال ريدير.
في اليوم الأول من شهر يناير عام 1940م أصدرت القيادة الألمانية أمرا بالهجوم على السفن التجارية اليونانية في منطقة الجزر البريطانية، وامتد الأمر ليشمل الهجوم على جميع السفن التجارية الموجودة في منطقة الخليج البريطاني، وبعد خمسة أيام أخرى كان على الغواصات الألمانية أن تقوم على وجه السرعة بالهجوم على أية سفينة موجودة في بحر الشمال دون استثناء. وأخيرا، ومنذ الثامن عشر من يناير عام 1940م سمح للغواصات الألمانية بإغراق أية سفينة تبحر بالقرب من شواطئ العدو دون سابق إنذار، ولم يستثن من هذا الأمر سوى السفن الأمريكية والسوفييتية والإيطالية واليابانية. لم يلجأ الألمان إطلاقا، وهم يدمرون السفن إلى إنقاذ ركابها، وقد تبين أثناء محاكمات نوربرج بصفة خاصة أن المتهمين قد أصدروا بذلك الصدد أمرا مستقلا.
إلى جانب ذلك فقد كان الأسطول الياباني الحربي يقوم هو الآخر بأعمال القرصنة، ففي الفترة من عام 1941 إلى 1944م، وعلى الرغم من المعاهدة المعقودة بين الاتحاد السوفييتي واليابان بشأن الحياد، فقد أخذت حكومة اليابان، الحليف السابق لألمانيا الهتلرية، تعمل بكل الوسائل على إعاقة الملاحة أمام السفن السوفييتية في الشرق الأقصى، ولم تسمح السلطات اليابانية للسفن السوفييتية باستغلال الطريق البحري الآمن المار عبر مضيق سانجار، بل قامت الغواصات اليابانية بإغراق كل من «أنجارستروي» و«كولا» و«إيلمين». وفي الفترة من سبتمبر عام 1941م وحتى عام 1944م احتجزت القوات المسلحة اليابانية 178 سفينة تجارية سوفييتية، واستخدمت السلاح في ثلاث حالات. وفي ديسمبر عام 1941م أطلق اليابانيون النيران من مدافع موجودة في هونج كونج على السفن «كريتشيت» و«سفير ستروي» و«سيرجي لازو» و«سيمفرويل»، وكان من نتيجة هذا القصف أن غرقت السفينة «كريتشيت»، بينما أصيبت السفن الأخرى بأضرار جسيمة. وأخيرا فإن الاعتداء على سفن ليست في حالة حرب في اليابان، لم يكن من الممكن النظر إليه وتقديره إلا من زاوية اعتباره عملا من أعمال القرصنة.
ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى عادت قرصنة الدول سيرتها الأولى في منطقتين تقليديتين من مناطق النهب البحري، هما: بحار الجنوب والبحر الكاريبي، ولكن هذه المرة بقيادة دولة إمبريالية كبرى هي الولايات المتحدة الأمريكية.
قراصنة من تايوان
في الأول من أكتوبر 1953م كانت السفينة البولاندية «براتسا»، تتجه إلى الشواطئ الصينية عبر مضيق تايوان، عندما حلق فوقها عدد من الطائرات المائية؛ مما دعا البحارة إلى الخروج إلى سطح السفينة. كانت هذه الطائرات تحوم على ارتفاع منخفض إلى حد أنه كان من الممكن قراءة العلامات المميزة على أجنحة الطائرات وأجسامها بسهولة بالغة، وهي علامات تؤكد انتماء الطائرات إلى «البحرية الأمريكية
U. S. Navy »، كان من الواضح أن الطائرات تلتقط صورا للسفن.
استمرت الطائرات الأمريكية تراقب السفينة «براتسا» وحتى الرابع من أكتوبر، بعدها بدأت طائرتان من طراز «داكتوتا» تابعتان لقوات شان كاي شيك في استكمال المهمة نفسها، وسرعان ما ظهرت في الأفق طائرتان حربيتان أيضا لقوات شان كاي شيك، اقتربتا من السفينة، ووجهتا له أمرا بتغيير مسارها مهددة بقصفها بالنيران إن هي لم تمتثل للأمر. وفي جاوسيون بتايوان جرى تفريغ حمولة السفينة من النفط إلى صهاريج متوسطة الحجم أمريكية الطراز. أما السفينة نفسها فقد اقتحمها فرقة من الجنود قادوها إلى أحد الموانئ الداخلية، واقتيد البحارة الصينيون من أعضاء الطاقم، وقد تم ربط بعضهم بالأصفاد على الفور.
وفي الثاني عشر من أكتوبر بدأ أحد العقداء في جيش شان كاي شيك في استجواب آدم ليفاندوفسكي الضابط البولندي. اتسم حديث العقيد بالخشونة، ولم يخل من التهديد. أما باقي أفراد طاقم السفينة الذين لم يكن لهم أدنى فكرة عن المصير الذي كان ينتظرهم، فلم يكن أحد قد مسهم بسوء بعد. أما جنود كاي شيك الذين كانوا يتولون حراسة السفينة، فقد كانوا يجيبون على أسئلة البحارة البولنديين بإجابات مبهمة، بل راحوا يحاولون إثارة الخوف في نفوس البولنديين بنشرهم الإشاعات عن إطلاق الرصاص على البحارة الصينيين، الذين كانوا من بين أعضاء طاقم «براتسا». في حين جرى عزل فونسوفسكي قبطان السفينة، وخضعت غرفته للحراسة. في نهاية شهر أكتوبر صعد على ظهر «براتسا» قوة من الشرطة، قامت بأخذ بصمات أصابع البحارة، كما لو كانوا مجرمين، وتبع ذلك هجوم نفسي؛ إذ راح الجنود بين الحين والآخر يوحون إلى البحارة المساجين بقرب إطلاق سراحهم، ثم ما يلبثون أن يفقدوهم هذا الأمل بعد عدة أيام. وفي يناير ظهر على السفينة رجلان في ملابس مدنية، أما الأول فكان يدعى مستر «لو»، أما الآخر فكان يدعى مستر «أو»، وقد اتضح فيما بعد أن «لو» هو مساعد رئيس شرطة تايوان السرية لشئون مكافحة الشيوعية. وأما «أو» فكان يتولى المهمة نفسها بالنسبة لميناء جاوسيون، كان كلا الرجلين يحضران إلى السفينة يوميا، ويقومان باستجواب الطاقم. كان البحارة البولنديون يرفضون الإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالخدمة أو تمس الأسرار العسكرية.
كان الاستجواب يجري ببطء وبدقة متناهية، فيبدأ باستدعاء اثنين أو ثلاثة من البحارة لاستجوابهم يوميا. وعلى الفور أصبح واضحا أنهم يمدون مدة الاستجواب عمدا لإثارة الأعصاب، وكانوا طوال الوقت يلوحون للمعتقلين أنهم على استعداد لاعتبارهم لاجئين سياسيين، مع فتح آفاق العمل السهل والمرتبات العالية لهم على السفن الأمريكية، وفي الوقت نفسه كان البحارة يتعرضون في بعض المناسبات للإغراء بالفودكا،
2
وبالنساء الحسناوات.
بذل رجال شان كاي شيك قصارى جهدهم لشراء أعضاء الطاقم، مقترحين على من يرفض العودة إلى بولندا بتوقيع طلب حق اللجوء، مبالغ باهظة. لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل، لم يستسلم طاقم «براتسا» حتى جاء شهر فبراير، وفيه قرر البحارة البولنديون أن يعبروا عن احتجاجهم، فأبلغوا الشرطة بأنهم إذا لم يتلقوا ردا رسميا بشأن مسألة عودتهم إلى بولندا في خلال أسبوعين، فإنهم سيبدءون الإضراب عن الطعام. أبلغ مستر «لو» الطاقم أن الأمر قد طال؛ لأن عينة البترول الذي كانت تحمله السفينة قد أرسل إلى الولايات المتحدة لاختباره، لمعرفة ما إذا كانت هذه الشحنة في قائمة البضائع المفروض عليها الحظر. وأكد مستر «لو» أن القرار سوف يصدر بشأنهم فور تلقيه رد الولايات المتحدة الأمريكية، وبناء على ذلك تأجل موعد بدء الإضراب عن الطعام.
وذات يوم من أيام النصف الثاني من شهر فبراير 1954م، اقترحت الشرطة على الطاقم الذهاب إلى المدينة للتنزه، وقد رفض الاقتراح غالبية البحارة، على أنهم أجبروا على الذهاب إليها عنوة، وقد لجأت الشرطة إلى تقسيم الطاقم إلى مجموعتين، ثم دفعت كل مجموعة إلى المدينة على حدة في أيام مختلفة. ما إن وصل البحارة البولنديون إلى مقر الأركان الحربية حتى التف حولهم عدد من النساء، كما كان بانتظارهم مصورون سارعوا على الفور بالتقاط صور لهم، أجريت عليها بعد ذلك عمليات مونتاج خاصة مخزية، تمت تحت إشراف ضباط أمريكيين كانوا يقيمون في الطابق الأعلى من المبنى نفسه.
تعرض طاقم السفينة «براتسا» لمختلف أنواع الضغوط؛ منها تهديد البحارة بسوء العواقب عند عودتهم للوطن، بسبب انغماسهم في «الملذات»، إلى جانب حرمان أعضاء الطاقم الذين كانوا يقفون موقفا متشددا، من تلقي الخطابات التي أرسلها ذووهم في بولندا. بالإضافة إلى ذلك فقد كانت هناك مناقشات تدور بصورة فردية مع البحارة، بعضها يسعى لاستمالتهم والبعض الآخر بهدف التهديد. حاول رجال شان كاي شيك الإيعاز للطاقم بأنهم لا يملكون أية إمكانية للعودة إلى بلادهم على نحو قانوني، وأن هؤلاء الذين لن يوقعوا على طلب الحصول على حق اللجوء، سوف يتعرضون للموت في سجون تايوان.
في الواحد والعشرين من شهر مارس صعد إلى سطح السفينة «براتسا» رجال الصليب الأحمر التابع لشاي كاي شيك لدعوة الطاقم للذهاب إلى السينما، وكان العرض يجري تحت حراسة بوليسية مشددة. وسرعان ما تبين أن إنزال الطاقم من السفينة، كان بهدف إحلال رجال شان كاي شيك محله. وبعد انتهاء الفيلم اقتيد الطاقم إلى أحد الفنادق الذي قام البوليس والبوليس السري بفرض الحراسة عليه. وفي الفندق مورست ضغوط أشد على البولنديين، حيث نشرت الشائعات حول نية إرسال المتشددين منهم إلى معسكر جماعي.
نتيجة لهذه الظروف، قرر البحارة البولنديون أن يبدءوا إضرابهم عن الطعام، ولم ينهوا إضرابهم إلا بعد أن تسلموا بلاغا رسميا بترحيلهم إلى بلادهم. تلقى طاقم «براتسا» وهم يتأهبون للرحيل إلى بولندا، نبأ استيلاء رجال شان كاي شيك على سفينة بولندية أخرى تدعى «بريزدينت جوتوالد». عندما ذهب البحارة لتسلم متعلقاتهم من المخزن قبل الرحيل، تسنى لهم أن يلتقوا لبرهة قصيرة بطاقم «بريزدينت جوتوالد»، وعلموا منهم أن رجال شان كاي شيك يستخدمون ضدهم نفس أساليب الضغط والتخويف التي استخدمت ضدهم. لم يتوقف رجال شان كاي شيك - بعد أن وعدوا البحارة البولنديين بترحيلهم - عن ممارسة ضروب الإرهاب نحوهم، فقاموا بتأجيل موعد رحيلهم أكثر من مرة، ووضعوا العراقيل أمام عقد مقابلة بينهم وبين وفد من الصليب الأحمر كان قد حضر إلى تايوان.
اضطرت السلطات التايوانية بعد المحاولة الرابعة للإضراب عن الطعام، والأعمال الحاسمة التي اتخذتها الحكومة البولندية والصليب الأحمر السويدي إلى الإفراج عن طاقم «براتسا».
إن ما أوردناه هنا بشأن حقيقة الاستيلاء على السفينة البولندية من قبل قراصنة تايوان، لم يكن الحادثة الوحيدة في هذا الصدد، ففي الخمسينيات بدأت صحوة أخرى منظمة للقرصنة في البحار المتاخمة لسواحل الصين، وأصبحت تايوان هي مركز ثقل القرصنة الحديثة في العالم. استنادا إلى معلومات غير مكتملة، قام القراصنة الجومندانيون
3
على مدى السنوات الأربع الأولى من نشاطهم، بالهجوم على ما يقرب من خمسمائة سفينة تجارية صينية، وما يزيد على مائة سفينة أخرى تمتلكها كل من بريطانيا، والاتحاد السوفيتي، وبولندا، وبنما، واليونان، والدانمرك، والنرويج، وهولندا، واليابان، وألمانيا الغربية.
عانت الملاحة البريطانية من الجومندانيين أكثر مما عانته أية دولة أخرى، ففي عام 1952م تعرضت السفن التجارية البريطانية «سان جورج» و«هليكون» و«جلينوفين» و«روزيتا» للهجوم. وقد لقي الكابتن روبرت آدمز قبطان السفينة الأخيرة مصرعه على أيدي القراصنة. في عام 1953م عزز القراصنة الجومندانيون عملياتهم في المياه الصينية، واستطاعوا في مارس أن يحتجزوا سفينة هولندية في عرض البحر، واستولوا على حمولتها، وعندما حاول قبطانها أن يقاوم عدوانهم احتجزوه في السجن لمدة ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه قاموا بالاستيلاء على سفن هولندية وبريطانية، إضافة إلى أنهم قاموا بضرب قبطان السفينة البريطانية ضربا مبرحا.
في السادس والعشرين من يوليو 1953م قامت ثلاث سفن حربية «مجهولة الهوية» - وفقا لما أوردته الصحافة البريطانية - بالهجوم على السفينة البريطانية «انتشاليفا» في مضيق تايوان، بينما كانت متوجهة إلى هونج كونج. لم تمض على هذا الحادث بضعة أيام حتى وقع هجوم آخر في نفس المكان على السفينة الإيطالية «ماريلا»، وكانت تنقل شحنة من الحرير الخام، وبعض البضائع الأخرى من الصين إلى أوروبا. بعد ثلاثة أسابيع أطلق سراح السفينة بعد أن استولى القراصنة على كل ما كانت تحمله. على مدى ثمانية عشر شهرا منذ مطلع عام 1954م، اضطر الأسطول البحري الحربي البريطاني إلى الدخول في أربعين معركة؛ دفاعا عن السفن التجارية التي تعرضت للهجوم من قبل الجوماندانوفتس.
لم يكتف قراصنة تايوان باستخدام السفن، ففي السادس من نوفمبر عام 1952م قامت طائرة حربية من طراز «القلعة الطائرة» بضرب السفينة البريطانية «هاي دريلوك» بقذائف مضادة للمدرعات، وفي الوقت الذي كانت السفينة البريطانية تتعرض للهجوم من الجو؛ إذ بسفينة حربية «مجهولة الهوية» تطاردها بحرا، وإزاء هذا الهجوم المزدوج اضطرت السفينة للهرب، ونجحت في ذلك. في التاسع عشر من يناير عام 1955م تعرضت الباخرة البريطانية «ايدنديال» للقصف الجوي من جانب طائرة جومندانية إبان وجودها في ميناء سفاتو الصيني، مما أسفر عن غرقها. وفي مطلع شهر أغسطس من العام نفسه قامت طائرتان نفاثتان بإسقاط قنابلهما فوق سفينة الشحن الإنجليزية «إينشويلث».
في السنوات التالية استمر الهجوم حتى أصبح يهدد أمن الملاحة في الشرق الأقصى مما شكل مشكلة خطيرة، اهتمت العديد من الدول بحلها. في أكتوبر عام 1954م تقدم الاتحاد السوفييتي بطلب إدراج اقتراح خاص «بخرق حرية الملاحة في منطقة البحار الصينية» في جدول أعمال الدورة التاسعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. على أنه نتيجة للمنازعات الإجرائية للدبلوماسية الأمريكية، نجحت الولايات المتحدة في إعاقة مناقشة هذه القضية في هيئة الأمم المتحدة على نحو جوهري.
لقد تعرضت أعمال القراصنة الجومندانيين والتصريحات التي أدلى بها أوصياؤهم الذين حاولوا أن يموهوا الأمر، فيثبتوا أن أتباع شان كاي شيك يسعون فقط لعرقلة وصول المواد الاستراتيجية إلى الصين الشعبية، الأمر الذي قد يبرر عملياتهم هذه قانونيا باعتبارها نضالا شرعيا ضد تهريب المعدات العسكرية، على أن الحقائق كانت تناقض واقع الأمر بشكل سافر.
وبوجده عام فإن اتجاه الرأي العام العالمي، وكذلك تخفيف حدة التوتر، قد أرغما القراصنة (الجومندانيين) إلى الانسحاب.
صحوة القرصنة في البحر الكاريبي
في اليوم الأول من شهر يناير عام 1959م قامت القوى الثورية في كوبا بزعامة فيديل كاسترو، بقلب نظام حكم الديكتاتور باتيستا الذي كان يلقى الدعم من الجهات الاحتكارية الأمريكية ومن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. في بداية الأمر لم يسبب خلع باتيستا رد فعل خاصا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ظل الأمريكيون لحين من الوقت ينظرون إلى الثورة في كوبا باعتبارها انقلابا بورجوازيا دوريا، يحدث مثله الكثير في بلدان أمريكا اللاتينية. ولكن عندما أدركت واشنطن أن حكومة فيديل كاسترو تضع لنفسها أهدافا ثورية، شنت الولايات المتحدة الأمريكية حملة شديدة ضد كاسترو، ناعتة إياه بأنه عميل «الشيوعية العالمية».
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك في ممارسة الضغوط السياسية، ثم العسكرية بعد أن مارست ضغوطها الاقتصادية. وفي الثالث من يناير عام 1961م قطعت الولايات المتحدة الأمريكية علاقاتها الدبلوماسية والقنصلية مع كوبا، ثم في الثاني والعشرين من مارس عام 1961م تم في الولايات المتحدة تأسيس ما عرف باسم المجلس الثوري المكون من المهاجرين الكوبيين أنصار باتيستا.
في الخامس عشر من أبريل عام 1961م تعرضت هافانا لقصف القنابل، وفي السابع عشر من نفس الشهر حدث التدخل العسكري المخزي في بلايا خيرون
4
في كوبا. وفي الرابع والعشرين من أغسطس عام 1962م قام قاربان طوربيديان بقصف هافانا بالمدفعية، مع نهاية عام 1962م ظهر ما عرف باسم الأزمة الكوبية.
على هذه الخلفية السياسية للستينيات من القرن العشرين، انتعشت القرصنة في منطقة البحر الكاريبي على يد الدوائر الرجعية للمهاجرين الكوبيين الذين لقوا دعما ماليا ومعنويا من جانب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وعددا من حكومات وسط أمريكا الذين وضعوا أراضيهم تحت تصرف القراصنة، كما أمدوهم بالمال والسلاح. لقد كان المهاجرون الكوبيون قراصنة بكل معنى الكلمة؛ إذ إن كل ما ارتكبوه من أعمال ينطبق والمقاييس التي صاغها القانون الدولي الحديث بشأن القرصنة.
في مارس عام 1960م قام المعادون للثورة بعمل تخريبي، حيث أحدثوا انفجارا لسفينة بلجيكية تدعى «لاكور»، وقد نجم عن هذا الانفجار عدد كبير من الضحايا، علاوة على ما أحدثه من خسائر مادية. في هذا الوقت بالتحديد رفعت الثورة الكوبية شعار «الوطن أو الموت
O muerte ». في مارس عام 1963م تعرضت السفينتان التجاريتان السوفييتيتان «لافوف» و«باكو» للهجوم داخل المياه الإقليمية الكوبية. في الثالث عشر من سبتمبر عام 1964م قام قاربان مجهولان بالهجوم على سفينة الشحن الإسبانية الصغيرة «سير أرنساسو» في عرض البحر على مسافة 17 ميلا شمال شرقي الساحل الكوبي، وقد فتح القاربان نيران رشاشاتهما على السفينة دون تحذير سابق، وما هي إلا خمس دقائق حتى تحولت «سير أرنساسو» إلى كتلة من اللهب، وقد لقي القبطان ورئيس النوبتجية والميكانيكي الأول مصرعهم. ومن بين السبعة عشر فردا من أعضاء الطاقم الذين جرى إنقاذهم بفضل السفينة الهولندية «ب. ج. تولين» كان هناك ستة جرحى. كان هذا الهجوم مثالا لشراسة القراصنة الذين استخدموا الرصاص المحرم دوليا، وأجهزوا على ضحاياهم العزل في الماء.
كانت «سيرا أرنساسو» تحمل إلى كوبا حوالي ألف طن من المواد الغذائية والمنسوجات ولعب الأطفال. من الملابسات التي أحاطت بالحادث، لم يكن من العسير إدراك أنه من تدبير المهاجرين الكوبيين، غير أن المسئولية في وجودهم في البحر الكاريبي تقع بالدرجة الأولى على الولايات المتحدة التي سمحت بنشاط المنظمات الإرهابية على أراضيها، ووفرت لهم الدعم المادي، وهو ما أشار إليه في وضوح تام ممثل السفارة الإسبانية في واشنطن، حيث ذكر أن: «المنطقة التي وقع فيها حادث الهجوم تقع تحت سيطرة الولايات المتحدة».
وقد وصف فيديل كاسترو هذا العمل بأنه: «عمل بربري سبق الإعداد له للانتقام من إسبانيا لمواصلتها التجارة مع كوبا. لقد تم الهجوم على يد مجموعة من المناهضين للثورة بدعم من إدارة المخابرات المركزية، وقد قدمت لهم العون إحدى سفن الدوريات التي تطوف حول كوبا بتوجيه من المخابرات المركزية والأسطول البحري الأمريكي، وهذه السفن معروفة جيدا، وهي من طراز «ركس». إن أيا من المجموعات المناهضة للثورة لا تملك الوسائل التي تمكنها من القيام بمثل هذا العمل دون دعم من المخابرات المركزية».
كان من المفترض، كما يبدو، أن تكون «سيرا أرنساسو» التي تحولت إلى كتلة من اللهب، إشارة وتحذيرا لكل من لم يخضع للضغط الدبلوماسي أو «القوائم السوداء» الأمريكية للتحول عن التجارة مع كوبا الاشتراكية.
في الليل من الثالث عشر وحتى الرابع عشر من نوفمبر عام 1965م، قام المناهضون للثورة الكوبية بعمل جديد من أعمال القرصنة، حيث أطلقوا النيران من مدفعية ذات عيار كبير على سواحل هافانا. لقد تم القصف من فوق سطح قاربين تم إنزالهما إلى منطقة العمليات من حاملة من طراز «ركس»، قامت بالتمويه عليها المخابرات المركزية الأمريكية.
لقد نشرت القرصنة في منطقة البحر الكاريبي تحت وصاية الدولة، ففي الصباح المبكر من يوم 20 نوفمبر عام 1968م قامت سفينتان تتبعان الأسطول الحربي الفنزويلي، بفتح نيران مدافعهما على سفينة الصيد الكوبية «أليكرين» وهي في عرض البحر، على مسافة مائة ميل شمال شواطئ فنزويلا، وذلك دون سابق إنذار. وقد تعرض هيكل السفينة وسطحها لأضرار بالغة، ولم تعد ماكيناتها تصلح للعمل. كان ركاب «أليكرين» مكونين من ثمانية وثلاثين راكبا، من بينهم مهندس ياباني كان يعمل ضمن طاقم أسطول الصيد الكوبي، وقد قامت السفن الفنزويلية بعد القصف بقطر السفينة الكوبية التالفة، وقد اعتبرت الحكومة الكوبية هذا الحادث عملا من أعمال القراصنة، وطالبت بإعادة السفينة وإطلاق سراح طاقهما، وقد جرى تنفيذ ذلك فيما بعد.
