Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
والآن ها هن مريضات الهستيريا - «مريضات شاركو»: «كانت النساء اللاتي يدخلن سالبيتريير، واللاتي يرسلهن إليه زملاؤه من باريس أو البروفانس ينتمين إلى فئة الخادمات العصبيات، والمحملات فوق الطاقة أو حارسات العقار أو قارئات أخبار الحوادث، أو فتيات أو شابات على نمط «مدام بوفاري» من الطبقة البرجوازية؛ يرغبن في أن يصبحن محور الأحاديث بعد أن سمعن عن المرض الشهير في الصحف المنتشرة التي يباع العدد منها بخمسة سنتيمات، ولم يكن يعرفن أنه يجب «بالضرورة» أن يكن مصابات بالمرض. وفور وصولهن يدركن من رفيقاتهن أنه لا يكفي السقوط والصراخ مع لي الذراعين، بل ويجب «التقوس» والارتماء على الأرض سائلات اللعاب ورءوسهن ملقاة للخلف. كان ذلك هو مرض التخشب الجسدي، إلا أن مصابات التخشب (اللاتي يغفلن المرحلة الأولى عن جهل) كن يدركن على الفور أنها - وهي المرحلة الخاملة - تسمح بالدخول إلى فئة الموضوعات المثيرة بالفعل، في حين أن المرحلة الثالثة - الخاصة بالسرنمة - تؤدي مباشرة - إذا أتممن هدفهن - إلى الكثير من الهدايا الصغيرة. كان من المعروف أنه بمجرد أن يضغط أحد الأطباء المتدربين على بطن المريضة بقبضتيه (أي على مبيضيها ) كان من المفترض أن تهدأ تدريجيا وهي تبكي وتئن. كان هذا الأمر يشبه الفن الطفولي، وكان المرضى ينجحون فيه ببراعة» (ليون دوديه).
كانت لوحة بروييه الشهيرة - «درس إكلينيكي بسالبيتريير» - قد عرضت في صالون عام 1887 الفني، في الوقت الذي بلغ فيه شاركو أوج مجده. وفي النصف الأيسر من اللوحة، نجد الأطباء والمساعدين الذين أتوا بأعداد كبيرة جالسين في جدية وانتباه، بينما يظهر شاركو واقفا في النصف الأيمن من اللوحة وإلى جانبه خليفته بابينسكي. كانا يمسكان بإحدى مريضات الهستيريا الشهيرات - بلانش وايتمان - وهي ضحية نوبة عنيفة. وفي أقصى اليمين - بالقرب من النقالة - كانت تقف الآنسة بوتار - المشرفة العامة - وهي تمد يدها خفية نحو هذا الجسد المغشي عليه وهذا الصدر نصف العاري وقد سلط عليه الضوء واستسلم بالكامل لكل هؤلاء الرجال الذين يدرسونه. وبعد عامين، اكتشف فرويد - بفضل مرضى شاركو - الطبيعة الجنسية للعصاب.
ويشرح ليون دوديه أن هناك احتمالا كبيرا أن يكون شاركو أول من انخدع بهذه الأكذوبة التي وردت في مئات الكتب والقواميس. ولكن كيف؟ وبين السذاجة والعناد المغرور، لا يتردد دوديه في وصف شاركو بأنه «كان شديد الغرور وعلى قناعة شديدة بأنه مدهش.» في مذكراته، يذكر الطبيب السويدي آكسل مونت - أحد تلاميذه القدامى - الأمر نفسه فيقول: «لم يكن شاركو يعترف أبدا بأي خطأ، وويل لمن كان يجرؤ على التلميح بأنه أخطأ.» وينتقد مونت أيضا «تلك الخدعة السخيفة» عن العروض التي كان ينظمها في سالبيتريير. وسنلاحظ أن الشخصية الوحيدة في سالبيتريير التي راقت لليون دوديه (الذي كان قد رسب في مسابقة اختيار الأطباء المتدربين) هي الآنسة بوتار، التي شبهها «بقديسة علمانية، لها تفان مطلق يستحق إعجابي. كانت متعلقة بهؤلاء البائسات اللاتي يمثلن وهن ضحايا، كانت تشعر إزاءهن بصبر واهتمام غير عاديين. يمكن القول بأنها هي الوحيدة التي ذاقت النعيم على الأرض!»
