شكر وتقدير
مقدمة
1 - المأزق: أسباب السخط في العصر المذهب
2 - أزمة تسعينيات القرن التاسع عشر: 1889-1901
3 - تبلور الحركة التقدمية: 1901-1908
4 - أوج الحركة التقدمية: 1908-1917
5 - الحرب العالمية الأولى ووباء الأنفلونزا: 1917-1919
6 - انحسار الحركة التقدمية: 1919-1921
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة
1 - المأزق: أسباب السخط في العصر المذهب
2 - أزمة تسعينيات القرن التاسع عشر: 1889-1901
3 - تبلور الحركة التقدمية: 1901-1908
4 - أوج الحركة التقدمية: 1908-1917
5 - الحرب العالمية الأولى ووباء الأنفلونزا: 1917-1919
6 - انحسار الحركة التقدمية: 1919-1921
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الحركة التقدمية في أمريكا
الحركة التقدمية في أمريكا
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
والتر نوجنت
ترجمة
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إهداء إلى برنارد إيه وايزبرجر؛
صديقي المخلص والتقدمي طوال حياته.
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى كل من: سكوت روك من جمعية أوريجون التاريخية، وليزا مارين من جمعية ويسكونسن التاريخية، وماري-جو ميلر من جمعية نبراسكا التاريخية، وفريق عمل قسم المطبوعات والصور الفوتوغرافية، وإدارة النسخ بمكتبة الكونجرس على مجهودهم في البحث عن الصور التي نريدها من ضمن مجموعات الصور الخاصة بها وتوفيرها ومنحنا تصريحا باستخدامها.
وقد ورد إلي العديد من الاقتراحات المفيدة من قراء مخطوطة الكتاب التابعين لمطبعة جامعة أكسفورد، وهم: روبرت دي جونستون، وتوم دورانس، وشخص ثالث أجهل اسمه. قرأ برنارد إيه وايزبرجر - مؤرخ وصديق لي لعقود - وسوالين هوي مخطوطة الكتاب بالكامل وقدما لي ملاحظات كثيرة، وكيفية الاستفادة من تلك الملاحظات هي مسئوليتي الشخصية بالطبع.
كذلك كانت محررتي بمطبعة جامعة أكسفورد، سوزان فيربر الدءوبة، على استعداد دائم لتقديم العون والمساعدة لي، وذلك على مدار جميع مراحل الكتاب.
مقدمة
يشير مصطلح «الحركة التقدمية» - في تاريخ المجتمع الأمريكي والسياسة الأمريكية - إلى حركة إصلاحية متعددة الجوانب ظهرت في السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر، وازدهرت بحلول القرن العشرين وحتى عام 1920، ثم تلاشت في مطلع العشرينيات من القرن العشرين. على مستوى السياسة الوطنية، حققت هذه الحركة أعظم إنجازاتها فيما بين عامي 1910 و1917. وعلى مستوى السياسة المحلية والخاصة بالولايات وجهود الإصلاح الخاصة - مثل الكنائس، ومراكز التكافل الاجتماعي، وحملات مكافحة الأمراض - بدأت التغيرات التقدمية في الظهور في تسعينيات القرن التاسع عشر، واستمرت حتى عشرينيات القرن العشرين. لعب عدد كبير من الناشطات - على الرغم من عدم حصول المرأة على حق الانتخاب - دورا كبيرا في هذه الجهود الرامية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وعلى مستوى السياسة الوطنية، برز الزعماء «الأربعة الكبار»: ويليام جيننجز برايان، وثيودور روزفلت، وروبرت إم لافوليت، ووودرو ويلسون. كما قاد العمدتان توم جونسون وسام جونز (صاحب القاعدة الذهبية) تغييرات في مدنهما بولاية أوهايو، وهكذا الحال بالنسبة لهيرام جونسون حاكم كاليفورنيا وجيمس فاردامان حاكم ميسيسيبي. وتزعم لينكولن ستيفنز، وإيدا تاربيل، وباقي المناضلين الإصلاحيين الكاشفين للفساد (المعروفين ب «المنظفين») ما سيطلق عليه فيما بعد الصحافة الاستقصائية. وضم التربويون التقدميون رؤساء جامعات وفلاسفة وعلماء اجتماع. وفي مجال العمل الخيري، دعم جوليوس روزنفالد معهد تاسكيجي الذي أسسه بوكر تي واشنطن، بينما ضخت مؤسسة روكفلر الملايين في مجالي التعليم والصحة في ولايات الجنوب. كذلك قاد المعمداني والتر راوشنبوش، والأسقفي دبليو دي بي بليس، والكاثوليكي جون إيه راين كنائسهم نحو العدالة الاجتماعية، وبحلول عام 1910، أيدت جميع الطوائف البروتستانتية ما أطلق عليه حركة الإنجيل الاجتماعي. وساهمت فكرة مبتكرة هامة ميزت الحقبة التقدمية - وهي مراكز التكافل الاجتماعي - في محاربة الفقر والجهل والمرض والظلم في العديد من المدن، وتزعم هذه الحركة على نحو بارز جين آدمز وإيلين جيتس ستار في شيكاجو، وليليان فالد وفلورنس كيلي في نيويورك، وماري ووركمان في لوس أنجلوس.
تحتاج الحركات الإصلاحية الناجحة إلى مؤيدين بقدر احتياجها إلى قادة، وقد حظيت الحركة التقدمية بملايين المؤيدين في أنحاء أمريكا، الذين انتخبوا المشرعين ممن وضعوا تشريعات تقدمية في قوانين الولايات، بدءا من ماساتشوستس إلى كانساس وكاليفورنيا. وفي حين ضغط بعض التقدميين من أجل إدخال إصلاح واحد أو اثنين، نادى آخرون بإصلاحات واسعة النطاق. وبحلول الوقت الذي وهنت فيه الحركة، كان قد تحقق الكثير من تلك الأهداف، لا سيما تلك التي هدفت إلى تخفيف بعض من مظاهر الظلم - أو مظاهر الجور كما كان يقول التقدميون - والمشكلات التي تفاقمت وتفشت جراء الاقتصاد الرأسمالي غير المنظم الذي ظهر بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1865.
عكست الحركة التقدمية إجماعا متزايدا - وإن كان مؤقتا - بين الأمريكيين على أن التغيرات الكبرى التي حدثت في أواخر القرن التاسع عشر أسفرت عن أوضاع غير متوازنة غير مرغوب فيها وغير متفقة مع المبادئ الأمريكية في مجتمعهم. تمثلت دلائل هذه الأوضاع في ظهور طبقة جديدة من الأثرياء المولعين بالتباهي، الذين تقدر ثرواتهم بالملايين، والشركات الاحتكارية الخارجة عن السيطرة، والصراع (العنيف في أغلب الأحوال) بين العمال والرأسماليين، وردود الأفعال الفاترة من قبل الحكومات. زاد التخوف التقليدي من المدن، وذلك مع زيادة عدد المدن المتوسطة الحجم وتوسع عدد من المدن الكبيرة الحجم، ولم ينتقل إليها فقط النازحون من الريف الأمريكي، بل أيضا المهاجرون من أجزاء غير معتادة من أوروبا وآسيا. بدا أن المدن تفرز أمراضا اجتماعية - الفقر والبغاء والمرض والسكر واليأس - ولكن هذا لا يعني أن الريف، لا سيما في الجنوب، كان خاليا من تلك الأشياء. لكن المدن، وبخاصة المدن الكبيرة، جذبت انتباها أكبر.
ماذا كان يمكن، أو ينبغي، فعله حيال كل هذا؟ كيف كان يمكن دفع الحكومات كي تكون أكثر استجابة لمطالب «الشعب»؟ وكيف كان يمكن أن تصير الحياة الاقتصادية عادلة مرة أخرى؟ وكيف كان يمكن أن يحافظ المجتمع الأمريكي على التزامه بقيمه الجوهرية التي آمن بها منذ زمن طويل، وفي الوقت نفسه يتواءم مع القوى الجديدة؟
حاول التقدميون بطرق شتى الإجابة عن هذه الأسئلة. حبذ معظمهم استخدام صورة ومستوى من السلطة الحكومية - محلية أو على مستوى الولايات أو فيدرالية - لحل المشكلات الاقتصادية، وتخفيف حدة الأمراض الاجتماعية، والتوفيق بين التغيير والتقليد. كانت تلك الرغبة في استخدام السلطة الحكومية تمثل ابتعادا عن التوجه المعارض للتوجيه الحكومي الذي ساد «العصر المذهب» الذي سبق الحقبة التقدمية. وبحلول عام 1919 تغيرت أمريكا في الكثير من النواحي الدقيقة؛ فقد حل كثير من المشكلات الاجتماعية (وبخاصة تلك المتعلقة بالبلدات الصغيرة، والمدن الصغيرة، والبيض الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة)، بينما ظلت مشكلات أخرى كما هي دون أن يتطرق إليها أحد. زال الإحساس بالأزمة الذي كان ملحا للغاية في عام 1900، سواء نتيجة للإصلاحات العديدة التي حدثت، أو للإنهاك بعد الحرب، أو للإحساس باتساع نطاق الفرص أمام الفرد. مع ذلك، نجد أن الحقبة التقدمية - على الرغم من هجومها المنقوص وغير الملائم على مشكلات المجتمع - شكلت إحدى أطول الفترات في التاريخ الأمريكي التي لاقت فيها الإصلاحات ترحيبا بوجه عام.
ونظرا لأن الحركة التقدمية كان لها وجود في جميع المناحي، بدءا من تنظيم السكك الحديدية، ومنح المرأة حق الانتخاب، وتقييد الهجرة إلى الفن والأدب الواقعيين، وأولى وسائل الإعلام الحقيقية وتمهيد الطرق؛ فقد كان من الصعب تحديد الهدف الأساسي لها بوضوح. كان «الإصلاح» في حد ذاته هو ذلك الهدف، وهو هدف مبهم شأنه شأن مصطلح الإصلاح ذاته. لكن قدرا كبيرا من الروح التقدمية يجسد في ذلك الانفتاح على التغيير، تلك القناعة ب «الحاجة لفعل شيء ما». إن كيفية تنفيذ تلك التغييرات - ومتى وعلى يد من - هي محور تركيز هذا الكتاب.
كانت القناعة الثابتة لدى كافة التقدميين تقريبا أن «الصالح العام» أو «المصلحة المشتركة» شيء موجود بالفعل. أنكرت مارجريت تاتشر ورونالد ريجان والمحافظون من أصحاب الفكر المتشابه وجود أشياء كهذه، ورأوا أن الحكومة نفسها - كما في القول الشهير لريجان - هي المشكلة وليست الحل. انعكست تبعات ذلك في السنوات التي أعقبت فترة حكم ريجان في التشريعات والأيديولوجية السياسية التي اتسمت بالنزعة الفردية الشديدة، والتي لم تكن بالطبع محافظة بالمعنى الفلسفي التقليدي. باختصار، قام تاريخ تلك السنوات على فرضية مختلفة عن تلك الخاصة بالتقدميين. وسواء حبذنا النظرة الفردية أو المجتمعية أكثر، يمكننا دراسة هؤلاء المصلحين الذين ينتمون إلى القرن الماضي لإدراك أنه كان يوما ما إجماع من نوع مختلف.
لم يكن جميع الأمريكيين في أوائل القرن العشرين تقدميين. وكما هي الحال دائما، قاوم البعض التغيير على كافة المستويات، بينما اعتبر آخرون أن كل الإصلاحات تقريبا لا تحقق التغيير الكافي المرجو منها، أما الأغلبية التي بين هذين الطرفين فحبذت التغيير ورأته ضروريا. هؤلاء هم مؤيدو الحركة التقدمية، ولولاهم ما استطاع زعماء على غرار برايان وثيودور روزفلت سوى تحقيق القليل؛ فدور الزعماء والمؤيدين كان جوهريا. وبحلول عام 1920 أحرز تقدم بالفعل على أصعدة عديدة؛ فقد قطع المجتمع الأمريكي شوطا كبيرا في التقدم مقارنة بما كانت عليه الحال في عام 1900. مع ذلك لم تتغير كافة الأوضاع؛ فقد حدث بعض التراجع في عشرينيات القرن العشرين التي اتسمت بالتوجه المحافظ، لكن في المجمل استمرت حركة الإصلاح العام؛ فقد كانت الحركة التقدمية في جوهرها حركة إصلاحية، وليست راديكالية.
اهتمت الحركة التقدمية بعدة قضايا، وضمت نطاقا واسعا من الأفراد والجماعات، وظهرت في صور مختلفة في كل منطقة من البلاد، كما تجاوزت الحدود الخاصة بالأحزاب والطبقات والنوع، بل والعرق أيضا؛ ففي منطقتي الشمال الشرقي والغرب الأوسط التي يهيمن عليها التصنيع والتمدن، حارب التقدميون الفساد والمحسوبية في حكومات المدن والولايات، وقمع العمال في المصانع والمناجم، ودافعوا كذلك عن القضايا الخاصة بالتعليم العام ونظافة المدن وسرعة استجابة الحكومات. وفي مناطق الجنوب والسهول الكبرى الزراعية بالدرجة الأولى، حارب التقدميون احتكار السكك الحديدية، ونقص الائتمان، واستغلال عمالة الأطفال، والأمراض المزمنة، ودعموا في ولايات كثيرة حق المرأة في الانتخاب. أما في الغرب الأقصى القصي والقليل السكان، سعى التقدميون من أجل جميع هذه الأمور. وعلى مستوى المشكلات الوطنية الكبرى، على غرار التعريفات الجمركية على الواردات (التي كانت المصدر الرئيسي للإيرادات الفيدرالية قبل عام 1915) أو التوجه الإمبريالي، فقد انقسم موقف التقدميين؛ حيث أيد التقدميون الجمهوريون فرض تعريفات جمركية أعلى، كما هو توجه الجمهوريين على الدوام، وحبذوا في الغالب التوسع الاستعماري العدواني، في حين سعى التقدميون الديمقراطيون إلى خفض التعريفات الجمركية، وعارضوا هذا التوجه الاستعماري على غرار ضم الفلبين في عام 1898. وفي نهاية المطاف، وبحلول العقد الثاني من القرن العشرين، وافق معظمهم على اتخاذ إجراءات واسعة النطاق مثل ضريبة الدخل التصاعدية، والانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، وحق المرأة في الانتخاب، على الرغم من عدم اتفاقهم دوما على التفاصيل. كما أيدت الأغلبية سياستين لم تشكلا جزءا من ليبرالية «الصفقة الجديدة»، ولاحقا تقييد الهجرة وحظر المشروبات الكحولية. لم يؤمن أغلبية الأمريكيين في مطلع القرن العشرين - ومن بينهم التقدميون - بالمساواة العرقية؛ فقد شهدت تلك السنوات ذروة التفرقة العنصرية، وتطبيق قوانين جيم كرو وعمليات الإعدام دون محاكمة. مع ذلك تكاتف بعض التقدميين لتأسيس الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين والرابطة الحضرية الوطنية. لم ينحز أحد إلى الإمبريالية الأمريكية مثلما انحاز إليها ثيودور روزفلت، لكنه كان زعيما تقدميا على نحو لا يقبل الشك. وأيد العديد من التقدميين خوض الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، لكن جين آدمز وويليام جيننجز برايان وغيرهما الكثير من التقدميين عارضوا ذلك بشدة.
خلاصة القول، كانت هناك أشكال متنوعة للحركة التقدمية وللتقدميين أنفسهم، لكنهم كانت لديهم قناعة مشتركة مفادها أن المجتمع ينبغي أن يعامل أفراده بإنصاف (خاصة الأفراد البيض الذين ولدوا في البلاد)، وأنه يتعين على الحكومات أن تمثل «الشعب» وأن تنظم «المصالح»، وغني عن القول أن مفهوم «المجتمع» في حد ذاته كان موجودا. اشترك زعماء التقدمية «الأربعة الكبار» - برايان وثيودور روزفلت ولافوليت وويلسون - مع غيرهم الأقل صيتا من التقدميين - رغم كل اختلافاتهم - في الإيمان بالمجتمع والمصلحة المشتركة والعدالة الاجتماعية وأن المجتمع يمكن أن يتغير لمكان أفضل.
الفصل الأول
المأزق: أسباب السخط في العصر المذهب
لماذا ظهرت الحركة التقدمية في الوقت الذي ظهرت فيه تحديدا، ولم تظهر قبله أو بعده؟ ولماذا كان عدد كاف من الأمريكيين «مستعدا للإصلاح» في عام 1900، وراغبا في تحقيقه خلال الخمسة عشر أو العشرين عاما التالية؟
بدأت الحركة التقدمية في الظهور في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وتطورت بسرعة متزايدة منذ عام 1900 تقريبا حتى عام 1917، وبعدها حدث انقسام داخلها وخبت خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها مباشرة؛ أي منذ عام 1917 حتى أوائل العشرينيات من القرن العشرين. لماذا ظهرت في ذلك الوقت بالتحديد؟ السبب باختصار يعود لذلك الشعور الذي تولد داخل الأمريكيين على نحو متزايد بينما كان القرن التاسع عشر في سنواته الأخيرة بأن مجتمعهم كان يتغير أحيانا للأفضل، لكنه كان يتغير للأسوأ أيضا في جوانب مهمة. لا شك أن تغير المجتمع إلى الأفضل تمثل في الرخاء الذي اتسمت به ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ إذ تضاعفت أميال السكك الحديدية؛ مما حفز التنمية الاقتصادية وأتاح تحقيقها، ودخلت الكهرباء لأول مرة إلى شوارع المدن والأماكن العامة، وبنيت أولى ناطحات السحاب. أما على الجانب الآخر، فقد تمثلت التغيرات إلى الأسوأ بكل تأكيد في ظروف العمل في المصانع والمناجم وفي السيطرة الاحتكارية التي فرضتها خطوط السكك الحديدية على ملايين المزارعين، والأهم من ذلك الفروقات الواضحة بنحو متزايد بين دخول أفراد المجتمع الأوفر حظا وتلك الخاصة بجموع الناس. لقد كان الأغنياء يزدادون غنى - بنحو كبير للغاية - عن معظم الناس. بدا ذلك معقولا ومبررا إلى حد معين، ولكن عندما تم تخطي ذلك الحد، ساد شعور بالظلم والجور. وبرز السؤال: ما الذي يمكن فعله حيال هذا الأمر، إن كان بالإمكان فعل أي شيء؟
ظهرت بوادر السخط مبكرا منذ عام 1880. قبل بضعة عقود من هذا العام، كان الأمريكيون غالبا ما ينظرون إلى المجتمع بوصفه مجموعة متناغمة من الأشخاص المنشغلين بإنتاج الأشياء وتوزيعها؛ إذ كان المزارعون ينتجون الحبوب والقطن ويربون الماشية، بينما كان الحرفيون الماهرون يبنون المنازل ويصنعون حدوات الخيول، والصناع يصنعون المسامير والقضبان، ويبيعها أصحاب المحال التجارية. تألف الاقتصاد من منتجين صغار، وقلما وجد شخص فاحش الثراء أو شديد الفقر، ولم ينبغ لأحد أن يكون كذلك. كان الأشخاص غير المنتجين محل شكوك، وكان يطلق عليهم في بعض الأحيان المتلاعبون بالثروة التي حققها الأشخاص الحقيقيون. لم تتطابق الحقيقة دائما مع هذا النموذج المثالي، ولكن الترابط المتناغم بين المنتجين والدور الثانوي للغاية الذي لعبه غير المنتجين كان هو ما يجدر بالمجتمع الأمريكي أن يكون عليه. ذكر عالم الاقتصاد السياسي الأمريكي الأبرز في القرن التاسع عشر هنري سي كيري الذي نشأ في فيلادلفيا أن المجتمع الصالح قوامه الترابط المتناغم بين أفراده. وكانت عملية الإنتاج ضرورية وتحظى بالاحترام. وذكر المفكر الفرنسي الكبير ألكسي دي توكفيل، الذي اهتم بدراسة الولايات المتحدة وزارها عام 1831، أن الشعب الأمريكي كان يحب التغيير ولكنه كان يكره الثورة، وذلك لأنهم كانوا من ذوي «الثروات الضئيلة»؛ بمعنى أنهم ليسوا فاحشي الثراء، ولكن يحظى جميعهم ببعض الممتلكات التي يستثمرونها وينمونها ويدافعون عنها. رأى هذان الكاتبان أن سر نجاح المجتمع الأمريكي لم ينبع من المساواة بين أفراده، ولكنه كان يكمن في انتشار الفرص على نطاق واسع والتوزيع العادل للملكية بصفة عامة.
ولكن الظلم الجائر الذي فرضه المجتمع الأمريكي على أفراده من غير البيض لم يذكر في نظرية كيري أو ملاحظات توكفيل. وتناقض الشرخ العميق الذي أحدثته الحرب الأهلية التي كانت قد انتهت حينها منذ وقت قصير وما أعقب ذلك من إعادة إعمار مع الحديث عن الترابط المتناغم، مع الأخذ في الاعتبار أن عدد من لقوا حتفهم في تلك الحرب تخطى ستمائة ألف شخص، وأن العداء الطائفي والعرقي قد استمر بعد ذلك لفترة طويلة. ومع ذلك، ظل عدد كبير من الأمريكيين يرون أن الإجابة عن السؤال الخاص بالوضع الذي ينبغي أن تكون عليه أمريكا تكمن في النموذج المثالي للتناغم وفي الانتشار الواسع والديمقراطي للسلطة الاقتصادية والسياسية التي كانت تدعم هذا النموذج وتسمح بتحقيقه. اتسمت النزعة الإنتاجية بأنها متفائلة وحالمة وخيالية بعض الشيء، ومع ذلك بدا بالفعل أنها تحدد الكيفية التي عمل بها الاقتصاد السياسي للبلاد.
هذا كان حال ذلك البلد في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر: نحو خمسين مليون شخص متناثرين على مساحة ثلاثة ملايين ميل مربع من الأرض فيما بين المحيطين الهادئ والأطلنطي، يعيش نحو ثلثهم في منطقة الغرب الأوسط ويقطن ثلث آخر في الجنوب، بحيث يعيش شخصان من بين كل سبعة أشخاص في منطقة الشمال الشرقي، ويتواجد أقل من شخص واحد من بين كل خمسة وعشرين شخصا في الغرب الشاسع. كان أكثر من ثلاثة وأربعين مليون شخص من البيض، ونحو سبعة ملايين شخص كانوا أمريكيين من أصول أفريقية؛ عاش تسعون في المائة منهم في الجنوب. ولد ثلاثة عشر في المائة من السكان في أماكن أخرى، أبرزها - وعلى الترتيب - ألمانيا وأيرلندا وكندا وبريطانيا والدول الاسكندنافية. تمثلت الأقليتان الوحيدتان من غير البيض، بخلاف السود، في نحو مائة ألف شخص من الصينيين (يعيش تقريبا جميعهم في مدن الساحل الغربي أو بالقرب من محطات السكك الحديدية) وربما أربعمائة ألف شخص من الهنود الأمريكيين الذين عاشوا أيضا بنحو أساسي في الغرب. باختصار، كان غالبية السكان يتشابهون في كونهم من البيض الذين ولدوا بالولايات المتحدة، ولكن كانت هناك أقليات كبيرة من السود في الجنوب والآسيويين والهنود في الغرب والمهاجرين في مدن الشرق والغرب الأوسط.