القرصنة الجوية
أسهم مناخ الرعب والتوتر اللذان سادا منطقة البحر الكاريبي على ظهور القرصنة الجوية في هذه المنطقة، وهي القرصنة التي ميزت القرن العشرين. تمثلت القرصنة الجوية في الأعمال غير الشرعية لخطف الطائرات فوق عرض البحر، وقد أثبتت اتفاقية جنيف المبرمة في عام 1958م هذا الشكل من القرصنة، وقد جرى تسجيل عدد من حوادث القرصنة الجوية في تاريخ بلدان المعسكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثالثة، عندما لجأت بعض الجماعات والأفراد الرجعيين المشبوهين سياسيا إلى هذه الوسيلة غير الشرعية لمغادرة بلادهم جوا والتسلل إلى الخارج. وقد بلغت القرصنة الجوية أقصى مدى لها في منطقة البحر الكاريبي بعد انتصار الثورة الاشتراكية في كوبا، وخاصة في عام 1961م الذي سجل أكبر عدد من هذه الحوادث.
وفي الفترة ما بين الأول من مايو وحتى التاسع من أغسطس عام 1961م، اضطرت ثلاث طائرات ركاب أمريكية تعمل على خطوط منتظمة، أن تحول مسارها بالقوة، وتم إحباط محاولة خطف طائرة أمريكية رابعة. في الأول من مايو عام 1961م قام راكب مسلح على طائرة صغيرة تعمل بين ميامي و«كي وست»، بإرغام قائد الطائرة تحت تهديد السلاح بالهبوط في هافانا في كوبا، وقد سمحت السلطات الكوبية للطائرة وجميع طاقمها وركابها بالعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم نفسه.
في الرابع والعشرين من يوليو عام 1961م قام أحد الأمريكيين من أصل كوبي - وكانت السلطات الأمريكية قد رفضت منحه تصريحا للعودة إلى بلاده - بإرغام قائد طائرة ركاب كبيرة من طراز «إلكترا» تحمل على متنها عددا كبيرا من الركاب، على تغيير مسارها والهبوط بها في هافانا، وقد سمحت السلطات الكوبية في اليوم التالي مباشرة للطاقم والركاب بالعودة إلى الولايات المتحدة، ولكنها رفضت إعادة الطائرة، فقد أعلن فيديل كاسترو رئيس وزراء كوبا للحكومة الأمريكية أنه لن يعيد الطائرة، إلا بعد إعادة الولايات المتحدة للطائرات التي تحتجزها، وكانت السلطات الأمريكية قد صادرت بعضا من هذه الطائرات، وهاجمت البعض الآخر أثناء تحليقها في الجو، وحتى يتجنب الأمريكيون تسمية الأمور بأسمائها، قاموا بسك اصطلاح خاص للتعريف بأعمال القرصنة الجوية وهو
Hijack .
في التاسع والعشرين من أغسطس أعلن دين راسك وزير خارجية أمريكا رفضه لاقتراح كاسترو، على الرغم من أنه اعترف بأن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بدءا من عام 1959م بالاستيلاء على مجموعة من الطائرات الكوبية بلغ عددها خمسا وعشرين طائرة، وقد جرى فيما بعد إعادة أربع عشرة طائرة فقط ، وظلت الطائرات الباقية محتجزة على نحو غير شرعي. وقد أبلغت الحكومة الكوبية مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، أنها على استعداد أن تضع الطائرة الأمريكية تحت تصرف الأمم المتحدة، حتى تتمكن بهذه الطريقة من حرمان الولايات المتحدة من ذريعة الاعتداء على كوبا، الأمر الذي كانت تسعى إليه الدوائر المرجعية.
في الثالث من أغسطس عام 1961م جرت محاولة لاختطاف طائرة أمريكية أخرى، فوفقا لما أكده عملاء مكتب التحقيق الفيدرالي قام المدعو ليون بيردون وهو مجرم اتهم بارتكاب عدد من الجنايات، وكان يعالج في إحدى المصحات النفسية، بركوب إحدى طائرات الركاب في فينكس بولاية أريزونا الأمريكية بصحبة ابنه البالغ من العمر ستة عشر عاما، وقد نجح المجرمان في التسلل إلى غرفة القيادة أثناء تحليقها في الجو، وطلبا من قائدها تحت تهديد السلاح الهبوط في مطار هافانا، وعندما أبلغهما الطيار أن كمية الوقود الموجودة في الطائرة لا تكفي للطيران إلى هناك. وافق المختطفون على الهبوط في مدينة إل باسو في ولاية تكساس، وبعد أن هبطت الطائرة في المطار سمح قراصنة الجو للركاب بمغادرتها، بعد أن احتجزوا أربعة منهم إلى جانب جميع أفراد الطاقم باعتبارهم رهائن. وقد قامت الشرطة - بعد أن أبلغها الركاب بما حدث - بمحاصرة المطار، وحاولوا على مدى عدة ساعات إقناع بيردون بالاستسلام، على أن محاولاتهم باءت بالفشل. قام المجرم تحت تهديد السلاح بإرغام الطيار على السير بالطائرة حتى ممر الإقلاع، لكن رجال الشرطة نجحوا في إيقاف الطائرة بأن أطلقوا عددا من الطلقات أصابت عجلاتها بدقة متناهية. ونتيجة للارتباك الذي حدث استطاع أحد الركاب تجريد المجرم من سلاحه. حكم على مختطف الطائرة بالسجن مدى الحياة، وتم إيداع ابنه إحدى الإصلاحيات حتى يبلغ السن القانونية.
في التاسع من أغسطس عام 1961م جرى اختطاف إحدى الطائرات النفاثة الجبارة التابعة لشركة الخطوط الجوية «بان أمريكان»، وكانت في طريقها من مدينة هيوستن بولاية تكساس إلى جواتيمالا، وقد تم الاختطاف فور إقلاع الطائرة من المطار في المكسيك، وتم إجبار الطيار على تغيير مساره والهبوط في هافانا. وقد اتضح أن مرتكب الجريمة - بناء على ما أذاعه مكتب التحقيقات الفيدرالي - فرنسي يقيم بصفة دائمة في نيويورك، وكان هو الآخر يعاني من اضطرابات نفسية، ما إن وصلت الطائرة إلى كوبا وهبطت في مطار هافانا، حتى جرى تجريد القرصان من سلاحه، وقامت السلطات الكوبية باعتقاله، وقد تم السماح للطائرة وطاقمها وركابها - الذين كان من بينهم وزير خارجية كولوميا - بالعودة إلى ميامي.
في ذات اليوم قامت عصبة من المناهضين للثورة مدججين بالسلاح بمحاولة اختطاف طائرة ركاب كوبية، كانت تقوم برحلتها على أحد الخطوط الداخلية، وإرغام قائدها على الهبوط في فلوريدا. وكان من نتيجة المعركة الحامية التي نشبت على ظهر الطائرة أن لقي الطيار وأحد رجال الشرطة وأحد المختطفين مصرعهم. وفي هذه الأثناء هبط الطيار الثاني بالطائرة في أحد حقول القصب، الأمر الذي نجم عنه تلفيات شديدة بالطائرة. تم الحكم على اثنين من القراصنة بالإعدام رميا بالرصاص لقتلهم الطيار ورجل الشرطة، وحكم على أربعة وثلاثين من المشتركين في المحاولة بالسجن لمدة طويلة.
في عام 1966م حاول القراصنة اختطاف طائرة مدنية كوبية من طراز «إليوشن-18» والذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هذه الطائرة تقوم برحلتها المنتظمة بين سانتياجو دي كوبا وهافانا. وفي ليلة السابع والعشرين صباح الثامن والعشرين من مارس، قام ضابط الملاحة أ. بيتانكور البالغ من العمر سبعة وعشرين عاما بضرب رجل الشرطة أ. رايس على حين غرة، ثم أطلق عليه الرصاص بعد أن انتزع منه مسدسه الخاص. كانت الطائرة في هذه الأثناء تحلق بالقرب من الساحل الشمالي لكوبا. حاول بيتانكور أن يرغم قائد الطائرة الفريس على تحويل مسار طائرته، ليهبط بها في ميامي بولاية فلوريدا، لكن الطيار حلق بالطائرة فوق البحر بمحاذاة الشاطئ الكوبي محافظا على رباطة جأشه، حتى تمكن من الاتصال لاسلكيا بنقطة المراقبة الأرضية في مطار هافانا، وأبلغ السلطات بما يحدث في الجو.
تم الاتفاق على خطة هبوط الطائرة في هافانا، وإبان ذلك كان على الطيار أن يبقي القرصان المسلح على اقتناعه بأن الطائرة في طريقها إلى الولايات المتحدة الأمريكية . لم يدرك القرصان أنه قد جرى التغرير به إلا لحظة هبوط الطائرة في مطار هافانا. وعندئذ حاول من جديد إرغام الطائرة على التحليق في الجو، وعندما فشلت محاولته أطلق عليه الرصاص، ثم قفز من الطائرة، وفر متسترا بالظلام الحالك، وظل مختفيا عدة أيام في أحد الأديرة حتى تمكنت الشرطة من إلقاء القبض عليه، لينال جزاءه الذي قضت به إحدى المحاكم الكوبية.
وقد جاء في البيان الرسمي الذي أذاعته السلطات الكوبية بشأن هذا الحادث، أن هذا القرصان كان بوسعه أكثر من مرة أن يغادر كوبا إبان رحلاته إلى الخارج بوصفه ضابط ملاحة جوية، لكن الملابسات التي أحاطت بتصميمه على ارتكاب هذا العمل الإجرامي المغامر، يستوجب الإشارة إلى تأثير الدعاية الأمريكية، التي تشجع الخونة الكوبيين على القيام بهذا النوع من الأعمال «البطولية».
لم توقف العقوبات القاسية على القرصنة الجوية المجرمين من الاستمرار في خطف الطائرات في الجو في منطقة البحر الكاريبي، حتى كادت تصبح من الأمور المألوفة، حتى إن الصحافة لم تعد تخصص لها سوى بضعة سطور على صفحاتها. وقد لوحظ أن الطرق التي لجأ إليها مختطفو الطائرات والدوافع التي تقف وراء أعمالهم، وهم يخاطرون بحريتهم أو حياتهم، تختلف من واحد إلى الآخر بشكل كبير.
على سبيل المثال: فالطائرة العاشرة في سجل الطائرات التي أجبرت على الذهاب إلى كوبا وصلت إلى هناك في عام 1968م، وكانت طائرة صغيرة من الطائرات التي يتم استئجارها من طراز «سيسنا». في صباح الأحد الرابع من أغسطس وكان الجو صحوا، قام مواطن أمريكي باستئجار الطائرة المذكورة في مدينة نابلس بولاية فلوريدا، وذكر أنه يرغب في القيام بنزهة جوية بصحبة ابنته الصغيرة، وما إن حلقت الطائرة في الجو، حتى أرغم الراكب الطيار تحت تهديد السلاح على العبور بالطائرة إلى هافانا، وقد أعادت السلطات الكوبية الطائرة إلى الولايات المتحدة كما أطلقت سراح قائدها.
تعد الطائرات الكبيرة التي تعمل على خطوط جوية منتظمة هي أكثر ضحايا القرصنة الجوية، في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من نوفمبر عام 1968م، هبطت في مطار هافانا طائرتان أمريكيتان، بعد أن أجبر طاقماهما تحت تهديد السلاح على تغيير مساريهما والطيران إلى كوبا. كانت الطائرتان نفاثتين، إحداهما من طراز «بوينج-727» تتبع شركة طيران «إيسترن إير لاينز»، وعلى متنها ثلاثة وثمانون راكبا، والأخرى من طراز «بوينج-707», وتمتلكها شركة طيران «بان أميركان». وقد أعيدت الطائرتان وعلى متنهما جميع الركاب الذين أعربوا عن رغبتهم في العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية على الفور.
في نهاية شهر نوفمبر ومستهل شهر ديسمبر عام 1968م، جرى تسجيل رقم قياسي لخطف الطائرات في منطقة البحر الكاريبي، حيث اضطرت ثلاث طائرات نفاثة أمريكية ضخمة، تحمل مائتين وثمانية وسبعين راكبا من الهبوط - خلال أسبوع واحد فقط - في مطار هافانا. وقد انتهت كل الحوادث المذكورة نهاية طيبة، ويبدو أن شركات الطيران التي تقوم بتشغيل الخطوط الجوية المارة بالقرب من منطقة الكاريبي، قد استسلمت للقرصنة الجوية، وأخذت في التعامل معها على أنها شر لا بد منه، فاكتفت بتوفير أمن وسلامة الطائرات والركاب، بل إن هذه الشركات قامت - تحسبا لأية ظروف طارئة - بمد طياريها بخرائط لمطار هافانا الذي يحمل اسم «خوسيه مارتي»، وأصدرت أوامرها للمضيفات ألا ينزلقن في أي نوع من الشجار، مع أي شخص يحتمل أن يكون من مختطفي الطائرات، وأن يقمن على قدر الإمكان بتنفيذ التعليمات المنوطات بتنفيذها.
وبمناسبة هذه الحوادث قامت مجلة «تايم» الأمريكية الأسبوعية، مستغلة المعلومات الوفيرة التي حصلت عليها في عام 1968م، بنشر مذكرة لركاب الطائرات المخطوفة في أحد أعداد شهر ديسمبر تميزت بالطرافة، اقترحت طبعها على هيئة كراسات يمكن وضعها خلف مقاعد الطائرات مع بقية الإرشادات الموجهة للركاب، وها هي «النصائح الغالية» التي أسدتها المجلة في «مذكراتها»: • هناك أربعة «محاذير» في الجو وهي بالتحديد:
أولا:
لا تتصرف بعدوانية؛ لأن مختطفي الطائرة عادة ما يكون مسلحين جيدا، وهم ميالون - بحكم المخاطرة الكبرى التي يقومون بها - إلى المسدسات والسكاكين. هناك مع ذلك بعض الاستثناءات، فقد استخدم المدعو إنانديس المهاجر الكوبي البالغ من العمر ثلاثة وعشرون عاما، والذي قام في يوليو عام 1968م باختطاف طائرة من طراز «دي سي-8»، تابعة لشركة الطيران «ناشيونال إير لاين»، استخدم شيئا ما أكد أنه قنبلة يدوية، وذلك بهدف إثارة الخوف لدى طاقم الطائرة وركابها، وقد تبين بعد هبوط الطائرة في هافانا أن هذا الشيء لم يكن ببساطة سوى زجاجة عطر رشاشة تستخدم بعد الحلاقة، وقد لفها في منديل يد.
ثانيا:
لا تستسلم للذعر، فقراصنة الجو على الرغم من عدوانيتهم يمكن أن يكونوا في الوقت نفسه أناسا ودودين. في نوفمبر عام 1968م قام المدعو خوسيه وهو واحد من ثلاثة رجال قاموا باختطاف طائرة شركة طيران «بان أمريكان» أثناء قيامها برحلتها (رقم 281)، متجهة إلى سان خوان في جزيرة بورتيريكو، قام بتوزيع طلقات رصاص من عيار 32ملم على الركاب على سبيل التذكار، وأخذ في مجاذبتهم أطراف الحديث في مودة بالغة، وفي أدب توجه بالحديث إلى جوزيف هانوفيل وزوجته، اللذين كانا قد تزوجا لتوهما قائلا: إننا في غاية الأسف؛ لأننا أفسدنا عليكما رحلة زفافكما!
ثالثا:
لا ينبغي إطلاقا أن تضغط على زر الجرس المثبت في المقعد، إذ إن الرنين الذي سيدوي في غرفة الطيار يمكن أن يثير ذعر القرصان، وقد يدفعه إلى فتح نيرانه. إن أية طلقة طائشة من المحتمل أن تخترق جدار الطائرة المحكم، والذي يحافظ على ضغط الهواء المناسب لحياة الركاب، وإذا حدث ذلك فيجب اتباع التعليمات المسجلة، والتي تشير إلى كيفية التصرف في حالة وقوع مثل هذه الكارثة.
رابعا:
لا تستدع المضيفة بصوت مرتفع، إذا كنت في حاجة إلى المساعدة أو إذا كنت تريد التوجه إلى دورة مياه، عليك أن ترفع يدك إلى أعلى البطن. إن طاقم الطائرة يمكنه أن يوفر للركاب المشروبات بناء على تصريح من المختطفين. والحقيقة أن مثل هذه المواقف لا تخلو أبدا من المفاجآت. على سبيل المثال: فقد قام أحد قراصنة الجو الذين اختطفوا طائرة شركة الطيران الأمريكية «إيسترن إير لاينز» في شهر نوفمبر عام 1968م، أثناء قيامها برحلتها (رقم 273) من شيكاغو إلى ميامي بولاية فلوريدا، بشراء مشروبات كحولية للركاب من جيبه الخاص بمبلغ عشرين دولارا. • على الأرض هناك أمران «مباحان»، وهما بالتحديد:
أولا:
يجب أن تهتم بأخذ قسط كبير من الراحة. على الرغم من النظام القائم في البلاد، فإن الكوبيين في الواقع يتعاملون بظرف ورقة، وما إن ينتهوا من إجراءات الدخول الشكلية اللازمة، حتى يسعوا للتخفيف عن الركاب - قدر الإمكان - من أثر الهبوط الاضطراري المزعج. أما بالنسبة للإجراءات فهم ملتزمون بالأمور التقليدية في مثل هذه الأحوال من ملء للاستمارات الخاصة بملكية الركاب للآلات التصوير الفوتوغرافية والسينمائية وأجهزة الاستريو، وبالنسبة للذين لا يحملون شهادات التطعيم ضد الحصبة؛ فإنهم يتعرضون لأخذ الأمصال في المطار، أو الحجر الصحي.
ثانيا:
ينبغي أن تستغل فرصة وجودك بأفضل وسيلة ممكنة، وسوف يساعدك الكوبيون أنفسهم على تحقيق ذلك تماما. في أغلب الأحوال تمتد فترة بقائك الاضطراري ليلة واحدة كحد أدنى؛ إذ إن السلطات الكوبية لا تسمح لطائرات الركاب الأمريكية النفاثة بالطيران من مطار «خوسيه مارتي». سوف تضطر الانتظار حتى ترسل شركة الطيران طائرة مروحية أخرى، بينما تدبر السلطات الكوبية أمر إقامة الركاب في فندق المطار، أو في أحد أفضل فندقين في كوبا: «هافانا ليبري» (هيلتون هافانا سابقا) الموجود في قلب العاصمة، أو «فيراديرو إنترناشيونال»، ويبعد عن المدينة مسيرة ساعة بالسيارة، حيث يقع بالقرب من مطار «فيراديرو»، وهو المطار الذي تقلع منه الطائرات المروحية».
إليك ما يستطيع السائح الاضطراري أن يراه في هافانا تبعا للمكان الذي سيضطر للإقامة فيه:
تسمح السلطات الكوبية في مطار «خوسيه مارتي» للركاب بأن يتحركوا كما يشاءون، وأن يشتروا ما يحلو لهم من هدايا تذكارية من الأكشاك، ويحظى السيجار الهافاني بشكل خاص بشعبية كبيرة من الأمريكيين، وكذلك الروم الكوبي، وكلاهما من السلع المحظور اصطحابها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإن نجح البعض في أخذها بطريقة أو بأخرى، يتبقى بعد ذلك قليل من الوقت لمشاهدة المدينة، وهو الوقت الذي ينتقل فيه الركاب من مطار إلى آخر بواسطة سيارات الأوتوبيس، التي تخصصها لهذا الغرض سفارة سويسرا القائمة على رعاية المصالح الأمريكية في كوبا.
هناك فرصة متاحة أمام الركاب الذين ينزلون في فندق «هافانا ليبري »، للتعرف على حياة الليل في كوبا الاشتراكية، فبإمكانهم أن يحتسوا كأسا من كوكتيل «دايكيري» الوطني المصنوع من الروم الكوبي في جو المطعم المريح الملحق بالفندق، كما يمكنهم مشاهدة عروض فناني الكاباريه، ومقابلة جمهور يتميز بالطرافة بالنسبة للأمريكيين، وخاصة من السائحين القادمين من بلدان أوروبا الاشتراكية، إلى جانب أنه من الممكن القيام بجولة في وسط المدينة للشراء أفضل بكثير من تلك التي يتيحها المطار. هنا تباع آلات التصوير الممتازة من ألمانيا الشرقية، والبلوزات القومية التشيكية المطرزة بالرسوم الجميلة والدانتيلا، إلى جانب السيجار، والروم الكوبي المتميز. قد تصادر الجمارك الأمريكية هذه السلع، وإن كان من الممكن استعادتها مرة أخرى بعد التقدم بطلب إلى لجنة الاستيراد في واشنطن.
أما الركاب الذين ينزلون في فندق «فيراديرو إنترناشيونال»، فننصح بأن يأخذوا معهم ملابس البحر، فالبلاج هنا يمتد إلى مسافة خمسة عشر ميلا من الرمل الأبيض، ومياه البحر نظيفة ودافئة، وهو مكان يتميز حقيقة بالجمال الخلاب. في الوقت نفسه فالكوبيون يقومون دائما وبكل ظرف بتقديم غذاء مجاني (فاتح للشهية، لحم وأرز وسلاطة، وطبق حلوى)، للسائحين العرضيين على أنغام فرقتين موسيقيتين يتبادلان عزف أغنيتي «باصا نوفا» و«أستالا فيستا».
في مطلع عام 1969م ازدادت حوادث القرصنة الجوية في منطقة البحر الكاريبي، ففي شهر يناير وحده كان يجري اختطاف طائرتين في المتوسط أسبوعيا إلى كوبا. وفي يوم الأحد الموافق التاسع عشر من يناير تم اختطاف طائرتين: الأولى أمريكية، وتتبع شركة «إسترن إير لاينز»، وعلى متنها واحد وسبعون راكبا، والأخرى إكوادورية، وتتبع شركة «إير لاينز إلكترا»، وعلى متنها ثلاثة وثمانون راكبا.
أصبح اختطاف الطائرات أمرا معديا، وأصبحت الأنباء ترد من وقت لآخر حول اختطاف طائرات من شتى أنحاء العالم.
في الثاني من يناير عام 1969م تعرض طاقم طائرة الخطوط الجوية اليونانية، أثناء توجهه من إيراكليون بجزيرة كريت إلى أثينا، لهجوم شنه أحد سكان الجزيرة، ويدعى ف. فلاموريديس، أرغم الطاقم على تحويل مسار الطائرة والتوجه بها إلى القاهرة. وقد جرى تحذير طائرتين قاذفتين يونانيتين، كانت قد سارعتا بمطاردة الطائرة المخطوفة باللاسلكي من قبل المختطف، الذي أعلن أنه سيفجر الطائرة إذا لم تتراجعا. كانت الطائرة اليونانية تحلق، وعلى متنها سبعة وتسعون راكبا، وقد هبطت الطائرة ظهرا في مطار القاهرة، وقامت السلطات المصرية بإعادتها إلى اليونان. أما ركابها فقد عادوا إلى أثينا على متن إحدى طائرات الركاب النفاثة من طراز «بوينج 707»، تمتلكها شركة الخطوط الجوية اليونانية.
كان أمرا مثيرا للدهشة أن تهبط في مطار صوفيا على غير انتظار، في السادس عشر من سبتمبر 1969م في تمام الساعة الثانية وخمس وعشرين دقيقة ظهرا، إحدى الطائرات التركية وعلى متنها خمسون راكبا، كانت في طريقها من إسطنبول إلى أنقرة. وقد تبين أن مختطف الطائرة طالب يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاما، ويدرس بكلية الحقوق بإحدى الجامعات التركية، ويدعى سعدي طاهر، قام بتهديد طاقم الطائرة بمسدسه، وأرغمه على تحويل مسارها والهبوط بها في صوفيا، وبعد توقف لم يطل هناك جرت أثناء الإجراءات الرسمية اللازمة، حلقت الطائرة وطاقمها وركابها عائدة إلى أسطنبول، تاركة وراءها مختطف الطائرة، وقد توجهت الحكومة التركية بالشكر لحكومة بلغاريا على سرعة إعادة الطائرة.