بالنسبة إلى شاركو، فإن الهستيريا هي الشرط اللازم للقيام بالتنويم المغناطيسي، ومن ثم فلا يمكن الفصل بين دراستهما ولا نقدهما. ولقد ازداد ثبوت الفكرة في عام 1882، حينما قدم بيانا لأكاديمية العلوم صاغ فيه قوانين الهستيريا الصغرى والكبرى، وأيضا قوانين التنويم المغناطيسي البسيط والعميق. وكان ذلك هو بداية اندلاع أحد أعنف الخلافات التي هزت عالم الطب: المعركة الشرسة بين مدرسة سالبيتريير ومدرسة نانسي. ولقد نشأت الأخيرة على يد أوجست ليبو (1823-1904) - الطبيب المعالج بالتنويم المغناطيسي - والذي لم يسلم من اتهامه بالشعوذة. كان قد جاء في عام 1882 ليستقر في مدينة نانسي. ثم جاء إيبوليت بيرنهيم (1840-1919) - وقد أثاره نجاح «عيادة الطبيب ليبو» - ليكشف لديه لإصابته - كما يقال - بعرق النسا. وسرعان ما أصبح بيرنهيم صاحب نظرية «مدرسة نانسي» الرافضة لكل الطرق التي تستخدم السوائل والمغناطيس، مؤكدا أن النوم المغناطيسي أو المفتعل إنما هو حالة فسيولوجية يمكن تطبيقها على أي فرد اعتمادا على آلية الإيحاء. كان ذلك هو النفي التام لنظرية شاركو. أما عن الجلسات الشهيرة التي كانت تعقد في سالبيتريير، فيشكو طبيب أمراض عقلية بلجيكي: «هناك الكثيرون مثلي لم يستطيعوا محاكاتها في ظروف عادية.»
18
وفي النهاية يقول بيرنهيم: «إن التنويم المغناطيسي في سالبيتريير إنما كان عملا مصطنعا، نتيجة للتدريب.» أما المسكنات المهدئة للحواس، فهي «اختراع بحت لهدف الاستكشاف الطبي.»
واستمر الجدل حتى بداية القرن العشرين، محيطا أعمال شاركو جميعها بنوع من التشكك حتى قبل وفاته عام 1893. ويبدو أنه - قبيل وفاته - اعترف شاركو - على حد قول سكرتيره جورج جينون - بأن «مفهومه عن الهستيريا أصبح قديما، وأنه من الأفضل تجاوز هذا الفصل من تاريخ الطب العصبي الباثولوجي». وأصبح على من تبعوه إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فكره، فالإرث الذي تركه كان عظيما حتى وإن كان يعيبه «تفكيكه للهستيريا»، على حد تعبير جوزيف بابينسكي (1857-1932) - الابن الروحي لشاركو والخصم اللدود لبيرنهيم، على الرغم من أنه يبدو أنه اقترب إلى أفكاره في النهاية. ألم يطرح بنفسه في عام 1901 فكرة اعتماد الاقتراح الذي يهدف إلى «استبدال» مفهوم خلل المظاهر الوظيفية المصاحب للمرض العصبي بلفظ الهستيريا؟ إلا أن الهجوم المضاد الواسع الذي شنه زملاؤه في مشفى سالبيتريير انتهى برفض الاقتراح وعزل بابينسكي (وإن عاد مفهوم «خلل المظاهر الوظيفية المصاحب للمرض العصبي» بقوة أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى كنوع من التلطيف للاسم). بينما اتجه فيلجينس ريموند (1844-1910) - الذي خلف شاركو - وبيير جانيه (1859-1947) نحو نظرية ترجع العصاب إلى أصل وأعراض باثولوجية نفسية.