فيم اشتغل هؤلاء السكان؟ عملوا في الزراعة في المقام الأول. في بعض الأحيان خلال سبعينيات القرن التاسع عشر بدأ عدد الأشخاص الذين يعملون في أعمال أخرى غير الزراعة يفوق أعداد المشتغلين بالزراعة، ولكن لم يكن هناك عمل واحد يتفوق على الزراعة. انقسم غير المزارعين بنحو أساسي إلى عمال مصانع وعمال بقطاع الخدمات ومهنيين وأصحاب أعمال وعاملين بالتجارة. لطالما كان الأمريكيون شعبا زراعيا واستمرت غالبيته حتى عام 1920 في العيش بالمزارع أو بالقرى الصغيرة حتى وإن كانوا يشتغلون بأشياء أخرى غير الزراعة وتربية الماشية. والعديد من الأشخاص الذين لم يكونوا مزارعين بالفعل، اشتغلوا مع ذلك في أعمال متعلقة بالزراعة؛ فقد كانوا يصنعون حدوات الخيل أو الأسلاك الشائكة أو يديرون المحلات القروية أو يلقون المواعظ في كنائس القرى. علاوة على ذلك، كان العديد من الأشخاص الذين لم يعودوا يقطنون المزارع أو القرى قد ترعرعوا بها ونظروا إلى العالم من منظور قروي. لم يتخط عدد عمال المصانع - وهم يمثلون ثاني أكبر فئة مهنية - عدد المزارعين على مدى عدة عقود بعد سبعينيات القرن التاسع عشر. وحتى بعد عام 1920 بفترة كبيرة، كان الشعب الأمريكي في معظمه شعبا زراعيا سواء في مكان السكن الفعلي والعمل أم في المظهر.
ومن ناحية توزيع الثروة والدخل، لم يكن الأمريكيون متساوين بأي حال من الأحوال في عام 1870 أو عام 1880، حتى بالنسبة للأغلبية البيضاء التي ولدت بالبلاد، ولم يختلف الوضع عن ذلك قط. ومع هذا كان من النادر أن تكون الفروق بين الأغنياء والفقراء كبيرة جدا في شعب من المزارعين والميكانيكيين وأصحاب المحال التجارية والواعظين والأطباء وأصحاب المهن الأخرى المماثلة. كان هناك عدد قليل من أصحاب النفوذ والمال بوول ستريت والمناطق المماثلة لها، وكانت المسافة الاجتماعية بين عمال المصانع ومالكيها واضحة. ولكن عندما اندلعت الحرب الأهلية في عام 1861، لم يكن هناك عدد كاف بعد من أصحاب المصانع أو حتى من المديرين لتشكيل ما يمكن أن يكون طبقة اجتماعية منفصلة للأغنياء. وحتى ذلك الحين، كان كبار المزارعين في الجنوب يمثلون إلى حد بعيد طبقة أرستقراطية إقطاعية قوية بما يكفي لإجبار جيرانهم الأكثر بساطة على تأييد إعلان الانفصال، ولكن الحرب أوهنت قواهم للغاية. وخلال سبعينيات القرن التاسع عشر، استطاع الجنوب والغرب والغرب الأوسط، وحتى الشمال الشرقي الذي تألف من بلدات صغيرة، التشبث بوهم، بل وإلى حد ما، بحقيقة المجتمع الاقتصادي العادل وغير المتكافئ في بعض الأحيان.
على مدار السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وسنوات الحقبة التقدمية، استمر هذا التواجد الكبير للسكان في الريف والمناطق المؤلفة من بلدات صغيرة؛ إذ كان ثلثا السكان يعيشون في الجنوب والغرب الأوسط، وهي مناطق، باستثناء شيكاجو، لا تحتوي فعليا على مدن كبيرة. ولكن كانت هناك أمور كثيرة تتغير؛ ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر دخل إلى الولايات المتحدة مئات الآلاف من المهاجرين القادمين من أوروبا، ووصلت أعدادهم إلى ملايين بعد عام 1905، ولم يكن أغلبهم قادمين من شمال غرب أوروبا، ولكن من إيطاليا وبولندا وروسيا والبلقان. وتساءل العديد من أفراد الأغلبية البيضاء المولودة بالبلاد إن كان هؤلاء القادمون من روسيا القيصرية أو الأنظمة الملكية الأخرى يمكن أن يتعلموا الأساليب الديمقراطية أم لا. ازدهرت المزارع العائلية الصغيرة - والتي تعرف عادة بالعزب الريفية - في كانساس خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر وعبر السهول الكبرى بعد عام 1900، وأدى هذا إلى نمو المدن على نحو أسرع، وصاحب ذلك ظهور مشكلات عسيرة متعلقة بالصحة العامة والمرافق وحفظ الأمن والتعليم. تضاعفت الأعمال والصناعات واتخذت في الأغلب شكل شركات، وأخذ حجمها يزداد يوما بعد يوم مما أدى إلى زيادة نسبة أصحاب الأعمال والرأسماليين إلى الموظفين والعمال. وظهرت طبقة جديدة من مديري الإدارة الوسطى، وهم ليسوا من الملاك ولا العمال ، وإنما مجموعة من الموظفين البيروقراطيين العاملين بشركات السكك الحديدية ومجموعة أخرى من الأعمال. وبينما كان الشعب الأمريكي لا يزال شعبا قرويا في الواقع الفعلي وليس فقط بحكم التقليد، كان أفراده يتحولون تدريجيا إلى التمدن والتصنيع، وكانوا يحاولون في الوقت نفسه فهم ما يعنيه ذلك وإدراك السبل التي تحول دون أن تستبد بهم الجوانب السلبية لذلك التحول.
دقت أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر ناقوس الخطر؛ فإذا كان ذلك الترابط المتناغم بين المنتجين الذي تكلم عنه هنري كيري قد تواجد، فقد تحطم بحلول ذلك الوقت. فمنذ أن تسبب الذعر المصرفي في سبتمبر عام 1873 في إفلاس مصرف جاي كوك آند كمباني بفيلادلفيا، وهو أكبر مصارف البلاد، غرق الاقتصاد في حالة من الكساد. كان الانكماش الاقتصادي، رغم أنه كان متفاوتا، حادا في العديد من القطاعات، ولم تتحسن الأحوال بصفة عامة حتى عام 1879. وجاءت الصدمة الكبرى مع إضراب عمال السكك الحديدية الذي بدأ في مارتنسفيل بفيرجينيا الغربية وانتقل بسرعة إلى بيتسبرج وشيكاجو وإلى غرب البلاد في صيف عام 1877. كان هذا الإضراب مختلفا عن أي صراع عمالي سابق، نظرا لأنه انتشر على مستوى البلاد. استدعى حاكم بنسلفانيا قوات الدفاع الخاصة بالولاية. كان الشعب المذعور لا يريد تكرار ما حدث أثناء ثورة كومونة باريس العمالية في عام 1871 حينما استولى المتطرفون على العاصمة الفرنسية لوقت قصير. وأطلقت القوات المذعورة النار على الجموع، وفيهم المشاركون في الإضراب والمتفرجون والمناصرون وعائلاتهم، وقتل خمسون شخصا. اندلعت إضرابات متعاطفة على طول خطوط السكك الحديدية في الغرب والشرق، وانتشرت المواجهات العنيفة في أرجاء ولاية نيويورك من بافالو وحتى روتشستر وسيراكيوز وألباني، ولكن سرعان ما كبحت هذه الانتفاضة. وبالإضافة إلى الجرحى والمتوفين كانت هناك ضحية أخرى وهي الثقة في «تناغم الطبقات المنتجة»؛ فإذا كان ذلك التناغم قد وجد بالفعل؛ فمن الواضح أنه لم يعد له وجود. لقد أضحى المزارعون والعمال يقفون على أحد طرفي انقسام اجتماعي كبير، بينما كان الملاك والمديرون - الرأسماليون - على الطرف الآخر. ولم يعد الشعب الأمريكي يفكر من منظور التناغم وإنما الصراع ؛ فقد أصبح رأس المال في مواجهة العمالة و«المصالح» في مواجهة «الشعب». كان لا بد من حدوث تغييرات جادة، ولكن كيف؟ لم يكن هناك أي حزب سياسي كبير مستعد ولو قليلا لإحداث تغييرات ولو حتى متوسطة، وكان الإصلاح بعيدا جدا. ولكن رأى المفكرون أن أمريكا قد تجاوزت أزمة كبيرة وبدأت تأخذ منعطفا جديدا، وعند ذلك المنعطف ظهرت بعض القوى المنذرة بالخطر للغاية.
لم يكن إضراب عمال السكك الحديدية العظيم عام 1877 هو الاضطراب الوحيد الذي شهدته البلاد؛ ففي عام 1882 أعلن دمج الشركات المنتجة للنفط التي كان يسيطر عليها جون دي روكفلر - والتي كانت كبيرة الحجم بالفعل - في شركة واحدة هي ستاندرد أويل؛ مما أسفر عن شركة تحكمت وحدها وبصورة احتكارية في صناعة حيوية. في ذلك الوقت أصدرت المحكمة العليا الأمريكية أحكاما تعرف الشركة بوصفها شخصية اعتبارية؛ وذلك وفقا لما يعنيه التعديل الرابع عشر للدستور، وبذلك أصبحت الشركات تمتلك حقوقا، مثلها مثل الأشخاص الحقيقيين، لا يمكن أن تنتهكها الحكومات. كانت هيئات السكك الحديدية أيضا تتخذ شكل الشركات، وكانت الأمور تسير في اتجاه استطاعت بموجبه بعض تلك الهيئات «تنظيم» أنفسها في كيانات احتكارية إقليمية. وبحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، كان هناك 80 ألف ميل من خطوط السكك الحديدية تعمل في الأغلب بمنطقتي الشمال الشرقي والغرب الأوسط، وبحلول عام 1890 تضاعفت الخطوط لتمتد لمسافة 167 ألف ميل، تتضمن أربعة خطوط ممتدة عبر القارة وخطا خامسا عبر كندا. أصبحت الشركات الكبرى واقعا يميز الحياة الأمريكية، وكلما ازداد حجم هذه المؤسسات، شعر العامل والمزارع العاديان بضآلتهما المتناهية أمام الأغنياء وأصحاب النفوذ أكثر من أي وقت مضى. هل كانت هذه المؤسسات الكبيرة تحتاج أن تخضع للسيطرة والتنظيم؟ لم ينتبه إلا قلة قليلة من الأشخاص إلى تلك الحاجة أو الاحتمالية في عام 1880، أو للشكل الذي يمكن أن يتخذه هذا الأمر. لم يدرك هذا الأمر سوى قليلين.
شهدت سبعينيات القرن التاسع عشر زيادة فعلية في الناتج الكلي للاقتصاد الأمريكي والناتج القومي الإجمالي. وخلال ذلك العقد استمر المستوطنون وأصحاب مزارع الماشية في مهاجمة أراضي السكان الأصليين من الهنود الحمر بالسهول الكبرى، ووقعت أشهر مواجهة من بين المواجهات العديدة بين الطرفين عند نهر ليتل بيج هورن في مونتانا في يونيو عام 1876، عندما هزمت كتيبة من الجيش بقيادة المقدم جورج إيه كاستر على يد محاربي قبيلة سو بقيادة المحارب الملقب بالجواد الجامح. أدت حالة كساد على المستوى القومي استمرت من عام 1873 وحتى عام 1878 إلى إيقاف عمليات إعادة الإعمار في الجنوب وتقييد الهجرة وتحطم رفاهية وأمان الأفراد عبر جميع أرجاء منطقتي الشمال الشرقي والبحيرات العظمى التي كانت تتحول إلى التصنيع، وأنهكت البطالة آلاف الأسر، وأسراب الجراد التي انتشرت بمينيسوتا وجميع مناطق الغرب الأوسط الأعلى «قضت على الأخضر واليابس ما عدا الرهون العقارية»، ومع ذلك رفضت حكومات الولايات أن تمد يد العون بأي صورة. حتى في ماساتشوستس المستقرة والمتحضرة، بدءا من عام 1875، كان يموت طفل من بين كل أربعة أطفال تقريبا قبل أن يبلغ عامه الأول، ويموت شخص من بين كل ثلاثة أشخاص تقريبا قبل أن يبلغ عمره الحادية والعشرين.
صنفت معظم هذه الأحداث على أنها كارثة طبيعية؛ المخاطر الحتمية التي ينطوي عليها العيش والتي لا يمكن فعل أي شيء للحيلولة دونها. في ذلك الوقت، كان الطب بدائيا، وكانت نظرية جرثومية المرض - ومن ثم الوقاية من العدوى - إما غير معروفة وإما غير مصدقة. وكان من الصعب تزويد المدن السريعة التوسع بشبكات صرف صحي ومصادر آمنة للمياه لتتواكب مع تعداد سكانها الذي يتزايد بسرعة. وكانت البنية التحتية لا يزال ينقصها الكثير من الأشياء الهامة؛ ليس فقط فيما يتعلق بجوانبها المادية ولكن أيضا المعرفة العلمية والتقنية الملائمة واللازمة لقيام كيان صناعي وحضري آمن. أوجدت الحاجة مثل هذه الاختراعات خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ولكن التقدم كان بطيئا ومتفاوتا. كانت منطقتا الشمال الشرقي والبحيرات العظمى، اللتان كانتا تخوضان غمار التحول إلى التصنيع والتمدن، من أكثر المناطق التي تحتاج إلى التغيير الفوري. ولكن الأغلبية القروية وجدت نفسها أيضا محرومة من حق تقرير مصيرها الاقتصادي، فقد سيطرت شركات السكك الحديدية وأسواق الحبوب والماشية وبائعو البضائع التي تحميها حواجز جمركية عالية أكثر فأكثر على عملية اتخاذ القرار، واضعة المنتجين - أي المزارعين وعمال المدن - بين مطرقة الدخول المنخفضة وسندان ارتفاع النفقات.
في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر لم يظهر على السطح سوى مقترحين مهمين للإصلاح: تمثل الأول في سن قوانين للخدمة المدنية تضمن في حال نجاحها أن يحصل موظفو الحكومة على وظائفهم من خلال الكفاءة وليس من خلال المحسوبية الحزبية، وهو تغيير محمود، ولكنه لم يخاطب أصل المشكلات الاجتماعية الموجودة والمتزايدة. أما المقترح الآخر فنادى بالتوسع النقدي عبر إصدار أوراق نقدية أو ما عرف ب «العملات الخضراء»، التي تستند إلى ثقة واعتماد الحكومة وليس إلى أي شيء آخر؛ أي عدم وجود غطاء من الذهب أو الفضة. تم تداول العملات الخضراء بنجاح خلال الحرب الأهلية ومرحلة إعادة الإعمار، ولكن بأقل من سعر الإصدار، وأصبحت العملة الوطنية الرئيسية في العصور الحديثة.
ولكن الاعتقاد الاقتصادي السائد في أواخر القرن التاسع عشر هو أن المعادن النفيسة تتمتع بقيمة جوهرية وأن العملات الورقية يجب أن تكون قابلة للتحويل إلى الذهب (وهو الأفضل) أو الفضة. سيطر هذا الرأي على الفكر الاقتصادي حتى بعد بداية القرن العشرين بوقت كبير. وخلال الفترة بين عامي 1876 و1884، ازداد الضغط في أجزاء من الشرق والغرب الأوسط على الحكومة لإصدار المزيد من العملات الخضراء. ونشأ حزب العملة الخضراء الذي انتخب العشرات من أعضاء الكونجرس وبعض المسئولين الحكوميين الآخرين، ولكن عددهم لم يكن قط كبيرا بما يكفي لتحقيق أي إنجاز سوى إلصاق تهم التطرف والجنون بأنفسهم. لم تصبح مقترحاتهم هي العرف السائد بنحو كامل إلا في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي لا تزال كذلك حتى الآن. فلا يمكن للولايات المتحدة أو لأي دولة متقدمة أخرى أن تعمل اليوم من دون عملات ورقية «ليست» مدعومة بغطاء من الذهب أو الفضة، ولكن في ذلك الوقت لم يصدق هذا الأمر سوى القليل من الأشخاص.
بحلول منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، خبت شعبية الاتجاه المؤيد للتوسع في إصدار العملات الخضراء . ويتمثل أحد أسباب ذلك في أن معظم سنوات ذلك العقد كانت بنحو عام سنوات رخاء؛ فقد ازداد عدد العزب الريفية زيادة قوية وسجلت الهجرة من أوروبا معدلات قياسية وارتفعت مؤشرات الأسواق. وبرز شعور لدى الكثير من الساسة في الأحزاب الكبرى بأنه لا بد من الاستجابة إلى حالة القلق العام بشأن الكيانات الاحتكارية وعدم الإنصاف الذي تمثل في امتلاك ثروات شخصية غير مسبوقة، أحاطت بها مظاهر المغالاة في التباهي. وكانت النتيجة هي صدور قانونين فيدراليين منظمين للشركات بنحو جدي لأول مرة؛ وهما قانون التجارة بين الولايات لعام 1887، وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890. وقبل صدور هذين القانونين الفيدراليين، أدى الضغط السياسي الذي مارسه المزارعون وصغار رجال الأعمال وغيرهم إلى قيام عدد من المجالس التشريعية بالولايات في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر بسن قوانين تنظم رسوم السكك الحديدية. ومنذ ذلك الوقت وخلال الحقبة التقدمية، أصبح مألوفا أن تأخذ الولايات المبادرة فيما يتعلق بالإجراءات الإصلاحية ويتبعها بعد ذلك الكونجرس الفيدرالي.
ولكي يحدث الإصلاح، كان من الضروري أن تتغلب مساعي الضغط المنادية بالتنظيم على سياسة عدم التدخل السائدة والتي ترى أنه لا يجب التدخل في شئون الأفراد والشركات. كانت هذه السياسة إحدى المسلمات القائمة منذ زمن بعيد للحياة الاقتصادية الأمريكية، وكذلك أيضا معارضة العمليات الاحتكارية التي ترسخت على الأقل منذ أن أغلق الرئيس أندرو جاكسون مصرف الولايات المتحدة الأمريكية عام 1832، الذي شجبه مناصروه باعتباره كيانا احتكاريا متوحشا. وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، انتشر تصور (وكان تصورا دقيقا) عن قدرة شركات السكك الحديدية على التصرف في كثير من الأحيان ككيانات احتكارية؛ فقد كانت الوسائل الوحيدة الفعالة لنقل البضائع والأفراد عبر مسافات طويلة، وبإمكانها رفع الرسوم على شاحني البضائع إلى أقصى حد ممكن. ويتضمن «شاحنو البضائع» المزارعين الذين يبيعون محاصيلهم أو ماشيتهم، وأصحاب المحال الذين يشترون البضائع التي تصنع في مناطق أخرى، وكبار المصنعين وصغارهم؛ باختصار، تضمنت هذه الشريحة جميع الأفراد الذين احتاجوا إلى استخدام الطرق. استاء هؤلاء من اضطرارهم لدفع الرسوم التي تفرضها عليهم شركات السكك الحديدية، وكانوا كأفراد يشعرون بقلة الحيلة أمام قوة الشركات (وبخاصة شركات السكك الحديدية) التي تفوقهم نفوذا بكثير. وكان الملاذ المنطقي الذي يمكن أن يتوجهوا إليه هو حكومات الولايات والمجالس التشريعية الملتزمة بسن القوانين التنظيمية.
في عام 1886، أقامت شركات السكك الحديدية واباش وسانت لويس وباسيفيك دعوى قضائية على ولاية إلينوي، وادعت شركة واباش أن قانون الولاية المنظم للعمليات التي تقوم بها قد انتهك المادة الموجودة في الدستور الأمريكي والتي تقضي باحتفاظ الحكومة الفيدرالية بحق الرقابة على التجارة بين الولايات، واتفقت المحكمة العليا الأمريكية في الرأي مع شركة واباش وألغت قانون ولاية إلينوي، بل وجميع القوانين المنظمة للسكك الحديدية بالولايات الأخرى.
جاءت ردة فعل الكونجرس سريعة؛ وذلك بتمرير قانون التجارة بين الولايات لعام 1887 بأغلبية من الحزبين، ووقعه الرئيس المنتمي إلى الحزب الديمقراطي جروفر كليفلاند في فبراير من عام 1887. نص القانون على أن تكون رسوم السكك الحديدية «معقولة وعادلة»، ومنع تقديم خصومات لشركات الشحن الكبرى مثل شركة ستاندرد أويل أو إقامة شراكات احتكارية معها، وألزم شركات السكك الحديدية بأن تنشر رسومها وألا ترفعها دون إشعار عام قبلها بعشرة أيام.
بعد ذلك بثلاث سنوات، انتقلت السيطرة على الكونجرس والرئاسة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، ولكن الضغط الشعبي المناهض للاحتكار والمنادي بالقوانين التنظيمية ازداد قوة، وشارك الحزبان الكبيران عام 1888 في حملات منادية بإصدار قانون عام لمكافحة الاحتكار لا ينظم فقط عمل شركات السكك الحديدية، ولكن يشمل أي تحالف أو كيان احتكاري. وأدى ذلك إلى تمرير الكونجرس في يوليو عام 1890 قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار، ووقع عليه الرئيس بنجامين هاريسون. انتهت المشكلة، أو هكذا بدا الأمر، بيد أنها لم تنته حقا؛ فكما قال السيد دولي، حكيم شيكاجو الخيالي الذي ابتكره الكاتب فينلي بيتر دن: «ما أراه أنا وأنت جدارا من الطوب ... يراه محامي أي شركة قوس نصر.» فقد أدت الدعاوى القضائية التي وصلت إلى المحكمة العليا الأمريكية خلال تسعينيات القرن التاسع عشر إلى إضعاف قانون التجارة بين الولايات وقانون شيرمان، وأبطلت في الواقع أجزاء كبيرة منهما . وفي واقعة صارخة، قضت المحكمة في قضية «شركة إي سي نايت ضد الحكومة الأمريكية» في عام 1895 بأن التصنيع - حتى في حالة تحكم شركة واحدة بتسعين في المائة من السوق - يختلف عن التجارة؛ ولذا لا تسري عليه قوانين مكافحة الاحتكار.
ومنذ أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، هيمن الاتجاه الاحتكاري الذي عرف باسم «حركة الدمج» على الشركات الكبرى بأمريكا، وهو ما أحدث دمجا بين شتى أنواع الشركات، وفي ذلك شركات السكك الحديدية. كانت النتيجة هي شعور قطاعات عديدة من الشعب بالغضب، فقد خدعوا بقانون التجارة بين الولايات وقانون شيرمان اللذين دفعا الشعب إلى الاعتقاد بأن الاحتكار تحت السيطرة؛ وخذلتهم المحكمة العليا المحافظة المنحازة إلى الشركات، وبدأ الأمر يسترعي انتباه نوابهم المنتخبين.
كانت النتيجة هي مطالبة بالإصلاح حظيت بدفعة كبيرة خلال تسعينيات القرن التاسع عشر حتى وصلت بحلول عام 1900 إلى شعور واسع الانتشار بوجود أزمة. حتى ذلك الوقت كان من الصعب كسر حالة الإجماع السائدة، وهي إجماع على الداروينية الاجتماعية التي تقول بأن الأفراد يتحملون مسئولية نجاحهم أو فشلهم. لعل أبرز المؤيدين للداروينية الاجتماعية هو ويليام جراهام سمنر من جامعة ييل الذي نشر كتابا في عام 1883 بعنوان «ما تدين به الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض»، وقد انتهى في كتابه إلى أن الطبقات الاجتماعية لا تدين بشيء بعضها لبعض.
في ذلك العصر الذي عرف بتقدير آداب اللياقة، كان من غير اللائق التذمر من النظام الاجتماعي والاقتصادي، وكان معظم المحررين والواعظين والسياسيين يسعون لاكتساب الاحترام. ومن وجهة نظرهم كان المزارعون الغاضبون ومناصرو حزب العملة الخضراء أفرادا غير جديرين بالاحترام؛ ولذا كان يمكن غض الطرف عن شكواهم ومقترحاتهم في الوقت الراهن.