وما هي إلا أسابيع قليلة بعد هذا الحادث حتى اهتز الرأي العام لما سمي آنذاك بقضية مينيكيللو، فبينما كانت الطائرة العملاقة من طراز «بوينج-707» تتأهب للهبوط في مطار سان فرانسيسكو قادمة من لوس أنجلوس؛ إذ بشاب يقتحم غرفة الطيار ويطلب منه - تحت تهديد السلاح - أن يتجه بالطائرة إلى نيويورك. بصعوبة بالغة استطاع الطيار الأول أن يقنع قرصان الجو بأن الطائرة ليس بها وقود يكفي للطيران لمثل هذه المسافة الطويلة. عندئذ سمح المختطف بهبوط الطائرة في دنفر (ولاية كلورادو)، وهناك تم إنزال جميع الركاب ومضيفة واحدة، وبعد أن جرى تموين الطائرة بالوقود عادت للطيران مرة أخرى. جلس مينيكيللو (كما كان يسميه الطيارون) طوال الرحلة إلى نيويورك، والتي تبلغ ثلاث ساعات في غرفة الملاحة، مصوبا مدفعه الرشاش نحو طاقم الطائرة المكون من خمسة أفراد.
وعندما لاحظ القرصان - بعد أن هبط من مطار كينيدي الدولي في نيويورك - أن سيارات الشرطة قد هرعت نحو الطائرة، أطلق النار إلى أعلى فاخترقت خزان الأكسجين السائل الموجود أسفل سقف غرفة القيادة، ثم صاح في الطيارين قائلا: سوف أطلق النار على الجميع، وحتى على من في المطار، إذا لم تقلعوا فورا من هنا!
في نيويورك نجح طياران آخران في الصعود إلى الطائرة، ليتبادلا العمل مع الطاقم الذي أرهقه الطيران المتواصل لمدة ثماني ساعات. وتحت تهديد القرصان عادت الطائرة، لتحلق في الجو دون أن يتم تموينها بالوقود. لم يستطع قناصة مكتب التحقيق الفيدرالي، الذين ظلوا راقدين ساعة بأكملها وسط الحشائش المحيطة بالمطار، من إطلاق الرصاص لو لاحت لهم رأس القرصان من النافذة. هؤلاء كانت لديهم الأوامر بإطلاق الرصاص دون أدنى خطأ، على أن الفرصة لم تتح لهم.
كان الهبوط التالي للطائرة في مطار بنجور (ولاية مينسوتا)، حيث أصدر مينيكيللو أوامره بتزويد «البوينج» بالوقود، استعدادا لعبور المحيط الأطلنطي. بعد خمس ساعات، وفي تمام الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، هبطت الطائرة في مطار شانون (أيرلندا). لم يستغرق توقف الطائرة وقتا طويلا، فسرعان ما عادت للتحليق من جديد لمدة أربع ساعات أخرى، لتصل في الرابعة والنصف صباح أول نوفمبر عام 1969م إلى مطار ليوناردو دفنشي في روما. هكذا تم تسجيل الرقم القياسي العالمي لأطول رحلة تقطعها طائرة مختطفة، وقد بلغت المسافة أحد عشر ألف كيلو متر.
قام مينيكيللو بالاتصال لاسلكيا بالشرطة الإيطالية قبل هبوطه في مطار روما، وطلب أن يرسلوا له سيارة. وصلت سيارة الشرطة إلى سلم الطائرة بالفعل، فاتصل مينيكيللو بقيادة غرفة العمليات، وأصدر أمره الدوري: على الضابط الجالس خلف مقود القيادة في السيارة الصعود إلى الطائرة مجردا من السلاح، وقد تم تنفيذ هذا الأمر فورا. وما هي إلا عشر دقائق حتى ظهر بالقرب من الطائرة نائب مدير شرطة روما، وكان يرتدي سترة شاويش خصيصا لهذه الحادثة، ثم هبط وراءه القرصان وفي يده مدفعه الرشاش. جلس الضابط إلى مقود السيارة بينما جلس القرصان في المقعد الخلفي، وقد صوب فوهة مدفعه إلى مؤخرة رأس السائق. سرعان ما انطلقت «ألفا-روميو» القديمة لتغادر المطار تتبعها على مقربة سيارتا الشرطة، ولما كان قرصان الجو مدركا أنه مطارد، فقد أصدر أمرا للسائق أن يسير في خطوط متعرجة في ضواحي روما، ثم يتخذ مساره في اتجاه نابولي. وعندما أصبحا في مكان ناء خال من الناس، قفز مينيكيللو من السيارة، وانطلق يعدو عبر الحقول، وفي أثره انطلقت الشرطة الإيطالية تطارده.
نجحت كلاب الشرطة بعد أربع ساعات من العثور على قرصان الجو مختبئا في إحدى الكنائس، وقد استبدل ملابسه بعد أن ألقى سلاحه في إحدى الغابات القريبة. اقتيد مينيكيللو إلى روما، وأودع السجون، وقد أطلق عليه اسم «ريجينا تشيليس» (ملكة السموات). وهكذا انتهى المطاف بالمختطف وراء القضبان، وأعيدت الطائرة إلى أصحابها الشرعيين.
اهتمت الصحافة والرأي العام بحياة قرصان الجو الذي تبين أن اسمه «رافاييلي مينيكيللو»، أمريكي الجنسية من أصل إيطالي، اختار هذه الطريقة الغريبة، ليحقق حلمه في العودة إلى وطنه، وكان أبوه المريض قد رحل عائدا إلى مسقط رأسه في مدينة نابولي منذ عدة أعوام خلت.
لم يكن رافاييلي قد تجاوز العشرين عاما، وهو يحلق على متن الطائرة المختطفة عبر المحيط الأطلنطي، كان شابا مبتسما محبا للحياة، وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية قادما من إيطاليا، وكان يبلغ من العمر آنذاك أربعة عشر ربيعا، وعلى الفور التحق بالمدرسة. تطوع رافاييلي للخدمة في البحرية الأمريكية قبل ما يزيد عن العام من قيامه باختطاف الطائرة، وكان قد خدم لمدة عام كامل في فيتنام في منطقة منزوعة السلاح، دارت فيها معارك حربية شرسة. حصل رافاييلي على رتبة عريف، وكذلك على عدد من المكافآت العسكرية، وقد تعلم كيف يقتل بالمسدس والبندقية والخنجر، وأيضا باليد الخالية من أي سلاح، وبعد أن عاد إلى الولايات المتحدة قام بسرقة مخزن حربي، وفي محاولة منه للهروب من العقوبة استطاع الحصول على السلاح، ثم قام باختطاف الطائرة التي حلق بها عبر المحيط، ليهبط في أوروبا، وقد رفض القضاء الإيطالي تسليم مينيكيللو، وقرر معاقبته في وطنه.
في الفترة من مساء السابع عشر إلى صباح الثامن عشر من مارس عام 1970م، وقعت حادثة اختطاف لإحدى الطائرات العاملة على الخطوط الجوية الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية، كان لها عواقب وخيمة فاقت الحادثة السالفة الذكر.
إبان مراجعة تذاكر السفر على الطائرة «دي سي-9»، وكانت قد اقتربت من الهبوط في مطار بوسطن قادمة من نيويورك، وعلى متنها ثلاثة وسبعون راكبا؛ إذا بالمدعو ديفيفو يبلغ المضيفة بأنه لا يملك نقودا لمواصلة رحلته، وطلب من قائد الطائرة تغيير وجهتها. كانت الطائرة تستعد للهبوط في مطار بوسطن، ومن ثم فقد رفض الطيار مطالب قرصان الجو، فما كان من الأخير إلا أن أخرج من جيبه مسدسا، وأطلق الرصاص على الطيارين، فقتل واحدا، وأصاب الآخر بجرح بالغ في كتفه. على الرغم من إصابة الطيار فقد تحامل على نفسه، ونجح في الهبوط بالطائرة، حاول القرصان أن ينهي حياته منتحرا، فأطلق على صدره الرصاص.
على الرغم من أن حوادث اختطاف الطائرات أصبحت يوما بعد الآخر من الحوادث المألوفة، فإن قليلا منها كان بهذا القدر من الإثارة، مثلما حدث في أول حادثة لاختطاف طائرة يابانية في ربيع عام 1970م. يعد هذا الحادث أحد الحوادث الفريدة في تاريخ القرصنة الجوية، وكانت له عواقب غير متوقعة، وإن بدا الأمر من أوله عاديا تماما.
في السابعة والنصف صباحا من آخر أيام شهر مارس عام 1970م بتوقيت طوكيو: اقتحمت مجموعة من الطلاب اليابانيين، ينتمون إلى منطقة سنجاكورين اليسارية الماوية غرفة الطيار الذي كان في طريقه من طوكيو إلى فوكو أوكا، وكانت الطائرة تحمل على متنها مائة وواحدا وثلاثين راكبا وطاقما من سبعة أفراد، وطلبوا منه التوجه إلى بيونج يانج عاصمة كوريا الشمالية. في الوقت نفسه قامت مجموعة من المختطفين ببث الذعر في قلوب المسافرين، مهددة بتفجير الطائرة لو حاول أحد منهم مغادرة مكانه، بل إن القراصنة قاموا بربط أيدي الرجال منهم بعد أن أوثقوهم إلى مقاعدهم، بلغ مجموعة القراصنة تسعة طلاب مسلحين. أبلغ الطيار المختطفين أن الوقود الذي لديه لن يكفي للوصول إلى كوريا الشمالية، عندئذ وافقوا على الهبوط في إيتادزوكي (جزيرة كوسو) للتزود بالوقود . نتيجة للمباحثات التي جرت إبان ساعات التوقف الخمس، سمح المختطفون لثلاثة وعشرين راكبا من المرضى والعجائز والنساء والأطفال بمغادرة الطائرة. ردا على ذلك وافقت قيادة الأسطول الجوي الياباني على مغادرة الطائرة المخطوفة للمطار والتوجه إلى كوريا.
ما إن حلقت الطائرة في الجو حتى تبعتها طائرتان قاذفتان من كوريا الجنوبية، نجحتا في الاتصال بطاقم «البونيج»، وقد طالب الطيارون الكوريون من الطاقم الهبوط بالطائرة في سيول. في هذا الوقت تماما بدأ الاستعداد لأكبر عملية تضليل في تاريخ الطيران المدني. كان مطار كيمبو في سيول قد أجرى عددا من التغييرات، ليصبح مستعدا لأن يترك انطباعا لدى المختطفين أنهم قد هبطوا في بيونج يانج، فتم نزع أعلام الدول الغربية، ورفعت على جميع الصواري أعلام جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية والرايات الحمراء، وعلقت اليافطات وعليها الشعارات الشيوعية، وارتدت الفرقة العسكرية بالمطار السترات العسكرية للجيش الشعبي الكوري، وأعلنت إذاعة المطار للطائرة: «هنا مطار بيونج يانج، يمكنكم الهبوط.»
غير أن المختطفين سرعان ما اكتشفوا الخدعة؛ فبعد هبوط الطائرة مباشرة طلبوا إحضار آخر الصحف الصادرة في بيونج يانج، ولكنهم لم يتسلموها. أغلق المختطفون كل أبواب الطائرة، وطالبوا بالسماح للطائرة بالإقلاع فورا، والتوجه إلى كوريا الشمالية، لكن الطيار أخبرهم أن هذا الأمر أصبح مستحيلا؛ إذ إن موظفي الخدمة الأرضية بالمطار قاموا بإفراغ إطارات الطائرة من الهواء لإعاقتها عن الإقلاع.
بدأت مباحثات طويلة مشحونة بالتوتر بين مختطفي الطائرة من ناحية، والسلطات المحلية في كوريا والسلطات اليابانية أيضا من ناحية أخرى. اشترك في المباحثات سفير اليابان في سيول ووزير النقل والمواصلات الياباني الذي هرع إلى عاصمة كوريا الجنوبية. استمرت المباحثات لساعات طويلة، وتم إعلان أكثر من مرة عن إقلاعها الوشيك، غير أن هذا الإقلاع كان يتعرض للتأجيل في كل مرة. أصبح الوضع على الطائرة يكتسب شكلا دراميا ساعة بعد الأخرى، فقد الركاب الذين أرهقهم الجلوس الطويل الممض في مقاعد ضيقة ما تبقى لديهم من قوة، وأصبحوا في حال يرثى لها، كان هذا ما تدل عليه البرقيات اللاسلكية التي تبادلها الجانبان.
قام قائد الطائرة، الذي كان يتحلى بقدر كبير من الصبر والتماسك بإبلاغ السفير الياباني في سيول بالوضع على الطائرة في برقية جاء فيها: «إن الطلاب في قمة غضبهم، يتصاعد لديهم الإحساس بالتوتر، الموقف لم يعد محتملا، يريدون الإقلاع فورا. وفي رأيي أن علينا أن نطير فورا تجنبا للعواقب الوخيمة.» وقد توجه أحد الركاب برجاء مماثل إلى السفير قائلا: «إننا جميعا موافقون على مواصلة الرحلة، حتى لو تم القبض علينا هناك، نتوسل إليكم! دعونا نطير».
وأخيرا، وبعد أن ظلت الطائرة على أرض المطار إحدى عشرة ساعة كاملة، قررت السلطات المحلية أن تنهي وعلى وجه السرعة هذه الكوميديا المصطنعة، وعبر نافذة غرفة الطيارين المفتوحة وصل بيان سلطات المطار من خلال الميكروفونات، يقول: «أنتم هنا في مطار كيمبو في كوريا الجنوبية»، ومن خلال هذه النافذة ذاتها أخذت المياه والمواد الغذائية تتدفق على الركاب وطاقم الطائرة استجابة للتوسلات اليائسة، كما جرى شحن البطاريات، حتى أمكن تدفئة الطائرة التي كان ركابها يشكون من شدة البرد. بعد ذلك وجهت السلطات نداء إلى مختطفي الطائرة جاء فيه: «أطلقوا سراح الركاب، وفي هذه الحالة سوف نتيح لكم غدا الإقلاع إلى كوريا الشمالية.» غير أن القراصنة الذين سبق وتعرضوا للخداع من قبل أجابوا نقطة المراقبة بقولهم: «لن نسمح لأحد بمغادرة الطائرة، لسنا بحاجة لمساعدتكم لنطير إلى جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، وسوف ندمر الطائرة بمن فيها من الركاب إذا ما حدث هجوم عليها.» في الوقت نفسه أكد قائد الطائرة وجود مواد متفجرة بحوزة المختطفين، الأمر الذي لم يكن يعلمه الركاب أن قائد الطائرة المدنية التابعة للأسطول الجوي الياباني قد نجحوا بشق الأنفس في منع السلطات في سيول من استخدام الغازات، ومحاولة اقتحام الطائرة عنوة.
في الوقت نفسه كان هناك حوار طويل بين سيول وطوكيو، اشتركت فيه جهات عدة. بعد مباحثات طويلة، استمرت لمدة ثمان وسبعين ساعة بين المسئولين في كل من سيول وطوكيو، وافق القراصنة على إبداء بعض التنازلات بإخلاء سبيل ما يزيد عن مائة راكب، ظلوا على مدى أربعة أيام يعانون من الجوع والتوتر في انتظار وضع حد لهذه القصة. على أن الطلبة اشترطوا - في مقابل إطلاق سراح هؤلاء الركاب - أن يصعد إلى الطائرة رهائن آخرون هم بالتحديد: السيد يامامورا نائب وزير النقل والمواصلات، والسيد آبي عضو البرلمان الياباني عن الحزب الاشتراكي. ووافقوا على إطلاق سراح خمسين راكبا في البداية، ثم إطلاق سراح باقي الركاب بعد صعود الرهائن إلى الطائرة، كما وافقوا على اقتراح السلطات المحلية بإرسال ثمانية أطباء وخمس عشرة ممرضة؛ إذ إن غالبية الركاب كانوا بحاجة إلى معونة طبية (كان أحد الركاب قد أخذ يعاني من نوبة قلبية، بينما ظهر على راكب آخر بوادر انهيار عصبي نتيجة للصدمة)، الأمر الذي لم يقبله القراصنة إطلاقا هو استبدال طاقم الطائرة بطاقم آخر، على الرغم من وصول خمسة طيارين ومضيفتين من طوكيو إلى سيول برفقة الرهينتين المذكورتين، ليحلا محل طاقم الطائرة المخطوفة، الذي أنهكته الرحلة تماما، حتى بدا أنه ليس بإمكانه مواصلة الطيران. وعدت السلطات في سيول بأن الطائرة سوف تكون جاهزة للإقلاع، وستسحب إلى خط الطيران فور تبادل الركاب بالرهائن.
كان قد مضى على وجود «البوينج» ما يقرب من ثمانين ساعة على أرض مطار سيول، عندما فتح بابها أخيرا ليظهر أمامه طالبان يابانيان يحملان سيوف ساموراي، طلبا من موظفي الخدمة الأرضية عدم الاقتراب من سلم الطائرة أكثر من مترين. بعدها ظهر على درجات السلم طلائع الركاب الذين كانوا يتحركون بالكاد واحدا وراء الآخر في طريقهم إلى ساحة المطار، حيث كانت تنتظرهم سيارات الإسعاف مجهزة بالأطباء والممرضات. بعد أن غادر الركاب الخمسون الطائرة، عادت أبوابها لتغلق من جديد، في الوقت الذي كان الركاب قد أطلق سراحهم يدخلون إلى مبنى مطار سيول، كان يامامورا قد صعد إلى «البوينج»، وبمجرد أن غادرها بقية الركاب، حتى أقلعت في طريقها إلى بيونج يانج.
هكذا انتهت أصعب مائة واثنتين وعشرين ساعة من مغادرة الطائرة التي اختطفها الطلاب مسجلين بذلك «رقما قياسيا» فريدا في مجاله. انتهت القصة، لكن نتائجها استمرت بعد ذلك زمنا طويلا، في الخامس من أبريل أعلن إيزاكو ساتو رئيس وزراء اليابان، من خلال لجنة الهدنة الدولية، عن شكره لحكومة كوريا الديمقراطية الشعبية، لإعادتها الفورية للطائرة المختطفة. لا شك أن المسئولية في هذا الحادث تقع بالدرجة الأولى على الأشخاص الذين قاموا باختطاف الطائرة، على أن الحكومة اليابانية قد اتهمت بأنها عرضت حياة أكثر من مائة نفس للخطر.
لم تسلم الطائرات المدنية البولندية من موجة الهجوم على الطائرات التي زادت حدتها في تلك الفترة، ففي أكتوبر ونوفمبر من عام 1969م كانت طائرتان منها هدفا للقرصنة الجوية «إيل-18»، كانت تطير من وارسو في طريقها إلى بروكسل عبر برلين عاصمة ألمانيا الديمقراطية، على الهبوط في برلين الغربية. وفي العشرين من نوفمبر عام 1969م تعرض طاقم طائرة الركاب البولندية من طراز «إن-24»، وكان متجها بالطائرة من فروتسلاف إلى وارسو، لهجوم من جانب اثنين من قراصنة الجو، أرغموه على تغيير وجهته إلى فينا.
طلبت الحكومة البولندية تسليم كلا المجرمين لها. وفي مارس من عام 1970م نظر القضاء النمساوي في فينا أمر مختطفي الطائرة، وأصدر حكمه على واحد منهما بالسجن سنتين وثلاثة أشهر، بينما حكم على الآخر بالسجن سنتين. وبعد انقضاء مدة العقوبة كان لزاما على المجرمين وفقا لحكم المحكمة أن يغادرا الأراضي النمساوية فورا، وقد أشار رئيس المحكمة في حيثيات حكمه إلى أن المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين لا تعترف بحق اللجوء عند ارتكاب أعمال القرصنة الجوية.
وقد حاول المتهمان بكل الوسائل أن يثبتا أن الدافع الأساسي وراء أعمالهما كان لاعتبارات سياسية، وأن ما اكتسباه من شكل مادي كان أمرا جانبيا. على أن المحكمة أظهرت أن الشكل المادي بالتحديد، هو الذي لعب الدور الرئيس في هذه الحادثة. وردا على سؤال الدفاع أعلن المتهمان أنهما استمعا إلى إذاعة «أوروبا الحرة» تقول: إن اختطاف طائرات الدول الاشتراكية لا يطبق عليه القانون الجنائي في الدول الرأسمالية، وقد أوضح هذا المقطع من المحاكمة الدور التخريبي الذي لعبته إذاعة «أوروبا الحرة» في مجال خطف الطائرات.
كان لغياب التعريف الدقيق للقراصنة في القانون الدولي أثره في تصعيب التكييف القانوني للقرصنة الجوية، ناهيك عن القرصنة البحرية؛ إذ كان من العسير تعليل حوادث التمرد التي يقوم بها طاقم الطائرة أو اختطافها على يد متمردين، أو من قبل أعضاء حركات التحرر الوطني. على أنه من وقت لآخر كانت تقع أحداث شبيهة، كان يتم النظر في كل منها على حدة، وعلى نحو مختلف في كل مرة كما يحدث - على سبيل المثال - إبان اختطاف طائرات الركاب الإسرائيلية على يد الثوار الفلسطينيين.
فعندما أقلعت الطائرة «بوينج-707» التابعة لشركة الخطوط الجوية الإسرائيلية «العال» من مطار روما في طريقها إلى اللد (القريبة من تل أبيب)، لم يكن هنا ما يوحي على الإطلاق بأنها سوف تصبح في وقت قريب جدا محورا لاهتمام الراي العام العالمي. آنذاك لم يكن هناك أيضا من يعلم أن من بين ركاب الطائرة، وهم من مختلف الجنسيات، ثلاثة ركاب ينتمون للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بعد مضي خمس وعشرين دقيقة من لحظة الإقلاع، كانت الطائرة قد خرجت من المجال الجوي الإيطالي، وأصبحت تحلق فوق سطح البحر، وإذ بثلاثة من الركاب يتوجهون نحو غرفة الملاحة الجوية. توقف أحدهم - وكان مسلحا بمسدس - وأصدر أوامره لجميع الموجودين بصالون الطائرة بأن يلتزموا أماكنهم. أما طاقم الطائرة فقد ألجمتهم المفاجأة، أمر المسلحان اللذان اقتحما غرفة القيادة الطيار بتغيير خط سير الطائرة، والتوجه بها إلى الجزائر. أما الطيار الثاني الذي حاول أن يبدي مقاومة، فقد تم إسكاته بمؤخرة المسدس. أجرى مختطفو الطائرة اتصالا بمطار الجزائر، ووجهوا إليه لاسلكيا البيان التالي: «نحن فلسطينيون اختطفنا طائرة ركاب إسرائيلية، نرجو السماح لنا بالهبوط.» وطوال الرحلة امتثل الطاقم لتعليمات الثوار، أما الركاب الذين كانوا تحت الحراسة، فلم يغادروا أماكنهم، إلى أن استقرت الطائرة في مكانها في ميناء الجزائر الجوي.
بالنسبة للمسافرين الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، فقد أقلتهم سيارة أتوبيس خاصة إلى المدينة، وسمح لهم في نفس اليوم بمغادرة البلاد إلى باريس، وبعد أربعة أيام تم ترحيل النساء الإسرائيليات بمن فيهن من مضيفات بالإضافة إلى الأطفال. أما الرجال الإسرائيليون البالغ عددهم اثني عشر رجلا، سبعة منهم من أفراد الطاقم والباقي من الركاب، فقد تم احتجازهم مع الطائرة في الجزائر.
فور اختطاف الطائرة الإسرائيلية أذاعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيروت بيانا جاء فيه أن هذه العملية قد قام بتنفيذها أعضاء من الجبهة من تلقاء أنفسهم، وعلى مسئوليتهم الخاصة دون علم من السلطات الجزائرية، أو أي دولة أخرى.