كان جانيه - الفيلسوف والمتخصص في علم النفس - قد دخل مبكرا عالم أطباء الأمراض العقلية، عندما ناقش في عام 1889 رسالته حول «الحركة التلقائية اللاإرادية النفسية» (بمعنى أنها نابعة من اللاوعي)؛ «بحث عن الأشكال البسيطة للنشاط الإنساني». وبدأ بعدها في دراسة الطب، وانتهى عام 1893 من رسالته: «إسهامات في دراسة الإصابات العقلية لمرضى الهستيريا». وقبل هذا التاريخ كان قد بدأ يتردد بكثرة على شاركو، الذي أنشأ من أجله معملا لعلم النفس التجريبي بسالبيتريير. «وبعيدا عن المدارس الصاخبة لشاركو أو بيرنهيم»، فتح جانيه طريقا ثالثا، مؤكدا على الطبيعة النفسية للهستيريا وعلى ضرورة وجود طريقة لملاحظتها نفسيا. كان يحلم دائما بمشروع توحيد الطب العقلي وعلم النفس، منتقدا أطباء الأمراض العقلية لأنهم «لم يتطرقوا للبعد النفسي للمرض العقلي إلا لخفض الانفعال النفسي» (كلود بريفو). ومنذ عام 1901، وضع تعريفا للنوع الآخر من العصاب الحاد: الوهن النفساني (الفزع والوسواس والشك والكبت والهوس العقلي و«غياب القرار والإرادة واليقين والتيقظ»)، وهو مصطلح من اختراعه يستبدل به لفظ الوهن العصبي. وفي تصنيفه الكامل لأمراض العصاب (1909) - الذي يعرفه بكونه «اضطرابات أو توقفا في تطور الوظائف» - يضع الوهن النفسي إلى جوار «الحالة العقلية لمرضى الهستيريا»، إلا أن هذين النوعين من العصاب يمكن وجودهما لدى المريض نفسه.
خلف جول دوجورين (1849-1917) ريموند عام 1911. وهو العام الذي نشر فيه «المظاهر الوظيفية لمرضى الذهان العصابي وشفاؤهم بالعلاج النفسي». انتهى عصر الهستيريا في الغرف المغلقة. ويقول دوجورين لاحقا: إن «الأعراض التي تميز الهستيريا الكبرى لم تستمر على الإطلاق لأكثر من أسبوع خلال خدمتي.» فمن الآن فصاعدا، أصبح التركيز ينصب كله على الأصل النفسي للعصاب؛ مما يفسر الاسم الجديد «الذهان العصابي»، الذي ينتزع الهستيريا من مجال علم الأعصاب ليجعل منها عصابا نفسيا بالكامل. ومن جانبه، كان بول ديبوا (1799-1873) - المعروف بديبوا من بيرن - قد نشر عام 1904 «الأمراض الذهانية العصابية وعلاجها النفسي.» كانت تلك عودة غير متوقعة إلى العلاج النفسي المعنوي، الذي يقوم على مبدأ أن العلاج النفسي المعقول يعتمد على إقناع المريض ذي الطبع غير العقلاني بالآلام التي يشكو منها. لم يقصد دوجورين هذه الطريقة، مفضلا تعزيز ثقة ويقين المريض في طبيبه. «كل شيء يحدث على مستوى العاطفة» (تريا)، خاصة في العلاج كما في حدوث الذهان العصابي الذي يندرج تحته الهستيريا والوهن العصبي (الذي يفصله عن الوهن النفسي كما ذكر جانيه والذي يقوم على الوساوس، بينما ينتج الوهن العصبي بناء على اضطرابات وظيفية)، وأيضا مرض فقدان الشهية العقلي .
ماذا كانت حال مدرسة نانسي - التي يسميها بابينسكي «الجامعة القروية» - في مواجهة مدرسة سالبيتريير؟ كانت نانسي محل جذب لكثير من الأطباء - خاصة الأجانب - الذين اهتموا بالطرق العلاجية هناك، والتي قامت نجاحاتها على فكرة الإيحاء، بعيدا عن أي «ضعف» في الجهاز العصبي أو أي هستيريا. ويتيح الإيحاء تركيز انتباه المريض على أي جزء من جسده المريض. ويذهب بيرنهيم إلى مدى أبعد من ذلك، مؤكدا في النهاية أن التنويم المغناطيسي ليس سوى تلاعب بالإيحاء عن طريق النوم المصطنع أو من دونه؛ أي من دون تنويم - الذي أصبح لاحقا إحدى الطرق العلاجية. ومن بين الأطباء الذين كانوا يترددون على مصحة نانسي، نذكر على وجه التحديد سيجموند فرويد (1856-1939) الذي قضى هناك عدة أسابيع أثناء صيف عام 1889؛ «بهدف إتمام دراسة تقنية التنويم»، وفقا لما ذكره بنفسه في مذكراته.
Unknown page