الفصل الثاني
أزمة تسعينيات القرن التاسع عشر: 1889-1901
اتسمت ثمانينيات القرن التاسع عشر، في كثير من النواحي، بالتوسعية والرخاء. في أمريكا وأوروبا، بدا العالم ثريا، وظهرت إبداعات عظيمة في العمارة والهندسة، ومن بينها جسر بروكلين (1883) وأول ناطحة سحاب ذات هيكل فولاذي (1885)، واتسعت الرقعة التي امتدت فوقها السكك الحديدية عبر أمريكا. وبحلول عام 1890، افتقر قليل من الأماكن على اختلاف حجمها في الشمال الشرقي والغرب الأوسط إلى خدمة نقل الركاب والبضائع، وكان المهاجرون يرتحلون كل يوم بالآلاف إلى نيويورك وفيلادلفيا وبالتيمور ونيو أورليانز على متن السفن البخارية العابرة للمحيط الأطلنطي الجديدة السريعة، بعضهم أراد المكوث في تلك المدن الساحلية، وأراد أكثرهم التوجه غربا. واستمرت أيرلندا وإنجلترا وألمانيا والدول الاسكندنافية في إرسال الكثير من المهاجرين، ولكن بعد عام 1880 ساهمت إيطاليا وبولندا وروسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية المتعددة الأعراق في إثراء التنوع داخل المجتمع الأمريكي.
وفي منطقة السهول الكبرى، أخذ الباحثون عن الأراضي من نورث داكوتا وساوث داكوتا إلى تكساس في توسيع حدود الاستيطان غربا يوما بعد يوم، وسرعان ما أصبحت المناطق الخاصة بالهنود الحمر في السابق، والتي فتحت أبوابها أمام إقامة البيض للعزب الريفية عام 1889، ولاية أوكلاهوما. أما عن الهنود الحمر، فقد اختفت مقاومتهم الأخيرة المنظمة في وجه القوات والمزارعين الأمريكيين إبان ثمانينيات القرن التاسع عشر، وأرغموا على العيش في مستوطنات، حيث كان من المفترض بهم التعايش مع البيض. كانت تلك «فترة الحضيض» بالنسبة للهنود الحمر، ليس فقط من حيث تعدادهم (فقد تراجع تعدادهم الذي قدر بملايين قبل قدوم كولومبوس إلى ما يقرب من 250 ألفا في عام 1900)، ولكن أيضا في كبت ثقافاتهم. وأعلنت مونتانا وإيداهو وواشنطن ووايومنج ونورث داكوتا وساوث داكوتا - الربع الشمالي الغربي بالكامل تقريبا من الولايات المتحدة - كولايات في عام 1889 / 1890. وفي كل ولاية من تلك الولايات، ارتفع عدد السكان، مثلما كانت الحال دوما في السنوات الأولى من عمر المستعمرات الحدودية. لم يتوقف اجتياح الشباب الراغب في العمل بالزراعة وعائلاتهم لمنطقة السهول الكبرى إلا بعد عام 1915، وحينها فقط توقفت إقامة المستوطنات الحدودية التي بدأت في العصور الاستعمارية.
أما عن التعداد السكاني الوطني، فكشف الإحصاء السكاني عام 1890 أنه في السنوات العشر السابقة لذلك التاريخ زاد التعداد السكاني زيادة مفرطة بنسبة تتخطى 25 في المائة، وارتفع إلى 63 مليونا؛ أي ضعف ما كان عليه قبل ثلاثين عاما فقط، قبيل الحرب الأهلية مباشرة. ساهم في ذلك المعدل العالي للهجرة، والاستيطان السريع للغرب، وكذلك التحول إلى الحياة المدنية. كان كل من التعداد في الحضر والريف على حد سواء يرتفع بسرعة في الوقت نفسه. وإبان ثمانينيات القرن التاسع عشر، ظهر ما يزيد على 500 ألف مزرعة جديدة، في حين أن عدد المناطق الحضرية ارتفع بنسبة 44 في المائة وازداد عدد سكان الحضر بمعدل 8 ملايين فرد، ما يعادل ضعف الزيادة في الريف. وعلى مستوى النواحي الاقتصادية جميعها، كانت الولايات المتحدة تتبوأ مقعدها جنبا إلى جنب مع البلدان الصناعية الكبرى بالقارة الأوروبية، بل وكانت تنذر أيضا بأن تتفوق عليها في معدلات الإنتاج. ومما لا يدعو للدهشة أن الولايات المتحدة كانت أيضا تضارعها في المشكلات الاجتماعية التي تنتج عن النمو الاقتصادي المتسارع.
لم تنجح مساعي الإصلاح المحدودة إبان ثمانينيات القرن التاسع عشر بالقدر المطلوب في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي أعقبت الحرب الأهلية. بدأت الدعوة لإصلاح الخدمة المدنية منذ ستينيات القرن التاسع عشر أو قبله، وفي عام 1883، بعد صدمة اغتيال الرئيس جيمس إيه جارفيلد قبل عامين، أصدر قانون الخدمة المدنية الفيدرالي الأول، الذي يعرف أيضا بقانون بندلتون. كان ذلك بداية جيدة؛ حيث أصبح هذا القانون ساريا في بعض الهيئات مثل هيئة البريد، ولكنه لم يقض على التعيينات السياسية تماما. بدأ تنظيم المشروعات التجارية الكبرى، الذي كان ضرورة ملحة أخرى، مع قانون التجارة بين الولايات لعام 1887 وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890، لكن هذين القانونين لم يكونا سوى لزقات جروح وضعت على جرح نازف، فسرعان ما أفقدت المحكمة العليا الأمريكية الشديدة التحفظ والموالية للشركات هذين القانونين فاعليتهما. وكان من الممكن أن يساعد التوسع النقدي المزارعين وصغار المصنعين، لا سيما في الجنوب والغرب اللذين يفتقران إلى السيولة النقدية، وكانت المطالبة بالتوسع النقدي السبب الرئيسي وراء تشكل حزب العملة الخضراء، إلا أن نظرية الحزب الخاصة بالتوسع في إصدار الأوراق النقدية تناقضت مباشرة مع الممارسة السائدة الخاصة بمعيار الذهب. وصف مناصرو الحزب بأنهم مهووسون ساذجون، بالرغم من أن بعض الاقتصاديين المعروفين اتفقوا معهم في الرأي. وعندما انتعش الاقتصاد بقدر من الرخاء بعد عام 1880، تبخر التوجه المؤيد لإصدار العملات الخضراء.
خارج نطاق الحكومة، روج بعض المصلحين لبرامجهم الإصلاحية على نحو جيد، فقد أيد هنري جورج فرض «ضريبة واحدة» على الزيادات غير المكتسبة في قيمة الأملاك العقارية، واقترح إدوارد بيلامي تأميم قطاعات كبيرة من الاقتصاد. وعلى الرغم من انتشار الجمعيات المؤيدة لبيلامي وجورج في المدن عبر أرجاء البلاد للترويج لأفكارهما، فلم تجذب بنحو أساسي سوى المثقفين والنخب المتخصصة، فلم تكن الحاجة إلى إدخال إصلاحات قد وصلت بعد إلى نطاق أوسع من المجتمع.
مع ذلك، ظلت الحقيقة هي أن ثمار الرأسمالية غير الخاضعة لأي رقابة كان يحصدها فقط أقلية صغيرة في قمة المجتمع. استعان أقطاب مؤسسات وول ستريت وأباطرة السكك الحديدية بمهندسين معماريين عصريين من أجل تشييد قصور عظيمة لهم، بدءا من نيوبورت ورود آيلاند إلى نيويورك وسان فرانسيسكو، وعلى الرغم من عدم تشييد أعداد كبيرة من تلك القصور، فقد أججت مشاعر المهابة والرفعة وكذلك الاستياء. كانت الفجوة بين تلك القصور ومنازل المزارعين أو الحرفيين المتوسطي الحال تشهد على حالة غياب المساواة المتزايدة. كان هناك في الولايات المتحدة فقراء بالحضر (والريف) على مدى وقت طويل، لكن نمو المدن الكبيرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر والهجرة غير المسبوقة من أوروبا خلال ذلك العقد أسهما في إبراز الفقر على نحو أكبر بكثير. بدأت مراكز التكافل الاجتماعي - وهي مؤسسات خاصة يقوم على إدارتها رواد العمل الاجتماعي - في الظهور باعتبارها ملاذا يقدم الخدمات الاجتماعية وقدرا من التعليم إلى فقراء الحضر. كان هال هاوس في شيكاجو، الذي تأسس عام 1889، أبرز النماذج المبكرة على تلك المراكز، وتبعه بعد ذلك مراكز عديدة. لكن تلك المراكز لم تصل بخدماتها إلا إلى عدد محدود من الفقراء؛ فقد احتاجت مشكلات الفقر وعدم المساواة إلى استجابات أوسع نطاقا. حققت المنظمة العمالية الرئيسية في ذلك الوقت - وهي منظمة «فرسان العمل»، التي اتخذت «اتحاد الطبقات المنتجة» شعارا لها وفلسفة تعبر عنها - نجاحات عديدة في أوائل ومنتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، لا سيما أمام شركات السكك الحديدية، واجتذبت ما يقرب من 700 ألف عضو بحلول عام 1887. إلا أن أحداث شغب ميدان هايماركت التي قادها دعاة الفوضوية في أكتوبر من عام 1886 بشيكاجو أساءت لسمعة أعضاء المنظمة، على الرغم من عدم مشاركتهم في تلك الأحداث؛ وذلك لأن الصحافة المحافظة (والعامة) ربطت تلقائيا بين «الإضرابات العمالية» والفوضوية. خسرت منظمة فرسان العمل إضرابا عماليا هاما عام 1887، وتراجع مجموع الأعضاء بها إلى ما يقرب من 100 ألف بحلول عام 1890. مع ذلك نجحت المنظمة بوجه عام في بلورة حلم الطبقات المنتجة في وجود تحالف بين المزارعين وعمال المصانع، في الجنوب وفي بعض الولايات الغربية. وبهذا ساهمت بوضع أيديولوجية والدفع بقوة عددية في تشكيل أكبر وأهم حركة سياسية إصلاحية في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، وهي حزب الشعب. أصبح هذا الحزب، الذي يطلق عليه أيضا الحركة الشعبوية، ثالث أقوى حزب في ذلك الوقت.
بدأت مشاعر الاستياء الواسعة في التأجج في الغرب والجنوب في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفي ظل اعتماد الاقتصاد في هاتين المنطقتين بقوة على المنتجات الأساسية (القطن في الجنوب، والقمح والذرة في الغرب)، وعلى السكك الحديدية في جلب تلك المنتجات إلى الأسواق، وفي ظل قصور نظمهما الرأسمالية أو المصرفية، غرقتا في الديون. كان صغار المزارعين في الجنوب أسوأ حالا من نظرائهم بالغرب؛ وذلك نظرا لأن الجنوب كان لا يزال في مرحلة إعادة الإعمار من الدمار الذي سببته الحرب الأهلية. لم يحصل العبيد السابقون أو أبناؤهم على الأراضي التي وعدوا بها في فترة إعادة الإعمار؛ ومن ثم كان عليهم العمل بنظام المزارعة أو استئجار الأراضي الزراعية. وفي مناطق السهول الكبرى التي أهلت بالسكان مؤخرا حينها، من تكساس شمالا إلى نورث داكوتا وساوث داكوتا، كان يستطيع المزارع وعائلته بسهولة إلى حد ما الحصول على ملكية اسمية لإحدى الأراضي، لكن المزارع كان يحتاج عادة للاقتراض من أجل إدارتها. وكلما توغل المزارعون غربا، زادت أسواقهم بعدا عنهم وارتفعت تكاليف النقل، وزاد احتياجهم للمال والاقتراض لشراء البذور وبناء الأسياج وشراء الأدوات وما إلى ذلك؛ ومن ثم، استفحل دينهم الخاص بالرهن العقاري. احتاج صغار المزارعين وعائلاتهم بالجنوب والغرب إلى تيسير الائتمان أكثر وخفض رسوم السكك الحديدية، وفوق هذا وذاك، احتاجوا إلى تداول مزيد من العملات النقدية؛ فذلك من شأنه أن يقلل من قيمة النقود ويزيد من سعر المحاصيل والماشية التي كانوا ينتجونها؛ ومن ثم يتسنى لهم تحقيق مكسب أكبر يغطي ديون الرهن العقاري الثقيلة ورسوم النقل المرتفعة.
تأصلت حالة الضيق الاقتصادي هذه في الجنوب ومنطقة السهول الكبرى منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، لكن في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، اجتمعت الأحداث كي تجعل الحياة في هاتين المنطقتين أكثر صعوبة؛ ففي أعوام المحاصيل السيئة، كان الدخل ينخفض نظرا لعدم توفر كميات كبيرة من المحاصيل لبيعها، وفي الأعوام الجيدة، كان يتم إغراق الأسواق بالمحاصيل، وتنخفض الأسعار نتيجة لزيادة المعروض. رأى صغار المزارعين أن النظام لا يعمل في صالحهم، ولم تقدم لهم السياسة أي عون. خاضت قائمة مرشحي اتحاد العمال الانتخابات في عدد من الولايات في عام 1888 لكنها لم تحقق نجاحا كبيرا؛ أما الحزبان الرئيسيان ومرشحاهما الرئاسيان - جروفر كليفلاند مرشح الحزب الديمقراطي، وبنجامين هاريسون مرشح الحزب الجمهوري - فلم يكن بجعبتيهما شيء يمكن تقديمه للمزارعين والعمال. ماذا يمكن فعله إذن؟ بمقدور العمال تنظيم إضراب أو مقاطعة، لكن ليس باستطاعة المزارعين فعل ذلك، إنما باستطاعتهم تأسيس جمعيات تعاونية تحمي الأسعار التي يحصلون عليها، وباستطاعتهم تحليل المشكلات التي كانت تواجههم؛ لذا كان من الطبيعي أن يصير شعار «تحالف المزارعين» الجديد المتنامي «ثر وعلم ونظم.»
وبحلول عام 1889 فاض الكيل بالكثير من المزارعين الصغار، وبدعم من منظمة فرسان العمل والجمعيات التابعة لجورج وبيلامي، ومؤيدي حزب العملة الخضراء السابقين، أسرع مئات الآلاف إلى الانضمام لتحالفات المزارعين الصغيرة سابقا. ثار تحالف المزارعين الوطني والاتحاد الصناعي، والذي عرف أيضا ب «التحالف الجنوبي» من تكساس شمالا إلى كانساس، وشرقا إلى جورجيا ونورث كارولينا وساوث كارولينا. استاءت تلك الحشود من النظام الاقتصادي الذي ساعد في ثراء البعض، وشعرت بالإحباط من رسوم وممارسات شركات السكك الحديدية التي لم تكن خاضعة لأي رقابة من أي نوع ، وانزعجت من تدني الأسعار كثيرا - مقارنة بتكاليف الإنتاج - لدرجة أنه في بعض المناطق كان من الأوفر إحراق الذرة في مواقد الشتاء عن بيعها بلا مقابل تقريبا، وتوافدوا هم وزوجاتهم إلى الاجتماعات التي كانت تعقد في المدارس للاستماع إلى محاضرات التحالف التي كانت تشرح كيف كان يخدعهم النظام وما ينبغي لهم المطالبة به لإصلاحه. وفي كل من الجنوب والغرب، وعلى الرغم من أوجه الاختلاف في آلية عمل أسواق الحبوب بالغرب وأسواق القطن بالجنوب، كانت أوجه التشابه كثيرة للغاية. تمحور برنامج التحالف حول الأرض (تيسير ائتمان الرهن العقاري)، والنقود (طرح عملات أكثر للتداول)، والنقل (رسوم نقل أقل وأكثر عدلا). كانت هذه المطالب الثلاثة هي محور برنامج التحالف، على الرغم من إضافة مطالب أخرى لها في الغالب. ابتعدت حركة التحالف في البداية عن طرح مرشحين لها في الانتخابات، لكن بحلول عام 1890 بات واضحا للغاية أن عددا قليلا للغاية من سياسيي «الأحزاب القديمة» يستمع إلى مطالب الحركة؛ من ثم شرع التحالف في طرح قوائم مرشحين له في الانتخابات في بعض المناطق، وكانت النجاحات متفاوتة لكن مشجعة.
وفي يونيو عام 1890، اجتمع المحتجون والمصلحون على اختلاف مشاربهم في مدينة توبيكا بولاية كانساس، وأنشئوا حزب الشعب بكانساس. مثل رجال تحالف المزارعين نواة ذلك الحزب، وانضم إليهم في حماسة أعضاء منظمة فرسان العمل ومؤيدو هنري جورج ومناصرو الاتحادات العمالية وأعضاء حزب العملة الخضراء وجمعيات المزارعين. اتفق الجميع على خوض الانتخابات بقائمة مرشحين كاملة في نوفمبر، وهكذا فعلوا. انتخبوا خمسة أعضاء في الكونجرس، وبسطوا سيطرتهم على مجلس النواب بالسلطة التشريعية بالولاية، واختاروا السيناتور الأمريكي التالي. كان ذلك شبه انتصار كاسح، علاوة على ذلك، لم تكن كانساس وحدها في هذا الأمر. حقق الشعبويون - وهو الاسم الذي أطلق على ناخبي حزب الشعب ومؤيديه - إنجازا مماثلا في الولايات الغربية الأخرى وفي مناطق من الجنوب؛ فقد استلزم الانقسام العرقي تشكيل تحالف منفصل هناك، وهو «تحالف السود»، لكن في المناطق التي تركز فيها السود على غرار ساحل نورث كارولينا وشرق تكساس، حقق الشعبويون نجاحا جيدا أيضا ، على نحو زعزع سيطرة القوى التابعة للحزب الديمقراطي بالجنوب، التي تؤمن بتفوق الجنس الأبيض على السود. حال الترويع العنيف، وهو نمط مكرر من الأفراد المنتمين لمنظمات كو كلوكس كلان وغيرهم من إرهابيي أواخر حقبة إعادة الإعمار، دون نجاح الشعبويين الجنوبيين في الانتخابات كنظرائهم في الغرب الأوسط؛ على الرغم من أن الشعبويين بالجنوب امتلكوا قوة جامحة أكبر من نظرائهم بالغرب الأوسط، فقد حققوا انتصارات أقل كثيرا في الانتخابات. فزعت مؤسسات البيض من التهديد المحدق المتمثل في تشكيل ائتلاف سياسي متعدد الأعراق من الطبقتين الدنيا والوسطى الدنيا، وفي السنوات القليلة التالية أخذت ولايات الجنوب الواحدة تلو الأخرى تمرر قوانين جيم كرو لمنع السود وفقراء البيض المشاغبين على حد سواء من التصويت في الانتخابات. أقل ما يقال في هذا الصدد أن الحركة الشعبوية بالجنوب أيقظت روح الديمقراطية بحيث إنه بعد عام 1900 - إبان الحقبة التقدمية - دعم الجنوب بقوة البرامج الزراعية في الوقت نفسه الذي باتت فيه قوانين التفرقة العنصرية أكثر تشددا.
سار الشعبويون في الولايات الأخرى على خطى ما حدث في ولاية كانساس؛ فأسسوا أحزابا على مستوى الولايات وانضموا إلى الحركة الإقليمية. وفي عام 1892، التقى ما يزيد عن 1300 مفوض، من الجنوب والغرب ومنطقة جبال روكي وحتى من مناطق أخرى أبعد شرقا في مدينة أوماها، لصياغة برنامج حزب الشعب واختيار مرشحين لخوض الانتخابات الوطنية لعام 1892. كان «برنامج أوماها» الذي ظهر في الرابع من يوليو من أكثر البرامج التي أعلنها الحزب إسهابا؛ إذ كانت ديباجته الحماسية، التي كتبها المصلح المينيسوتي إجناشيس دونيلي، تعبر عن السخط الشديد الذي يشعر به الملايين، وهي كالتالي:
إن الظروف التي تحيط بنا جميعا هي خير ما يبرر تعاوننا، فنحن نلتقي وسط أمة على شفا دمار أخلاقي وسياسي ومادي، فقد هيمن الفساد على صناديق الانتخاب والهيئات التشريعية والكونجرس، حتى إنه طال هيبة القضاة، واستبدت مشاعر الإحباط بأبناء الشعب ... فالصحف إما تنطق باسم الدولة أو تكمم أفواهها ... والعمال بالمدن يحرمون من حقهم في تنظيم صفوفهم من أجل حماية أنفسهم ... إن ثمار كدح الملايين تسرق بوقاحة لمراكمة ثروات طائلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية لقلة قليلة ... إن القدرة القومية لإنتاج الثروة توجه لإثراء حاملي السندات فقط ... إننا نسعى إلى إعادة زمام حكم الجمهورية إلى أيادي «الناس العاديين»، تلك الطبقة التي من أجلها أنشئت الحكومة ... نحن نرى أن سلطة الحكومة - أو سلطة الشعب بعبارة أخرى - ينبغي أن تزيد ... بالسرعة والمقدار الذي تمليه حصافة هذا الشعب الذكي وتعاليم خبرته؛ بحيث يصب ذلك في غاية واحدة؛ وهي القضاء على الاستبداد والظلم والفقر في ربوع البلاد.
ونظرا لأن بنود البرنامج السابق ألهمت التقدميين، بل حققوا معظمها على أرض الواقع بعد بضع سنوات، فإن البرنامج يكشف لنا الأفكار الإصلاحية التي كانت تختمر بالفعل في ذلك الوقت المبكر. لقد استهدف بعضها بوضوح مشكلات الزراعة، مثل قضايا «الأرض والنقود والنقل»، وتلك الأفكار خضعت للتهذيب والتدقيق خلال العامين أو الثلاثة التي تلت اتساع نطاق تحالفات المزارعين. وتركزت في تخفيف أعباء الرهن العقاري وتنظيم عمل شركات السكك الحديدية والتوسع النقدي (سواء العملات الخضراء أو العملات الفضية). كانت العملة، حسب زعم تلك التحالفات، قد انكمشت بالفعل منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، فأرهقت المنتجين الفعليين بشدة، وفي الوقت نفسه ساهمت صور أخرى من النقود (مثل الشيكات، والودائع النقدية، وشهادات الإيداع ما بين المصارف، والأوراق المالية القابلة للتداول) في زيادة كبيرة في العرض النقدي في الأجزاء الأكثر ثراء من البلاد. أشار أحد الشعبويين إلى أن ورقة نقدية بقيمة خمسة دولارات تتناقلها الأيدي عدة مرات يوميا في نيويورك أو شيكاجو ربما لا تنتقل إلا مرة أو مرتين أسبوعيا من يد إلى أخرى في القرى الريفية؛ من ثم لا يملك الريفيون سوى جزء ضئيل من النقود المتوفرة لسكان المدن. لم يكن حجم الدولارات المتداولة هو المشكلة؛ بل سرعة تدفقها هي ما مثلت نقطة حاسمة.
لكن بخلاف هذه القضايا الرئيسية الثلاث، طالب البرنامج بتغييرات أخرى من شأنها إعادة زمام أمور البلاد إلى «الشعب» - المنتجين - وانتزاعها من أيدي المتلاعبين، والاحتكاريين، وأصحاب النفوذ غير الشرعيين. لم يكن ذلك مجرد احتجاج للمزارعين، بل هجوم خطير - هو الأول من نوعه والأكثر شمولا من أوجه عديدة - على الرأسمالية غير المنظمة. اقترح البرنامج إصلاحات عميقة لا تهدف إلى إلغاء النظام الرأسمالي، بل إلى تمكين الشعب من استرداده، وجاء فيه: «إما أن تملك شركات السكك الحديدية الشعب وإما أن يملك الشعب شركات السكك الحديدية»؛ لذا لا بد للحكومة - التي كانت في وجهة نظر الشعبويين (أو ينبغي أن تكون) تمثل «الشعب» - أن تمتلك الطرق وتديرها بقوانين خدمة مدنية «صارمة». كذلك طالب البرنامج ب «عملة وطنية، آمنة وسليمة ومرنة تصدرها الحكومة فقط»؛ وليس المصارف الوطنية؛ فقد جاء فيه: «صك العملات الذهبية والفضية الحر واللامحدود» بنسبة الستة عشر إلى واحد التقليدية؛ وليس بأقل من خمسين دولارا لكل فرد في عملية التداول. وطالب أيضا ب «ضريبة دخل تصاعدية»، واقترح إنشاء «صناديق ادخار بريدي ... للإيداع الآمن لمكاسب الأفراد.» أما عن نظم الهاتف والتلغراف والسكك الحديدية، «فينبغي أن تعود ملكيتها وإدارتها إلى الحكومة بما يصب في صالح الشعب»، كما هو مطبق في الدول الصناعية الأخرى. وكان تقييد العمالة «غير المرغوب فيها» (والتنافسية)، ووضع قوانين تفرض ساعات عمل أقل للعاملين، وحظر الأفراد التابعين لوكالة بنكرتن الخاصة للتحريات وغيرهم من الأفراد المأجورين بواسطة الشركات لفض الإضرابات، على رأس المطالب الخاصة بالعمال.