انتهى حادث اختطاف طائرة شركة «العال» الإسرائيلية على يد الثوار الفلسطينيين لحل وسط؛ ففي الأول من سبتمبر عام 1968م تم إعادة الطائرة إلى تل أبيب، وعلى متنها اثنا عشر مواطنا إسرائيليا كانوا محتجزين من قبل السلطات الجزائرية، وبدورها وافقت الحكومة الإسرائيلية على إطلاق سراح ستة عشر مواطنا عربيا، كانوا يقضون حكما بالسجون؛ لوجودهم غير الشرعي داخل الأراضي الإسرائيلية. أسهمت جهود وزير خارجية إيطاليا، الذي قام بدور الوسيط في المباحثات بين حكومتي إسرائيل والجزائر، اللتين لا تربطهما علاقات دبلوماسية في تسوية الحادث.
لم يكن هذا العمل هو آخر الأعمال التي قام بها الثوار الفلسطينيون، ففي الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق بتوقيت جرينتش، يوم التاسع والعشرين من أغسطس عام 1969م، غادرت الطائرة «البوينج-707» التابعة لشركة الخطوط الجوية الأمريكية «ترانس ورلداير لاينز» مطار فيومتشينو في روما، وعلى متنها مائة وواحد راكب بخلاف طاقمها المكون من اثني عشر فردا. كان مقررا - طبقا لجدول الرحلة - أن تقلع الطائرة القادمة من الولايات المتحدة إلى تل أبيب مرورا بروما وأثينا؛ حيث كان من المنتظر أن يغادرها ثلاثة وسبعون راكبا. على أن الطائرة مرت على أثينا دون أن تهبط بها، وفي الساعة الواحدة وأربعين دقيقة ظهرا بتوقيت جرينتش، أرسل قائد الطائرة برقية قصيرة هذا نصها: «نحن في طريقنا إلى تل أبيب، لقد هوجمنا.»
بعدما هبطت الطائرة في مطار اللد بالقرب من تل أبيب، طلب قائدها من نقطة المراقبة الأرضية إرشادات الطيران إلى بيروت، لكن هذا الطلب أثار قلق السلطات الإسرائيلية. وصل إلى المطار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الذي كانت مهمته الاستيلاء على الطائرة من يدي مختطفيها المجهولين. حلقت في السماء القاذفات الحربية الإسرائيلية ، وأخذت تدور حول طائرة الركاب، وكانت أثناء ذلك تجري اتصالها بقائدها الكابتن كارتر، لكن الطيار دعا القاذفات للابتعاث بحجة إمكانية تعرض المسافرين لخطر الموت.
عندما اقتربت «البوينج-707» من بيروت طلب الطيار السماح له بالهبوط في مطارها المحلي، على أن طلبه قوبل بالرفض. عندئذ لم يكن أمام كارتر إلا أن يتوجه بالطائرة إلى دمشق. هناك طلب من السلطات أن تسمح له بالهبوط في المطار، الذي لم يكن في الحقيقة مستعدا لذلك استنادا إلى نفاد الوقود. وقد هبطت الطائرة وسط خطوط ممر الهبوط، وسارع الركاب - تنفيذا للأوامر - بمغادرة الطائرة تحت تهديد تفجيرها، وهو ما حدث بالفعل بعد ربع ساعة من مغادرة الجميع لها. تحطمت غرفة الطيار، وأصيبت الطائرة بتلفيات أدت بها للخروج من الخدمة إلى الأبد. أولت السلطات السورية جل عنايتها بالركاب، وخاصة أولئك الذين أصيبوا في الارتباك الذي حدث أثناء مغادرة الجميع للطائرة.
تعتبر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي الجهة المسئولة عن حادث اختطاف الطائرة الإسرائيلية التي أقلعت من روما، والتي أجبرت على الهبوط في الجزائر، والمسئولة أيضا عن حادث الهجوم على طائرات «العال» في مطار أثينا وزيورخ، هي المنظمة الفلسطينية الوحيدة التي لا تخضع للقيادة العامة للقوات المسلحة الفلسطينية، وهي غير ممثلة في التنظيم السياسي للفلسطينيين، المعروف باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
وقد سعت بعض الدوائر في الغرب باستغلال حوادث اختطاف الطائرات السالفة الذكر لخلق جو من العداء حول نضال الفلسطينيين من أجل حريتهم. ومما خفف من وطأة هذا الجو التصريح الرسمي الذي أدلى به ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الذي أعرب عن رفضه لاختطاف الطائرات كشكل من أشكال نضال الشعب الفلسطيني الوطني التحرري.
تطبق بعض الدول في الوقت الحالي عقوبات محددة على أعمال القرصنة الجوية، وفقا لطابعها الإجرامي الذي حددته اتفاقية جنيف المبرمة عام 1958م بشأن البحار المفتوحة. تصل عقوبة القرصنة الجوية وفقا للأحكام القانونية العامة الحالية الخاصة بمكافحة القرصنة إلى عشرين عاما في الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى أربعين في المكسيك. في الوقت نفسه فالدول الأخرى التي لم تفرد بعد قوانين خاصة بهذا النوع من الجرائم، تقوم بتطبيق قوانين القرصنة البحرية كبديل مؤقت. على أن تطبيق العقوبات الجنائية على أعمال القرصنة الجوية يواجه صعوبات كبيرة بسبب الإجراءات المعقدة في تسليم المجرمين.
جدير بالذكر أن هناك في واقع الأمر معاهدة دولية تم توقيعها في طوكيو في الرابع عشر من سبتمبر عام 1963م، خاصة بالجرائم التي يتم ارتكابها على متن الطائرات. على أن مواد هذه المعاهدة تتعرض للانتقاد بشدة من جانب رجال القانون من مختلف بلاد العالم، الذين يشككون في مدى الفاعلية الحقيقية لها في مجملها، ونتيجة للتسويف في تحديد موعد التصديق على هذه المعاهدة من جانب العديد من الدول، فإنها لم تصبح سارية المفعول إلا ابتداء من الرابع من ديسمبر عام 1969م.
وقد ورد في إحدى مواد معاهدة طوكيو أنه في حالة ارتكاب أية أعمال على متن الطائرة بهدف اختطافها، فإن على الدول المتعاهدة اتخاذ كل الوسائل اللازمة لإعادة قيادة الطائرات لقائدها الشرعي أو العمل على احتفاظه بقيادتها، على أنه حتى الآن لم تعرف مثل هذه الوسائل التي يمكن للدول أن تلجأ إليها لتغيير إرادة مجرم مستعد لارتكاب أي شيء، وقد وقف مسددا مسدسه إلى رأس الطيار.
تقضي المعاهدة بعد ذلك بضرورة أن تسمح الدولة التي هبطت الطائرة المختطفة في أراضيها للمسافرين بمواصلة رحلتهم على الفور وإعادة الطائرة إلى أصحابها. وهذا ما تفعله بالضبط على سبيل المثال كوبا التي لم توقع على هذه المعاهدة، فهي تعيد كل الطائرات، وتخلي سبيل أطقمها وركابها. تقضي معاهدة طوكيو أيضا بإمكانية احتجاز قرصان الجو، على أن الإجراءات المرتبطة بهذا العمل ما تزال على قدر بالغ الصعوبة، إلى حد أن هذه المادة تفتقد كل مغزى عملي لها.
أصبحت القرصنة الجوية أمرا ممكنا يرجع السبب الرئيسي فيه إلى انعدام العلاقات المشتركة العادية بين العديد من الدول، ولم يعد من الممكن التصدي لهذه الكارثة التي تحيق بالمواصلات الجوية، إلا عن طريق تطبيع العلاقات الدولية.
أدت القرصنة الجوية في منطقة بحر الكاريبي إلى عواقب وخيمة بالنسبة لكوبا، التي أصبحت عليها إعاشة وإقامة مئات المسافرين العابرين. في الوقت الذي أصيبت فيه بقلق بالغ - من جراء هذه الظاهرة - الدوائر الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ إن الأمريكيين الذين كانت المقادير تلقيهم في كوبا، ليصبحوا سائحين بمحض الصدفة لهذه البلاد، كانوا يعودون منها بانطباعات تختلف تماما، والروايات الدعائية المتناقضة التي تطلقها الإدارة الحكومية للولايات المتحدة الأمريكية والصحافة الأمريكية.
أخذت أحداث اختطاف الطائرات المدنية في الانتشار لتشمل مناطق جديدة من العالم، الأمر الذي أثار قلق الرأي العام في العديد من الدول، ودعا رجال القانون للعمل بحماس أكبر من أجل معالجة الجوانب القانونية لهذه الجريمة، حيث إن المواصلات الجوية ذات طبيعة دولية، فقد أصبح اختطاف الطائرات مشكلة دولية لها نتائجها القانونية والسياسية المتعددة، وقد دفعت الأخيرة بأعلى هيئة دولية، ألا وهي منظمة الأمم المتحدة لدراسة مشكلة اختطاف الطائرات.
في مستهل تقريره الذي ألقاه في سبتمبر عام 1969م، أعرب السكرتير العام للأمم المتحدة عن قلقه العميق بشأن العدد الكبير للحوادث المرتبطة باختطاف الطائرات، وتحويلها عن مسارها المحدد، ثم أعلن: «أن اختطاف الطائرات عمل إجرامي للغاية، وخاصة إذا جاء ارتكابه من أجل تحقيق مصالح بعض الأشخاص، على أنه عندما ينعكس هذا العمل على المجال السياسي، وعندما يستخدم باعتباره سلاحا سياسيا، أو لممارسة الضغوط بعينها، فإنه يصبح أكثر مدعاة للوم.
ولهذا فسوف يكون من المرغوب فيه، لو أن كل الدول أعضاء المنظمة الدولية للطيران المدني
ICAO ، استطاعت أن تقدم - حتى قبل انعقاد اللجنة الخاصة بإعداد التوصيات المتعلقة بالإجراءات الوقائية المحددة، وتدابير وقف اختطاف الطائرات - توصياتهم بشأن إجراءات توفير الأمن للمواصلات الجوية الدولية؛ حتى لا تتعرض للتهديد نتيجة الأعمال غير المسئولة، التي يقوم بها بعض الأفراد والمنظمات».
5
على أنه قد اتضح أن قضية اختطاف الطائرات المدنية أكثر تعقيدا مما يبدو للوهلة الأولى، ليس فقط من الناحية السياسية، وإنما أيضا من وجهة النظر القانونية. في الثالث من أكتوبر عام 1969م اقترحت إحدى عشرة دولة من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، والتي كانت أعمالها منعقدة في ذلك الوقت في نيويورك. وقد نبه الأعضاء الذين تقدموا بالاقتراح في مذكرتهم التفسيرية المرفقة به، إلى أنه في عام 1968م وحده وقعت سبع وعشرون عملية قرصنة جوية، وبحلول منتصف شهر سبتمبر 1969م ارتفع عددها إلى خمسين عملية.
وقبل بحث الاقتراح أشار مندوب الأردن إلى أن مصطلح «القرصنة» المأخوذ من القانون البحري والمعنون به الاقتراح، يوصي بالأعمال التي تتخذ طابع الهجوم بهدف السرقة ولتحقيق أطماع لها صفة شخصية. على حين أن حوادث اختطاف الطائرات التي جرت في الآونة الأخيرة تنطلق من دوافع أخرى بعضها ذو صبغة سياسية. على أية حال فقد واصلت الجمعية العامة للأمم المتحدة مناقشة هذا الموضوع، ولكن تحت عنوان آخر، وهو «التغيير القسري لخط سير الطائرات المدينة إبان طيرانها».
وقد شدد بعض الأعضاء إبان مناقشة الموضوع على النتائج السياسية والقانونية المختلفة لاختطاف الطائرات، مؤكدين بالإجماع على ضرورة إنزال عقوبات صارمة بالمجرمين، كما نبه مندوب الإكوادور إلى عدم فعالية إجراءات تسليم المجرمين، وهي نفس المسألة التي أشار إليها مندوب كوبا الذي أحاط الجمعية العامة علما بالقوانين الخاصة التي سنتها بلاده لمكافحة القرصنة،
6
وأضاف قائلا: إن الولايات المتحدة الأمريكية وعملاءها في أمريكا الجنوبية قد وقعوا هم أنفسهم ضحية لهذا الصنف من الجريمة الذي أسسوه، على الرغم من أن كوبا تعاني من «القرصنة الجوية»، من وجهة نظر الحكومة الكوبية، فإن حل المشكلة يستلزم بذل كل الجهود استنادا إلى الاتفاقيات الثنائية. في الوقت نفسه أشار مندوب كوبا إلى بعض النتائج المترتبة على اختطاف الطائرات، على ضوء قرار الأمم المتحدة باللجوء السياسي. أما مندوب الولايات المتحدة الأمريكية فقد رأى أن من الضروري تنحية الجوانب السياسية للموضوع جانبا؛ إذ إن أهم ما يجب النظر فيه هو تهديد سلامة الأبرياء، وكذلك الممتلكات نتيجة اختطاف الطائرات.
وهكذا وعلى الرغم من أن اختطاف الطائرات قد تم اعتباره بالإجماع عملا إجراميا، سواء تم تصنيفه باعتباره «قرصنة» أو أي شيء آخر؛ فقد كان هناك اختلاف واضح في وجهات النظر بين ممثلي مختلف الدول بخصوص طرق القضاء عليها. وفي الثاني عشر من ديسمبر اتخذت الجمعية العامة القرار رقم 2551 (24) بأغلبية سبعة وسبعين صوتا ضد صوتين، وامتناع سبعة عشر عن التصويت، وفيه: (1)
تدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول لاتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لسن التشريعات القومية المناسبة، التي تضع الأطر اللازمة لاتخاذ الإجراءات القانونية الفعالة، ضد أي من أعمال التدخل غير الشرعية، واختطاف الطائرات الموجودة في الجو أو القيام بفرض السيطرة الإجرامية عليها بالقوة أو بالتهديد باستخدامها. (2)
تؤكد على نحو خاص، على دعوة الدول إلى تطبيق العقوبات على الأفراد، الذين يقومون بارتكاب هذه الأعمال على متن الطائرات. (3)
تؤكد على الدعوة إلى تقديم الدعم الكامل لجهود المنظمة الدولية للطيران المدني، الموجهة لإعداد وتنفيذ المعاهدة التي تقضي باتخاذ الإجراءات الملائمة، بما فيها إدراج عمليات الاختطاف غير المشروعة للطائرات المدنية، ضمن الجرائم التي تستوجب العقوبة، ومعاقبة الأشخاص الذين يقومون بارتكاب هذه الجرائم. (4)
تدعو الدول للتصديق على المعاهدة الموقعة في طوكيو في الرابع من سبتمبر 1963م الخاصة بالمخالفات القانونية، وبعض الأعمال الأخرى التي يتم ارتكابها على متن الطائرات، أو الانضمام للمعاهدة وفقا لشروط المعاهدة الحالية.
7
وأشار البروفيسور أ. كلافكوفسكي مندوب بولندا في معرض تعليقه على الموضوعات التي جرى بشأنها التصويت، أن القرار الذي تم اتخاذه لا يمكن اعتباره وسيلة كافية تسمح ببدء نضال مؤثر اختطاف الطائرات، حيث إنه يفتقد إلى بنود واضحة تتناول مسألة تسليم المتهمين في هذه الجرائم، كما قام مندوب هولندا بقراءة الإعلان التالي الذي أدرجته في تقريرها لجنة الشئون القانونية التابعة للجمعية العامة، التي تولت بحث هذه القضية: «ترى اللجنة أن اتخاذ القرار لا يمكن أن يقدم أي حقوق دولية أو يفرض التزاما على الدول فيما يخص مسألة تسليم (المجرمين).»
لما تباطأت الدول التي وقعت على معاهدة طوكيو لسنة 1963م في التصديق عليها، قامت المنظمة الدولية للطيران المدني، التي كان قلقها يزداد نتيجة الازدياد المحموم لحوادث اختطاف الطائرات، بتأسيس هيئة خاصة أطلقت عليها اسم اللجنة الفرعية لشئون «التدخل غير القانوني»، وكلفتها بدراسة قضايا «اختطاف الطائرات المدنية عنوة بواسطة الهجوم المسلح وارتكاب الأعمال التخريبية ضدها». وقد أعدت هذه اللجنة الفرعية في دورتها التي عقدت في الفترة من 10 إلى 21 فبراير 1969م، مشروع معاهدة جديدة جاءت قراراتها أشمل وأكثر تفصيلا مما جاء في الفصل الرابع من معاهدة طوكيو، وقد شمل المشروع بشكل خاص تعريفا مفصلا لعملية القرصنة الجوية، واعتبرتها «استخداما للقوة أو تهديدا باستخدامها بغرض تغيير وجهة الطيران»، ودعا المشروع الدول التي وقعت على المعاهدة أن تعترف في قوانينها الجنائية بالقرصنة باعتبارها جريمة مخالفة للقوانين.
قررت اللجنة الفرعية بالإجماع ضرورة تسليم المتهمين إلى الدولة صاحبة الطائرة، ورأت ضرورة إدراج هذا النوع من الجرائم في جميع الاتفاقيات الموجودة أو التي يمكن أن تعقد في المستقبل، كذلك قرر أعضاء اللجنة المذكورة بأغلبية تسعة أصوت ضد ثلاثة أن الدولة التي يتم هبوط الطائرة على أراضيها من حقها، استنادا إلى قوانينها الداخلية، أن ترفض تسليم المختطف. وينطبق هذا - على سبيل المثال - على الحالات التي يكون المتهم فيها مواطنا في هذه الدولة، أو عندما يكون وراء ارتكابه لهذا العمل دوافع سياسية، وخاصة في تلك الحالات التي يكون طلب تسليم المتهم فيها لأسباب سياسية. يرى مندوب الولايات المتحدة الأمريكية أن الدولة التي يتم هبوط الطائرة على أراضيها، ينبغي أن تكتفي بإعلان يفيد كون مختطف الطائرة غير مطلوب في الدولة المطالبة بتسليمه لأية أسباب سياسية.
أخيرا، وبعد مماطلة استمرت ست سنوات، صدقت اثتنا عشرة دولة فقط على معاهدة طوكيو، ولم تكن كوبا ولا دول الشرق الأوسط، أي الدول الموجودة في المناطق المشهورة بحوادث اختطاف الطائرات من بين هذه الدول.
إن أنصار إقامة نظام راديكالي عالمي لمكافحة القرصنة الجوية يطلبون أن ينظر إلى هذه الجريمة من الناحية القانونية قياسا بالقرصنة البحرية، وأن يتم اعتبارها كواحدة من الجرائم الموجهة ضد البشرية، واعتبار الأشخاص الذين يقومون باختطاف الطائرات «أعداء للبشرية».
على أية حال ينبغي ألا ننسى أن واحدة من أهم سمات القرصنة - على النحو الذي جرى وصفها به في القانون الدولي - تتمثل في القيام بها انطلاقا من دوافع شخصية مثل الكراهية والحسد والانتقام إلى آخره، وعلى هذا فإنه في تلك الحالات التي يجري اختطاف الطائرة فيها لدوافع سياسية، يستحيل تصنيفها باعتبارهما عملا من أعمال القرصنة.
خلاصة القول: إنه حتى في مجال القرصنة الجوية التي استقر مفهومها على مدى عصور طويلة من الممارسة، فإن الدول ما تزال تجد مصاعب قانونية محددة عند اصطدامها بهذه الجريمة. إن حكومة أية دولة لها الحق في وصف أي تمرد يقوم به طاقم إحدى السفن على سلطتها، أو استيلاء أعدائها السياسيين على سفينة من سفنها عملا من أعمال القرصنة. تستخدم الدولة هنا حقها الأكيد في ملاحقة هذه الأعمال استنادا إلى قوانينها الداخلية، على أن دولا أخرى ليست ملزمة بالضرورة أن تقاسم تلك الدول وجهة نظرها، ويمكنها أن ترفض ملاحقة المتهمين.
في الفترة من السادس عشر إلى التاسع عشر من ديسمبر 1969م عقد في واشنطن مؤتمر دولي لبحث مشكلة اختطاف الطائرات، اشتركت فيه اثنتا عشرة دولة هي: أستراليا، والبرازيل، وبريطانيا، والدنمارك، وإيطاليا، وكندا، وهولندا، والنرويج، والسويد، وفرنسا، وألمانيا الاتحادية، واليابان. وجميعها أعضاء في المنظمة الدولية للطيران المدني، لم يقتصر الاهتمام بمشكلات اختطاف الطائرات المدنية على المنظمات الحكومية، وإنما تعداه ليشمل منظمات أخرى غير حكومية، كان على رأسها الهيئة الدولية للنقل الدولي المعروفة باسم إياتا
IATA
والاتحاد الدولي للطيارين المدنيين.
في منتصف شهر مارس عام 1970م عقد في جنيف - بمبادرة من الهيئة الدولية للنقل الدولي، التي تضم ثلاثا ومائة شركة طيران - مؤتمرا دوليا لبحث مسألة وقف اختطاف الطائرات، وقد جرت أعمال المؤتمر في سرية تامة، ولم تنشر قراراته. فيما يتعلق بأعمال المؤتمر أصبح من المعروف أنه على مدى العامين الأخيرين قبل انعقاده، وقعت ما يزيد عن مائة طائرة من خمس وعشرين دولة ضحية للقراصنة. بناء على ذلك أسست الهيئة الدولية للنقل الدولي لجنة خاصة لبحث قضايا اختطاف الطائرات، وكلت إليها مهمة إعداد توصيات بهذا الصدد وتقديم تصورها للهيئة، وقد بادرت الإياتا برصد جوائز تمنح للذين يساعدون في كشف قراصنة الجو، وتأمين الجو وتأمين الطائرات منهم، وشرع في استخدام الأجهزة المغناطيسية للكشف عن القنابل والأسلحة في ملابس وأمتعة المسافرين، وذلك في إطار أعمال مقاومة القرصنة.
أما مندوب الإياتا في المؤتمر، فقد أعلن أن التوصيات التي أعدتها الهيئة تستهدف التقليل إلى أقصى حد ممكن من مخاطر اختطاف الطائرات، دون أن تخلق مزيدا من المتاعب أمام الرحلات العادية، وكانت الإياتا قد وجهت فيما سبق توصيات لبعض الدول وشركات الطيران والمطارات، ولكنها كانت تحمل طابعا استشاريا فقط. وقد ارتأى المشروع التمهيدي للمعاهدة ضرورة معاملة الأشخاص المهتمين باختطاف الطائرات باعتبارهم مجرمين عاديين، بغض النظر عن الأسباب التي دفعتهم لارتكاب جريمتهم، أما الاتحاد الدولي للطيارين المدنيين فقد قدم إلى المؤتمر الذي انعقد في لندن في شهر ديسمبر عام 1969م اقتراحا بمعاقبة المتهمين بخطف الطائرات بعقوبات مشددة، تصل إلى الإعدام.
وقد أكدت صحيفة «كريستان ساينس مونيتور» الأمريكية في عددها الصادر في السابع من نوفمبر عام 1969م أن «أعضاء الوفود لدى الأمم المتحدة يدركون جيدا أنهم ليس بمقدورهم إعداد نظام ملائم للعقوبات، طالما أن المنظمة غير قادرة على تطبيقه. إن الحكومات وحدها هي التي تستطيع إدخال هذه العقوبات ضمن تشريعاتها».
على الرغم من أن هذا الحكم لا يحمل قدرا كبيرا من التفاؤل، فإنه من المثير للاهتمام أن نشير إلى بعض التدابير العملية، التي لجأت إليها إثيوبيا في نضالها الناجح ضد اختطاف الطائرات، ففي مايو عام 1969م تعرضت خمس طائرات تابعة لشركة الخطوط الإثيوبية لهجوم من قراصنة الجو، وقد أصيبت طائرتان نفاثتان تابعتان لهذه الشركة بأضرار بالغة على يد الإرهابيين في مطاري: فرانكفورت في شهر مارس، وكراتشي في شهر يوليو. واستطاع القراصنة اختطاف طائرتين أخريين من إثيوبيا، الأولى في شهر أغسطس، وتم توجيهها إلى الخرطوم، والثانية في شهر سبتمبر وتم توجيهها إلى عدن.
بعد هذه الحوادث حرصت السلطات الإثيوبية على دفع أفراد من رجال الأمن ضمن أطقم جميع طائرات الركاب، سواء على الرحلات الداخلية أو الخارجية، وقد أثبتت هذه التدابير فعاليتها عند تطبيقها. في الثاني عشر من ديسمبر عام 1969م دفع قرصانان حياتهما على محاولتهما السابعة عشرة لاختطاف طائرة، مسجلين بذلك سابقة فريدة من نوعها في تاريخ «القرصنة الجوية» القصير نسبيا، عندما سقطا ضحية أعمالهما الإجرامية. وقعت هذه الدراما على متن الطائرة الإثيوبية النفاثة من طراز «بوينج-707» العاملة على خط مدريد- روما، أسمرة-أديس أبابا. بدأت محاولة الاختطاف بالقرب من شواطئ إسبانيا، على ارتفاع حوالي عشرة آلاف متر. كان عدد المسافرين على الطائرة خمسة ومائتي راكب واثنين من الطيارين، وطاقم يبلغ عدده تسعة أفراد، بالإضافة إلى ثلاثة من رجال الأمن الإثيوبيين.
في البداية سارت الرحلة سيرا طبيعيا، ثم بغتة قفز أحد الركاب من مقعده حاملا مسدسه في يده متوجها ناحية غرفة الطيارين، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى بابها؛ إذ اندفع نحوه رجل الأمن، وانتزع منه مسدسه، وقتله برصاصتين من مسافة قريبة. في اللحظة نفسها تم انتزاع سلاح المهاجم الثاني - الذي هرع لنجدة زميله - وقتل بدوره على يد رجل الأمن الثاني. أثار إطلاق النار ذعر المسافرين - الذين ارتموا على أرضية الطائرة - ثم ما لبثوا أن استردوا هدوءهم، وعادوا إلى مقاعدهم، وقد قدمت المضيفات الشمبانيا لجميع الركاب لمساعدتهم على الشعور بالاطمئنان بعد ما عانوه من قلق واضطراب.
سحبت جثث المهاجمين إلى دورة المياه، كما تم اكتشاف مواد متفجرة في أمتعتهم، قام رجال الأمن بتأمينها، بعد ذلك عادت الطائرة تواصل رحلتها في سلام، غير أنها لم تهبط في روما، كما كان مقررا في جدولها، وإنما اتجهت مباشرة إلى أثينا، حيث وصلت سالمة بعد منتصف الليل. هرعت قوة الشرطة في العاصمة أثينا إلى الطائرة فور إحاطتها لاسلكيا بأخبار المأساة، ثم شرعت في التحقيق بمجرد هبوط الطائرة، حيث إن الحادث وقع بعد إقلاع الطائرة مباشرة من مدريد، وبالتالي بعيدا عن المجال الجوي لليونان، فقد رأت السلطة اليونانية أن من غير الممكن التدخل في هذه القضية، وسمحت للطائرة بمواصلة الرحلة. في أثينا هبط المسافرون الذين كانوا متوجهين إلى روما، ليستقلوا طائرة أخذتهم إلى إيطاليا، ما إن هبطت الطائرة في أديس بابا، حتى بدأت السلطات الإثيوبية في إجراء تحرياتها التي كشفت أن أحد المعتدين سنغالي والآخر يحمل جواز سفر يمني.
في الرابع من ديسمبر عام 1969م أصبحت معاهدة طوكيو الخاصة بارتكاب الجرائم وبعض الأعمال الأخرى على متن الطائرات نافذة المفعول، إلا أنها لم تسهم بأي قدر من تحسين الوضع القائم. لقد اكتشفت الدول الموقعة عليها مدى ما تحتويه هذه المعاهدة من تناقضات سياسية عميقة. وتظهر هذه المتناقضات بالدرجة الأولى بين تلك الدول التي تتعرض شركات الطيران فيها بشكل متكرر لاختطاف طائراتها أو الاستيلاء غير الشرعي على الطائرات حسب الاصطلاح الخاص، والدول التي تعطي في أحيان كثيرة حق اللجوء للمتهمين مستندة في ذلك إلى قواعد تقديم هذا الحق.
لم تتناول معاهدة طوكيو لسنة 1963م، والتي جرى توقيعها بناء على المؤتمر الدولي الرابع بخصوص القانون الجوي، (وكانت المنظمة الدولية للطيران المدني هي التي تولت عقد هذا المؤتمر) لم تتناول مسألة المخالفات والأعمال غير القانونية التي يتم ارتكابها على متن الطائرة، والتي يمكن أن تهدد سلامة الطائرة أو الأشخاص أو الممتلكات الموجودة عليها، أو تهدد المحافظة على الضبط والربط فيها،
8
تبعا لذلك فإن مسألة الاستيلاء غير الشرعي على الطائرات، قد وردت في نص المعاهدة غامضة بعض الشيء، وذلك في الفصل الرابع، القصير نسبيا، وبالتحديد في المادة الحادية عشرة منه فقط.
ومما ورد في نص هذه المادة: «في حالة وجود أشخاص على متن الطائرة يقومون - على نحو غير شرعي - باستخدام القوة أو بالتهديد باستخدامها بغرض ارتكاب عمل من أعمال التدخل أو الاختطاف، أو استخدام أي شكل إجرامي آخر لقيادة الطائرة إبان تحليقها، أو عند استعدادها للإقلاع، تتخذ دول المعاهدة كل الإجراءات المناسبة لإعادة قيادة الطائرة إلى قائدها الشرعي، أو لاستمرار احتفاظه بقيادتها» (المادة 11، الفقرة 1)، «وفي الأحوال التي تشتمل عليها أحكام الفقرة السابقة، فإن على الدولة العضو في المعاهدة، والتي تهبط على أرضها الطائرة، أن تسعى قدر المستطاع لتوفير إمكانات مواصلة الركاب والطاقم رحلتهم، وإعادة الطائرة وشحنتها إلى أصحابها الشرعيين» (المادة 11، الفقرة 2).
9
وهكذا نجد أن القرارات الواردة في المادة الحادية عشرة من معاهدة طوكيو، لم تتغلب على العقبتين الأساسيتين في الملاحقة الفعالة للمتهمين في عمليات اختطاف الطائرات، وهما بالتحديد : (أ)
الجدل المحتدم بين الدول حول الجهات القضائية وسلطاتها.
الصعوبات الخاصة بتسليم الخارجين على القانون ، صحيح أن هناك قرارات في المعاهدة تنظم - على نحو غير مباشر - هذين الأمرين، على أن المنفعة العملية لها ما تزال موضع شك.
فنحن نجد على سبيل المثال أن المادة الثالثة من المعاهدة تتضمن حكما عاما يعطي «للدولة المسجلة باسمها الطائرة، سلطة النظر قضائيا في الجرائم والأعمال التي يتم ارتكابها على متنها».
10
ثم تأتي الفقرة الأولى من المادة السادسة عشرة من معاهدة طوكيو، لتنص بدورها على أن «الجرائم المرتكبة على الطائرة المدونة في سجل الدول عضو المعاهدة تعامل - فيما يخص تسليم المتهمين - كما لو كانت قد ارتكبت ليس فقط في مكان حدوثها، وإنما أيضا كما لو كانت قد وقعت على أراضي الدولة المسجلة باسمها هذه الطائرة»
11
يتعارض هذا القرار مع الاتفاقيات الدولية الملزمة بشأن تسليم المتهمين، والتي تقضي في معظم الأحيان بتسليمهم إلى الدولة المطالبة بهم، وهي الدولة التي يتم ارتكاب الجريمة على أراضيها، على أن الفقرة الثانية من المادة السادسة عشرة تستدرك لتدقق قرارات الفقرة الأولى مؤكدة على: «ألا يتنقص ذلك من الفقرة السابقة؛ إذ لا تنظر المعاهدة الحالية إلى هذه الفقرة باعتبارها ملزمة للتسليم».
12
إن هذا الأمر يفقد إلى حد كبير المادة السادسة عشرة مغزاها العملي، حيث إن غالبية قرارات المتهمين تستثني من مجال تأثيرها الجرائم ذات الطابع السياسي، وقد أصبح من الشائع في الوقت الراهن النزوع لإدراج حوادث الاختطاف تحت هذا الصنف بالذات من الجرائم.
عملية دولتسينية
لا تتضمن معاهدة جنيف المؤرخة 29 أبريل 1958م بشأن البحار المفتوحة أي تعريف جامع للقرصنة يتفق وواقع الحال المعاصر. وهذا الأمر يؤدي إلى مصاعب جمة عند التكييف القانوني لحالات عصيان أطقم السفن، أو الاستيلاء عليها على أيدي المتمردين في البحار المفتوحة.
إن الإجابة على هذا السؤال ما إذا كانت هذه الأعمال مرتبطة بارتكاب أعمال إجرامية ضد السفن الأخرى (اعتداء، سرقة، قصف استفزازي إلى آخره ...) أم لا. أحد أهم الجوانب الجوهرية للتكييف القانوني للحقائق المتعلقة بأحداث تمرد الأطقم أو الاستيلاء على السفن في عرض البحر. في شهر فبراير عام 1963م قام متمردون فنزويليون بالاستيلاء على سفينة من سفن الدولة تدعى «أنسواستيكي» في محاولة منهم لجذب انتباه الرأي العام العالمي إلى الوضع في فنزويلا، وقد توجهت الحكومة الفنزويلية بطلب إلى عدد من الدول للقبض على هذه السفينة، على أنه ما إن دخلت «أنسواستيكي» إلى المياه الإقليمية للبرازيل حتى أعطي طاقمها حق اللجوء السياسي، ثم جرى بعدها إعادة السفينة إلى فنزويلا. من هذا يتضح أن البرازيل رفضت اعتبار ما قام به المتمردون عملا من أعمال القرصنة، كما اقترحت عليها الدوائر الرجعية. جدير بالذكر أن الاستيلاء على «أنسواستيكي» الفنزويلية بواسطة المتمردين لم يكن مرتبطا على أي نحو بأية أعمال غير قانونية ضد سفن أخرى.
نفس الأمر كان قد وقع قبل ذلك للسفينة البرتغالية «سانتا-ماريا»، على أن الجانب السياسي والقانوني بصدده اتسم بقدر أكبر من التعقيد. في شهر أبريل عام 1961م قامت مجموعة من الثوار البرتغاليين المناهضين لنظام سالازار الفاشي بالاستيلاء على سفينة الركاب «سانتا-ماريا» في عرض البحر. وقد أبقى الثوار علم البرتغال مرفوعا عليها، ولكنهم غيروا وجهتها بعد أن عقدوا عزمهم على الوصول بها إلى إحدى المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، حيث يقومون بإثارة انتفاضة ضد الحكومة. على أن المطاردة التي تم تنظيمها لسفينة الركاب أرغمتها على الاحتماء بالمياه الإقليمية للبرازيل، فما كان من الحكومة البرازيلية إلا أن منحت الثوار البرتغاليين حق اللجوء السياسي، ثم ما لبثت أن أعادت السفينة إلى البرتغال. على هذا النحو وضد رغبة حكومة سالازار، رفضت البرازيل اعتبار الثوار قراصنة.
فيما يلي نورد بعض تفاصيل هذا الحادث الذي يعد أبرز حادث لاختطاف سفينة في القرن العشرين:
في شهر مايو من عام 1959م أطلق سراح القبطان إنريسكي جالفاو من سجون سالازار، وعلى الفور انضم القبطان إلى حركة تحرير وطنه من النير الفاشي. على أن الوطني المفعم بالحماس لم يستطع أن يقوم بنشاط فعال في نضاله ضد الرجعية في البرتغال، فغادرها متجها إلى فنزويلا، وهناك في كاراكاس استطاع بمساعدة اثنين من الثوار، يتمتعان بالنفوذ لدى السلطات المحلية من تنظيم عدد هذه الأعمال الثورية.
ظهرت فكرة «عملية دولتسينية » في رأس القبطان جالفاو عندما قرأ في إحدى الصحف إعلانا عن الرحلة الدورية لسفينة الركاب البرتغالية «سنتا-ماريا» إلى ميناء لاجوايرا الفنزويلي القريب من كاراكاس، على أن الطريق من الفكرة وحتى تنفيذها كان طويلا وشاقا.
كان من الضروري، وقبل كل شيء، جمع المال وإعداد الرجال الذين سيقومون بالاستيلاء على السفينة، ثم الحصول على أهم المعلومات الممكنة عنها. قامت شركة الملاحة البحرية صاحبة الشركة بإسداء العون إلى الثوار بمحض اختيارها (على نحو روتيني بالطبع)؛ وذلك بإصدار تصاريح زيارة للضيوف الراغبين في مشاهدة السفينة إبان رسوها في الميناء، وكذلك عن طريق برامج الدعاية المطبوعة المختومة على رسوم تفصيلية ومعلومات فنية عن السفينة، لكن المال ظل هو حجر العثرة في خطبة القبطان، وبعد عدد من المحاولات الفاشلة، تم اختصار كشف التقديرات المبدئي من ثلاثين ألفا إلى ستة آلاف دولار.
تم تقسيم «عملية دولتسينية» إلى عدة مراحل:
أولا:
الاستيلاء على السفينة، ثم تحويل مسارها والوصول بها - دون علم السلطات البرتغالية - إلى شواطئ غرب أفريقيا. كان في نية الثوار أن يرسلوا برقية إلى التوكيل القائم بأعمال السفينة، يخبرونه فيها بتغيير وجهة السفينة لضرورة إجراء إصلاحات بالآلات، كل ذلك يهدف تخدير سلطات حكومة سالازار اليقظة وتعطيل مطاردتها للثوار.
ثانيا:
خطط الثوار للهجوم على فرناندو-بو بالاشتراك مع طاقم السفينة الذي كان جالفاو يعقد على مساعدته له آمالا كبارا، ثم يقوم بعد ذلك بالاستيلاء على أية سفينة مسلحة؛ لكي يتمكن هو ورجاله في النهاية وبمساعدة الأهالي من احتلال عاصمة أنجولا. آنذاك كان من المفترض أن يتم تحرير جزء من هذا البلد الواقع تحت الحكم البرتغالي، كان جالفاو قد قرر أن يشكل هنا حكومة ثورية، ويبدأ حربه ضد الديكتاتور سالازار.
في يوم الخميس الموافق 20 من يناير عام 1961م، وفي تمام الساعة الثامنة صباحا وصلت «سانتا-ماريا» وعلى ظهرها ستمائة راكب، وطاقم مكون من ثلاثمائة وخمسة عشر فردا إلى ميناء لاجوايرا. في هذا الوقت كان الثوار البرتغاليون قد انتهوا من استعداداتهم التي جرت على نحو ساده الاضطراب والعجلة. وفي بيت أحد المتآمرين - الذي تحول إلى مقر أركان للحرب - نسي الجميع عددا من صناديق الأسلحة والذخائر، كان من المخطط شحنها على السفينة، لكنهم نجحوا في نهاية الأمر من الصعود إلى السفينة، ونقل الشحنة من كاراكاس إلى لاجوايرا.
لما كان من الصعب توفير المال اللازم لشراء التذاكر لجميع المشتركين في العملية، فقد صعد جزء من الثوار إلى السفينة بعد أن أبرزوا التصاريح الخاصة بالزيارة، وظلوا بها إلى ساعة الرحيل الحاسمة، ليختفوا عليها، ويسافروا «خلسة». أما القبطان جالفاو فقد كان عليه أن يجد طريقة للصعود على السفينة، إذ مجرد ظهور اسمه على قائمة الركاب المتوجهين إلى البرتغال كان من الممكن أن يثير سحابة من الشكوك. وبهذا فقد استقل جالفاو طائرة في الصباح، حلقت به إلى ميناء كيوراساو الواقع في جزيرة في خليج فنزويلا غير بعيد عن كاراكاس، حيث كان عليه أن ينضم مع ثلاثة آخرين إلى بقية رفاقه على السفينة يوم 21 يناير.
في كيوراساو نزل جالفاو في فندق «برياس»، واختار لنفسه غرفة يطل من نافذتها على القناة التي تعبرها السفن الداخلة إلى الميناء. إبان تناوله طعام الغذاء استمع جالفاو - بمحض الصدفة - إلى حديث اثنين من العاملين بالميناء، علم منه أن «سانتا-ماريا» قد أصابها عطل في التوربين، وقد انتاب القبطان قلق بالغ من جراء هذه الأنباء، التي إن دلت على شيء؛ فإنما تدل على أن المعلومات التي حصل عليها الثوار ليست مكتملة إلى حد كبير، وقد اتضح فيما بعد أن الثوار لم يكونوا على علم بالخلل الذي أصاب التوربين، فضلا عن عطل آخر أصاب الماكينات، الأمر الذي سيترتب عليه حتما ألا تتمكن السفينة من زيادة سرعتها. على أن الأسوأ من ذلك كله أنه لم يكن هناك تصور لدى المشتركين في العملية عن مخزون المياه، أو الوقود على السفينة.
الشخص الوحيد الذي كان على علم بعملية «دولتسينية»، والذي لم يشترك فيها بنفسه كان هو الجنرال ديلجاو رئيس جبهة التحرير البرتغالية القومية.
منذ الصباح الباكر ليوم السبت الموافق 21 يناير أخذ القبطان جالفاو في مراقبة السفن الداخلة إلى الميناء، وعندما بلغت الساعة التاسعة والنصف انفتح الجسر المتحرك على القناة، لتدخل «سانتا-ماريا» تتهادى حتى استقرت على بعد ما يقرب من مائة متر فقط من نوافذ الفندق. عندما نظر جالفاو في منظاره المقرب ليستطلع رجاله على ظهر السفينة لم يجد أحدا منهم.
كان القبطان قد اتفق مع مساعده سوتوماير عشية إبحار السفينة، على أن يصعد الأخير على سطحها مع عدد من الثوار أصحاب التذاكر، ثم يتم بعد ذلك وضع التفاصيل الأخيرة للعملية، كانت المعلومات التي حصل عليها سوتوماير مبشرة، فقد قام بفحص السفينة وجميع البيانات الضرورية، كما جرت عمليات ركوب الأفراد والشحنات في ميناء لاجوايرا بنجاح تام، ولم يتبق سوى فرد واحد وصندوقين يحويان مواد خاصة بالقنابل اليدوية وأسلاكا، هكذا دخلت «عملية دولتسينية» مرحلتها الحاسمة.
استطاع جالفاو وثلاثة من رفاقه الحصول - بمساعدة أحد الموظفين في الوكالة البحرية في كيوراساو - على ثلاثة تصاريح لزيارة السفينة، ولما كان القبطان شخصية شهيرة في البرتغال، فقد كان لزاما عليه أن يتخذ بعض الإجراءات الوقائية. كانت السادسة مساء هي موعد مغادرة السفينة، بينما كان على جالفاو أن يكون على متنها في الساعة الرابعة والنصف. اتجه جالفاو ناحية سلم السفينة في الوقت الذي تزاحم عليه عدد من الركاب، وكان يضع على رأس قبعة، أنزل حوافيها على وجهه. لم يسأله أحد عن التصريح الذي يحمله، وما هي إلا دقائق حتى كان القبطان يجلس في غرفة من الدرجة السياحية مجهزة لأربعة أشخاص، ومن الطبيعي أن يكون مرافقوه في الغرفة من رفاقه الذين يحملون تذاكر سفر.
في المساء بدأت الاستعدادات الأخيرة للعملية، فتحت الصناديق، وتم توزيع الأسلحة. ومرة أخرى يتم الاتفاق وتنسيق التفاصيل الأخيرة للاستيلاء على السفينة. في الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة بعد منتصف الليل أعطى جالفاو إشارة بدء العملية، فتوجهت فرقة الهجوم بقيادة سوتوماير لاحتلال غرفة اللاسلكي ومركز قيادة السفينة وبرج الملاحة. في نفس الوقت كانت هناك جماعة أخرى بقيادة جالفاو نفسه مكلفة بالهجوم على السطح، حيث كانت توجد غرف قبطان السفينة وطاقمها.
كان الثوار قد قرروا أن يحققوا أهدافهم دون إراقة للدماء، معولين على النجاح في ذلك بواسطة مباغتة الطاقم. على أن فرقة سوتوماير قد تعرضت لمقاومة مفاجئة من جانب أحد ضباط الحراسة، وذلك بعد أن نجحت في الاستيلاء على غرفة اللاسلكي بسهولة بالغة. وقد أعلن جالفاو فيما بعد أن هذا الضابط كان الوحيد من بين أفراد الطاقم الذي كان يتمتع بقدر عال من الشجاعة، وقد انتهى تبادل النيران الذي جرى آنذاك في الظلام بمصرع الضابط وإصابة رفيقه بجراح.
دفع الصدام المسلح الذي جرى على سطح السفينة بالكابتن جالفاو لتغيير خططه الأولى، وتراجعه عن الهجوم على غرف الضباط، فتوجه إلى غرفة القيادة مع فرقته، بعد أن أغلق وراءه المخرج الوحيد الذي يمكن للضباط من خلاله الصعود إلى السطح. كانت غرفة القيادة قد وقعت بالفعل في يد الثوار عندما دق جرس الهاتف بها. رفع جالفاو السماعة، كان القبطان يستفسر عن إطلاق النار على سطح سفينته، وعلى الفور شرح جالفاو الموقف بقوله: سيادة القبطان، أرجوك أن تحتفظ بهدوئك، لم يحدث هناك أي أمر غير عادي، سوى أنني قد استوليت على مقاليد الأمور في سفينتك، لا جدوى من المقاومة، وإنني أدعوك للاستسلام.
وقد أعلن القبطان أنه يتحدث من غرفته، وحوله جميع الضباط الذي هرعوا إليه، انتظارا لأوامره بعد أن استمعوا لطلقات الرصاص على سطح السفينة، واقترح على الثوار النزول إليه، وقد تخلوا عن أسلحتهم حتى يمكن التفاهم معهم.
وقد أجاب جالفاو على هذا الاقتراح بقوله: لست الآن في وضع يسمح لك بفرض شروطك.
عندئذ ظل القبطان يلح في أن ينزل إليه جالفاو بنفسه بسلاحه أو بدونه.
وجد جالفاو في انتظاره بغرفة القبطان مجموعة من الضباط، بعضهم بملابس النوم، والبعض الآخر بأردية الاستحمام. كان الجميع يجلسون في حالة من الاكتئاب، حتى إن أحدهم انخرط في بكاء مر. وقف جالفاو لدى الباب في حيرة من أمره ولا يعرف من أين يبدأ، وقد كان يظن أنه سيلقى بحارة شجعان، وعندما رأى أن أحدا من البحارة لا يعتزم الوقوف في سبيله، وضع مسدسه على طاولة كتابة القبطان، ثم طرح ثلاثة اقتراحات:
الذين يشاركوننا وجهة نظرنا السياسية ويطمحون لأن تعود البرتغال مرة أخرى؛ لتمتلك زمام أمرها كدولة حرة، يستطيعون الانضمام إلى حركتنا.
يستطيع الضباط من الآن فصاعدا القيام بواجباتهم وفقا للظروف الجديدة، التي تلزمهم بتنفيذ الأوامر الصادرة من القيادة الثورية للسفينة بكل ولاء.
في حالة الاعتراض على الاقتراحين الأولين، يتم اعتبار الضباط أسرى حرب.
كانت وجوه الضباط تعكس مشاعرهم المتناقضة، ومع هذا فقد قرروا الاستسلام، مؤكدين ولاءهم لجالفاو الذي كان يشعرهم - رغم ذلك - بحالة شديدة من الكدر وعدم الارتياح. زاد هذا القرار من إيمان الثوار بأن أعداءهم أناس ضعاف النفوس لا يستحقون الثقة.