لم تكن الحركة الشعبوية - أو هكذا أمل زعماؤها على أقل تقدير - حركة مزارعين فقط؛ فقد نادى برنامج أوماها أيضا بالاحتكام إلى المبادرة والاستفتاء في وضع التشريعات؛ ومن ثم إعطاء «الشعب» سلطة أكبر. وأراد إصلاح عملية الانتخاب من خلال المطالبة بالاقتراع السري وتطبيق النظام الأسترالي في هذا الشأن (أي تجريه الحكومة لا الأحزاب، وأن تضم أوراق الانتخاب مرشحي جميع الأحزاب، وليس حزبا واحدا فقط). شمل البرنامج مطالب أخرى أيضا، لكنه في جوهره كان يقوم على أمرين: النزعة الإنتاجية، وهي النظرية الاقتصادية التي تقضي بضرورة أن تذهب المكاسب إلى المزارعين والعمال الذين أنتجوا الثروة، وليس إلى أولئك الذين يتلاعبون بها؛ والديمقراطية، وهي النظرية السياسية التي تفيد بأن السلطة يجب أن تكون متروكة «للشعب »، لا للشركات المستغلة. مقت الشعبويون السيطرة غير العادلة لتلك المؤسسات التجارية على الأسواق والحكومات وغير ذلك الكثير (شركات السكك الحديدية والاتحادات الاحتكارية والمصارف)، وما نجم عن ذلك من توزيع سيئ وسافر للثروة.
شكل المزارعون في ولايات الجنوب والغرب غالبية ذلك «الشعب» الذي تحدث برنامج أوماها عن احتياجاته، لكن البرنامج تحدث أيضا عن المطالب الخاصة بالعمال؛ وذلك لأن العمال المنتجين أيضا في حاجة إلى مساعدة. وكان بمنزلة بيان شامل بالمطالب الشعبية للتغيير بدءا من عام 1892، لكن لم يتحول أي منها إلى قانون أو سياسة إلا بعد سنوات عديدة. وهكذا أخفقت الحركة الشعبوية في تحقيق ما كانت تدعو إليه. لكن في غضون سنوات قليلة، تبنى التقدميون الكثير من هذه الإصلاحات، ومع أفول الحركة التقدمية، صار معظم ما جاء في برنامج أوماها قوانين فيدرالية وخاصة بالولايات. وكما قال وورث روبرت ميلر، وهو مؤرخ عن الحركة الشعبوية بولاية تكساس، على نحو محقق (وهذا يسري أيضا على الولايات الأخرى):
تركزت الفكرة الشعبوية حول الالتزام بالنظام الجمهوري الأمريكي ... [الذي] اقتضى مناهضة الاحتكار والفساد اللذين رسخا التمييز من خلال المحاباة. كانت الملكية ذات أهمية بالغة للحرية الفردية. خشي الشعبويون أن الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأثرياء والفقراء ستدفع الكثير من الأمريكيين نحو حياة الخنوع والتبعية التي تذكرنا بحياة طبقة الفلاحين بأوروبا. ضمت الحركة الشعبوية بولاية تكساس أولئك المعنيين على نحو أكثر بتلك الفجوة الآخذة في التزايد، ألا وهم المزارعون البيض الفقراء ومتوسطو الحال، والعمال بالحضر، وفي آخر الأمر الأمريكيون من أصول أفريقية.
رغم ذلك سارت الحياة بالنسبة للكثير من الأمريكيين على مدار السنوات المتبقية من تسعينيات القرن التاسع عشر من سيئ إلى أسوأ. وبنهاية العقد ظهر الإحساس بالأزمة والتغيير الجذري الوشيك في مقالات الرأي الرئيسية بالصحف ومنابر الوعظ والمفكرين بنحو عام.
في بادئ الأمر، اكتسبت الموجة الشعبوية زخما. أصبح العميد السابق في جيش الاتحاد بالحرب الأهلية جيمس بي ويفر - الذي كان مرشحا للرئاسة عن حزب العملة الخضراء في عام 1880 - المرشح الرئاسي لحزب الشعب، وكان حليفه في السباق جيمس فيلد، العميد السابق في الجيش الكونفدرالي. كان من الضروري التعبير عن الفكرة الشعبوية التي تتجاوز الاختلاف بين فصائل الأمة، وتسعى للم الشمل بين الشمال والجنوب؛ حيث قد مر حينها سبعة وعشرون عاما فقط على نهاية الحرب الأهلية، وكانت الذكريات لا تزال حية. استخدم الحزب الجمهوري بالشمال ورقة «شهداء الحرب الأهلية الأبطال» بقوة ونجاح للهجوم على منافسيه، واستغل ذكرى الحرب الأهلية كقضية حاسمة من خلال تكرار العبارة الرنانة: «صوت كأنك تصوب.» وانتشرت الملصقات المؤيدة للمرشح الجمهوري في كل حدب وصوب. مع ذلك، جنى تحالف ويفر وفيلد ما يزيد على مليون صوت شعبي (ما يقرب من واحد من بين كل اثني عشر صوتا على مستوى البلاد) واثنين وعشرين صوتا في المجمع الانتخابي من منطقة السهول الكبرى غربا. كان ذلك أكبر نجاح يحققه حزب ثالث يخوض السباق حتى ذلك الوقت، ولن يتفوق عليه حزب آخر في ذلك حتى حملات الحركة التقدمية المؤيدة لثيودور روزفلت في عام 1912 وروبرت إم لافوليت عام 1924. فاز مرشحو حزب الشعب بمناصب حكام الولايات ومقاعد في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وغير ذلك من المناصب الرسمية. بدا مستقبل الحركة الشعبوية مبشرا بالطبع، ولعل تحركات عام 1892 ما سيدفع إلى انتصار المزارعين والعمال في عامي 1894 و1896.
في تلك الأثناء، كانت الأحوال تزيد سوءا. لم يستطع الجنوب والغرب المعتمدان على الزراعة التعافي من أزمات فساد المحاصيل وتدني الأسعار في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ثم حدث إضراب كبير عن العمل بمصنع هومستيد للصلب بالقرب من مدينة بيتسبرج نظمته نقابة ناشئة لعمال مصانع الصلب في أواخر يونيو من عام 1892، في الوقت نفسه الذي كان يجتمع فيه مسئولو الحركة الشعبية بأوماها. استطاع المضربون إبعاد قوة من أفراد وكالة بنكرتن الذين استأجرهم المصنع، الأمر الذي دفع حاكم بنسلفانيا إلى استدعاء قوات الدفاع الخاصة بالولاية، واستسلم المضربون أمام تلك القوات التي تفوقهم عددا وسلاحا. تقوضت النقابة نهائيا لدرجة أنه لم تتأسس أي منظمة واسعة النطاق لعمال مصانع الصلب مرة أخرى حتى عام 1937. وفي الوقت الذي بدا فيه المزارعون بالغرب يحققون انتصارات، كان العمال بالشرق يتعرضون للقمع.
وفي صيف عام 1893، تعرضت شركة ريدينج ريلرود، وهي الشركة المالكة لخط السكك الحديدية الشمالي الشرقي، وشركة كبرى أخرى للانهيار، واجتاح الاضطراب وول ستريت، وحدث ذعر مصرفي، وانهارت آلاف الشركات. كان الذعر المصرفي الذي حدث في عام 1893 إيذانا بحالة كساد استمرت في أشد مراحلها وطأة حتى عام 1897، ولم يتعاف الاقتصاد تماما منها حتى عام 1901. كان كساد تسعينيات القرن التاسع عشر هو الأسوأ بين حالات الكساد التي شهدتها الولايات المتحدة قبل ذلك التاريخ، وظل هو الأسوأ حتى أزمة الكساد الكبير التي حدثت فيما بين عامي 1929 و1941. ونتج عن ذلك أن أصبح ما يزيد على 18 في المائة من العمال عاطلين عن العمل، وذلك وفقا لأحد التقديرات الجديرة بالثقة، وأغلقت المزارع، ودمرت الحجوزات العقارية وحالات الإفلاس التجارة والمزارع والعائلات في ربوع البلاد. نصب جروفر كليفلاند، المحافظ مرشح الحزب الديمقراطي من نيويورك، رئيسا للبلاد عام 1892، وحاول استعادة الثقة في الموارد المالية للبلاد من خلال دعوة الكونجرس إلى جلسة خاصة لإلغاء مشتريات الحكومة من الفضة، التي أجيزت عام 1890 لاستيعاب الناتج الغربي من الفضة ولتهدئة ضغط التوسع النقدي. وضع اللوم على مشتريات الفضة في التسبب في السحب المفزع من احتياطي وزارة الخزانة من الذهب. زاد امتعاض المزارعين عندما التزم الكونجرس بقرار إلغاء مشتريات الفضة، وعندما أقنع كليفلاند المصرفي جيه بي مورجان وزملاءه بالاستثمار بقوة في سندات الخزانة، التي تستوجب الدفع في النهاية بالذهب، وذلك على حساب دافعي الضرائب.
قضى وقف مشتريات الفضة على اقتصاديات مناطق التعدين الغربية، وزاد بيع السندات إلى مورجان، رمز وول ستريت، الشعبويين وغيرهم من المصلحين الزراعيين قناعة بأنهم ضحايا نفوذ المؤسسات التجارية. بدأ العاطلون عن العمل من كاليفورنيا والمناطق التعدينية في الخروج في مسيرات في واشنطن في ربيع عام 1894، واستولوا على قطارات البضائع وجابوا البلاد، الأمر الذي أثار فزع المسئولين الحكوميين، ونال استحسان الكثير من البسطاء. توحدت المسيرات تحت قيادة جاكوب كوكسي، صاحب أحد المصانع بأوهايو. نجح عدة مئات من المتظاهرين في صفوف «جيش كوكسي» في الوصول إلى واشنطن، لكن ذلك الجيش المؤلف من العاطلين عن العمل لم يستطع تحقيق أي شيء. اعتقلت حكومة كليفلاند المتظاهرين بتهمة السير فوق حديقة مبنى الكابيتول، وانفضت الانتفاضة. لكن الإضرابات استمرت عبر أرجاء الغرب الأوسط. حدث أشهرها في شهر مايو بمصنع بولمان خارج شيكاجو، عندما أضرب عدة آلاف من العمال عن العمل احتجاجا على تخفيض الإدارة للأجور بنسبة الثلث تقريبا، في حين ظلت قيمة إيجار السكن التابع للشركة كما هي. قمعت القوات الحكومية - التي كانت هذه المرة قوات فيدرالية أرسلتها إدارة كليفلاند على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها جون بيتر ألتجيلد حاكم ولاية إلينوي - هذا الإضراب أيضا شأنه شأن إضراب مصنع هومستيد للصلب الذي سبقه بعامين.
تفاقم الصراع بين العمال والإدارة، والعمالة ورأس المال، بدرجة خطيرة، في حين ظلت أوضاع المزارعين في الجنوب والغرب قاتمة. كانت نتائج الانتخابات العامة التي أجريت عام 1894، التي منحت الجمهوريين فوزا ساحقا - مما جعلهم يحكمون سيطرتهم على الكونجرس - تعد شكلا من أشكال التوبيخ للديمقراطيين الذين ينتمي إليهم كليفلاند الذي بدأ الكساد في فترة ولايته. صمد الشعبويون بالكاد في تلك الأثناء، وأصبحت الأجواء مهيأة لمواجهة عام 1896 الحاسمة. كان الاقتصاد في حالة كساد شديد، وارتفعت نسبة البطالة بدرجة غير مسبوقة، وكان المزارعون يعانون أشد المعاناة. نشر الصحفي والإصلاحي في مدينة شيكاجو هنري ديمارست لويد كتاب «الثروة مقابل الكومنولث»، الذي برز كإدانة شديدة للممارسات التجارية الاحتكارية لشركة ستاندرد أويل المملوكة لجون دي روكفلر. أذكى الكتاب، الذي كان صادما وواسع الانتشار، نيران الدعوة للإصلاح التي كانت مشتعلة بالفعل، وأقنع الناس الذين لم يتأثروا بنحو مباشر بالأزمات العصيبة التي كان يتعرض لها الكثيرون بأن التغيير لا بد أن يحدث.
ظهر الأمل في وجود توجه جديد وفرصته مع الانتخابات الرئاسية عام 1896. اختار الحزب الجمهوري ويليام ماكينلي من ولاية أوهايو، الذي اشتهر وهو عضو في الكونجرس لاقتراحه «تعريفة ماكينلي» عام 1890 التي هدفت إلى «حماية» المنتجات الأمريكية من المنافسة مع المنتجات المستوردة. ربما اعتبرت حماية «الصناعات الناشئة» بأمريكا في السابق قرارا حكيما، ولكن بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر كانت تلك الصناعات تتفوق على الصناعات الأجنبية المنافسة لها بسهولة. تمثلت حجة الجمهوريين في أن التعريفة الوقائية لم تساعد المصنعين وحسب، بل وفرت وظائف للعمال أيضا. استنكر المعارضون، الديمقراطيون والشعبويون على حد سواء، تلك التعريفة بحجة أنها رفعت أسعار السلع الاستهلاكية بدون داع وعلى نحو زائف، وشكوا من أنها تعد ضريبة على الاستهلاك؛ ومن ثم «تضر» بالعائلات العاملة. لكن ماكينلي أصر على أن تلك التعريفة ساعدت العمال، وأعانتهم على «تحسين أحوالهم».
اجتمع أعضاء الحزب الديمقراطي في مؤتمرهم وهم في حالة من الانقسام الشديد. واجه الجناح الشرقي والمحافظ - الذي يتزعمه الرئيس كليفلاند - ثورة من الغربيين، وخاصة فيما يتعلق بالمعيار النقدي. دافع كليفلاند عن معيار الذهب، في حين أيد الغربيون عودة الدولارات الفضية بموجب النسبة التقليدية التي تبلغ ست عشرة أوقية من الفضة إلى أوقية واحدة من الذهب. كان ذلك هو ما كان ينص عليه القانون منذ عام 1792 وحتى عام 1873، عندما تخلى الكونجرس في هدوء عن معيار الفضة. كان استمرار معيار الذهب يعني استمرار نقص النقود والائتمان؛ أما عودة معيار الفضة، فكانت تحمل معها تدفقا أكثر انسيابية للسلع والخدمات. فزع رجال الأعمال والمصرفيون والمستثمرون بالشرق من احتمال تطبيق معيار الفضة الحر وفق النسبة التقليدية؛ وذلك لأنه في ذلك الوقت كانت الفضة مغالى في تقييمها بهذه النسبة. طالب المزارعون بالجنوب والغرب بتطبيق معيار الفضة بكل ما أوتوا من قوة؛ نظرا لأن استعادة هذا المعيار كانت تعني إنعاش العملة وتحسين قدرتهم إلى حد كبير على الوفاء بتكاليف النقل والرهن العقاري، وبالطبع على تجاوز آثار الكساد. (بعد مرور قرن، زعم ميلتون فريدمان، الذي لا يضارعه أحد في تأييد المذهب النقدي المحافظ، أنه لو لم يجر خفض قيمة الفضة عام 1873، لما كان في الغالب قد حدث كساد سبعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر قط.) انتصر الجناح الغربي بالحزب الديمقراطي، ورشح ويليام جيننجز برايان من نبراسكا البالغ من العمر ستة وثلاثين عاما لخوض السباق الرئاسي. اجتاح الجناح الشرقي الذعر ورفضوا التعامل معه.
اجتمع الشعبويون، الذين أدمتهم سنوات الكساد الزراعي وهم على ولائهم لبرنامج أوماها، بعد أسبوعين. غلبتهم الدهشة من ترشيح الحزب الديمقراطي لبرايان واستيعاب الديمقراطيين لسياسة الشعبويين النقدية، فاختاروا ببساطة برايان في قائمة مرشحيهم، لكن جنبا إلى جنب مع حليف مختلف في السباق، وهو توم واطسون من ولاية جورجيا. لم يعرب برايان قط عن تأييده للحركة الشعبوية، فقد كان ينتمي دائما إلى الحزب الديمقراطي، لكنه لم يرفض ترشيح الشعبويين له. كان برايان قطعا يمثل الزراعيين، وقد أدار حملة انتخابية قوية.
شكل 2-1: ويليام جيننجز برايان، المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي عام 1896، و1900، و1908، وزعيم المزارعين الأمريكيين، وهو يستمتع بقضاء وقت ما بعد الظهيرة برفقة زوجته، ماري بيرد برايان، أمام منزلهما في دي ستريت، مدينة لينكولن، بولاية نبراسكا، في أحد أيام تسعينيات القرن التاسع عشر.
ومنذ ذلك الوقت حتى وافته المنية عام 1925، كان برايان أحد رموز السياسة والثقافة الأمريكية البارزين، كذلك كان مدافعا دائما عن مصالح المزارعين بالجنوب والغرب؛ أو «الشعب» من منظور الشعبويين والتقدميين. استطاع برايان - الذي امتلك صوتا رخيما مدويا في الاحتشادات الهائلة - إثارة حماسة الآلاف برسالته عن الأمل والتقدم. كذلك وجد برايان دائما في بيته الاستقرار والنصيحة السديدة؛ حيث كانت زوجته تتميز بالحكمة والذكاء على حد سواء. وعلى الرغم من النقد الظالم الذي وجه لبرايان لدفاعه في أواخر حياته عن التفسير الحرفي للكتاب المقدس في محاكمة سكوبس الشهيرة ب «محاكمة القرد» بولاية تينيسي عام 1925، فلم يكن أصوليا؛ بل كان مسيحيا يؤمن بمبادئ حركة الإنجيل الاجتماعي، وساعيا من أجل مجتمع أخلاقي أفضل. واءم برايان بين التفسير الحرفي للكتاب المقدس والالتزام التام بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية بدرجة لم يسبقه إليها أي زعيم وطني، وعندما عين في منصب وزير الخارجية بإدارة وودرو ويلسون عام 1913 - وهو أعلى منصب رسمي تولاه على الإطلاق - أبرم عدة معاهدات صداقة وتبادل تجاري، واستقال من منصبه مراعاة لمبادئه عندما خشي أن يخاطر ويلسون بخوض حرب بسبب مذكرة عدائية لألمانيا بعد غرق السفينة لوسيتينيا عام 1915. اعتمد برايان في مسيرته باعتباره رجل دولة وسياسيا ديمقراطيا على تكتل الجنوب (المؤيد للحزب الديمقراطي)، الأمر الذي انطوى على غض الطرف عن قوانين جيم كرو، لكنه كما ذكر كاتب سيرته الذاتية مايكل كازين:
كان أول زعيم من حزب كبير يدافع عن التوسيع المستمر لنطاق سلطات الحكومة الفيدرالية من أجل صالح الأمريكيين البسطاء من الطبقتين العاملة والوسطى ... لقد بذل جهدا خارقا - في الفترة التي تخللت سقوط جروفر كليفلاند وانتخاب وودرو ويلسون - لتحويل حزبه من معقل تأييد اقتصاد عدم التدخل إلى قلعة الليبرالية التي يمثلها فرانكلين دي روزفلت والمؤمنون بأيديولوجيته ممن أتوا من بعده.
مع ذلك، خسر برايان الانتخابات عام 1896، نال عدد أصوات يزيد نحو مليون صوت عن عدد الأصوات التي حصل عليها أي مرشح للحزب الديمقراطي في تاريخ الانتخابات، وما يماثل مجموع الأصوات التي حصل عليها كليفلاند وويفر في انتخابات عام 1892. لكن ماكينلي استقطب لصفه مئات الآلاف من المصوتين الجدد، فقد أقنعت الخطايا التي ارتكبها كليفلاند والكساد الطاحن مجموعة من أولئك المصوتين بإقصاء الديمقراطيين الذين يرون أنهم هم الملومون على تلك الأزمة الطاحنة - إن كان يمكن لوم أحد في الأساس على ذلك - حتى لو حل محل هؤلاء الديمقراطيين برايان ورفاقه. ما يقرب من أربعة من بين كل خمسة يحق لهم الانتخاب أدلوا بأصواتهم، وهي نسبة لم تتحقق مطلقا منذ ذلك الوقت. ألف برايان كتابا سماه «المعركة الأولى» عن الحملة الانتخابية، كان ذلك العنوان دقيقا؛ وذلك لأنه كان سيعود ثانية إلى الساحة هو وقوى الإصلاح الزراعي السياسية. قضت خسارته عام 1896 على حزب الشعب وما يمثله من قوة في الانتخابات الوطنية، لكنها لم تقض على اهتمامات المصلحين الزراعيين بالسياسة الأمريكية، أو على جهود تأسيس ائتلاف يضم المزارعين والعمال.
لكن كان هناك بعض الوقت أمام تلك التطورات حتى تأخذ مجراها. تعافى الاقتصاد بعض الشيء في عامي 1897 و1898، وكان السبب وراء ذلك ظهور التوجه الخاص بالتحالف والدمج اللذين قادهما أصحاب المصارف الاستثمارية وأباطرة السكك الحديدية وغيرهم من أصحاب الشركات الكبرى. لم يمثل ذلك التوجه بشرى سارة للعمال وعائلاتهم، لكنه أسهم في تحسين الصورة الاقتصادية الكلية. ومع تقويض المحكمة العليا الأمريكية للتشريعات المتعلقة بمكافحة الاحتكار والتجارة بين الولايات، سارت «حركة الدمج» بخطا سريعة حتى السنوات الأولى من القرن العشرين. كذلك تم «ترشيد» شركات السكك الحديدية، إذا استخدمنا تعبير مؤسسات وول ستريت، بهدف منع المنافسة على الطرق والرسوم. أما مصانع الصلب (أو أغلبها) فاتحدت معا لتكوين أول مؤسسة تجارية رأس مالها مليار دولار بالبلاد تحت اسم يو إس ستيل، ويعود الفضل في ذلك إلى جيه بي مورجان الذي كان مهندس عملية شراء مصانع أندرو كارنيجي. انتشرت الاتحادات الاحتكارية في مجال النفط والمطاط والنحاس ومجموعة كبيرة أخرى من الصناعات. لم يجن عمال المصانع والمناجم - وبصفة عامة العاملون بأجر الذين عملوا بتلك المؤسسات الكبرى - سوى بعض المنافع القليلة من عمليات إعادة الهيكلة تلك. من ناحية أخرى، لاحظ المزارعون أن أسعار المحاصيل بدأت في الارتفاع، فشرع الراغبون في تأسيس المزارع في الزحف غربا مرة أخرى عبر المناطق المرتفعة من السهول الكبرى بعد أن توقف ذلك منذ أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر.