في الوقت الذي كان جالفاو يجري فيه مباحثاته، كان الثوار قد تمكنوا من احتلال المواقع الحساسة فوق ظهر السفينة: غرفة القيادة، قسم الآلات، وغرف الضباط. أما الجرحى فقد نقلوا إلى عنبر المرضى، وقد جاء في تقرير طبيب السفينة أن حالة أحدهم حرجة.
نزل سوتوماير مع بعض رفاقه إلى غرفة القبطان، ليكون شاهدا على الاستسلام، وفي هذه اللحظة ذاتها إذا بالشك يفترس ضباط «سانتا-ماريا»، حتى هنا على بعد آلاف الأميال من لشبونة تملكهم الذعر، عندما تذكروا مدى ما سيحيق بهم على يدي رجال سالازار سيئي السمعة.
كان جالفاو الذي عانى بنفسه فظائع سجون سالازار يدرك جيدا هذه المشاعر، التي عصفت بهؤلاء الضباط، الذين لم يكونوا يتمتعون أساسا بصفات الشجاعة والإقدام، وحتى ينجح في تهدئتهم، ويجنبهم العقاب والاضطهاد المتوقعين مستقبلا من جانب البوليس البرتغالي. سلم جالفاو لطاقم السفينة شهادة أثبتت أن تصرفاتهم جميعها تمت قسرا، وانضم للتوقيع على هذه الشهادة التي توثق لاختطاف السفينة أيضا الثوار والقبطان وسوتوماير وعدد آخر من الشهود.
جدير بالذكر أن المستسلمين ظلوا، وحتى نهاية الرحلة ملتزمين بتنفيذ كل أوامر الثوار، ولم يبدوا أي قدر - ولو ضئيلا - من المقاومة.
لقد أصبحت هذه الجزيرة البرتغالية العائمة تحت سيطرة الثوار بعد ساعة واحدة من بدء «عملية دولتسينية»، حتى إن المسافرين الذين كانوا يغطون في النوم في غرفهم ، لم يكن لينتابهم الشك أن شيئا يحدث تلك الليلة. كان جالفاو على أهبة
13
الاستعداد لمواجهة أية مضاعفات، يمكن أن تنشأ نتيجة معرفة المسافرين والبحارة، الذين كانوا ينالون آنذاك قسطهم من الراحة بما حدث. على أية حال لم يكن لهذه الهواجس ما يبررها، فالوضع - بعد معرفة الجميع بما حدث - ظل كما كان عليه، فلم تكن هناك مظاهر للذعر سواء بين المسافرين، أو بقية أفراد الطاقم.
الأمر الوحيد الذي وقع دون أن يكون في حسبان أحد هو الاضطراب الذي وقع بين عمال المطعم، الذين تصوروا أن الركاب قد قاموا بتمرد فوق السفينة، ولكنهم عندما علموا أن القبطان جالفاو على رأس المتمردين، وأن اختطاف السفينة يحمل طابعا سياسيا، هدأت نفوسهم. وعلى عكس المتوقع فقد لقي الثوار تفهما أكبر لدى السائحين الأجانب، وكثير من هؤلاء أصبحوا أصدقاء مخلصين لجالفاو ورفاقه، دون أن ينتابهم أي إحساس بالخوف من انتقام من البوليس البرتغالي.
على الرغم من العطب الذي أصاب أحد الماكينات، فقد واصلت السفينة سيرها بسرعة كبيرة تماما، كما وعدت بذلك شركة الملاحة المسافرين في إعلاناتها، كان جالفاو يسعى بكل ما أوتي من حيلة للخروج بأسرع ما يمكن من متاهة الجزر المنتشرة في البحر الكاريبي، حتى يتمكن من الخروج إلى عرض المحيط الأطلنطي.
في صباح يوم الإثنين الموافق 23 يناير أبلغ طبيب السفينة القبطان جالفاو بأن حياة واحدة من الاثنين اللذين أصيبا إبان إطلاق النار في خطر، الأمر الذي يستلزم اتخاذ قرار حاسم، ورأى الطبيب أن من الممكن إنقاذ حياة المصاب في حالة إنزاله إلى الشاطئ، حيث يمكن توفير الرعاية الطبية اللازمة. علاوة على ذلك فقد فاجأت أحد المسافرين آلام مبرحة في الكبد. لم يكن جالفاو يثق ثقة كاملة في النتائج التي توصل إليها الطبيب، ولكنه لم يكن - في الوقت نفسه - يمتلك أية إمكانات للتثبت من صحتها، وانطلاقا من أن موت رجلين بريئين يمكن أن يلطخ سمعة الثوار قرر جالفاو أن ينزل المرضى إلى الشاطئ، على الرغم من أنه بذلك العمل يكشف عن مكان وجود السفينة، ومع ذلك فقد نشرت إحدى الصحف الأرجنتينية - بعد هذا الحادث بعدة أيام - مقالا صحفيا تعلق فيه على قرار القبطان جالفاو، بأنه قرار يفتقر إلى صفات الثورية الحقة، وإن لم تنقصه القسوة والفظاظة.
كانت «سانتا-ماريا» قد رست في التاسعة صباحا على بعد ميلين من شواطئ جزيرة سانتالوتشيا، حيث نقل المرضى بواسطة قارب بخاري يصحبهم فيه مساعد الطبيب.
لم تكن سوى بضع دقائق توقفت فيها السفينة لتؤدي مهمتها، انطلقت بعدها بأقصى سرعة مخترقة عباب الأطلنطي ميممة نحو شواطئ أفريقيا. في البداية قطع الثوار كل اتصال لهم بالعالم الخارجي، حرصا منهم على بقاء موقعهم في المحيط مجهولا، ثم ما لبث جالفاو أن رفع هذا الحظر، لقد اتضح فيما بعد أن نظام سالازار قد أعاق وصول العديد من البرقيات التي أرسلتها «سانتا- ماريا»، محاولا بذلك خلق انطباع بأن الثوار يسيئون معاملة الركاب والطاقم.
في ليلة الرابع والعشرين من يناير استمع من في السفينة - من خلال الراديو - إلى أول ردود فعل للصحافة العالمية - واستنادا إلى شهادة أفراد من الطاقم الذين تم إنزالهم إلى الشاطئ، أذاعت وكالة الأنباء الأمريكية «يونايتد برس» قصة ملفقة عن الأحداث جاء فيها: «نشب تمرد على عابرة المحيط البرتغالية «سانتا-ماريا»، وهي في طريقها من كيوراساو إلى ميامي، استولى سبعون فردا من الطاقم يملكون الرشاشات والقنابل اليدوية على السفينة.» ومن واشنطن ورد نبأ آخر يقول: «خرجت السفن الأمريكية والبريطانية الحربية للبحث عن السفينة البرتغالية التي وقعت في أيدي الركاب المتمردين.»
وحتى يقطع سبل
14
هذه الوشايات الملفقة في حق الثوار البرتغاليين، والتي عمدت إلى وضعهم أمام الرأي العام العالمي في صورة القراصنة، أرسل القبطان جالفاو بالنبأ التالي عبر الأثير: «بتكليف من اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير الوطنية، التي يرأسها الجنرال أومبرتو ديلجاو الذي اختاره رئيس جمهورية البرتغال، والذي جردته حكومة سالازار من حقوقه عن طريق الخداع، قمت في الثاني والعشرين من يناير بالاستيلاء على السفينة «سانتا-ماريا». إنه عمل سياسي محض، وقد قبله طاقم السفينة على هذا النحو.»
لم تثمر المطاردة في ساعاتها الأولى عن أية نتائج، كانت «سانتا-ماريا» التي يقودها البحار المحنك سوتوماير تغير وجهتها من حين لآخر، فتارة تسير باتجاه شواطئ غوينيا، وتارة باتجاه جزر الرأس الأخضر.
كان جالفاو قد استنتج من الأخبار التي يتلقاها بالراديو أن الرأي العام متعاطف مع الثوار، وفي نفس الوقت كانت الدعاية التي تبثها أجهزة سالازار تصور الثوار على أنهم قتلة يعملون لصالح الشيوعية السوفييتية، وأنهم يعاملون المسافرين والطاقم معاملة لا إنسانية. كتب جالفاو في مذكراته: «إنهم يصفوننا بالقراصنة، بيد أن هؤلاء القراصنة الغريبي الأطوار، لم يأخذوا من أحد سنتا واحدا، ولم يمسوا الثروات الضخمة التي وجدوها في خزائن «سانتا-ماريا»، والتي كان بإمكانهم اعتبارها غنائم حرب.»
لقي اشتراك السفن الحربية البريطانية في مطاردة «سانتا-ماريا» احتجاجا لدى مجلس العموم، وفي النهاية توقفت السفن البريطانية عن المطاردة بحجة نقص الوقود.
لم يكن من الممكن بالطبع أن ينجح الثوار في التنبؤ بكل المصاعب التي يمكن أن تظهر في طريقهم، فعلى الرغم من أن «سانتا-ماريا» اتخذت لنفسها مسارا، يندر أن تستخدمه السفن، فقد التقت في طريقها بسفينة نقل دنماركية، استطاعت أن تحدد موقعها، في حوالي السادسة من مساء الخامس والعشرين من يناير، حلقت فوق السفينة طائرة تحمل العلامات الأمريكية، وإبان تحليق الطائرة فوق «سانتا-ماريا» تم الاتصال بينهما بالتليفون اللاسلكي، حيث كان الاتصال البرقي معطلا:
الطيار :
إلى أين تتجه «سانتا-ماريا»؟
جالفاو :
لن أخبرك، حتى أتلقى ردا من منظمة الأمم المتحدة بشأن اعتبار عمليتنا عملية سياسية.
الطيار :
باسم القيادة العليا لأسطول شمال الأطلنطي الأمريكي، أدعو القبطان جالفاو للاستسلام، وقيادة السفينة إلى سان خوان بجزيرة بوبرتو-ريكو.
جالفاو :
أعتبر طلبك غير قانوني؛ إذ إنه ينطلق من كوننا قراصنة، وهو الشيء الوحيد الذي كان من الممكن اعتباره مسوغا للأسطول البحري الأمريكي، لفرض مثل هذه الشروط علينا. إننا منظمة سياسية تعمل فوق الأراضي البرتغالية مناهضة للحكومة الاستبدادية في بلادنا، وبناء على ذلك؛ فإننا لا نعترف بأية أوامر تصدر لنا من حكومات البلاد الأجنبية.
الطيار :
هل يمكنك إذن أن تستجيب لطلبي ؟
جالفاو :
لا أعرف إن كنت سأفعل، لكني على استعداد أن أستمع إليك.
الطيار :
أرجوك التوجه إلى بوبرتو-ريكو حتى يتم التفاوض شخصيا بينك وبين الأدميرال دينسون.
جالفاو :
أرفض هذا الطلب تماما، ولن أغادر السفينة تحت أي ظرف من الظروف، على أنني مستعد للتفاوض مع الأدميرال على ظهر «سانتا-ماريا»، وأظن أن موضوع حديثنا ينبغي أن يقتصر فقط على الحفاظ على حياة وممتلكات المسافرين الأمريكيين.
الطيار :
هل تنوون إنزال هؤلاء المسافرين على الشاطئ؟
جالفاو :
نعم بالشروط التي أبلغتها للأدميرال لا سلكيا.
الطيار :
هل الركاب بحالة جيدة؟
جالفاو :
في أحسن حال، إذا أحببت يمكن استدعاء أي منهم، ليحدثك شخصيا مؤكدا ذلك. (وعلى الفور اشترك في الحديث أحد الركاب الأمريكيين، الذي قدم كثيرا من المساعدات للثوار بوصفه مترجما، وأكد على ما قاله جالفاو.)
الطيار :
هل تود أن تبلغ الأدميرال أي شيء؟
جالفاو :
أبلغه تحياتي فقط، سوف أتصل به لا سلكيا.
الطيار :
إلى اللقاء.
جالفاو :
إلى اللقاء.
بعد نصف ساعة اختفت الطائرة، أما السفينة فكان عليها أن تغير وجهتها من جديد، وبعد مضي ما يزيد على ثلاث ليال، نجح الثوار، والذين كانوا من قبل ذلك قد عاودوا اتصالهم بالعالم الخارجي، عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية - في تجنب السفن والطائرات الحربية الأمريكية التي كانت تطاردهم. وفي الوقت نفسه انضم إلى الثوار نادلان كانا قد طلبا من القبطان جالفاو أن يدرجهما في قائمة رجاله. وبعد بضعة أيام أقسما اليمين وارتديا الزي الخاص بالثوار. أما باقي البحارة بما في ذلك قادة الطاقم، فعلى الرغم من أنهم لم ينضموا إلى الثوار، فإنهم أظهروا قدرا كبيرا من الولاء لا يقل عن الذي أظهره الآخرون. وقد أعرب قبطان السفينة - الذي كان يشعر بالامتنان من جراء المعاملة الطيبة التي كان يتلقاها - أعرب الثوار عن مخاوفه من تناقص احتياطي المياه على السفينة، الأمر الذي أكده الفحص الذي تم إجراؤه على الفور، وكان من نتيجته أن جرى ترشيد استخدام المياه في الغسيل.
وقد سجل القبطان جالفاو السطور التالية في مذكراته: «إن الرأي العام العالمي يدرك الآن الفظائع، التي يرتكبها النظام السياسي القائم في البرتغال، ويعرف الصورة الحقيقية للديكتاتور سالازار. منذ ثلاثة أيام كنا مجرد جماعة صغيرة مكونة من أربعة وعشرين بحارا، أما الآن ... فهناك مشكلتان تؤرقاننا: كيف ننزل المسافرين إلى البر، ونحقق هدفنا؟ يجب أن نعطي المسافرين إمكانية النزول إلى الشاطئ، بشرط ألا يسبب هذا فقدان السفينة والقبض على رجالنا. إن على سلطات الميناء الذي سنمر به أن تضمن لنا ذلك.»
كان الأدميرال دينسون مستعدا لأن يحل المشكلة الأولى فقط، دون أن يعبأ بمصير السفينة أو الثوار؛ ولهذا فقد نحى جالفاو اقتراح الأدميرال. في الوقت نفسه راحت السماء تمتلئ فوق «سانتا-ماريا» بالعديد من الضيوف الثقلاء. كانت الطائرات واحدة تلو الأخرى تحوم فوق رءوس الثوار، ثم انضمت إليها طائرات وكالات الأنباء، التي أخذت تلتقط الصور للسفينة، وأخيرا شاركت في المطاردة الغواصة الذرية الأمريكية «سي ولف».
في يوم السبت الموافق الثامن والعشرين من يناير استمر التبادل النشط للبرقيات اللاسلكية بين القبطان وجالفاو والأدميرال دينسون، والذي كان من نتيجته الاتفاق على مكان إنزال الركاب. لقد تقرر أخذهم من السفينة في باحة البحر على بعد خمسين ميلا من ريسيفي البرازيلي. أحاط الثوار المسافرين علما بالقرار الذي تم اتخاذه، ثم شرعوا في الاستعداد لإنزالهم. كانت خطة الإنزال تقتضي مغادرة المرضى أولا، يليهم النساء المسافرات بمفردهن، ثم العائلات، وأخيرا بقية الركاب.
بينما كانت «سانتا-ماريا» تؤدي مهمتها كان جالفاو قد وصل إلى استنتاج، مفاده أن استمرار العملية بالمعطيات الجديدة أمر بالغ الصعوبة، إلى جانب أنه يمكن أن يكون باهظ التكلفة، ومن ثم قرر أن يتوجه بالسفينة إلى أي ميناء برازيلي ويتركها هناك. هكذا أخذت السفينة تبحر في اتجاه ريسيفي، وكلما اقتربت من شواطئ البرازيل، ارتفع عدد الطائرات المحلقة فوقها، والتي ظهر الآن أنها ترافقها بلا توقف تقريبا. وعندما هبط المساء يوم الأحد كان من الممكن مشاهدة أضواء الشاطئ البرازيلي من «سانتا-ماريا»، وفي اليوم التالي فجرا كانت «سانتا-ماريا» تبعد عن ريسيفي حوالي خمسة وأربعين ميلا، وقد تحدد يوم الثلاثاء موعدا للقاء الأدميرال ألين سميث.
أما في لشبونة فقد التقى سفير البرازيل بسالازار، وأحاطه علما بأن حكومة البرازيل لن تقوم بتسليم الطاقم أو السفينة. في ذات الوقت أمر جالفاو بإعداد تأشيرات نزول المسافرين الإسبان والبرتغاليين، بعد أن وقع عليها ووضع عليها ختم اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير الوطنية.
في المساء أقيم عشاء وداع مهيب للمسافرين، ومن لشبونة وصلت أنباء تفيد بأن حكومة سالازار تتهم القبطان جالفاو رسميا بسرقة السفينة، التي تبلغ قيمتها سبعة عشر مليونا ونصف مليون دولار. وفي الوقت نفسه فقد تلقى الأسطول البحري الحربي البرتغالي أمرا بالبحث عن السفينة وإغراقها إذا لزم الأمر، كما توجهت الحكومة البرتغالية بشكوى إلى «الإنتربول» ضد القبطان جالفاو.
في يوم الثلاثاء الموافق 31 يناير، وفي الساعة العاشرة صعد الأدميرال ألين سميث إلى ظهر السفينة «سانتا-ماريا»، وبمجرد أن أنهى اجتماعه عليها نزل هو ومرافقوه إلى بهو السفينة، حيث كان المسافرون في انتظاره. وفي التصريحات التي أدلى بها بعد ذلك، أكد الأدميرال للصحافة أن جميع الركاب الذين تم استجوابهم، أشادوا بالمعاملة الحسنة من جانب الثوار، بل إن كثيرا منهم أعربوا عن تأييدهم للقبطان جالفاو.
ما يزيد عن ثلاثمائة صحفي تجمعوا في القوارب بانتظار السماح لهم بالصعود على ظهر «سانتا-ماريا»، وفجأة إذ بأحد المظليين يقفز فجأة من طائرة كانت تحلق فوق السفينة، اتضح فيما بعد أنه الصحفي الفرنسي جيل ديلامار، الذي قرر أن يسبق رفاقه، لكنه أخطأ الهدف، ليسقط في الماء، وقد سارع أحد قوارب الثوار بإنقاذه قبل أن تفترسه أسماك القرش.
وفي يوم الأربعاء الموافق أول فبراير كانت «سانتا-ماريا» تقف على مكلأ ميناء ريسيفي، حيث صعد عليها مجموعة من موظفي الميناء بصحبة الأدميرال قائد المنطقة البحرية الثالثة، وفي المساء أكد الأدميرال دياز فرنانديز في وجود المحافظ بيلوبيداس. أكد القبطان جالفاو أن بإمكانه الدخول لميناء ريسيفي، ثم مغادرته بعد إنزال الركاب. وعلى هذا النحو تحقق الهدف الأول من «عملية دولتسينية»، وأصبح للثوار مطلق الحرية في التصرف في السفينة التي استولوا عليها، وفي المساء أيضا وصل السفينة الجنرال أومبرتو دياجاو، الذي لم يكن القبطان جالفاو قد شاهده منذ أربعة عشر شهرا مضت. في صباح اليوم التالي، الثاني من فبراير دخلت «سانتا-ماريا» في مشهد احتفالي إلى ميناء ريسيفي تصحبها ست سفن حربية، وناقلتا بترول أمريكيتان وعدد من السفن الأخرى.
على الرغم من أن نقص الموارد المالية لدى الثوار لم يمكنهم من تنفيذ «عملية دولتسينية» حتى نهايتها، فإنها كانت بمثابة ضربة قاصمة لنظام سالازار، ولم تسفر محاولات الحكومة البرتغالية لاعتبار الثوار قراصنة عن أي نجاح يذكر. وقد منحت الحكومة البرازيلية لهم حق اللجوء السياسي، وفي عام 1963م، على الرغم من اعتراض الدول الإمبريالية، سمحت لجنة من الأمم المتحدة للقبطان جالفاو أن يدلي بشهادته، بشأن الأوضاع في المستعمرات البرتغالية.
قراصنة عبر الأثير
في الزمن الغابر كان القراصنة ينجحون في إسقاط الملوك، بل وفي غزو الدول، أما أن يقوم القراصنة بعمليات تمكنهم من إسقاط حكومة دولة تقع في قلب أوروبا الغربية نفسها، فالأمر يكتسب هنا طابعا مثيرا. إن منجزات العلم والتكنولوجيا يمكن أن تصبح مفيدة للبشرية، فضلا عن أنها يمكن أن تجلب عليها أضرارا بالغة. إن الاكتشافات والاختراعات الجديدة كثيرا ما تخلق أشكالا مبتكرة من الجرائم، كما أن المنجزات التقنية الهائلة تسهم في تحويل الجرائم التقليدية التي تأخذ في اكتساب أشكال مستحدثة وغير معروفة حتى الآن، أشكالا لا تدرج في إطار الصيغ القانونية الموجودة حاليا، والتي تقضي بملاحقة المجرمين وإنزال العقوبات التأديبية لهم. وهذا هو واقع الأمر فيما يتعلق بأحد أشكال الجريمة التي تعتبر جريمة دولية، ونعني بها القرصنة.
لقد تحولت القرصنة تدريجيا على مدى عصور طويلة من وجودها، من مجرد النهب البحري التقليدي إلى شكل مختلف يصعب وضع تعريف دقيق له، باعتباره ظاهرة اجتماعية واقتصادية لها رد فعل سياسي كبير. في أول الأمر، لم تكن هناك سوى البحار الفسيحة ساحة للقرصنة، وبمرور الوقت، وأخيرا ظهر ما عرف بالقرصنة عبر الأثير. وعلى الرغم من أن النشاط الإجرامي لهذا النوع من القرصنة، ما يزال خارج أطر التعريفات القانونية للقرصنة حتى وقتنا هذا،
15
فإن الاصطلاح ذاته قد أصبح شائعا في الحديث اليومي وعلى صفحات الجرائد، فضلا عن انتشاره في الوثائق الرسمية.
لقد استطاعت هذه المشكلة الجديدة - مشكلة القرصنة عبر الأثير - أن تثير قدرا كبيرا من الاهتمام عند رجال القانون؛ فالأعمال التخريبية التي مارستها بعض الإذاعات في فترة الحرب الباردة، مثل: «أوروبا الحرة»، و«صوت أميركا» وغيرهما، دفعت بعض الدوائر النشطة في البلاد الرأسمالية إلى فكرة استخدام القرصنة عبر الأثير على أساس تجاري.
لاحظ كبار رجال الأعمال في أوروبا الغربية الذين يعملون في مجال الإعلام التجاري والدعاية، لاحظوا بحس بالغ كيف أن رفاقهم الأمريكيين، قد جمعوا ثروات طائلة من الإعلان في الإذاعة والتليفزيون.
تخضع الإذاعات في بريطانيا، وألمانيا، وهولندا، وبلجيكا، وسويسرا، والنمسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وأيرلندا، والسويد، والدنمارك، والنرويج، وفنلندا للحكومة، ولا تعمل بالإعلام. أما في لكسمبورج، وأندروا، وموناكو، وفيسارا فتوجد محطات إذاعة أوروبا، وجميعها إذاعات غير مركزية تعتمد في دخلها على الإعلانات. وقد أدى نشاط هذه الإذاعات عبر الأثير إلى عدد من الصدامات وقعت بين الدول المتجاورة، التي يحظر القانون فيها بث الإعلانات؛ ولهذا فقد أخذت الإذاعات الخاصة في تلقي طلبات إذاعة الإعلانات من الشركة في الدول التجارية الأجنبية. أما فيما يتعلق بالتليفزيون فإن غالبية محطاته في الدول الأوروبية تعد احتكارا حكوميا، بالإضافة إلى أن البرامج التليفزيونية في كل من بريطانيا وألمانيا يتم تمويلها جزئيا من عائد الإعلانات.
وقد أدى حظر الإعلانات الشخصية التي تجلب أرباحا ضخمة وتقييدها إلى ظهور القرصنة عبر الأثير في أوروبا الغربية، فقد اندفعت الشركات الكبرى التجارية والشركات العاملة في مجال الإعلان، والتي ليس لديها الإمكانية القانونية لبث إعلاناتها التجارية من خلال الإذاعة والتليفزيون إلى استخدام أشكال مختلفة للقانون، مستغلة في ذلك بعض الثغرات في التشريعات المحلية والدولية، التي لم تكن قد تكيفت بعد وتطور القرصنة في هذا الاتجاه.
بدءا من عام 1958م أخذت في عرض البحر بالقرب من شواطئ أوروبا الغربية، سفن مجهزة بمحطات إرسال إذاعية وتليفزيونية كانت تبث برامج إعلانية. وقد أحصي ما يزيد على عشر سفن من هذا النوع تعمل كمحطات إرسال في مياه بحر البلطيق وأيرلندا والشمال، من بينها ست محطات ما تزال تعمل حتى الآن (أربعة منها تقف بالقرب من شواطئ إنجلترا، وواحدة بالقرب من الشاطئ الهولندي، والأخرى عند مضيق زوند)،
16
ها هو بيان هذه المحطات: (1)
في مياه زوند (يقع بين الدنمارك وجنوب السويد): «راديو سيد» عمل على ظهر السفينة «تشيتا»، ثم انتقل إلى السفينة «تشيتا-2»، والسفينتان ترفعان علم هندوراس، تبلغ قوة المحطة (6) كيلو وات، وقد بدأت إرسالها عام 1959م، وما تزال حتى الآن على الرغم من قرارات الجهات القضائية في السويد. «راديو ميركور» على السفينتين «تشيتا-2»، و«لكي ستار» ترفعان علم جواتيمالا، وقد بدأ إرسالهما منذ خريف عام 1958م، وأنهياه في الخامس عشر من أغسطس عام 1962م، نتيجة الإجراءات التي اتخذها البوليس السويدي. (2)
في المياه القريبة من استوكهولم: «راديو نورد»، ويبث إرساله من بحر البلطيق إلى كل من السويد وفنلندا. (3)
في المياه القريبة من هولندا: «راديو فيرونيكا» على السفينة «سانتا فيرنيكا» التي كانت ترفع علم بنما في البداية، ثم علم جواتيمالا بعد ذلك، تبث إرسالها منذ السادس عشر من فبراير عام 1961م إلى هولندا على موجة 192 مترا. (4)
في المياه القريبة من أوستيندي ونورماندي: «راديو أنتفير مير دو نور» فيما بعد «راديو نور» على السفينة «ماجدا ماريا» التي غيرت اسمها لتصبح السفينة «أوليشبيجل»، بدأت ببث إرسالها إلى هولندا وإنجلترا في أكتوبر عام 1962م، ووقف نشاطها في السادس عشر من أكتوبر عام 1962م في المياه القريبة من هاريدج (إنجلترا). «راديو كارولاين» فيما بعد «راديو كارولاين نورث» على السفينة البنمية «مي أميجو» بدأت ببث إرسالها إلى إنجلترا على الموجة 201 متر منذ الثامن والعشرين من يناير عام 1964م حتى الآن. «راديو لندن»، وتعمل منذ شهر ديسمبر عام 1964م، وتبث إرسالها إلى إنجلترا على الموجة 266 مترا.
على أي نحو ظهرت هذه المحطات؟ من الذي يقوم بتمويلها؟ من الذي يتحمل مسئولية ما تبثه من مواد؟
لقد أزاح القراصنة أنفسهم الستر المسدلة على هذا النشاط الإجرامي، اعترف مانفريد فايسليدر البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاما، والمقيم بمدينة هامبورج، وأحد أهم قراصنة ألمانيا الغربية عبر الأثير، اعترف صراحة أنه يحقق أحلام طفولته؛ فعندما كان يبلغ من العمر ست سنوات أراد أن يصبح قرصانا، وأن يرسو بسفينته عند مصب نهر لابا خارج حدود المياه الإقليمية لألمانيا حتى «يتصيد النقود». تتمثل شبكة «الصيد» التي يستخدمها فايسليدر الآن في هوائيات محطة الإذاعة التي تعمل على «موجاتها السوداء» برامج محطة «ستار كلوب راديو»، ويلتقط إرسالها واحد من كل خمسة أجهزة استقبال في المناطق الشمالية الغربية.
يتمثل اهتمام فايسليدر الوحيد في وضع البرامج لمحطته، أما الأمور الأخرى فيتولاها الممولون البريطانيون، الذين يقومون بتغطية كافة نفقات السفينة وتجهيزاتها، لم يفصح فايسليدر عن موكليه، واكتفى بالتلميح للصحفيين بأن «لديهم من الأموال أكثر ما لدى كروب أو أوناسيس».
لقد كان كبار رجال الأعمال يقومون أيضا بتمويل مثل هذه المحطات، حتى إن تكلفة إحداهما بلغت ثلاثة ملايين مارك ألماني غربي بالطبع، فهؤلاء كانوا يتوقعون ممن تم تكليفهم بهذا العمل، أن يحصلوا لهم على أرباح كبيرة من إذاعة البرامج الموسيقية والإعلانات.
وإذا كان نشاط هذه المحطات غير القانوني لا يمكنها من العمل إلا في عرض البحر، إلا أن ما تجنيه من أرباح خرافية يعوضها عما تلاقيه من مصاعب في هذا الصدد، وحتى يمكن أن نتصور حجم محطات القرصنة من الإعلانات، يكفي أن نذكر أن ثمن الدقيقة الواحدة من الإرسال يتراوح بين 900 إلى 1500 مارك ألماني.
لقد كان من الصعب أن تنجح مقاومة القرصنة عبر الأثير، وذلك لغياب الأحكام القانونية الدولية الواضحة، التي تتناول مثل هذا النوع من النشاط باعتباره نشاطا إجراميا، بل لم توجد أية مواد تسمح للدولة بملاحقة هذا النشاط خارج حدود صلاحيتها القانونية، على النحو الذي يتم به التعامل مع القرصنة في شكلها الكلاسيكي.
على أية حال فهناك عدد من الأحكام القانونية التي تحظر القرصنة عبر الأثير ، تشتمل عليها بعض المعاهدات الدولية، ففي عام 1947م عقد المؤتمر الاتحادي الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية في أتلانتيك سيتي، وقد جاء في لائحة الاتصالات اللاسلكية قرار يحدد الإذاعة من على المحطات المتحركة العاملة خارج حدود الدول. وفي عام 1959م تقرر إدخال تعديل على معاهدة جنيف، تشمل الحظر المشار إليه بالنسبة للسفن الراسية خارج المياه الإقليمية، وتنص اللائحة الخاصة بالاتصالات اللاسلكية (الموضوعة عام 1959م) والتي أقرها مؤتمر جنيف
17
في دورته غير العادية التي جرت أعمالها في الفترة من 7 أكتوبر إلى 8 نوفمبر 1963م على: «حظر إقامة واستغلال أية محطات إذاعية من جانب أشخاص أو مؤسسات دون تصريح من حكومة الدولة التي تتبع لها هذه المحطة»، «يحظر إقامة واستغلال محطات للبث (الإذاعي أو التليفزيوني) على متن السفن، أو الطائرات، أو أية وسائل أخرى مبحرة أو محلقة خارج الحدود القومية»، «يحظر استخدام محطات إذاعة متحركة على سطح البحر أو على شواطئ البحار».
وقد جاء في قرارات مؤتمر جنيف: (1)
أن محطات القرصنة الإذاعية عملت على ترددات تملكها محطات قانونية أخرى وفقا للاتفاقيات الدولية، مما تسبب عنه عوائق في الأثير. (2)
خالفت محطات القرصنة الإذاعية الخاصة الاحتكار الإذاعي لحكومات الدول الساحلية وقوانين حظر الإعلان التجاري. (3)
خالفت محطات القرصنة الإذاعية قوانين حقوق المؤلف، فهي لم تحصل على تصريح بإذاعة المؤلفات الموسيقية، ولم تدفع أجورها. (4)
خالفت القراصنة قوانين الضرائب.
مثلت الأحكام والحجج المذكورة نقطة انطلاق لعدد من الأعمال الموجهة، التي اتخذتها بعض دول أوروبا الغربية ضد القرصنة، بعد أن تسببوا في إنزال خسائر فادحة بهم في مجال الإذاعة، وقد قام بالمبادرة في هذا المجال الدول الإسكندنافية التالية: السويد، النرويج، الدنمارك، وفنلندا.
في يوليو عام 1962م، وعلى أساس التشريعات الجديدة التي سنتها السويد والدنمارك، تم القضاء على محطة القرصنة الإذاعية «راديو ميدكور». ومع هذا استطاعت السيدة ب. فادنر، وهي سيدة سويدية تمتلك محطة تسمى «راديو سيد» أن تواصل نشاطها، على الرغم من الأحكام القانونية والغرامات التي صدرت ضدها. وتوقف العمل في المحطة - مؤقتا - بعد القبض على السيدة فادنر وموظفيها وإيداعهم السجن . وقد صرحت هذه السيدة عند اقتيادها للسجن، أنها سوف تواصل نشاطها الإذاعي فور خروجها من السجن في ربيع عام 1965م، وأضافت أنها سوف تعمل بالنشاط التليفزيوني أيضا، وقد أوفت فادنر بوعدها بالفعل، ففي مارس من عام 1965م عاد «راديو سيد»، ليواصل إرساله مرة أخرى.
جاءت بلجيكا بعد الدول الإسكندنافية، لتصدر تشريعا خاصا لمقاومة القرصنة عبر الأثير.
حتى مارس عام 1964م، وهو التاريخ الذي بدأت فيه محطة «راديو كارولينا» نشاطها، لم يكن قراصنة الأثير ليشكلوا أي قدر من الخطورة على المصالح البريطانية؛ إلا أن هذه المحطة التي كانت تعمل في منطقة الجزر البريطانية، لم تكن إلا أول الغيث، فما هي إلا فترة من الزمن، حتى بلغت القرصنة في هذه المنطقة مدى، شكل كارثة حقيقية؛ إذ أطلق للعمل هنا عدد من الإذاعات تباعا: «راديو أطلانتا» (في شهر أبريل)، «راديو ساتش» (في شهر مايو)، «راديو أنفيكتا» (في شهر يوليو)، وأخيرا: «راديو لندن» (في شهر ديسمبر).
أخذت السلطات البريطانية في تطبيق عدد من العقوبات القانونية، تختلف عن تلك التي تطبقها الدول الإسكندنافية. قدمت وزارة المواصلات البريطانية، استنادا إلى القرارات الواردة في لائحة الاتصالات اللاسلكية الصادرة عام 1959م، مذكرة رسمية إلى الاتحاد الدولي للاتصالات اللاسلكية بجنيف، تطلب فيها مساعدتها في القضاء على محطة «راديو كارولينا»، التي تمارس إرسالها على نحو مخالف للقانون في عرض البحر بالقرب من الشواطئ البريطانية. وفقا لما أذاعته السلطات البريطانية فإن السفينة العاملة عليها المحطة المذكور تبحر رافعة علم بنما، وتذيع برنامجين بقوة عشرة كيلو وات.
ردا على ذلك قدمت اللجنة الدولية لتسجيل الترددات طلبا رسميا إلى السلطات البنمية، بوضع حد لنشاط القرصنة التي تمارسها هذه السفينة، وقد قرر وزير المالية والخزانة البنمي بعدها - نيابة عن رئيس الجمهورية - رفع السفينة «كارولينا» من سجل الأسطول التجاري البنمي.
في الخامس عشر من أغسطس عام 1967م، أصدرت بريطانيا قانونا خاصا بالإذاعة في البحار
Marine Broadcasting Act
يحرم نشاط محطات القرصنة الإذاعية على متن السفن والطائرات، وكذلك على الأرصفة العائمة الموجودة في باحة البحر بالقرب من الشواطئ. منذ هذا التاريخ أصبحت الأعمال التي تمارسها المحطات المذكورة تدخل في نطاق الأعمال غير القانونية، وتستوجب الملاحقة. لقد بلغ عدد المستمعين إلى محطات القرصنة الإذاعية في الأراضي البريطانية عام 1966م - وفقا لتقديرات السلطات البريطانية - خمسة وعشرين مليونا، كما بلغ دخل هذه المحطات مليوني جنيه إسترليني، وقد دفعت السلطات القضائية البريطانية في مايو عام 1967م، أي قبل سريان القانون المذكور، دعاوى قضائية ضد عدد من محطات القرصنة الإذاعية، في الوقت الذي راحت فيه سبع عشرة دولة أوروبية غربية، أعضاء في المجلس الأوروبي، وخاصة تلك التي أضيرت بشدة من جراء القرصنة عبر الأثير، تعمل في إعداد اتفاقية إقليمية تنظر في مقاومة هذا الشكل الجديد من الأنشطة الإجرامية ذات الطابع الدولي.
على أن القراصنة ومن وراءهم من ذوي النفوذ الذين يتولون رعاية هذه الإذاعات، لم يكن بنيتهم التراجع عن هذه المهنة المريحة، فقرروا - نتيجة إحساسهم بعدم الأمان وهم على متن سفنهم، التي ينطبق عليها الحظر على نحو لا خلاف فيه - استخدام منجزات الصناعة الحديثة.
قام قراصنة الإذاعة بإقامة رصيف عائم هائل على ركائز مثبتة في قاع البحر، تشبه تلك المستخدمة في قواعد استخراج النفط من البحر، وذلك في عرض البحر من القرب من حدود المياه الإقليمية لهولندا. وعلى بعد ستة أميال تقريبا شمال شرقي مصيف نوردفيك، هناك أقيمت محطة إذاعة وتليفزيون باسم «تي في نوردزي» بدأت في أول سبتمبر عام 1964م في إرسال الإعلانات الإذاعية والتليفزيونية إلى هولندا. لما بلغ السيل الزبى بالقراصنة، لم يكن أمام الحكومة الهولندية إلا أن قامت في السابع عشر من ديسمبر عام 1964م بشن هجوم بوليس عسكري ضد محطة القرصنة، ووضعت حدا لنشاطها. كان لهذا الإجراء الذي اتخذته السلطات الهولندية ردود فعل قوية في الصحافتين المحلية والعالمية، وقد انقسمت الآراء بشأنه، فبينما اعتبر البعض أن الحكومة الهولندية قد اتخذت خطوة قانونية بقضائها على محطة الإذاعة التي كبدتها خسائر طائلة، أكد آخرون أنها خرقت مبدأ حرية البحار بأن قامت بعملية بوليسية ضد محطة إذاعة يمتلكها مواطنو دولة أخرى، وتعمل خارج المياه الإقليمية لهولندا. بل إن الإشاعات راحت تتحدث عن عرض القضية برمتها على محكمة العدل الدولية في لاهاي.
قرر النائب العام لهولندا إحالة القراصنة المقبوض عليهم إلى المحكمة، بيد أنه رفض أن يفصح عن أسماء الأشخاص الذين تورطوا في هذا الأمر. في نفس الوقت اكتسبت قضية العملية البوليسية التي اتخذت ضد «تي في نوردزي» منحى مفاجئا، بعد أن فجرت مناقشات واسعة في أنحاء هولندا، حول مسألة احتكار الدولة للإعلانات في الإذاعة والتليفزيون. وقد استخدمت المعارضة هذه المناقشات التي أثارت ضجة كبرى في البلاد بذكاء شديد لتحقق من ورائها أهدافا سياسية، وقد حدثت بالفعل أزمة وزارية في السادس والعشرين من فبراير عام 1965م، واستمرت حوالي ستة أشهر، ولم تنته إلا في الثلاثين من شهر مارس عام 1965م، عندما توصلت الأحزاب السياسية في هولندا إلى اتفاق بشأن فرض قيود على احتكار الدولة - وهو الاحتكار الذي ظل قائما حتى هذا التاريخ - لأنشطة الإعلان في الإذاعة والتليفزيون. لقد سبق سقوط الحكومة الهولندية توقيع اتفاقية قانونية مهمة، تتعلق بمقاومة القرصنة عبر الأثير، ففي الثاني والعشرين من يناير عام 1965م، وقع في «ستراسبورج» مندوبون عن حكومات بلجيكا، وبريطانيا، والدنمارك، وفرنسا، واليونان، ولكسمبرج، والسويد، وقعوا اتفاقا يهدف إلى القضاء على الإذاعة خارج الحدود الإقليمية لهذه الدول.
نصت المادة الأولى في هذا الاتفاق على حظر نشاط محطات الإذاعة الموجودة على متن السفن والطائرات، وكذلك حظر استخدام أية وسائل أخرى، سواء أكانت تتحرك بحرا أم جوا، وتعمل على أراضي الدول التي وقعت على الاتفاق المذكور، ومنع بث برامج مخصصة للاستقبال أو يمكن التقاطها في جميع أراضي الدول المذكورة أو في أجزاء منها، أو يكون لهذا البث أثر في إعاقة الاتصالات السلكية واللاسلكية بين هذه الدول.
على الرغم من كل ما ورد في هذا الاتفاق فقد بدا - على ضوء حادثة «تي في نوردزي» - عاجزا، فقد ظل العديد من الاقتراحات والتوصيات الداعية إلى توسيع مجالات الحظر، قاصرة على محطات الإذاعة العاملة على متن السفن والطائرات. أما فيما يتعلق بالمحطات المبنية على منصات مثبتة في قاع البحر، فقد كانت علاقة هذا الاتفاق بها مجرد علاقة ثانوية.
لقد أثار هذا الوضع الكثير من الانتقادات الحادة، ها هي ذي الجمعية الاستشارية للمجلس الأوروبي تعرب في التاسع والعشرين من يناير عام 1965م، عن أسفها لكون لجنة الوزراء لم تطرح مقدما نص الاتفاق المذكور لتقره الجمعية. فيما بعد كلفت الجمعية لجنة من الخبراء في شئون الاتصالات السلكية واللاسلكية لدراسة إمكانية إضافة بروتوكول خاص إلى هذا الاتفاق، يمكنه أن يوسع من قراراته، بحيث تشمل محطات الإذاعة المقامة على منصات بحرية.
إلى جانب حادثة الرصيف الذي أقيم بالقرب من شواطئ هولندا، أذيعت أنباء عن بعض الحوادث المتفرقة، حيث جرى استغلال بعض المنشآت الدفاعية التي أقيمت في عرض البحر لأغراض الاتصالات اللاسلكية إبان الحرب العالمية الثانية، والتي ظلت قائمة بعد أن وضعت هذه الحرب أوزارها، وهي بالتحديد: (1) «راديو انفيكتا»: وكان يبث إرساله من يوليو عام 1964م من قلعة مارتيليو تاور، الموجود عند مصب نهر التايمز على موجة طولها 306 أمتار، وتوقفت في السابع عشر من ديسمبر من نفس العام عندما غرق صاحبها. (2) «راديو ساتش» بدأ عمله من مايو 1964م وتغير اسمه من يناير 1965م، ليصبح «راديو سيتي»، وكان يبث إرساله من مارتيليو تاور على موجة طولها 299 مترا، وتوقف هذا الإرسال بعد مصرع صاحبه في ظروف غامضة.
في نهاية يونيو 1967م وعلى بعد أحد عشر كيلومترا من شواطئ بريطانيا بالقرب من
Harwich ، وقعت معركة حقيقية بين ممثلي اثنتين من محطات القرصنة الإذاعية المتنافسة فيما بينها، فقد حاولت إحدى الجماعتين الاستيلاء على إحدى القلاع المهجورة خارج المياه الإقليمية لإنجلترا، وتسمى «راف تاور»، وقد قام بالمحاولة صاحب محطة «راديو كارولينا» عندما توجه ورجاله للاستيلاء على الميناء، غير أنه ووجه بمقاومة شديدة من جانب محطة «راديو إسكس» المنافسة.
في ليلة الثامن والعشرين من يونيو أبحر قارب قراصنة «راديو كارولينا» خلسة، عاقدا العزم على اقتحام «راف تاور» والاستيلاء عليها. غير أن سكان القلعة، على ما يظهر، كانوا على أهبة الاستعداد لاحتمال هجوم يقع عليهم، فأمطروا المهاجمين بقنابل اللهب، واستمر التراشق بالأسلحة بين الفريقين المتنافسين طوال الليل، تخلله توقف قصير بين الحين والحين. وأثناء الاقتحام سقطت قذيفتان أضرمتا النار في قارب محطة «راديو كارولينا» مما أفشل محاولة الاستيلاء على القلعة، واضطر قراصنته إلى طمس معالم محاولتهم بأكملها، وقد حذت السلطات البريطانية حذوهم، فلم تذكر حرفا واحدا عن الحادث.
إن تطور الأمور على هذا النحو أعطى أساسا للافتراض أن القرصنة عبر الأثير لن يتم القضاء عليها في المدى القريب، أصبح من المتوقع أيضا أن يغدو هذا النوع من القرصنة هدفا لمناقشات رجال القانون إلى جانب رجال السياسة.
الفصل العاشر
القراصنة والقانون
تحظى القرصنة - شأنها شأن العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى - باهتمام حيوي من جانب رجال القانون، كما أنها تدخل بشكل أساسي ضمن تخصصات علوم القانون، مثل القانون الجنائي، والقانون الدولي العام، وعلى مدى عدة قرون تعرضت علاقة القانون بالقرصنة لعدد من التغييرات.
في العصور القديمة والوسيطة، عندما كانت القرصنة جزءا لا يتجزأ من حركة التجارة، كان رجال القانون يولون النهب البحري قدرا قليلا جدا من الاهتمام. آنذاك لم تكن هناك قوانين محددة تحظر القراصنة، كما أنه لم يتخذ أية إجراءات تفرض عقوبات على ممارسة هذه المهنة. زد على ذلك أن القانون الروماني القديم كان يحوي مبدأ قانونيا، اعتبره المشرعون فيما بعد نقطة الانطلاق عند إعدادهم للقوانين الموجهة ضد القرصنة، وقد وسم هذا القانون القراصنة بأنهم «أعداء البشرية»
humani . حدث ذلك في تلك الفترة التي أصبح حجم النهب البحري فيها يمثل تهديدا لسيادة روما على حوض البحر المتوسط، جدير بالذكر أن روما في القرن الأول الميلادي اضطرت للتورط بصورة غير مباشرة في أعمال القرصنة، وهو ما اعتبر آنذاك ظاهرة استثنائية.
على أية حال فالدولة وجهت العقاب الموجود تحت تصرفها بما في ذلك القواعد القانونية، ولم تتدخل لمكافحة القرصنة إلا في فترة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، عندئذ فقط تم اعتبار القراصنة أفرادا خارجين على القانون. وقد تمت صياغة مبادئ عامة، وقواعد قانونية، تدين القرصنة، وتقضي بممارسة الضغط على الأشخاص الذين يمارسون السرقة في البحر، كما تكفل القانون بحماية مبدأين أساسيين ينظمان مسائل التجارة والملاحة في عصر الرأسمالية، وهما بالتحديد: مبدأ حرية التجارة، ومبدأ حرية التجار، وقد اعتبر القراصنة الذين كانوا يمثلون تهديدا حقيقيا لهذين المبدأين من المجرمين، بناء على الصياغة التي وضعتها روما القديمة.
وانطلاقا من قواعد هذا القانون جرى بعد ذلك حرمان القراصنة من حق المواطنة، واعتبار القرصان «عدوا شرعيا»، وقد أدى ذلك بالتبعية إلى عدم تطبيق القوانين العسكرية، التي تحدد الوسائل المشروعة للحرب، بالنسبة للقراصنة وتنظيمها.