لذلك لم يجد المزارعون والعمال - وهم الحلفاء الطبيعيون بطرق شتى في المواجهة المألوفة مع المؤسسات التجارية الكبرى - سببا واضحا لتوحيد جهودهم. كان الإصلاح الواسع النطاق لا يزال بعيدا. بدأ عمداء المدن ذوو الميول الإصلاحية يظهرون بالفعل على الساحة في بعض المدن، وأبرزهم جونز صاحب «القاعدة الذهبية» في مدينة توليدو وتوم جونسون في كليفلاند، وهما من مكافحي الفساد، عملا وتحدثا بكلمات حماسية تذكرنا كثيرا بلغة الشعبويين. وفي أغلب الأحيان، وعلى نحو دائم إلى حد بعيد في المدن الكبرى، كان بيع حقوق امتياز مد خطوط الترام بالرشوة، وتعيين المعارف في الوظائف العامة، وشراء السياسيين من قبل رجال الأعمال هي الأمور السائدة. وتطلب إصلاح حكومات المدن، ناهيك عن حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية، صحافة يقظة بقدر أكبر ومرشحين أقوى كثيرا مما كان عليه الأمر في مطلع القرن العشرين. وفي غضون خمس إلى ثماني سنوات أخرى، سيأتي كل هذا: صحافة استقصائية وزعماء على مستوى الولايات وعلى المستوى الوطني متأهبون للإصلاح وحركة نقابات عمالية بدأت في تحقيق بعض الانتصارات، سواء على صعيد الإضرابات أم قوانين الولايات التي تحدد ساعات العمل المسموح بها للنساء يوميا وتمنع الأطفال من العمل في المصانع وغير ذلك.
عادة ما تصرف القضايا الوطنية الأنظار عن المشكلات الاقتصادية وتخدم مشكلات شقاقية تفرق الحلفاء السياسيين والاقتصاديين، حدث هذا عام 1898. تلك النزعة الأمريكية المتأصلة بشدة لخوض مغامرات إمبريالية، والتي كانت خامدة بعض الشيء لبضعة عقود، أوقظت بما صوره مروجو القضية الكوبية وبعض الدوائر الصحافية الأمريكية بأنه نضال لتحرير كوبا من قبضة الاستبداد الإسباني. احتشد الديمقراطيون والشعبويون في الكونجرس وفي أرجاء البلاد دعما لفكرة مساعدة المتمردين الكوبيين. أما الجمهوريون الأقل تعاطفا مع القضية، فقد تحمسوا لخوض الحرب بعد حادثة الانفجار الذي تسبب في تدمير البارجة البحرية يو إس إس ماين في ميناء هافانا في فبراير عام 1898، وهي الحادثة التي ألقي باللوم فيها على الإسبان، لكن بعد سنوات عديدة اتضح أن سبب الانفجار كان من داخل البارجة نفسها. دبر ماكينلي الحصول على تفويض من الكونجرس لإرسال قوات وسفن لمساعدة الكوبيين، وفي أبريل عام 1898 أعلنت الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا.
دام الصراع لبضعة أسابيع فقط؛ فقد فتك الأسطول الأمريكي بوحدات الأسطول الإسباني في كل من كوبا والمستعمرة الإسبانية الكبيرة الأخرى، جزر الفلبين، التي تقع غرب المحيط الهادئ. أصبحت تلك الأجزاء - جنبا إلى جنب مع مستعمرات أصغر مثل جوام وبورتوريكو - تابعة لأمريكا. وعلى اليابسة، واجه الأمريكيون صعوبات أكبر؛ إذ اندلعت الحرب في واقع الأمر في الفلبين، ولم تكن بين الأمريكيين والإسبان - الذين تركوا البلاد سريعا - ولكن مع الفلبينيين، الذين من المفترض أن الولايات المتحدة جاءت لتحررهم. وقبل انتهاء الحرب في عام 1902، أودى «التمرد» الفلبيني بحياة ما يزيد على 4200 جندي أمريكي وعشرات الآلاف من الفلبينيين.
على الجانب الآخر، تمثلت أبرز النتائج في كوبا في هجمة عسكرية قام بها سلاح الفرسان تحت قيادة الشاب ثيودور روزفلت، الذي أنشأ كتيبة من مجموعة متنوعة من الأفراد أطلق عليها «الفرسان القساة». مضى ثيودور روزفلت وهو يمتطي جواده شاهرا سيفه لأعلى عند تل كيتل هيل بالقرب من سانتياجو (وليس تل سان خوان، كما كتب أحد الصحفيين)، ثم وصل إلى حكم نيويورك في انتخابات خريف عام 1898، ثم ترشح لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الجمهوري عام 1900.
في تلك الأثناء، نصت معاهدة سلام انتزعتها الولايات المتحدة في باريس في أواخر عام 1898 على نقل السيادة على جوام وبورتوريكو والفلبين من إسبانيا إلى الولايات المتحدة. حصلت كوبا على استقلالها اسميا، لكن مواردها المالية وشئونها الخارجية خضعت لسيطرة الولايات المتحدة على مدى عقود لاحقة. وعندما عرضت المعاهدة أمام مجلس الشيوخ عام 1899، أيد الجمهوريون بوجه عام ضم الفلبين، في حين عارض الديمقراطيون والقلة المتبقية من الشعبويين القرار. أثار مناهضو الإمبريالية - وهم مجموعة متنوعة من مارك توين إلى أندرو كارنيجي ورجال حركة الإنجيل الاجتماعي البارزين - تساؤلات خطيرة، وخصوصا تلك الخاصة بقدرة جمهورية مثل الولايات المتحدة على حكم مستعمرة كالفلبين ومنع تطبيق وثيقة الحقوق على شعب الفلبين. لكن الإمبرياليين صدقوا على المعاهدة بفارق صوت واحد.
وبعيدا عن نقل السيادة على المستعمرات إلى الولايات المتحدة، كان صعود ثيودور روزفلت على الأرجح هو أهم النتائج المترتبة على تلك الحرب الوجيزة، فتحول روزفلت إلى أحد أبرز رموز البسالة القتالية والإمبريالية الأمريكية، جنبا إلى جنب مع قائد الأسطول جورج ديوي، الذي حقق النصر البحري في الفلبين. لكن ديوي لم يتمتع بحضور سياسي، على النقيض من روزفلت. ومن باب المفارقة أن ظهور ذلك العسكري الإمبريالي على الساحة السياسية رمز، في جوانب كثيرة، إلى بداية الحركة التقدمية.
بحلول عام 1900، كان الاقتصاد يتعافى، والموجة الإمبريالية تنحسر، وبثت بهجة وأمل حلول قرن جديد الحماسة في الكثيرين، ولكن ليس الجميع. ففي ذلك العام، استمرت المؤسسات الدينية والصحافة المتأملة - من خلال منابر الوعاظ ومقالات الرأي الرئيسية - في التعبير عن شعور بوجود أزمة اجتماعية عميقة. تشارك المتحدثون في كثير من منابر الوعظ البروتستانتية والسياسيون من الحزبين الكبيرين هذا الشعور. جددت الحرب القصيرة الناجحة على نحو مذهل مع إسبانيا مشاعر الفخر والانتماء للوطن، وقضت على معظم ما تبقى من عداء بين الشمال والجنوب منذ نهاية الحرب الأهلية. ولكن حتى الاستحواذ على بورتوريكو، وهاواي (التي أعلن ضمها في يوليو 1898 أثناء الحرب)، والفلبين، والسيطرة على كوبا لم يخف الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد. ومع اختفاء كساد تسعينيات القرن التاسع عشر، كانت الشركات يتم دمجها و«ترشيدها»، والتشريعات الفيدرالية والخاصة بالولايات غير مؤثرة، والأثرياء يراكمون الثروات. أخذت ولاية تلو الأخرى في الجنوب تمرر قوانين جيم كرو التي تفصل بين الأعراق فصلا عنصريا وتمنع السود وفقراء البيض (ذوي الميول الشعبوية) من التصويت. رفعت إدارة ماكينلي والكونجرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون التعريفة الجمركية عام 1897 وصادقت على الذهب باعتباره المعيار النقدي الوحيد عام 1900، وهذان الإجراءان أحكما قبضة الشركات على الاقتصاد وأسعدا الطبقات المالكة.
على الجانب الآخر، لم يجن عمال المصانع والمزارعون بالغرب سوى الفتات التي تسقط من طاولة رجال الأعمال. بدا أن لبرنامج أوماها - وهو أن جشع المؤسسات التجارية والحكومة المتراخية يقسمان الشعب الأمريكي إلى طبقتين: متسولين ومليونيرات - أدلة ثابتة تؤيده أكثر من أي وقت مضى. ولن يختفي هذا التقسيم في وقت قريب؛ فبحلول عام 1915، كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أو حتى بين الأغنياء والطبقة الوسطى، أكثر اتساعا مما ستكون عليه حتى فترة حكم ريجان. شعر أغلبية الشعب الأمريكي بالاستياء عام 1900 من الإضرابات والمقاطعات العمالية المتكررة، لكنهم انحازوا، كالعادة، إلى صف إدارات الشركات و«القانون والنظام»، دعمهم في ذلك موقف السلطة القضائية المحافظ، بدءا من قضاة المحاكم المحلية وحتى قضاة المحكمة العليا. كذلك تم تجاهل مطالب الشعبويين بالتغيير عندما بدا أن الاقتصاد يتحسن، ولطالما رفض الكثير من سكان منطقة الشمال الشرقي الحضرية الشعبويين باعتبارهم غريبي الأطوار على أي حال. مع ذلك، بدأ يسود شعور بأن هناك مشكلات كثيرة بالبلاد على الرغم من الاقتصاد المتعافي والانتصارات الإمبريالية. كان الاقتصاديون وعلماء الاجتماع يفكرون في الأمور من منظور جديد، ويقوضون القناعات القديمة. كان الإصلاح وشيكا، لكن لم يعرف أحد في عام 1900 كيف سيتبلور، وأين، ومن سيتزعمه، ولكن في غضون سنوات قليلة للغاية توحدت الحركة التقدمية وتبلورت .
الفصل الثالث
تبلور الحركة التقدمية: 1901-1908
كانت الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في عام 1900 جولة أخرى من المنافسة بين مرشحي الانتخابات السابقة عام 1896 أنفسهما: مرشح الحزب الجمهوري ويليام ماكينلي، ومرشح الحزب الديمقراطي ويليام جيننجز برايان. لكن هذه المرة تفوق ماكينلي بنحو أكبر وتأخر برايان قليلا. من بين أسباب ذلك أن برايان لم يحظ بترشيح حزب الشعب كما في المرة السابقة في عام 1896، والأهم من ذلك أن ماكينلي استفاد من حالة الاقتصاد الذي بدأ في التعافي والابتهاج الذي شعر به الكثير من المصوتين بعد الانتصار في الحرب الإسبانية. كما استحوذ الجمهوريون على مقاعد في مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وبنحو عام عززوا الأغلبية التي تمتعوا بها منذ عام 1894. وأصبحت النزعة المحافظة - التي تعني دعم شركات السكك الحديدية والمصانع والمؤسسات التجارية الأخرى وليس تنظيمها - أشد رسوخا في الأجهزة الرقابية بالبلاد عن أي وقت مضى.
كان من المستحيل أن يتوقع أحد إلى متى كان سيستمر نهج ماكينلي المحافظ؛ لأن ليون شولجوس - الذي ولد في ولاية ميشيجان وآمن بالفوضوية التي تعلمها بنفسه - أطلق الرصاص عليه في السادس من سبتمبر عام 1901، في معرض البلدان الأمريكية بمدينة بافالو، وبقي ماكينلي على قيد الحياة لبضعة أيام ثم مات. جلب نائب الرئيس ثيودور روزفلت - الذي لم يكمل عامه الثالث والأربعين حينها، وكان أصغر سنا وأكثر نشاطا على المستوى البدني والعقلي من أي رئيس سبقه - عهدا سياسيا جديدا للبيت الأبيض يلائم القرن الجديد. اجتذب روزفلت خلال فترة توليه الرئاسة التي امتدت لثماني سنوات تقريبا أغلب الأمريكيين إليه بحماسته الشديدة وأخلاقياته وخوضه في مجموعة كبيرة من القضايا، واستخدامه للبيت الأبيض باعتباره «المنصة الرائعة» خاصته؛ أي المنبر المثالي للترويج لبرامجه. وصفه صديق له بأنه مزيج رائع من «القديس فيتوس والقديس بولس». كان روزفلت من المؤمنين بشدة بتفوق «العرق الأنجلوساكسوني»، شأنه شأن الكثير من الأمريكيين البيض حينذاك، وفيهم المصلحون الواسعو الاطلاع، لكنه ألهم الكثير من الإصلاحات وقادها أيضا. وبنهاية السنوات الثمانية التي أمضاها في الرئاسة الأمريكية، تبلورت الحركة التقدمية كحركة متعددة الأوجه. لم يكن روزفلت السبب الأوحد وراء ذلك، بل ساهم الحشد المتزايد من العاملين بمراكز التكافل الاجتماعي، والصحفيين الكاشفين للفساد والقساوسة المتفانين، والأكاديميين وأعضاء النقابات العمالية - الكثير منهم كانوا من النساء - في نسج العديد من الخيوط المبكرة للإصلاح التي ستتضافر معا فيما بعد لتشكل الحركة التقدمية الناضجة. لكن الحركة برمتها احتاجت إلى نساج قائد. لعب برايان ذلك الدور مع أتباعه من مؤيدي الإصلاح الزراعي. أما ثيودور روزفلت، رجل المدينة في منطقة الشمال الشرقي الذي دفعته الظروف لتولي منصب الرئاسة، فقد لعب ذلك الدور مع جمهور ناخبين حضري متشكك وبلا قائد حتى تلك اللحظة. من الصعب تخيل كيف كان يمكن للحركة التقدمية أن تنضج في غياب ثيودور روزفلت الذي أقنع المتشككين وأزعج المحافظين وقاد عملية النسج.
إن قائمة الإنجازات التي حققتها إدارة روزفلت الأولى، من سبتمبر عام 1901 إلى مارس عام 1905، قليلة على نحو يثير الدهشة؛ ففي رسالته السنوية الأولى للكونجرس في ديسمبر عام 1901 (الخطاب الذي يعرف في وقتنا الحاضر بخطاب «حالة الاتحاد»، والذي كان يبعث إلى الكونجرس لكن لا يقرؤه الرئيس في الواقع أمامه حتى بدأ وودرو ويلسون في فعل ذلك عام 1913)، دعا ثيودور روزفلت إلى «صفقة عادلة» تتألف من قوانين جديدة (ليست كثيرة العدد) وتطبيق أكثر صرامة للقوانين الحالية ذات الصلة بالاتحادات الاحتكارية والاحتكارات، وتجريم الخصومات التي كانت تمنحها شركات السكك الحديدية لعملائها المفضلين مثل شركة ستاندرد أويل، والاعتراف بأن المنظمات العمالية يجب أن تعامل بشيء من الإنصاف بدلا من كبتها باستمرار من قبل القوات الفيدرالية أو الخاصة بالولايات أو المحاكم. بدأت وزارة العدل في حكومته في الملاحقة القضائية للاتحادات الاحتكارية، وسيصل عدد قضايا مكافحة الاحتكار في النهاية إلى أربع وأربعين قضية. استغرق الكونجرس بعض الوقت، ولكن بحلول عام 1903 مرر بالفعل قانون إلكنز، الذي يحظر الخصومات.
أنشأ الكونجرس أيضا، بضغط من روزفلت، وزارة جديدة للتجارة والعمل، معطيا الاثنين قدرا متساويا من الأهمية للمرة الأولى. ضمت هذه الوزارة «مكتب الشركات»، الذي شرع في إصدار تقارير رسمية حول أنشطة الشركات، بعضها قدم أدلة تستطيع وزارة العدل بناء عليها مباشرة دعاوى مكافحة الاحتكار خاصتها . وفي عام 1915 جرى توسيع نطاق هذا المكتب وتغيير اسمه إلى لجنة التجارة الفيدرالية، والتي لا تزال موجودة حتى الآن.
لكن بعيدا عن هذه القوانين والمبادرات، مارس روزفلت قيادة تنفيذية حازمة. واستكمالا لما أطلق عليه «حركة الدمج»، أسس عدد من كبار رجال الأعمال في مجال المال والسكك الحديدية - جيمس جي هيل من شركة نورذرن باسيفيك، وإي إتش هاريمان من شركة يونيون باسيفيك، وجيه بي مورجان وجون دي روكفلر - اتحادا احتكاريا ضخما أطلقوا عليه اسم شركة نورذرن سيكيوريتيز، بهدف جمع خطوط بيرلينجتون ونورذرن باسيفيك وجريت نورذرن وغيرها من خطوط السكك الحديدية تحت لواء إدارة واحدة. كان من المفترض أن يسفر ذلك عن احتكار شبه تام للنقل عبر السكك الحديدية في الربع الشمالي الغربي من البلاد، لكن الاحتجاج الشعبي كان كبيرا؛ فأعطى روزفلت، الذي لم يمر على توليه الحكم سوى خمسة أشهر، تعليماته إلى النائب العام فيلاندر سي نوكس بإقامة دعوى قضائية بموجب قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890 لحل ذلك الاتحاد. وفي ذلك الوقت، كانت المحكمة العليا قد قوضت قانون شيرمان، لكن في عام 1904، قضت تلك المحكمة بالفعل، بحكم خمسة أصوات مقابل أربعة، لصالح الحكومة وضد شركة نورذرن سيكيوريتيز؛ ومن ثم لصالح الشعب.
أوضح روزفلت أنه من وجهة نظره ليست جميع الشركات، أو حتى جميع الاتحادات الاحتكارية، سيئة؛ بل كان هناك بعض «الاتحادات الاحتكارية الجيدة»، وفي رسالته الأولى إلى الكونجرس في ديسمبر عام 1901، شرح روزفلت الفارق، قائلا:
إن قادة الصناعة الذين قادوا نظم السكك الحديدية عبر أرجاء القارة، والذين بنوا تجارتنا، وطوروا مصانعنا، قد أسدوا صنيعا رائعا في المجمل لشعبنا ... إن آلية عمل التجارة الحديثة دقيقة للغاية لدرجة تستوجب توخي الحذر الشديد كي لا نعترض سبيلها في أجواء من التهور أو الجهل ... إلا أنه من الصحيح أيضا أن ثمة شرورا حقيقية وخطيرة ... ولا بد من بذل جهد حازم وعملي لتصويب تلك الشرور.
بدا للشخصية الخيالية الشهيرة السيد دولي أن روزفلت قال في خطابه إن تلك الاتحادات الاحتكارية إنما هي «وحوش مخيفة ... أوجدتها مؤسسات مستنيرة» ينبغي «سحقها تحت الأقدام ... ولكن ليس بسرعة كبيرة.» سعى ثيودور روزفلت لتنظيم الشركات بين الولايات وفحص طريقة عملها وإظهارها للعلن، وكانت النتيجة إنشاء مكتب الشركات (1903) الذي مهمته مراقبة عمل الشركات وملاحقات قضائية موجهة بعناية لمكافحة الاحتكار. لم يعجب ذلك التوجه الحذر العديد من التقدميين الأوائل، مثلما أغضبت الملاحقات القضائية الكثير من رجال الأعمال، لكن كان من الجلي أن الموقف الذي تبناه كليفلاند وماكينلي الخاص بإطلاق يد الشركات وعدم محاسبتها أصبح ضربا من الماضي.
وكانت الخطوة التي لفتت الانتباه وحازت على الرضا الشعبي بقدر أكبر هي تدخل روزفلت في أواخر عام 1902 لإنهاء إضراب عمالي امتد لستة أشهر نظمه عمال مناجم الفحم الصلب في بنسلفانيا. طالب عمال المناجم الذين مثلهم اتحاد عمال المناجم المتحدين بالاعتراف بهم كنقابة، وثماني ساعات عمل يوميا، ومن 10 إلى 20 في المائة زيادة في الأجور. تصرف رئيس الاتحاد جون ميتشل على نحو استرضائي وتوافقي، على النقيض تماما من الصورة النمطية للمضرب عن العمل الثائر والمتطرف التي روجها المحافظون وإدارات الشركات. وفي المقابل، زعم جورج إف بير، رئيس إحدى شركات السكك الحديدية الكبرى، والمتحدث باسم أصحاب المناجم، أن «العامل الكادح ستجري حمايته والاعتناء به، ولكن ليس من قبل مثيري الشغب من العمال، بل من قبل أصحاب الأعمال المسيحيين الذين وهبهم الرب السيطرة على حقوق الملكية بالبلاد.» وأعلن فيما بعد أن «هؤلاء العمال لا يعانون، بل إن نصفهم لا يتحدث الإنجليزية.»
لا شك أن انتصار العلاقات العامة حققه ميتشل متغلبا على بير ورفاقه الرأسماليين، وحققه كذلك ثيودور روزفلت الذي عين لجنة عادلة (وناجحة) تمكنت من إنهاء الإضراب مباشرة قبل بداية ما أنذر أنه شتاء قارس البرودة. مجددا، تفادى الرئيس بحذر أي محاولات للراديكالية. لم يدعم الرئيس الاعتراف بالاتحاد، ولم يحصل الاتحاد على ذلك، لكنه تدخل في نزاع عمالي-رأسمالي مهم بطريقة متوازنة على النقيض للغاية من أسلافه الذين كانوا يبادرون على الفور بإرسال قوات لفض الإضراب. أعلن روزفلت أنه يدعم الطبقة الوسطى والعمال المخلصين والمنتجين في مواجهة الاحتكاريين. وهنا خاطب أحد أكثر المعتقدات الراسخة لدى الشعب الأمريكي - وهو الإنصاف - والذي كان أشد رسوخا من النزعة الفردية المؤيدة لمبدأ عدم التدخل.
ينسب لروزفلت الفضل في أشياء عظيمة، لكن في فترة ولايته الأولى اقتصرت الإنجازات الحقيقية على قضايا مكافحة الاحتكار (وأشهرها الخاصة بشركة نورذرن سيكيوريتيز)، وتأسيس مكتب الشركات وتدخله في إضراب عمال مناجم الفحم الصلب. لكن ما السبب في هذا التباين بين الإنجازات (القليلة) والصيت (الكبير)؟ إنه يكمن في الاختلاف بين موقف روزفلت تجاه الاحتكارات، وتجاه المنظمات العمالية، وتجاه التدخل الحكومي بهدف الإصلاح، من جهة، وموقف أسلافه في العصر المذهب تجاه هذه الأمور نفسها من جهة أخرى. مثل الرئيس الشاب - الذي كان في السادسة والأربعين من عمره فقط عندما انتهت ولايته الأولى - للشعب الأمريكي توجها جديدا يبتعد كثيرا عن السياسات الموالية للشركات الكبيرة والمناهضة للعمال التي كانت سائدة في الماضي. لم يكمن التغيير في الإجراءات وحسب، بل قطعا في الأسلوب أيضا. كان روزفلت بالفعل قد سطر لنفسه سيرة ذاتية مثيرة للإعجاب ومتنوعة قبل عام 1901؛ فقد أدار مزرعة في إقليم داكوتا، وألف عدة كتب في التاريخ، وطاف شوارع نيويورك أثناء توليه منصب مفوض الشرطة بها، وقاد كتيبة عسكرية في حرب كوبا، وغير ذلك الكثير. أضفى روزفلت - الذي تمتع بدعم زوجته إديث، حافظة أسراره القربى إليه، وطرائف أطفالهما الصغار الكثيرين - جوا حماسيا على البيت الأبيض الذي اتسم بالقتامة في السابق، فكان أشبه بالرونق الساحر المرتبط بآل كيندي الذي ظهر بعده بستين عاما. قيل عن سالفه الذي تولى الرئاسة من عام 1889 إلى 1893، بنجامين هاريسون، إنه امتلك شخصية «موحشة ككهف مهجور.» أما روزفلت وإديث، وحاشيتهما، فكانوا مختلفين تماما؛ مثيرين للحماسة والبهجة والدهشة.