وفي القرن التاسع عشر ازداد عدد الدول التي أضافت إلى قوانينها الجنائية مواد جديدة تقضي بإنزال عقوبات صارمة على من يمارس النهب البحري، وفي عصرنا هذا تشتمل القوانين الجنائية لجميع الدول تقريبا على مواد تعد القرصنة من الجرائم الخطيرة وتصنفها بينها، وعلى مر الأيام أخذ المشرعون يضعون تفاصيل المواد التي تجرم النهب البحري، وينظرون في الوسائل القانونية لمحاربته على الصعيد الدولي. وكانت إحدى المهام الأولى التي ألقيت على عاتق القانون الدولي هي قيامه بوضع تعريف للقرصنة، وقد أثارت مشكلة التعريف القانوني المحكم للقرصنة جدلا شديدا متصلا.
في عام 1922م قامت عصبة الأمم بعدة محاولات لوضع التشريعات القانونية الخاصة بالقرصنة، ولكن هذه المسألة رفعت من جدول الأعمال بعد مرور ثلاث سنوات، دون أن ينتهي البت فيها، كما جرى الاعتراف بأن عقد معاهدة شاملة بشأن هذا الموضوع أمر قد تكتنفه المصاعب، وقد قامت لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بدورها بالمحاولة نفسها، وذلك في إطار الأعمال التمهيدية لوضع تشريعات القانون البحري، وعلى أساسه وضعت اللجنة مشروعا كانت جامعة هارفارد الأمريكية قد أعدته قبل ذلك في عام 1932م.
أدرجت قضية القرصنة ضمن مادة واحدة من أربع معاهدات خاصة بالقانون البحري، قامت بوضعها منظمة الأمم المتحدة، وهي بالتحديد اتفاقية أعالي البحار، التي اعتمدت في التاسع والعشرين من أبريل عام 1957م في جنيف، وتشير المادة الخامسة عشرة من هذه المعاهدة إلى أن أيا من الأعمال التالية يعد عملا من أعمال القرصنة: (1)
العنف غير الشرعي، الاحتجاز أو السرقة - لغرض خاص - والذي يتم بواسطة طاقم أو ركاب أية سفينة خاصة أو طائرة خاصة مستهدفا:
أي سفينة في أعالي البحار أو طائرة، أو أشخاص، أو ممتلكات تكون على متنها.
أي سفينة، أو طائرة، أو أشخاص، أو ممتلكات تكون بعيدة عن حدود اختصاص أي دولة من الدول. (2)
الاشتراك طواعية في العمل على أي سفينة، أو طائرة، إذا كان الشخص المشترك في العمل يعلم أن هذه السفينة أو الطائرة هي سفينة أو طائرة قراصنة. (3)
أي عمل يمثل تحريضا أو تعاونا واعيا على ارتكاب الأعمال التي ورد ذكرها في البندين الأول والثاني من المادة الحالية.
1
إن أوضح دليل على الصعوبات التي واجهت المشرعين عن وضع المادة المذكورة عاليه، هو سياق المناقشات التي احتدمت قبيل التوصل للصياغة النهائية الملائمة للمعاهدة. ولقد أشارت لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في ملاحظتها، التي أبدتها على مشروع المعاهدة، أن تعريف القرصنة الذي ورد في المشروع، لم يشتمل على أعمال الاغتصاب التي تتم في المياه الإقليمية، أو الهجمات التي تأتي من البحر ضد الشواطئ، والتي تطبق عليها الأحكام القانونية الخاصة بالسرقة على البر، وذلك خلافا لوجهات النظر التقليدية لبعض أعضائها، أولئك الذين أرادوا إدراج هذه الأعمال تحت طائلته. أما فيما يتعلق بمسألة الأسلحة التي يستخدمها القراصنة، فقد تخلت اللجنة أيضا عن الصياغات التقليدية، فلم تكتف بذكر السفن الحربية، وإنما أضافت الطائرات كذلك، وجدير بالذكر هنا أن اللجنة رفضت اقتراحا بشأن اعتبار أي عمل يقوم به أي من أعضاء الطاقم أو الركاب، بهدف الاستيلاء على السفينة أو الطائرة، عملا من أعمال القراصنة.
وقد برزت إبان المؤتمر مشكلة أخرى على قدر كبير من الأهمية العملية، أثارت جدلا كبيرا، وهي ما إذا كان المقصود بمعنى القرصنة تلك الأعمال التي ترتكب بغرض تحقيق منفعة شخصية فقط، أم يمكن اعتبار الأعمال الأخرى ذات الأهداف السياسية من بينها أيضا. وقد اتضح للجنة القانون الدولي في سياق عملها وجود خلافات حادة في وجهات النظر الخاصة بهذه المشكلة. جدير بالذكر هنا أيضا أن نشير إلى أنه قد دارت قبل ذلك، وخاصة إبان وجود الدول التي مارست القرصنة، مناقضات تساءلت عما إذا كان القراصنة، يعدون أعداء بالمعنى المتعارف عليه في القانون العسكري؟ وفي القرن التاسع عشر كان تجار الرقيق واللصوص - وأحيانا - المتمردون الذين يستولون على السفن يعاملون معاملة القراصنة، وذلك حين يقومون بارتكاب أعمال تخالف قواعد القانون الدولي.
وتولت العديد من المعاهدات الدولية - مثل: إعلان واشنطن في عام 1922م بشأن استخدام الغواصات، والمعاهدة التي وقعت في عام 1937 في نيون بسويسرا - مسألة تصنيف أعمال الاغتصاب في البحار، التي تقوم بها سفن حكومية بين أعمال القرصنة، ويمكننا أن نجد وجهة النظر هذه في قرارات القانون الدولي ومبادئه التي تنظر إلى الأعمال نظرتها إلى القرصنة، حتى ولو كانت السفن التي قامت بها تابعة لإحدى الدول.
ويرى رجل القانون الإنجليزي «لاوترياخت» أنه من الممكن اعتبار المتمردين الذين يقومون بالتحرش بسفن الدول الأخرى قراصنة، على الرغم من أنه في الحالات المشابهة الأخرى التي تظهر فيها الدوافع السياسية وتختفي الأغراض الشخصية، تكون هذه الأمور مبررا لاتخاذ إجراءات عقابية مخففة.
وترتبط مشكلة الوضع القانوني للمتمردين والسفن التي يقومون بخطفها بمشكلة أخرى، ألا وهي مشكلة الدفاع عن ملاحة الدول المحايدة إبان الحروب الأهلية. وفي هذه الظروف فإن السفن الحربية الموجودة تحت أيدي المتمردين، أو الحكومة غير المعترف بشرعيتها بعد لا تعد من سفن القرصنة، ما دامت لم ترتكب أية أعمال إجرامية ضد مواطني وممتلكات الدول الأخرى، حتى ولو أعلنت الحكومات السابقة غير ذلك. فعلى سبيل المثال: أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا أوامرها - إبان التمرد الذي وقع في إسبانيا عام 1873م - إلى سفنها الحربية في البحر الأبيض المتوسط، بعدم اتخاذ أي أعمال عسكرية ضد سفن المتمردين.
وقد حدث في عام 1887م أن وقع تمرد في بيرو، وقام المتمردون بعد استيلائهم على السفينة الحربية البيروانية المدرعة «أوسكار»، باحتجاز سفينتين بريطانيتين في أعالي البحار (استولوا على حمولة الأولى من الفحم دون أن يسددوا ثمنها، بينما أنزلوا اثنين من ركاب السفينة الأخرى، وكانا موظفين من بيرو ). كان من نتيجة هذا الاعتداء أن اعتبرت السفينة البيروانية من سفن القراصنة، وقامت إحدى السفن البريطانية بالهجوم عليها وإصابتها، وبعدما تم تسليم «أوسكار» إلى السلطات البيروانية. طالبت حكومة بيرو بريطانيا بدفع تعويضات مقابل الأضرار التي ألحقتها بالسفينة، غير أن طلبها قوبل بالرفض.
نتيجة انتشار ما يسمى بقرصنة الدولة، فقد رأى كثير من المشرعين أن الهدف الشخصي
Lurci Causa ، لا ينبغي أن يكون هو الدافع الحتمي وراء الأعمال الإجرامية التي ترتكب في البحر.
وكما أشرنا من قبل فإن لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، قد أيدت تعريف القرصنة بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، وإذا كان هذا التعريف قد تجاوز قليلا إطار مفهوم السرقة
Furandi-causa ، إلا أنه استثنى الجريمة لدوافع سياسية. وكما جاء في تعليق اللجنة: «إن الكراهية أو الانتقام، وليس فقط الحصول على مكاسب، يمكن اعتبارهما من دوافع القرصنة.»
2
تنص المادة الخامسة عشرة أيضا على: أن مشرعي معاهدة جنيف بشأن أعالي البحار، قد سعوا لاستثناء أعمال العنف التي تقوم بها السفن والطائرات التابعة للدول من صفة القرصنة. وتفسر المادة السادسة عشرة من المعاهدة: «أن أعمال القرصنة، التي تم تحديدها في المادة الخامسة عشرة، والتي ترتكبها سفينة حربية أو سفينة تابعة لدولة، أو طائرة تابعة لدولة يقوم طاقمها بالتمرد، وفرض سلطانه على هذه السفينة أو الطائرة، فإن هذه الأعمال تتساوى مع تلك الأعمال التي ترتكب على السفن الخاصة،
3
وعلى هذا فإن قطع الطاقم لاتصالاته مع السلطات الشرعية، يتساوى وفقدان هذه الثقة، أو الطائرة لانتمائها القومي».
تتعامل تشريعات بعض الدول مع بعض الأعمال باعتبارها من أعمال القرصنة، حتى ولو لم تتسم بطابع العنف، وترى ضرورة تطبيق القانون بشأنها من هذا المنطلق؛ فالقوانين الفرنسية - على سبيل المثال - تعتبر أن طاقم أي سفينة فرنسية مسلحة، تبحر دون امتلاك للوثائق الرسمية اللازمة من القراصنة، بينما تساوي القوانين بين تجار الرقيق والقراصنة (أحكام القانون الصادر عام 1824م المعروف باسم «القرصنة بالقياس»).
إن قضية تعريف القرصنة بصفة عامة وثيقة الصلة بقضية تحديد سفينة أو طائرة القرصنة، فطبقا لما جاء في المادة السابعة عشرة من معاهدة 1958م فإن: «أي سفينة أو طائرة تعتبر سفينة قرصنة أو طائرة قرصنة، إذا ما استخدمها أشخاص، لهم كامل السيطرة عليها لارتكاب الأعمال المنصوص عليها في المادة الخامسة عشرة، وينطبق الأمر نفسه على السفينة أو الطائرة التي تستخدم لارتكاب هذه الأعمال، طالما ظلت تحت سيطرة أشخاص متهمين بارتكاب تلك الأعمال،
4
أما الإبحار دون علم فهو أمر لا يكفي - من وجهة نظر لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة - ليكون مبررا لاعتبار السفينة من سفن القرصنة.»
القراصنة أعداء البشرية
humani
طبقا للاقتراح المبدئي للجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، فإن من حق السفينة والطائرات الحربية فقط الاستيلاء على سفن القراصنة، وقد جاء مؤتمر جنيف، ليوسع من هذا الحق - بناء على اقتراح وفد تايلاند - ليشمل السفن والطائرات الأخرى التي تعمل في خدمة الدولة، مثل السفن والطائرات التابعة للشرطة، وعلى هذا النحو حرمت السفن التجارية من حق مطاردة القراصنة «أعداء البشرية» دون تفويض بذلك من حكوماتهم.
وينبغي هنا تناول الأمر بمزيد من الحرص، لتجنب حدوث نزاعات، وهو ما عالجته المادة (20) من اتفاقية جنيف، حيث ألقت بالمسئولية المادية على الدولة التي تقوم بمصادرة سفينة، أو احتجازها للاشتباه في كونها سفينة للقراصنة، دون أن يكون لديها مبررات كافية لذلك.
كما أن الجهات التي تقوم باحتجاز القراصنة، ليس لديهم الحق في القيام بمحاكمتهم من تلقاء نفسها، وعليها تسليم المجرمين المقبوض عليهم إلى السلطات القضائية في الدول صاحبة السفينة المحتجزة، ودائما ما يسترشد المشرع في معظم الدول بمبدأ إعادة الممتلكات التي نهبها القراصنة إلى أصحابها الشرعيين، وفي هذه الحالة تقوم المحكمة بخصم نسبة محددة مقابل المساعدة في إعادة الممتلكات. على سبيل المثال (1 / 8) قيمة الممتلكات وفقا للقانون الإنجليزي، أو (1 / 6) القيمة وفقا للقانون الأمريكي.
وفي حالة ما يسمى بقرصنة الدولة، فإن الذين يقومون بارتكاب الجريمة، هم في النهاية بعض الأشخاص، وهؤلاء عليهم أن يتحملوا المسئولية الجنائية، بغض النظر عن المسئولية القانونية التي تقع على كاهل الدولة. ويرى بعض المشرعين أن السفينة التي تمارس أعمال القرصنة تفقد جنسيتها، وتصبح وفقا لتعريف المشرعين الألمان
Vogel Frei
أي: «طائرا طليقا».
غير أن لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة رفضت مثل هذا الاقتراح، فالمادة الثامنة عشرة من معاهدة جنيف تنص صراحة على أن: «السفينة أو الطائرة يمكنها أن تحتفظ بجنسيتها، على الرغم من أنها أصبحت سفينة أو طائرة قرصنة»، وفي هذه الحالة فإن: «الاحتفاظ بالجنسية أو فقدانها يتوقف على قانون تلك الدولة التي منحتها هذه الجنسية»،
5
وعلى ذلك فإن سفينة القراصنة يمكن اعتبارها سفينة فاقدة الجنسية فقط، في حالة ما إذا اعترفت بذلك قوانين الدولة التي تبحر تحت علمها تلك السفينة، ولا تكتفي معاهدة جنيف بتحديد حقوق الدول التي أضيرت من القراصنة، وإنما تحدد لها أيضا واجباتها، إن المادة الرابعة عشرة من المعاهدة تفرض على هذه الدول واجب التعاون الدولي على نطاق واسع، عند مطاردة القراصنة في أعالي البحار أو في أية مناطق أخرى، تقع خارج أية دولة مهما كانت، حتى ولو كانت في القطب الجنوبي مثلا.
وتطرح منظمة الأمم المتحدة رأيها في هذا الصدد من خلال تعليق لجنة القانون الدولي، الذي يتحدث بشأن «الدولة التي يمكنها أن تتخذ تدابير ضد القرصنة، ثم لا تفعل ذلك وتتقاعس عن القيام بالواجبات المنوطة بها، وفقا للقانون الدولي»، وكيف أن «من الضروري إعطاء هذه الدولة بعض الحرية في اختيار التدابير، التي من الضروري اتخاذها ضد القرصنة في كل حالة بالتحديد».
6
لا ينسحب مبدأ التفويض المطلق للدولة صاحبة العلم الذي تبحر تحته السفينة التي ترتكب عملا من أعمال القرصنة على هذه السفينة، فطبقا للمادة التاسعة عشرة من معاهدة جنيف: «يمكن لأي دولة الاستيلاء، في أعالي البحار، أو في أي مكان آخر يقع خارج حدود صلاحيات هذه الدولة أيا كانت، على سفينة القرصنة أو طائرة القرصنة، أو على السفينة التي جرى الاستيلاء عليها بواسطة أعمال القرصنة، والتي تقع تحت سيطرة القراصنة، وكذلك اعتقال الأشخاص الموجودين على هذه السفينة أو الطائرة ومصادرة الممتلكات الموجودة عليها. ويمكن للمؤسسات القضائية لتلك الدولة التي قامت بالاستيلاء، إصدار قرارات بشأن توقيع العقوبات وتحديد الإجراءات التي يجب اتخاذها بشأن هذه السفن والطائرات أو الممتلكات دون مساس بحقوق الأشخاص الأبرياء.»
7
لم يحدد القانون الدولي إجراءات عقوبات القراصنة، كما لم يقرر أيضا كيفية التعامل مع سفينة القراصنة التي تم الاستيلاء عليها، ولا على البضائع الموجودة عليها، وإنما أعطى الحق في حل هذه القضايا لقوانين الدول التي قامت بالقبض على القراصنة. وتحتوي القوانين الجنائية لكل دولة على المواد الملائمة المحددة. هناك - على سبيل المثال - المادة التاسعة في القانون الجنائي البولندي لسنة 1932م، وهو ينص على: «تطبيق مواد القانون الجنائي البولندي على المواطنين البولنديين، وكذلك على الأجانب الذين تقرر عدم تسليمهم، وذلك إذا ما قاموا بارتكاب الجرائم التالية خارج البلاد، وذلك بغض النظر عن التعليمات المعمول بها في المكان الذي وقعت فيه الجريمة: (أ)
أعمال السرقة في البحر. (ب)
تجارة الرقيق. (ج)
تجارة النساء والأطفال ...»
تعنى المادة «260» من القانون الجنائي البولندي على وجه الخصوص بتفسير السرقة في البحر، فتنص على أن: «كل من يسلح أو يجهز مركبا بحريا، لإعداده لارتكاب جرائم في البحر، وهي الجرائم المنصوص عليها في المادة 259، أو يذهب للخدمة على هذا المركب، يستحق السجن لمدة تصل إلى عشرة أعوام.»
ولم يشر القانون الجنائي البولندي الجديد الصادر في 19 أبريل عام 1969م إلى القرصنة، باعتبارها شكلا خاصا من أشكال الجريمة، وإنما أشير فيه إلى مادة ذات طابع عام تسمح بإمكانية إنزال العقاب ليس فقط على ممارسة السرقة في البحر، وإنما أيضا على القرصنة الجوية. وقد ورد في الفقرة الأولى من المادة 145 من هذا القانون أن: «مخالفة قواعد الأمن الخاصة بالمواصلات البرية والمائية والجوية - ولو عن غير عمد - والتي يتسبب عنها إصابات جسدية، أو مرض شخص آخر، أو إنزال أضرار جسيمة بالممتلكات، يعاقب عليها بالحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات.»
ألوان من القرصنة
ينبغي تمييز بعض أشكال اللصوصية في البحر عن القرصنة بمعناها الشائع، فإذا كان القراصنة يمارسون النهب في البحر في أوقات السلم والحرب على السواء؛ فإن هناك نوعا آخر من اللصوص دأبوا على القيام بأعمال القرصنة في أوقات الحرب فقط، باعتبارها عملا من أعمال «الفدائية» الاستثنائية. إن القرصنة من هذا النوع هي ظاهرة تاريخية صرفة؛ إذ إن الدول التي وقعت معاهدة باريس السلمية في عام 1856م رفضت هذا الشكل من أشكال الحرب تماما، وفي الماضي كانت القرصنة من هذا النوع واسعة الانتشار، بل واعتبرت وسيلة شرعية من وسائل الحرب في البحر.
القرصنة من النوع الثاني: هي اشتراك عدد من السفن الخاصة في الأعمال الحربية، على أساس تفويض تتلقاه من الدول المتحاربة (على غرار ممارسة القرصنة بعد الحصول على شهادات بذلك
Kaper )، في هذه الحالة يقوم القراصنة الفدائيون بممارسة أعمالهم على مسئوليتهم الخاصة.
وطبقا لشروط الاتفاق المعقود مع هذه الدول يحصل القرصان على الممتلكات، التي يستولي عليها من الدولة المعادية كلها، أو على جزء منها باعتبارها مكافأة له على ما قام به.
كانت المرة الأولى التي طرح فيها الاقتراح بإلغاء هذا النوع من القرصنة في عام 1792م في الجمعية العمومية لفرنسا، ثم جرى حظرها نهائيا في معاهدة باريس المعقودة عام 1856م، كما سبق وأشرنا (لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الحظر سوى عام 1909م).
وجاء الخلط في الاستخدام الشائع للمعنيين؛ لأن القرصنة الفدائية كانت كثيرا ما تتحول إلى القرصنة في شكلها التقليدي. وفي الوقت نفسه جرى استخدام القرصنة لتبرير النهب البحري، وعلى سبيل المثال: فقد حصل أحد القراصنة الكبار، وكان يعمل في منطقة البحر الكاريبي، وعلى إحدى القلاع الكبرى للقرصنة في الماضي، على شهادة القرصنة من محافظ وست إنديا، وكان دنماركيا مقابل مبلغ ضخم من المال (جدير بالذكر هنا أن هذا المحافظ كان قرصانا سابقا)، ولم يفهم القرصان نص الوثيقة التي أعطيت له والمكتوبة باللغة الدنماركية، وقد اتضح فيما بعد أن هذه الوثيقة لم تكن تسمح إلا ... «باصطياد الخنازير في جزر الأرخبيل الدنماركي!»
كانت أطقم سفن القراصنة الفدائيين عادة ما تذهب لحال سبيلها بعد نهاية الحرب، على أنه في حالات كثيرة كان هؤلاء اللصوص الذين استمرءوا الكسب السهل والحياة الرغدة، يرفضون التخلي عن هذا الأسلوب في المعيشة، ومن ثم يتحولون إلى قراصنة دائمين.
كانت هناك أيضا مصادر أخرى للقرصنة، وما القرصنة إلا النتاج الحتمي لكل التكوينات الاجتماعية الاقتصادية في المجتمع الاستغلالي. ولقد وجدت أكثر العناصر الشجاعة والمغامرة الفرصة دائما لتجنيد أطقم السفن، والاستيلاء على الأساطيل، وأحيانا تكوين مجتمعات كاملة للقرصنة. ولقد جرى تجنيد القراصنة من بين العبيد الهاربين، أو من الفلاحين الأقنان،
8
أو البحارين العاطلين، والعسكريين الفارين من الخدمة. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء الأشخاص المطاردين بسبب قناعاتهم الدينية والسياسية، أو لتصورات أخرى. ومن هنا يمكن أن ندرك أسباب تنوع أنماط القراصنة الذين عرفناهم جيدا بفضل الكتب والأفلام السينمائة والتليفزيونية.
وقد امتدت جذور القرصنة إلى الأعماق مع وجود النظام الاستعماري، لما في هذا النظام من طابع استغلالي قاس للشعوب المستعبدة؛ فإن بعض الشعوب التي وقعت تحت نير المستعمرين الأوروبيين، رأت في القرصنة واحدة من أفضل أشكال حركات الكفاح في سبيل التحرر الوطني. ولعلنا لهذا السبب نكتشف أحيانا بين هذا الحشد الهائل من المذابح الدموية القاسية تارة هنا وتارة هناك، وجها مضيئا للمصلح الرومانسي الذي يقاتل ضد قوى العالم بأسره من أجل العدالة الاجتماعية.
وإن بإمكاننا أن نكتشف أيضا في سياق تطور القرصنة بعض القوانين التي تتكرر بغض النظر عن أماكن ظهورها؛ ففي مرحلة ما قبل ظهور بؤر للقرصنة، اقتصر الأمر على بعض السفن التي قام باختطافها، أو سرقتها طاقم متمرد يعمل مخاطرا بنفسه، وبمرور الوقت اتحدت هذه السفن في شكل أشد قوة وأدق تنظيما، ثم نشأت الأساطيل ذات القيادة الموحدة، ونظرا لنمو القوى في المرحلة التالية من تطورها، تحول هذا الشكل من التنظيم إلى قرصنة الدول التي تمتلك أرضا خاصة عليها سكان دائمون، يخضعون لسلطان القراصنة.
وتعرضت القرصنة على مدى تاريخها الطويل لفترات من الصعود والانهيار، وكان لغياب التعاون الدولي الضروري في النضال ضد هذه الظاهرة (ناهيك عن الاعتراض الشكلي بأن القراصنة هم «أعداء البشرية») قد ساعد على الوجود المستمر الطويل للنهب البحري على نطاق كبير. إن القرصنة لم تنته من عالمنا كلية حتى الآن، لتصبح ماضيا، إنها ما تزال تزدهر أمام أعيننا متخذة لنفسها أشكالا جديدة، مستخدمة إنجازات التكنولوجيا، مستمرة في تهديد النظام الاجتماعي والأمن، وفي هذه الظروف؛ فإن من الأسباب ما يبرر الخوف من أن تخرج القرصنة من الإنسان إلى الفضاء الخارجي، لتمد أذرعها فيه بشكل جديد من الأشكال.
Unknown page