شكل 3-1: ثيودور روزفلت وإديث كارو روزفلت يجلسان لالتقاط صورة عائلية في حديقة منزلهما بأويستر باي، لونج آيلاند، في عام 1903. تقف ابنة روزفلت أليس (أليس لونجورث بعد زواجها) من زيجته الأولى في الخلف.
في سنواته اللاحقة التي سادها الإحباط، اتسم روزفلت أحيانا بحدة الطبع وسرعة الغضب، لكن حين كان في البيت الأبيض كان بطلا حقيقيا في أعين الكثيرين. وعند مقارنته ببرايان (خطيب نهر بلات الشاب) كانت نشأته كأحد أفراد الطبقة العليا بين نيويورك وجامعة هارفرد أقل إفزاعا بكثير لسكان المدن من الطبقة الوسطى. وعند مقارنة إداراته بالإدارات الليبرالية والتقدمية اللاحقة له، تبدو إنجازاته ضئيلة، بل ومبالغا في تقديرها. إلا أنه في سياق تاريخ العصر المذهب والحرية الكاملة التي تمتعت بها الشركات الكبرى بعد الحرب الأهلية، مثل ثيودور روزفلت روحا جديدة، وأدت إجراءاته، على الرغم من قلتها، إلى حب ملايين الناس له.
استجاب له الشعب بمنحه فترة ولاية أخرى كرئيس للبلاد في انتخابات عام 1904. حاز روزفلت على 60 في المائة من التصويت الشعبي للحزبين، وحظي بأغلبية جمهورية بنسبة اثنين إلى واحد تقريبا بمجلس النواب وأغلبية آمنة جدا أيضا في مجلس الشيوخ. شعر روزفلت الذي انتخب الآن «لجدارته» بأنه قادر على أخذ مكانة أبرز كزعيم إصلاحي، مع تحرره أكثر من قيود أقطاب الحزب المحافظين، وكذلك قيود الحاجة إلى جمع أموال لحملته الانتخابية. استطاع ثيودور بتهديده البارع للحرس القديم بحزبه بأنه سيؤيد تخفيض التعريفات الجمركية - الأمر الذي كان من شأنه تهديد الكثير من المصالح الخاصة الرأسمالية التي كانوا يمثلونها - ضمان تنفيذ عدة إجراءات كانت بعيدة المنال في تسعينيات القرن التاسع عشر.
بعد الانتخابات مباشرة، وبداية من رسالته السنوية إلى الكونجرس في ديسمبر عام 1904 واستمرارا على مدى السنوات الأربع التالية، اتجه روزفلت تدريجيا وبوضوح أكبر نحو اليسار. كان التوجه الإصلاحي من شتى الأنواع قد بدأ في الظهور، وكان الرئيس قائدا ومناصرا على حد سواء لذلك التوجه. أوصى الرئيس بأن يعزز الكونجرس من فاعلية لجنة التجارة بين الولايات إلى الحد الذي يسمح لها بتحديد رسوم السكك الحديدية؛ رأى المحافظون في ذلك خرقا غير مقبول لحقوق الملكية، أما ناقلو البضائع (ومن بينهم المزارعون وأصحاب الأعمال الصغيرة)، فاعتبروا ذلك استردادا آخر صريحا للعدالة. ذكر روزفلت أن النقابات العمالية كانت «من بين أكثر العوامل المؤثرة التي صبت في صالح المواطنة الصالحة.» لكنه نبه في حذر إلى أنه يجب على تلك النقابات أن تتجنب «العنف أو الوحشية أو الفساد»، ورفض قبول فكرة اشتراط بعض الشركات أن يكون كافة العاملين بها أعضاء بنقابة ما. ومجددا طالب الكونجرس بتمرير قانون مسئولية صاحب العمل في منطقة كولومبيا، ومن أجل السلامة، قصر ساعات العمل إلى ثماني ساعات في مناوبة العمل الواحدة للعمال بالسكك الحديدية بين الولايات. وفي عام 1906، دعم روزفلت قانونا للتجنيس وحد عملية التجنيس ورسخ إجراءات على المستوى الوطني تتولاها إدارة الهجرة والتجنيس الجديدة؛ وهي خطوة هدفت إلى الإشراف على عملية توافد مئات الآلاف من المهاجرين الجدد الذين يصلون كل عام، وليس لإعاقتها.
وفي استجابة للالتماسات القوية من جانب المصلحين في مجالات العدالة الاجتماعية والصحة العامة مثل فلورنس كيلي من رابطة المستهلكين الوطنية وقادة اتحاد النقابات العمالية النسائي الوطني واللجنة الوطنية لعمالة الأطفال، دعا روزفلت لتوفير معلومات أكثر حول ظروف عمالة الأطفال وممارسات صناعة تعبئة اللحوم. أراد روزفلت أن تتمتع لجنة التجارة بين الولايات بسلطة خفض رسوم السكك الحديدية لدى شكوى شاحن البضائع. كما أنه ناصر الهجرة «من النوع الصحيح» - الأفراد المجتهدين والمقتصدين - ولم يطالب بوضع اختبارات خاصة بالإلمام بالقراءة والكتابة أو غيرها من المطالب المفضلة لدى أنصار تقييد الهجرة.
نادى روزفلت، في سنوات حكمه السابقة واللاحقة، بسياسة خارجية قوية، وزيادة القوة البحرية، ومواصلة العمل في قناة بنما. وورد أشهر أقواله عن الشئون الخارجية في رسالته إلى الكونجرس في ديسمبر 1904؛ وهو ذلك الخاص ب «مبدأ القوة البوليسية» الشهير المكمل لمبدأ مونرو:
إن الممارسات الخاطئة المستمرة، أو الضعف الذي يسفر عن انفراط عام لعقد المجتمع المتحضر، قد يتطلب، في أمريكا وسائر المناطق الأخرى، في النهاية تدخلا من قبل أمة متحضرة، أما عن نصف الكرة الأرضية الغربي، فقد يرغمنا التزام الولايات المتحدة بمبدأ مونرو، رغم أن ذلك قد يكون على مضض، في حالات سافرة لتلك الممارسات الخاطئة أو الضعف، إلى ممارسة دور بوليسي لحفظ النظام الدولي.
بعبارة أخرى، ستقرر الولايات المتحدة بمفردها من يقوم بتلك «الممارسات الخاطئة» وأين ومتى، وتعطي لنفسها حق استعادة النظام. صحيح أن مبدأ روزفلت قد نبذ في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، لكنه برر في تلك الأثناء العديد من التدخلات الواسعة في الجمهوريات الكاريبية، وجعلها «دولا تحت الوصاية» الأمريكية. وأعلن روزفلت أنه «سيتحرك برفق وهو يحمل عصا غليظة»، ومن خلال قبوله النقابات العمالية والمؤسسات التجارية على حد سواء (إذا أحسنت التصرف)، عبر عن قيم الطبقة الوسطى وخاطبها. وبفعله ذلك، حظي بدعم وافر من قطاع عريض من الشعب.
بعد مرور عام، سلم ثيودور روزفلت رسالة سنوية أخرى إلى الكونجرس. لم يتخذ الكونجرس سوى خطوات قليلة بشأن بعض توصياته السابقة، فطالبه روزفلت مجددا بتنظيم رسوم السكك الحديدية، ووضع حد للخصومات، وتحديد مسئوليات صاحب العمل عن إصابات العمال في منطقة كولومبيا وفي أحواض بناء السفن؛ حيث كانت السلطة القضائية الفيدرالية (وليست الخاصة بالولاية) لها اليد العليا. صرح روزفلت: «إن الشركات أنشئت كي تبقى، كما أن النقابات العمالية أنشئت كي تبقى.» أعلنت رسالة عام 1905 أيضا أن وزارة التجارة والعمل ستحقق ليس فقط في الممارسات الخاصة بعمالة الأطفال، بل أيضا في ظروف عمل النساء؛ وهي القضية التي ساقتها إليها العاملات بمراكز التكافل الاجتماعي اللائي يمثلن العاملات في تعبئة اللحوم وغير ذلك من المجالات الصناعية ممن يجدن صعوبة كبيرة في إنشاء نقابات عمالية خاصة بهن. كما جدد دعوته لتخفيض التعريفات الجمركية. وفي ذلك الوقت تقريبا (عام 1908)، أصدرت المحكمة العليا حكما لصالح قانون خاص بولاية أوريجون يحدد عدد ساعات العمل للنساء. كانت هذه القضية، «مولر ضد ولاية أوريجون»، ذات طابع تقدمي على نحو غير مألوف للمحكمة العليا في تلك الفترة، لكن الأدلة الواقعية التي جمعتها جوزفين جولدمارك من اتحاد المستهلكين الوطني ودافع عنها لويس دي برانديز، المحامي الذي مثل ولاية أوريجون، نجحت في إقناع المحكمة. وبدأت بشائر الدعم القانون والتشريعي لحقوق العاملات واحتياجاتهن في الظهور.
وفي عام 1906، أدرك أعضاء الكونجرس المنتمون إلى الحزب الجمهوري، والخائفون من تخفيض التعريفات الجمركية، أن شعبية ثيودور روزفلت كافية لتوليد ضغط شعبي يلزم بتمرير أي شيء يراه الرئيس. كان روزفلت يؤسس للرئاسة الحديثة، التي تدعمها وسائل الإعلام الموجودة في عهده. وفي النهاية صادق الكونجرس على القانون الخاص بمسئولية صاحب العمل الذي تقدم به روزفلت لحماية العمال في منطقة كولومبيا وفي وسائل النقل الشائعة (على رأسها السكك الحديدية) في التجارة بين الولايات. أثر القانون الجديد الشديد الأهمية على قطاع السكك الحديدية، وسرعان ما عرف القانون باسم قانون هيبورن (على اسم عضو الكونجرس عن ولاية أوهايو الذي أعد مسودته)، والذي خول للجنة التجارة بين الولايات سلطة خفض رسوم السكك الحديدية لدى شكوى شاحن البضائع، كما أنه عزز من سلطة اللجنة بطرق أخرى. أجيز القانون في مايو عام 1906 بعد نزاع مرير مع الكونجرس، انطوى على تهديدات من روزفلت بمناصرته تعديل التعريفات الجمركية، التي كسرت في النهاية تعنت نيلسون ألدريتش (عضو الحزب الجمهوري بمجلس النواب بولاية رود آيلاند ثم رئيس اللجنة المالية بمجلس الشيوخ) وغيره من أنصار شركات السكك الحديدية من أعضاء مجلس الشيوخ. كذلك ناشد روزفلت الشعب للضغط على نوابهم متجاهلا أعضاء الكونجرس. رغم ذلك لم ينل القانون رضا بعض المصلحين، وفيهم عضو مجلس الشيوخ روبرت إم لافوليت عن ولاية ويسكونسن، لكنه كان قانونا إصلاحيا على أي حال.
وبعد مرور شهر، تم تمرير قانونين آخرين غاية في الأهمية. كان وراء ذلك القانونين الجمعيات النسائية والمدافعون عن الصحة العامة والمجموعات القوية من الشرفاء في الجماعات الإصلاحية المتنامية؛ وذلك لأنهم دعوا بوضوح شديد لوجود معاملة لائقة لجموع المستهلكين في مواجهة جشع الشركات. وهذان القانونان هما قانون فيدرالي لفحص اللحوم، وتلاه «قانون الغذاء والدواء النقي». هدف الأول إلى فرض معايير للنظافة في عملية تعبئة اللحوم، أما القانون الثاني ففرض قيودا على بيع الأدوية المسجلة التي تباع بدون وصفة طبية، والتي كان كثير منها يشتمل على مواد مخدرة وكحول. كان روزفلت يمارس ضغوطا منذ فترة لإصدار قانون فحص اللحوم، واكتسبت جهوده زخما حين نشر الكاتب الإصلاحي أبتون سينكلير رواية «الغابة» التي فضح فيها الأوضاع القذرة بحظائر الماشية. ومجددا التقى الضغط الشعبي مع اهتمام الرئيس. مارست فلورنس كيلي واتحاد المستهلكين الوطني ضغطا قويا لخروج قانوني حماية المستهلك هذين، كما كافح اتحاد النقابات العمالية النسائي الوطني النشط في شيكاجو ونيويورك وبوسطن وغيرها لإلغاء عمالة الأطفال، وتخصيص معاشات للأمهات، وإقرار نظام تعليم إلزامي، وتحسين أوضاع العاملات في المصانع وأجورهن. وعلى الرغم من أن النساء حصلن على حق الانتخاب على المستوى الوطني بعد سنوات من ذلك الوقت، واحتجن إلى ذلك لتحقيق برامجهن الإصلاحية، فقد مثلن قوة فاعلة من خلال منظماتهن والتعاون مع قادة مراكز التكافل الاجتماعي وعلماء الاجتماع ورجال الدين وغيرهم.
شهد عام 1906 إحراز تقدم، إلا أنه لا يضاف إلى سجل الحركة التقدمية. طالب ثيودور روزفلت بتشريع يحمي العمال من الأطفال والنساء، لكن هذا لم يتحقق. حافظ الجمهوريون على سيطرتهم على مجلسي الكونجرس في انتخابات عام 1906، وكذلك استبقى الحرس القديم من المحافظين على زمام الأمور في أيديهم، إلا أنه في بضع ولايات ودوائر انتخابية، أزاح مرشحون إصلاحيون المحافظين من مقاعدهم. وبدأت البوادر الأولى للحركة التقدمية السياسية في الظهور. مع هذا، وعلى حد صياغة أحد كتاب السيرة الذاتية لروزفلت مؤخرا: «مع توجه روزفلت نحو اليسار سياسيا، وجد أنه ينسلخ عن طبقة الأثرياء التي ينتمي إليها ... فقرر أن الضرائب الفيدرالية على التركات والدخل أمور ضرورية ... وستكون أمريكا أفضل حالا إذا وظفت الثروات الطائلة للصالح العام.»
وعلى مدى العامين التاليين، استمرت المسافة بين روزفلت والحرس القديم في التباعد، لا سيما نتيجة جهاده الذي لا يلين من أجل إجراءات المحافظة على البيئة واستصلاح الأراضي. دعم روزفلت قانون نيولاندز لاستصلاح الأراضي لعام 1902، والذي سمي كذلك تيمنا بعضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي بولاية نيفادا الذي طرحه، والذي أصبح ميثاق الزراعة المروية والأشغال العامة في الغرب. وبمرور الوقت، زاد ذلك القانون بدرجة هائلة من المساحات الزراعية المحتملة، وفي نهاية المطاف، من الطاقة الكهرومائية والمواقع الترويحية. يرى المؤرخون أن قانون نيولاندز أهم تشريع فيدرالي تم تمريره فيما يتعلق بالغرب، ولم ينافسه فقط سوى قانون الاستثمار الريفي لعام 1862. كان أساس إنشاء «السدود الكبرى» في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته - هوفر وشاستا وجراند كولي وفورت بيك وغيرها الكثير - هو قانون نيولاندز.
وبين عامي 1902 و1909 - عندما ترك الرئاسة - بذل روزفلت جهودا أكبر بكثير من أجل الحفاظ على الطبيعة؛ فقد أضاف روزفلت 17 مليون فدان إلى محميات الغابات الوطنية، وهو الأمر الذي أثار غضب المطورين العقاريين الغربيين (على غرار «تمرد الميرمية» في عهد ريجان بعد سبعين عاما من ذلك التاريخ) الذين أرادوا الاستئثار بالأملاك العامة ومواردها لخدمة مصالحهم الخاصة. أنشأ روزفلت، بموجب إعلانات وقرارات تنفيذية، عشرات المتنزهات العامة ومحميات الحياة البرية والنصب التذكارية الوطنية، كما وضع الغابات والموارد ذات الصلة تحت إشراف إدارة الغابات التابعة لوزارة الزراعة، وعين صديقه جيفورد بينشو رئيسا لتلك الإدارة عام 1905. ومرة أخرى نالت رعاية روزفلت لمؤتمر وطني للحفاظ على الطبيعة عام 1908 رضا الإصلاحيين وحركة الحفاظ على الطبيعة الناشئة وجمهور الطبقة الوسطى، في حين أزعجت الحرس القديم. أصبح الحفاظ على الطبيعة سمة مميزة لإدارة روزفلت، وكان لها بالطبع بالنسبة لغرب الولايات المتحدة تبعات بالغة الأثر وباقية أكثر عن إجراءات مكافحة الاحتكار التي اتبعتها. ظل التزامه بالدفاع عن البيئة، النابع من خبراته في فترة الشباب في إقليم داكوتا، عميقا وثابتا.
في عام 1907 اجتاح ذعر مصرفي عات وول ستريت، وهدد بانهيار النظام المصرفي للبلاد. اضطر روزفلت، ممثلا في وزارة الخزانة، للسماح لمجموعة جيه بي مورجان (والتي ضمت يو إس ستيل) بالاستحواذ على شركة تينيسي للفحم والحديد، والتي تعد منافسا إقليميا لها، بثمن بخس، في مقابل إعادة الاستقرار إلى أكبر مصارف وول ستريت. هدأ الذعر المصرفي سريعا، لكن روزفلت الغاضب شجب «المجرمين ذوي الثروات الطائلة» في خطاب له ببروفينستاون بولاية ماساتشوستس في 20 أغسطس عام 1907. أصبحت تلك العبارة واحدة من بين العبارات الأكثر اقتباسا على لسانه، لكنها لم تجنبه الحرج فيما بعد، بعد أن ترك منصبه، عندما قاضت وزارة العدل شركة يو إس ستيل لاستيلائها على شركة تينيسي بموجب قوانين مكافحة الاحتكار.
وبحلول عام 1908، كان الرئيس قد قطع شوطا نحو اليسار من حيث توقف في ولايته الأولى أو حتى من موضعه في عام 1905. وفي الكونجرس، اضطر للتعامل مع أكثر عضوين محافظين من المنتمين إلى الحزب الجمهوري في ذلك العصر، وهما رئيس مجلس النواب جوزيف جي كانون من ولاية إلينوي والسيناتور نيلسون ألدريتش. عمل الاثنان معا على إعاقة تحركات روزفلت نحو الإصلاح التقدمي، على الرغم من أن دعم كل من كانون وألدريتش على مضض لمشروع قانون في عام 1909 لتعديل الدستور بحيث يسمح بوضع ضريبة دخل فيدرالية، بدون أي حماسة، ولكن فقط لإحباط تمريره الفوري؛ يعد مؤشرا على المسافة التي قطعتها البلاد نحو الإصلاح بالفعل. في واقع الأمر، أمل الاثنان أن التعديل الدستوري سيفشل التصديق عليه في النهاية من عدد كاف من الولايات. (لكن نجح التصديق عليه بحلول عام 1913.) كان ألدريتش قبل عشر سنوات قد استنكر تلك الفكرة باعتبارها «شيوعية»، وعارض كانون مطالب روزفلت بزيادة القوة البحرية، ومبادراته العديدة الخاصة بالحفاظ على الطبيعة، وأي حديث عن خفض الرسوم الجمركية، وتنظيم السكك الحديدية، وأي إجراء تقريبا يتخذه روزفلت من شأنه زيادة النفوذ الفيدرالي، لا سيما النفوذ التنفيذي، في اتجاه الأمور التنظيمية. كما عارض ألدريتش سن المزيد من التشريعات التنظيمية في مجال السكك الحديدية وكافة التدابير تقريبا التي اعتبرها «تعادي الشركات الكبرى.»
شكل 3-2: السيناتور نيلسون دبليو ألدريتش (ممثل الحزب الجمهوري عن رود آيلاند)، رئيس اللجنة المالية بمجلس الشيوخ ورئيس اللجنة النقدية الوطنية: أبرز رجال الحرس القديم. رسم هذا البورتريه نحو عام 1905.
لم يعرقل ألدريتش إجراءات روزفلت على الدوام، على العكس من كانون؛ فقد يسر ألدريتش الخطا المضطربة لمشروع قانون الغذاء والدواء النقي عبر الكونجرس عام 1906، وكذلك في عام 1908، رعى قانون ألدريتش-فريلاند الذي تأسست بموجبه لجنة نقدية وطنية تهدف إلى إيجاد سبل تحول دون وقوع نكبات مستقبلية مثلما حدث في أزمة الذعر المصرفي العنيفة عام 1907. كان التقرير الذي أصدره ألدريتش ولجنته مناصرا على نحو قاطع لمؤسسات وول ستريت، إلا أن بعض عناصره أصبحت جزءا من قانون الاحتياطي الفيدرالي عام 1913.
تميزت ولاية روزفلت الثانية بصراعات متزايدة - على الرغم من أنها لم تكن بمآزق حرجة في جميع الأحوال - بين رئيس جمهوري نشط يزداد ميله نحو التقدمية يوما بعد يوم وبين الحرس القديم الدائم التعنت للحزب الجمهوري المتزعم للكونجرس. كتبت كاثلين دالتون، كاتبة السيرة الذاتية لروزفلت، تقول: «نادرا ما غاب عنه هدفه الأجرأ في منصبه كرئيس، وهو استخدام الحكومة الفيدرالية لحل المشكلات البشرية التي أفرزها العصر الصناعي، مع أنه سيضطر إلى الحياد عنه في ولايته الثانية بسبب أزمات دولية، وفي بضع مناسبات أخرى، نتيجة لأخطائه الشخصية.» وبقيامه بذلك، أصبح روزفلت تقدميا، وساهم في تحديد ما كانت تعنيه الحركة التقدمية على وجه التحديد.
استهل روزفلت رسالته السنوية الأخيرة للكونجرس، التي بعثها في 8 ديسمبر عام 1908، بطمأنة المشرعين (وغيرهم من المؤمنين ب «الحكومة الرشيدة») أن «الموقف المالي للبلاد في الوقت الحاضر ممتاز»، مع ذلك، انطلق في حديث طويل دافع فيه عن زيادة إخضاع الشركات للقوانين التنظيمية. قال روزفلت إن قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار يمكن أن يوجه دون تمييز نحو أي «اندماج». وما نحتاجه بدلا من ذلك هو إشراف على جميع الشركات، وبخاصة شركات السكك الحديدية، تتولاه لجنة التجارة بين الولايات. إن المساهمين بالشركات وشاحني البضائع (المزارعين وأصحاب المشروعات التجارية الصغيرة)، والموظفين يملكون جميعا مصالح مشروعة، ولا ينبغي أن يحصل أي منهم على «تقدير غير لائق أو غير مستحق.» ينبغي بالمثل إخضاع شركات الهاتف والتلغراف ل «سلطة لجنة التجارة بين الولايات»، ثم استعرض روزفلت موقفه من الاتحادات الاحتكارية والاحتكارات، والذي سيقوم بتنقيحه وإبرازه على نحو أوضح في السنوات الأربع التالية، التي صاغ فيها برنامجه «القومية الجديدة» للإصلاح الشامل. وعلى الرغم من أنه لم يكن بعد في عام 1908، فقد كانت فكرة الإشراف بواسطة جهة تنظيمية فيدرالية، بدل الملاحقات الخاصة التي تتولاها وزارة العدل، جلية بالفعل.
أكد روزفلت في الرسالة نفسها التي بعثها في ديسمبر عام 1908 تأكيدا شديدا على أن الدستور أعطى «على نحو تام ومطلق» حق الإشراف على التجارة بين الولايات للحكومة الفيدرالية. وهذا «لا يعد ضربا من المركزية، وإنما يعد فقط اعترافا بالحقيقة الجلية أن المركزية قد آن أوانها بالفعل. وإذا أردنا السيطرة على هذا النفوذ التجاري غير المسئول بما يصب في صالح عامة الناس ، فلا يوجد سوى طريقة واحدة لتحقيق هذا، وهي منح سلطة تحكم كافية للجهة السيادية الوحيدة القادرة على ممارسة هذه السلطة، ألا وهي الحكومة القومية.» وفي هذا الموضع كان روزفلت يتحدث على نحو تقدمي أصيل. إن الشركات الخاصة القادرة على أن تكون لها سلطة اقتصادية على عامة الناس، على نحو «غير مسئول» - أي دون تحمل مسئولية تجاه الأشخاص الذين تتحكم بهم - لا بد من تنظيم عملها من قبل ممثلين لهؤلاء الناس. ثم جاءت أكثر أقواله حدة: «هناك الكثير من الرجال المخلصين الذين يؤمنون الآن بالفردية المطلقة في عالم الأعمال، مثلما كان هناك الكثير من الأشخاص المخلصين في السابق الذين آمنوا بالعبودية.» وبهذا قلص روزفلت بدرجة كبيرة المسافة بين المعتقدات الأساسية للشعبويين قبل عقد سابق الخاصة بالجانب الآخر من البلاد من جهة، وبين نزعته المحافظة السابقة من جهة أخرى، وهذا يعني أن الحكومة هي الشعب وأن الحكومة، التي انتخبها الشعب وأصبحت مسئولة عنه، لا بد أن تشرف على الاتحادات الضخمة للشركات التي يقف أمامها المواطنون بلا حول أو قوة.
بعد ذلك دعا روزفلت إلى وضع تشريعات داعمة لصغار المزارعين، وصغار رجال الأعمال، وصغار المساهمين، وطالب بإنشاء صناديق الادخار البريدي «لتيسير حفظ المدخرات في أمان تام للأفراد الأكثر فقرا»؛ نظرا لأن المصارف التجارية الكبرى رأت في الحسابات الصغيرة إزعاجا كبيرا. كذلك دعم روزفلت إنشاء طرق جيدة؛ «طرق سريعة وطنية تخدم الناس بعدالة ومساواة»، وأخيرا طلب قائلا: «لا بد من منع عمالة الأطفال، وتقليص عمالة النساء، وتقليل ساعات العمل لجميع العاملين بالأعمال الصناعية.» كان من الضروري سن قانون أفضل لتحديد مسئوليات صاحب العمل - كان قانون قد أجيز في هذا الشأن في وقت سابق لكن صياغته «غير الدقيقة» سمحت للمحاكم بتجاهله - في ظل تخلف الولايات المتحدة كثيرا عن البلدان الصناعية الأوروبية في حماية العمال بهذه الطريقة، كما أنه جدد دعوته لتطبيق ثماني ساعات عمل يوميا على العمال الفيدراليين.
عكست بعض العبارات التي استخدمها روزفلت نزعته المحافظة السابقة ؛ فقد قال: «إن الوعي الطبقي» - الاحتجاجات العمالية المفرطة الحماسة - «مصيره حتما الفشل» أو سيؤدي إلى «التسبب في ضرر بالغ الأثر.» إن المجتمع يضم مجموعات متعددة من المصالح المشروعة: مصالح العمال والرأسماليين والمستهلكين، وعدم تعارضها المأمول لن يتحقق بالهجوم على المحاكم، لكن الأمور تغيرت، فقال: «لعل ما كان يعد انتهاكا للحرية قبل نصف قرن هو وسيلة الحفاظ اللازمة للحرية في الوقت الحاضر، ولعل ما كان يعد إضرارا بالممتلكات حينذاك أصبح ضروريا للتمتع بالممتلكات الآن.»
استحوذ الحديث عن الشركات والعلاقات بينها وبين العمال والمحاكم على ما يقرب من نصف رسالة روزفلت الطويلة. خصص روزفلت بقية الرسالة للحديث بصورة رئيسية عن مسائل خاصة بالحفاظ على البيئة - حماية «التربة والأنهار والغابات» بالبلاد، والحاجة إلى حماية المتنزهات والغابات الوطنية (والتوسع فيها) - والعلاقات الخارجية. كان من المستحيل إلى حد بعيد أن تخرج رسالة كهذه على لسان ماكينلي في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، أو على لسان روزفلت نفسه في أول سنتين من توليه الحكم. لكنه قد تغير، وتغيرت بالمثل القضايا، والفكر المستنير، والدعم الشعبي. ستستمر فلسفة روزفلت في التطور، كما سينعكس في برنامج «القومية الجديدة» الذي كشف النقاب عنه في خطاب له بمدينة أوساواتومي بولاية كانساس عام 1910، وفي حملته الرئاسية عام 1912. لكنه تطور على نحو هائل، وكذلك الشعب الأمريكي.
رفض روزفلت خوض الانتخابات لولاية رئاسية أخرى عام 1908، واعتبر أنه قضى ولايتين رئاسيتين تقريبا منذ سبتمبر عام 1901، وكان الحد المعهود منذ فترة رئاسة جورج واشنطن هو ولايتين رئاسيتين، بدلا من ذلك، بحث روزفلت عن إداري ناجح وجدير بالثقة بمقدوره تنفيذ برنامجه الإصلاحي؛ ولذلك وقع اختياره على ويليام هاورد تافت، الذي نجح كحاكم للفلبين ووزير حرب. تغلب تافت على ويليام جيننجز برايان، مرشح الحزب الديمقراطي للمرة الثالثة والأخيرة. مرة أخرى، أحكم الجمهوريون سيطرتهم على الكونجرس، باستحواذهم على ما يزيد على أربعين مقعدا في مجلس النواب وما يقرب من ثلاثين مقعدا في مجلس الشيوخ. إلا أن الكثير من هؤلاء الجمهوريين، لا سيما في مجلس النواب، لم يعدوا من المحافظين المؤيدين للفردية المفرطة والمناهضين للتنظيم، والمناصرين لمبدأ عدم التدخل. كان التقدميون قد شرعوا في الفوز في الانتخابات الأولية بالحزب الجمهوري لتحديد مرشحي الحزب للمقاعد المضمونة. لم يكن الكونجرس في عهد تافت يمينيا على نحو جازم مثلما كان في عهد روزفلت الذي اضطر إلى الدخول في صراع معه. ومن المفارقة أنه مع توجه مجلس النواب نحو اليسار، توجهت مؤسسة الرئاسة في عهد تافت نحو اليمين. وسيأتي زخم الإصلاح التقدمي في واشنطن، على مدى أربع سنوات بداية من عام 1909، من الكونجرس وليس من البيت الأبيض.
كانت مؤهلات تافت وأداؤه كإداري عسكري وإمبريالي ما جعله محببا إلى قلب روزفلت، وهذا يرجع في الأغلب إلى أن قدرا كبيرا من نشاط روزفلت نفسه كرئيس للبلاد تركز في المجالات التي برع فيها تافت. لم تكن الشئون الخارجية وتعزيز القوة العسكرية وبناء الإمبراطورية مؤشرات فاصلة بعينها على تبني التقدمية؛ فبعض التقدميين كانوا نشطاء إمبرياليا (ثيودور روزفلت ووودرو ويلسون لاحقا)، وبعضهم كانوا متحفظين بدرجة أكبر (برايان على سبيل المثال) أو دعاة للسلام بصورة صريحة (كجين آدمز وغيرها). كان المؤشر الأوضح - رغم قصوره - على النشاط أو التحفظ هو الانتماء الحزبي، فمنذ عصر لينكولن ووزير خارجيته، ويليام إتش سيوارد، اضطلع الحزب الجمهوري بدور نشط على صعيد الشئون الخارجية والداخلية. تجلى ذلك النشاط بالتأكيد في تسعينيات القرن التاسع عشر حين ضم ماكينلي وأعضاء الحزب الجمهوري بالكونجرس هاواي (رفض جروفر كليفلاند فعل ذلك عام 1893)، وحين أعلنوا الحرب على إسبانيا وضموا الفلبين بعد ذلك. كان ماكينلي وروزفلت ووزراء الحرب بإدارتهما - إلهو روت وتافت - وأعضاء مجلس الشيوخ من أمثال هنري كابوت لودج (عضو الحزب الجمهوري عن ولاية ماساتشوستس) صديق روزفلت، وأيضا ألبرت بيفريدج (عضو الحزب الجمهوري عن ولاية إنديانا)؛ بناة نشطين للإمبراطورية الأمريكية. لم يكن ديمقراطيو العصر المذهب عازفين تماما عن التوسع الاستعماري والإمبراطورية، لكنهم في قضايا ضم الفلبين أو كوبا عام 1899-1900، اتخذوا موقف الحزب المخالف، وهكذا ظلوا في أغلب الأحيان خلال الحقبة التقدمية. كان هناك الكثير من الاستثناءات لدى الطرفين، لكن التوجه العام كان واضحا؛ الحزب الجمهوري مؤيد للإمبريالية، والحزب الديمقراطي مناهض للإمبريالية.
وفي ضوء كل من النتائج البعيدة المدى والأنماط الخاصة لعملية بناء الإمبراطورية الأمريكية التي نتجت عن فترة رئاسة روزفلت، يستحسن أن نلقي نظرة سريعة على هذه العملية وعلى ما ارتكزت عليه من افتراضات خاصة بالعرق، وتفوق العرق الأنجلوساكسوني، والنوع، والنزعة القومية. افترض النشاط الإمبريالي الأمريكي في أوائل القرن العشرين أن الأنجلوساكسونيين، الذين من بينهم الأمريكيون بالتأكيد، يتفوقون على غيرهم من الأعراق الأخرى. كما أنه عبر عن قوة أو رجولة واعية بذاتها، وهي شكل من أشكال المباهاة الأيديولوجية. كانت هذه رؤية روزفلت، التي أيده فيها الكثيرون.
يأتي روزفلت في مرتبة متقدمة في أي قائمة للرؤساء الإمبرياليين. وعلى الرغم من أنه لم يضف إلى المناطق التابعة للولايات المتحدة إضافة كبيرة باستثناء منطقة قناة بنما، فقد أحكم السيطرة على المناطق التي تم الاستيلاء عليها في الحرب الإسبانية الأمريكية الكوبية الفلبينية؛ جوام والفلبين في غرب المحيط الهادئ، وبورتوريكو في منطقة الكاريبي.
علاوة على ذلك، أشرف روزفلت على باكورة شكل جديد للإمبريالية الأمريكية، ألا وهو: فرض «الوصاية» على الجمهوريات الصغيرة في منطقة الكاريبي، بدءا من كوبا وانتهاء ببنما وجمهورية الدومينيكان (ثم نيكاراجوا وهايتي وهندوراس تحت حكم خليفتيه تافت وويلسون). ضم قرار الكونجرس الذي خول لماكينلي إرسال قوات أمريكية إلى كوبا عام 1898 بندا باسم «تعديل تيلر»، الذي نفى أي نوايا أمريكية لضم كوبا. ولكن في إجراء آخر قام به الكونجرس عام 1901، تمثل في «تعديل بلات»، أعطت الولايات المتحدة لنفسها حق الإشراف على العلاقات الخارجية والموارد المالية وحفظ النظام العام في كوبا. وعندما صدقت كوبا على دستورها كدولة مستقلة عام 1903، حرص المحتلون الأمريكيون على أن يكون نص تعديل بلات جزءا لا يتجزأ منه. وبناء عليه ظلت كوبا تحت «وصاية» الولايات المتحدة.
سرعان ما ستصل «الوصاية»، على غرار ما حدث في كوبا، للجمهوريات الأخرى، فلم يكن هناك حاجة إلى ضمها؛ إذ ستسيطر عليها أمريكا من خلال حكام مدنيين، أو البحرية الأمريكية عند «الضرورة». اعترفت القوى الأوروبية بمنطقة الكاريبي كمنطقة «ذات أهمية قصوى» للولايات المتحدة. أوضح مبدأ «القوة البوليسية» الذي ذكره روزفلت عام 1904 الأساس المنطقي لذلك؛ وهو أن «الممارسات الخاطئة المستمرة، أو الضعف» بررت التدخل الأمريكي، وبناء عليه ضمنت حماية المصالح الأمريكية في كوبا والجمهوريات الأخرى؛ الاستثمارات في السكك الحديدية وزراعة السكر والفاكهة والعقارات. وخضعت حرية السكان المحليين للهيمنة الأمريكية.
أشرف روزفلت كذلك، ونظم بالطبع، عملية إنشاء قناة بنما، فمنذ أربعينيات القرن التاسع عشر وأيام الحرب الأمريكية المكسيكية، حلم الأمريكيون الذين رغبوا في بناء إمبراطورية أمريكية بقناة تربط بين المحيطين الأطلنطي والهادئ، لكن تبين أن التمويل، والتصميم الهندسي والعلاقات الدبلوماسية بين الدول المتضمنة في ذلك مشكلات؛ شديدة الصعوبة. لكن في عام 1903 رأى روزفلت فرصة سانحة لتحقيق هذا الحلم. دعم روزفلت وحرض حركة بنمية تسعى للانفصال عن كولومبيا، وأرسل الأسطول الأمريكي للتأكد من نجاح المتمردين البنميين فيما يسعون إليه، ثم منح الولايات المتحدة منطقة عرضها عشرة أميال أنشئت في نطاقها قناة بنما. افتتحت القناة عام 1914 وأصبحت حجر زاوية في الاستراتيجية التجارية والبحرية الأمريكية على مدى جانب كبير من القرن العشرين؛ فكانت على القدر نفسه من أهمية قناة السويس بالنسبة للإمبراطورية البريطانية قبل استقلال الهند عام 1947.
أسس روزفلت ووزيرا الحرب في عهده، إلهو روت وويليام هاورد تافت، هيئة أركان حرب عامة للجيش وأنشئوا كذلك كلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي. وبدعم من الكونجرس أضافوا سفنا حربية وسفنا أخرى إلى الأسطول البحري، وفي عام 1907 أرسل روزفلت الأسطول الجديد، «الأسطول الأبيض العظيم»، حول العالم للتأكيد على مكانة الولايات المتحدة باعتبارها «قوة عظمى». شارك روزفلت في مؤتمرات للسلام لإنهاء الحرب الدامية بين روسيا واليابان عام 1905 ولتسوية أزمة أوروبية حول المغرب عام 1906. توصل عبر تافت وروت لاتفاقيات تخول لليابان توسيع سيطرتها في كوريا ونفوذها في منشوريا، نظير الاعتراف بالاستعمار الأمريكي للفلبين. في هذا الإطار، راقب روزفلت في قلق، وتلاه رضا، الإدارة المدنية للجزر من قبل تافت وآخرين، وتطلع أيضا، كما أخبر الكونجرس، إلى اليوم الذي يصبح فيه الفلبينيون جاهزين للحكم الذاتي، لكن ذلك اليوم كان في المستقبل المجهول.
لم ينتب روزفلت شعور باللوم تجاه معاملة الفلبينيين كرعايا مستعمرين كما هو الحال فيما يتعلق بسيطرته على جمهوريات منطقة الكاريبي؛ فمن وجهة نظره، أن تفوق العرق الأنجلوساكسوني موثق بحكم العرف ويؤيده أفضل علوم العصر. لطالما رفضت «العنصرية العلمية»، كما أطلق عليها منذ ذلك الحين، باعتبارها غير علمية على الإطلاق؛ واعتبرت عنصرية محضة، وبدا أنها تبرر الاستعمار بالخارج كما تبرر قوانين جيم كرو العنصرية بالداخل. قبل روزفلت أيضا التمييز العنصري بين مجموعات المهاجرين، وأسس لجنة يرأسها السيناتور ويليام بي ديلنجهام (عضو الحزب الجمهوري عن ولاية فيرمونت) عام 1907، واتفق مع رأيها بأن «المهاجرين القدامى» من بريطانيا وأيرلندا وألمانيا واسكندنافيا يلائمون على نحو أفضل كثيرا الأسلوب الأمريكي في الديمقراطية من «المهاجرين الجدد» من دول أوروبا الجنوبية والشرقية الذين شكلوا أغلبية الوافدين في ذلك الوقت. خلصت لجنة ديلنجهام إلى ضرورة فرض قيد ما، وتمثلت توصيته الأساسية للجنة في عمل اختبارات خاصة بالقراءة والكتابة للمهاجرين، مع استثناء أولئك الذين لا يستطيعون الكتابة أو القراءة بأي لغة، ووافق روزفلت على ذلك.
وفيما يتعلق بموقف روزفلت من الأمريكيين من أصول أفريقية، فقد كانت سيرته متباينة. عين روزفلت (أو حاول تعيين) بعض السود في مناصب قضائية، وسعى إلى إنهاء عمالة السخرة للسود في الجنوب، واستضاف بوكر تي واشنطن على الغداء بالبيت الأبيض (الأمر الذي أثار ضده موجة شديدة من الاستنكار في الجنوب)، لكنه في الوقت نفسه فصل كتيبة عسكرية من السود وعاقبها دون استقصاء كاف للأدلة، بعد أن وجهت إليها اتهامات باطلة بالخروج عن السيطرة وبث الرعب بإطلاق الرصاص عشوائيا بمدينة براونزفيل، بولاية تكساس عام 1906. بعد عدة سنوات تمت تبرئة كل أفراد الكتيبة؛ واتضح أن روزفلت تسرع في توجيه الاتهام وإصدار الحكم. وبنحو عام، بالرغم من أنه لم يكن قط مؤيدا مطلقا للتفرقة العنصرية مثل خليفته وودرو ويلسون، فقد أيد العنصرية الأنجلوساكسونية التي كانت إحدى السمات غير المحببة في الحركة التقدمية.
ثمة سمة أخرى غير محببة وهي التدخل ذو النزعة الأخلاقية في سلوكيات الناس؛ حظر المشروبات الكحولية، وتنظيم الأخلاقيات الجنسية، والرقابة، وقوانين الزواج والطلاق المقيدة، وإجراءات تحسين النسل التي تضمنت عمليات التعقيم الإجباري للمعاقين ذهنيا. مما لا شك فيه أن روزفلت كان زعيما للإمبريالية الأمريكية. انطوت الحركة التقدمية - سواء على خطا روزفلت أو غيره - على جانب كبير من التسلط الأخلاقي في كثير من الأحيان.
أقنعت إدارة ثيودور روزفلت للحكم والمنعطف الحاد الذي سلكته بعيدا عن أسلافه المباشرين الكثير من المؤرخين بتحديد تاريخ بداية الحقبة التقدمية من سبتمبر عام 1901، حين خلف روزفلت ماكينلي في الحكم. وهذا أمر ملائم وليس خطأ تماما؛ فقد كانت فترة تولي روزفلت لمقاليد الحكم مهمة. وبالرغم من صعوبة تقبل نزعته العنصرية أو إيمانه بتفوق العرق الأنجلوساكسوني على غيره أو إمبرياليته المشربة بالروح العسكرية، فقد حفز تضافر الكثير من خيوط الإصلاح المتعثرة والمتصارعة. وقد كان روزفلت سببا للتآزر، وبحلول الوقت الذي ترك فيه كرسي الرئاسة، اضطر حتى المحافظون المتشددون إلى إفساح المجال أمام التغيير.
إلا أنه في واقع الأمر، حدث الكثير من الإصلاحات بمعزل تام عن تأثير روزفلت، وبعضها وقع قبل مجيئه؛ فقد اجتاح القطاع الخاص - لا سيما النساء حتى مع عدم امتلاكهن حق الانتخاب فيما عدا بضع ولايات غربية - موجة من النشاط الإصلاحي منذ عام 1889 على الأقل، حين أسست جين آدمز وإيلين جيتس ستار مركز التكافل الاجتماعي هال-هاوس في شيكاجو. كان حقل نشاطهما ونجاحهما هو تحقيق التقدم في مجال العدالة الاجتماعية. أسفرت تسعينيات القرن التاسع عشر، التي هيمنت عليها الإضرابات والكساد، عن موجات إصلاحية، لم تقتصر على حزب الشعب وبرنامج أوماها الشامل خاصته الذي ظهر في عام 1892. وفي وقت مبكر منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، انضم الكثير من النساء المنتميات إلى الطبقة الوسطى في المدن من مختلف أنحاء البلاد إلى نواد نسائية وطالبن المسئولين الرجال بالمدن بإشراكهن في إدارة الشئون المحلية، وطالبن بشوارع أنظف ومياه أنقى وأعمال نظافة أفضل وشبكات للصرف الصحي. كانت إلين سوالو ريتشاردز - أول فتاة تتخرج في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - رائدة في مجال معالجة المياه بالكلور منذ أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. لم تتول ماري ماكدويل إدارة مركز التكافل الاجتماعي التابع لجامعة شيكاجو في منطقة حظائر الماشية بشيكاجو فحسب، بل جاهدت أيضا في سبيل تنظيف مستودعات القمامة والمجازر، ووقفت للدفاع عن العاملات في مصانع تعبئة اللحوم عندما دخلن في إضراب ضد المديرين الذين خفضوا أجورهن، ولعبت دورا كبيرا في مساعدة أولئك النساء على تكوين نقابة عمالية وتمكين أنفسهن. قادت امرأة أخرى، وهي كيت جوردن بمدينة نيو أورليانز، حملة للموافقة على إصدار سندات حكومية عام 1899 لتحمل تكاليف توفير مياه نقية ونظام صرف صحي للمدينة. وبفضل استعانة الناشطات المصلحات بما سماه أحد المؤرخين «المنهج التقدمي الثلاثي الشعب: الاستقصاء والتثقيف والإقناع»، استطعن جعل الكثير من المدن والأحياء أنظف وأكثر ملاءمة وجاذبية. توسعت التغييرات اللاتي شرعن فيها في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر من حيث النطاق والمساحة بعد عام 1900. وانحسرت الأمراض المعدية بعد معرفة أسبابها ونشرها، ومع ازدياد ضم المجالس الطبية وإدارات النظافة العامة لأشخاص مدربين بصورة علمية، أقنع هؤلاء المتخصصون - ذكورا وإناثا - الناس بحقيقة نظرية جرثومية المرض، على الرغم من معارضة الأطباء لها في البداية.
كان تطوير التعليم، من حيث المحتوى والإتاحة على حد سواء، محل تركيز رئيسيا للتقدميين. في عام 1900، كان ما يقرب من نصف تعداد الأطفال بالبلاد الذين تتراوح أعمارهم بين خمس سنوات وتسع عشرة سنة ملتحقين بالمدارس؛ وبحلول عام 1920، زادت النسبة إلى الثلثين تقريبا. وتضاعف عدد خريجي المدارس الثانوية إبان تسعينيات القرن التاسع عشر من 44 ألفا إلى 95 ألفا، وتضاعف ثلاث مرات ليصل إلى 311 ألف خريج عام 1920. تراجعت الأمية إلى النصف؛ فانخفضت مما يربو على 13 في المائة من تعداد السكان الذين تبلغ أعمارهم عشر سنوات فما فوق في عام 1890 إلى 6 في المائة في عام 1920. انتشرت الحضانات - التي كانت قليلة للغاية قبل عام 1900 - في وقت مبكر من القرن العشرين، وتأسس ما يقرب من نصف مليون حضانة بحلول عام 1920. وعلى الطرف الآخر من السلم التعليمي، توسعت الكليات والجامعات والكليات المهنية في الحجم وفيما تتضمنه مناهجها، مع ازدياد الحاجة إلى أفراد يتمتعون بدرجة أعلى من التدريب والتعليم، وذلك مع تحول المجتمع الأمريكي يوما بعد يوم إلى مزيد من المدنية والاعتماد على التكنولوجيا، في قطاعات بعينها على الأقل. ويرجع تاريخ تأسيس جامعات وكليات «الزراعة والميكانيكا» مثل جامعة كانساس ستيت أو جامعة كاليفورنيا بمدينة ديفيز إلى قانون موريل لمنح الأراضي للكليات والجامعات عام 1862، لكن بعد عام 1900 أخذت تلك الهيئات التعليمية تدرس «الزراعة العلمية» للتشجيع على الحفاظ على البيئة جنبا إلى جنب مع تحقيق الأرباح. خضع التعليم الطبي، الذي اتسم بالفوضوية في السابق، إلى إصلاح عام بعد عام 1910، وذلك عندما أصدر أبراهام فليكسنر تقريرا كان بمثابة علامة فارقة دعا فيه إلى معايير وعمليات ترخيص منهجية. أيضا كان التعليم القانوني يتغير؛ بدأت الممارسة التقليدية الخاصة بقراءة كتب القانون والعمل تحت التمرين لدى محام ذائع الصيت في التغير إلى دراسة رسمية بكليات الحقوق.
شكل 3-3: «الصديقتان الوفيتان للفقراء.» صورة التقطت في عام 1914 تجمع بين جين آدمز (على اليسار)، التي شاركت في تأسيس مركز هال-هاوس للتكافل الاجتماعي، وماري ماكدويل (على اليمين)، رئيسة مركز التكافل الاجتماعي التابع لجامعة شيكاجو، وتعدان من رواد العمل الاجتماعي.
لم يكن التغير سريعا على الدوام، لكنه حدث، وحدث على الأرجح على نحو ابتكاري في مجال الدراسات العليا أكثر من أي مجال آخر. تأسست أول جامعة بحثية حقيقية، جامعة جونز هوبكنز، عام 1876، تبعتها جامعة شيكاجو عام 1890 وستانفورد عام 1891، في حين أن المؤسسات الجامعية المرموقة، على غرار هارفرد ويال وميشيجان وويسكونسن وجامعة كاليفورنيا ببيركلي، أعادت تنظيم نفسها بحيث تتضمن أقساما للدراسات العليا وبرامج لرسائل الدكتوراه. ونتيجة لذلك، بدأت العلوم الاجتماعية المهنية (علم الاجتماع والاقتصاد السياسي والتاريخ والاقتصاد والإحصاء) في الظهور في ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته. وقد وفرت تلك الجامعات مجموعة من الخبراء بعد عام 1900، لعبوا دورا حيويا في الإصلاحات والهيئات التنظيمية على كافة المستويات الحكومية وفي القطاع الخاص.
أنشئت أقسام العلوم الاجتماعية الجديدة بالجامعات البحثية وفقا للنموذج الألماني بصفة عامة، وكثير من الأساتذة الرواد بتلك الأقسام حصلوا على تعليمهم في ألمانيا. من بين هؤلاء كان ريتشارد تي إيلي، الذي حصل على درجة الدكتوراه من جامعة هايدلبرج، وعمل في البداية بجامعة جونز هوبكنز ثم بجامعة ويسكونسن. علم ريتشارد إيلي العديد من قادة الجيل التالي من علماء الاقتصاد، وبخاصة جون آر كومنز، المحلل الرائد لاقتصاديات العمل في عصره. كان من بين علماء الاجتماع الجدد عالم الاجتماع ليستر فرانك وارد، وأستاذ علم النفس التربوي جي ستانلي هول، والمؤرخ تشارلز إيه بيرد. جمعت بين هؤلاء عدة رؤى مشتركة، جميعها تهدم عقائد عدم التدخل العقلانية الجامدة، المنتشرة بصورة شائعة للغاية والمقاومة للتغيير بشدة. آمنوا على نحو رئيسي بأن السياسات والنظم الاقتصادية ينبغي ولا بد لها أن تتغير مع مرور الوقت. لم ينظروا إلى المجتمع على أنه مجموعات من الأفراد المنعزلين، بل كيانات؛ فالأفراد والنظم الاقتصادية والجماعات الاجتماعية لا تعيش بمعزل بعضها عن بعض؛ ومن ثم، ينبغي أن تقوم السياسات على الأدلة التجريبية، التي يقيمها ويفرزها الخبراء في علم الاجتماع والاقتصاد السياسي والعلوم ذات الصلة، الذين سيبتكرون بناء عليها برامج وسياسات تنفذها الحكومة من أجل صالح الكيان الاجتماعي. كان للأدلة أهمية جوهرية، فتحمسوا لجمعها. أنشأت حكومات الولايات والحكومات المحلية العديد من الهيئات على هذا المنوال، من بين الأمثلة على المستوى الفيدرالي مكتب الشركات (1903)، ولجنة ديلنجهام للهجرة (1907)، ومكتب الطفولة (1912)، الذي حث التقدميون من النساء الرئيس تافت على دعمه. في المجمل، ساهموا في تأسيس قاعدة للتغيير السياسي والاجتماعي حظيت بالاحترام على المستوى الفكري، بالرغم من أن الهيئات ستصبح بيروقراطية ومتزمتة، ولكن جسدوا الروح التقدمية، ومنذ منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، وبأعداد وقوة متزايدة، طرح علماء الاجتماع الأكاديميون أفكارا وبرامج للإصلاح الحكومي والاجتماعي.
من بين أسباب نجاح بعض علماء الاجتماع الجدد في الترويج لإحداث تغييرات اجتماعية جذرية - وبعضهم (مثل إيلي) أثار غضب مجالس الأمناء المحافظة التي كادت تفصلهم من العمل - أنهم صاغوا أفكارهم ورؤاهم بلغة دينية. كانت «الاشتراكية» حينئذ، كما هي الآن، كلمة ممقوتة في الحديث الأمريكي، ومع أن قلة قليلة على غرار القس الأسقفي ويليام دي بي بليس أيدوا لقب «الاشتراكي المسيحي»، فقد حبذ معظم الأكاديميين ألا يصنفوا كاشتراكيين بل كعلماء اجتماع، رغم كونهم مسيحيين. وبهذا، أصبحوا جزءا من حركة متنامية في العديد من الطوائف البروتستانتية تدعى الإنجيل الاجتماعي. بدأ الشعور بأن الرأسمالية غير الخاضعة للقوانين التنظيمية والتي تميل للاحتكار؛ تسبب الضرر ليس فقط من الناحية الاجتماعية وإنما أيضا هي غير منصفة ومناهضة لتعاليم الدين المسيحي في الازدياد في ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته، لا سيما بين القساوسة البروتستانت الذين كانوا يعتلون المنابر الدينية في المدن الكبيرة ويعملون بصفة يومية وسط الأحياء العشوائية والفقراء. بدأ بعضهم في تحويل أبرشياتهم إلى «كنائس مؤسسية»، تدأب على توفير الطعام والمأوى والخدمات المختلفة للفقراء والمشردين بالأحياء التابعة لها. كانت الفكرة الرئيسية لحركة الإنجيل الاجتماعي - التي ظهرت على نطاق الطوائف البروتستانتية الرئيسية بدءا من الأسقفية إلى المعمدانية - أن جانبا كبيرا من الحياة الحضرية والصناعية فاسد على نحو آثم، ولا بد من تغييره. اقتضت التعاليم المسيحية، لدى فهمها كما ينبغي، ذلك. لم يعد الذنب فرديا بل اجتماعيا. لم يكن السكر والبغاء هما التعديين الأخلاقيين الوحيدين، بل انضم إليهما أيضا ظروف العمل غير الإنسانية، والفقر وسوء توزيع الثروة، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية.
كان أفضل عالم لاهوت بين صفوف قادة حركة الإنجيل الاجتماعي هو القس المعمداني والتر راوشنبوش، الذي عمل مع الفقراء بمدينة نيويورك بحي هيلز كيتشن، وهو أحد الأحياء التي تقع بوسط الجانب الغربي. وفي كتابه «المسيحية والأزمة الاجتماعية» (1908)، أدان مستويات الأجور المتدنية وعدم العدالة الاقتصادية، وسيطرة الشركات على حكومات المدن، والتجارة العصرية باعتبارها «لعبة تشبه المصارعة في روما القديمة، لا تعرف الرحمة.» وكتب ملخصا الأمر:
التوبة عن خطايانا الاجتماعية الجماعية، والإيمان بإمكانية وحقيقة الحياة الروحية بين الجنس البشري، وتطويع الإرادة لخدمة أغراض مملكة الرب، والسماح بالوحي الإلهي بتحرير البصيرة الأخلاقية وتوضيحها، تلك هي الواجبات الأكثر جوهرية لرجل الدين الذي سيسهم في بناء العصر المسيحي القادم للبشرية.
بعبارة أخرى، ينبغي أن يكرس المسيحيون جهودهم لتأسيس مملكة الرب على الأرض، وسيكون من الخطأ «تأجيل الانبعاث الاجتماعي إلى عصر مستقبلي يتدشن بعودة المسيح.» لا تنتظروا حلول الألفية القادمة، افعلوا شيئا الآن.
انتشرت حركة الإنجيل الاجتماعي على نهج راوشنبوش وغيره من القساوسة اللاهوتيين الفصيحي اللسان بين الطوائف البروتستانتية الرئيسية على نطاق واسع. وعندما تأسس المجلس الفيدرالي للكنائس (تغير اسمه إلى المجلس الوطني للكنائس فيما بعد) عام 1910، غلبت عليه روح حركة الإنجيل الاجتماعي؛ ومن ثم الروح التقدمية. كانت حركة الإنجيل الاجتماعي شهيرة للغاية حتى إنها أضفت على الحركة التقدمية نفسها صبغة بروتستانتية، وبذلت جهودا كبيرة في سبيل الترويج للإصلاح بين البروتستانت، وخاصة أولئك المنتمين إلى الطبقة الوسطى العليا. كان اليهود والكاثوليك في الولايات المتحدة على الأرجح إما مهاجرين وإما من المنتمين إلى الطبقة العاملة، لكن بعضهم ضارع دعاة حركة الإنجيل الاجتماعي. من بين هؤلاء الحاخام إيميل جي هيرش من شيكاجو، المنتمي إلى الحركة الإصلاحية اليهودية، والذي دعا للحاجة إلى التغيير الاجتماعي وحث جوليوس روزنفالد - مالك شركة سيرز آند روباك الذي كان يحضر مواعظ هيرش بمعبد سيناء - على أن يصير من رواد مجال العمل الخيري. وأيضا جون إيه راين، وهو قس نشأ في مزرعة بمينيسوتا لأبوين من المهاجرين الأيرلنديين، كان من رواد الإصلاح الاجتماعي الكاثوليكي من خلال كتبه «أجر الكفاف» (1906)، و«العدالة التوزيعية: الصواب والخطأ في توزيع الثروة بعصرنا» (1916)، و«برنامج الأساقفة لإعادة البناء الاجتماعي» (1919)، الذي يعد وثيقة العدالة الاجتماعية الرسمية للكنيسة الكاثوليكية الأمريكية. عكست حياة راين مسيرته الإصلاحية المستمرة؛ ففي شبابه كان شعبويا، وفي منتصف حياته صار تقدميا، وفي أواخر سنوات عمره أصبح مؤيدا صريحا لبرنامج «الصفقة الجديدة» لفرانكلين روزفلت.
من ناحية أخرى، لم يكن جميع البروتستانت مؤيدين لحركة الإنجيل الاجتماعي. في عام 1910، وهو العام نفسه الذي شهد تأسيس المجلس الفيدرالي للكنائس، ظهر البيان الرسمي للبروتستانت المحافظين الذي عرف باسم «الأصول». تألف البيان من عدة أجزاء تؤكد الولادة العذرية للمسيح، والقيامة الجسدية للمسيح، وبصفة عامة أكثر، فكرة أن الإثم فردي وليس اجتماعيا. وإذا كان أتباع حركة الإنجيل الاجتماعي أقلية بين الطوائف البروتستانتية، فقد كان الأصوليون أقلية أصغر في البداية، ولكن في العقود التالية استطاعت الحركة الأصولية، وليس حركة الإنجيل الاجتماعي، اكتساب دعم ونفوذ سياسي أكبر. وفي أوائل القرن العشرين، تذبذب التوازن بين الإثم كمسئولية فردية والإثم كمسئولية اجتماعية على نحو غريب؛ بحيث إن كلا الدربين اللاهوتيين أسهما في دعم التشريعات المنظمة لسلوكيات الناس، التي من أبرزها حظر الكحوليات والمخدرات. شكلت حركة الإنجيل الاجتماعي زخما كبيرا أسهم في تطور الحركة التقدمية، لكنها كانت تعكس أيضا، بنحو مختلف، المسيحية الفردية والتقليدية.
ضاهت حركة مراكز التكافل الاجتماعي حركة الإنجيل الاجتماعي لكن على مستوى علماني بصورة أساسية. كانت تقام تلك المنشآت في الأحياء الحضرية الأكثر فقرا، وهي في الغالب وبنحو رئيسي الأحياء الخاصة بالمهاجرين، وكان من أوليات تلك المنشآت وأذيعها صيتا هال-هاوس في منطقة الجانب الغربي بشيكاجو، وأسستها جين آدمز وإيلين جيتس ستار عام 1889. وكان مركزا التكافل الاجتماعي هنري ستريت - الموجود بالجانب الشرقي الأدنى بنيويورك، والذي أسسته ليليان فالد عام 1893 - وبراونسن هاوس، الذي أسسته ماري جوليا ووركمان بلوس أنجلوس (1901)، من النماذج الهامة الأخرى. لم يسهم مركز التكافل الاجتماعي التابع لجامعة شيكاجو الذي أسسته ماري ماكدويل في منطقة حظائر الماشية في تحسين الأوضاع المعيشية للأيرلنديين والبولنديين والليتوانيين وغيرهم من المهاجرين هناك فحسب، لكنه ساعدهم أيضا في إنشاء نقابات محلية. درس مركز هال-هاوس وغيره من مراكز التكافل الاجتماعي للمهاجرين مجموعة واسعة من المواد بدءا من اللغة الإنجليزية إلى تجليد الكتب، ووفرت خدمة رعاية الأطفال للأمهات العاملات وأماكن لانعقاد اجتماعات النقابات ومنظمات الأحياء، ونشرت تقارير عن أوضاع السكن والعمالة، وناضلت من أجل إصدار قوانين تقدمية على مستوى المدن والولايات والمستوى الفيدرالي في النهاية. تأسست تلك المراكز في الغالب الأعم وأديرت من قبل نساء، بعضهن استطاع تحطيم الحواجز التعليمية. على الجانب الآخر، اضطلع الرجال - في الغالب رجال أعمال ومهنيون يتمتعون بوعي اجتماعي - بأدوار نشطة أيضا. أيد الكثير منهم بحماسة منح النساء حق الانتخاب والقوانين الهادفة إلى إنهاء استغلال النساء والأطفال في العمل بالمصانع.
اكتسب أتباع حركتي الإنجيل الاجتماعي ومراكز التكافل الاجتماعي قوة متزايدة شيئا فشيئا خلال تسعينيات القرن التاسع عشر وإبان عهد روزفلت، على الرغم من أن روزفلت لم يسهم بالكثير في دعم الحركتين. كذلك لم ترق له الصحافة الاستقصائية كثيرا، والتي ظهرت بداية من عام 1902. كما أتاحت تقنيات مثل ماكينات الطباعة التنضيدية (1884) وماكينات الطباعة الدوارة العالية السرعة إصدار صحف زهيدة الثمن وواسعة التداول ومجلات أيضا. دعمت المجلات الدورية ونشرت استقصاءات مثل استقصاء إيدا تاربيل عن مكائد شركة ستاندرد أويل (مجلة «ماكلورز»، 1902)، واستقصاء لينكولن ستيفنز عن التواطؤ بين الشركات وحكومات المدن في قضايا فساد بعنوان «عار المدن» (مجلة «ماكلورز»، 1903-1904) وأيضا استقصاء دافيد جراهام فيليبس الذي فضح فيه السيناتور نيلسون ألدريتش بعنوان «خيانة مجلس الشيوخ» (مجلة «كوزموبوليتان»، 1906). وقد كانت الكتب أيضا وسيلة مهمة للتوجه الإصلاحي القائم على كشف الفضائح. ظهر في البداية كتاب لويد «الثروة مقابل الكومنولث» الذي أدان فيه الممارسات الاحتكارية لشركة ستاندرد أويل (1894)، ثم الروايتان اللتان انتشرتا على نطاق واسع: «الغابة» (1906) لأبتون سينكلير، التي تناولت الأوضاع القذرة والخطيرة في حظائر الماشية بشيكاجو، و«الأخطبوط» (1901) لفرانك نوريس التي تحدث فيها عن فساد ممارسة السلطة من جانب شركة ساذرن باسيفيك ريلرود. تملك روزفلت الغضب في وقت من الأوقات حيال موجات القلق التي يتسبب فيها هؤلاء الصحفيون، فأطلق عليهم «المنظفين»، على غرار الرجل الذي ورد ذكره في كتاب جون بنيان «رحلة الحاج» وكان دائما ينظف الروث. ارتبط ذلك اللقب بهم، حتى مع ترحيب روزفلت وقطاع كبير من الناس بكثير من الوقائع الخطيرة التي كشفوا فيها الحقائق بموضوعية وشجاعة.
أسهمت جميع هذه التحركات من جانب الكنائس ومراكز التكافل الاجتماعي والصحافة والعمل الاجتماعي في نمو الروح الساعية للإصلاح وزيادة الضغط من أجل إحداثه، وقلما اتسمت بالتطرف. لم يرض المحافظون عن تلك التحركات، لكنها حفزت الطبقات الوسطى في الحضر والريف على حد سواء، فقد أثبتت أن التغيير يمكن أن يأتي دون إسقاط النظام السياسي والاقتصادي، عن طريق الإصلاح وليس الثورة، فيمكن كبح جماح الشركات، ومعالجة الفقر وعدم العدالة في توزيع الثروة دون السقوط في هاوية الاشتراكية.
شرعت حكومات الولايات والحكومات المحلية في اتخاذ إجراءات إصلاحية في تسعينيات القرن التاسع عشر ووسعت من جهودها بعد عام 1900. وكثيرا ما أطلق المؤرخون عليها مختبرات الإصلاح؛ وذلك لأنه كلما حققت الجهود المحلية وفي نطاق الولايات نجاحا أكبر، أصبحت نماذج تتأسى بها القوانين على المستوى الفيدرالي في العقد الأول من القرن العشرين. سنعرض لبضعة أمثلة، من بين أمثلة عديدة من مختلف أنحاء البلاد، لتوضيح هذا الأمر.
كانت ولاية ويسكونسن من أوليات الولايات الرائدة في الإصلاح، خاصة عندما كان روبرت إم لافوليت حاكما لها. أطلق على برامجه إجمالا «سياسة ويسكونسن»، وقد قام جزء كبير منها على الاستقصاءات الاقتصادية والاجتماعية التي أجراها ريتشارد إيلي، وتلميذه وخليفته جون آر كومنز، وغيرهما بجامعة الولاية بماديسون. انتخب لافوليت ممثلا عن الحزب الجمهوري لمجلس النواب الأمريكي ثلاث مرات (1885-1891)، وثلاث مرات حاكما لولاية ويسكونسن (1901-1906)، وأربع مرات عضوا بمجلس الشيوخ (1906-1925). حظي لافوليت بمؤازرة زوجته بيل الدائمة ونصحها الحكيم، وقد كانت أول امرأة تحصل على شهادة في القانون من جامعة ويسكونسن وكانت صحفية ومصلحة عن جدارة. استطاع لافوليت وزوجته معا وضع وتأييد وتطبيق قوانين وسياسات بهدف تحسين أحوال العمال والمزارعين، والأمريكيين السود والمهاجرين، كما دعما حصول المرأة على حق الانتخاب، وبصفتهما داعيين للسلام، عارضا دخول أمريكا الحرب العالمية الأولى. بدأ لافوليت الذي عرف عنه فصاحة اللسان والشراسة ولقب ب «بوب المناضل» مسيرته السياسية كعضو تقليدي بالحزب الجمهوري، لكنه انفصل عن الحرس القديم بالحزب في تسعينيات القرن التاسع عشر، وأضحى مصلحا حقيقيا عندما تولى منصب الحاكم بولاية ويسكونسن. وبعد عقود كرمه مجلس الشيوخ الأمريكي معتبرا إياه واحدا من بين أبرز خمسة أعضاء في تاريخ المجلس.
شن لافوليت في تسعينيات القرن التاسع عشر حملة ضد نفوذ الشركات داخل حزبه، ومن أجل سن قوانين تنظيمية أقوى على شركات السكك الحديدية، ومن أجل تمتع «الشعب» بسيطرة أكبر على الحكومة. تضمنت «سياسة ويسكونسن»، التي كانت السمة المميزة لسنوات تولي لافوليت منصب الحاكم، قائمة طويلة من الإصلاحات: لجانا خاصة بتنظيم السكك الحديدية، والخدمة المدنية، والنظام الضريبي، وإدارة الغابات، ووسائل النقل، واستخدام الانتخابات الأولية المباشرة بدلا من المؤتمرات الحزبية لاختيار المرشحين للمناصب العامة ، ومدارس حكومية أكثر مركزية في المناطق الريفية، وإنهاء تبرعات الشركات في الحملات السياسية. لم تتحول بالطبع كل هذه الإصلاحات إلى قوانين، لكن سواء تحولت لقوانين أم لا؛ فقد أضحت نداءات معتادة بالمظاهرات، واكتسبت دعما كبيرا من خطابات لافوليت العامة وتأييده لها. ناصر لافوليت حق النساء في الانتخاب والانتخابات المباشرة لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بالتصويت الشعبي بدلا من الهيئات التشريعية للولايات (من المفارقة مع ذلك أنه كان آخر من انتخب على هذا النحو في ولاية ويسكونسن عام 1905)، وهما الإجراءان اللذان أدخلا فيما بعد كتعديلات تقدمية بالدستور الأمريكي، وبعد أن وصل إلى واشنطن كعضو بمجلس الشيوخ، مرر أتباعه أول قانون لتعويضات العمال في ولاية أمريكية. وأضحت سياسة ويسكونسن نموذجا يقتدي به الإصلاحيون في الولايات الأخرى؛ في إجراءاته الخاصة واعتماده على الخبراء الأكاديميين والباحثين عن الحقائق لبناء المقترحات على أساس واقعي راسخ.
شكل 3-4: السيناتور روبرت إم لافوليت (واقفا)، برفقة زوجته، بيل كيس لافوليت، وأطفالهما: بوب الابن، وفيل، وماري؛ ودكتور فيليب فوكس لافوليت، بمزرعة مابل بلف بالقرب من مدينة ماديسون، بولاية ويسكونسن، عام 1909.
وفي كانساس، وهي ولاية أخرى قادت الإصلاح التقدمي، دعم الحاكم إدوارد دبليو هوك عام 1905 مشروع قانون للانتخابات الأولية المباشرة يحاكي كثيرا النموذج الخاص بولاية ويسكونسن، يتضمن الانتخاب المباشر لمرشحي مجلس الشيوخ. كذلك أيد هوك إجراء إصلاحات أكبر بالخدمة المدنية، ومحاكم الأحداث، وإصدار قانون للغذاء النقي، وغير ذلك الكثير من الإجراءات التي تعكس حكومة أكثر فاعلية بالولاية. كذلك مررت ولاية كانساس قانونا شاملا لعمالة الأطفال عام 1905. كان هوك، شأنه شأن لافوليت، جمهوريا، لكنه كان منتميا إلى الجناح التقدمي أو المتمرد الآخذ في الازدياد، وأيد (مثل روزفلت) تخفيض التعريفات الجمركية والتطبيق الأشد صرامة لقوانين مكافحة الاحتكار. بعض من قادة الجناح الجمهوري المتمرد بولاية كانساس كانوا من أشد المعارضين للشعبويين إبان تسعينيات القرن التاسع عشر، ومن بينهم جوزيف بريستو الذي عمل محررا بمدينة سالينا، ثم أصبح عضوا بمجلس الشيوخ عام 1909، والمحرر الشهير بمدينة إمبوريا ويليام ألين وايت. أصبح الإصلاح يحظى بالاحترام بين أبناء كانساس هؤلاء المنتمين إلى الطبقة الوسطى، ولم يعودوا ينظرون إليه كتبرم المتذمرين والفلاحين فقط. ربما كان ذلك بحلول عام 1905؛ نظرا لأنه لم يكن لجمهوري أن يدعم الإجراءات الإصلاحية عام 1895. لا شك أن بروز روزفلت أسهم في هذا التحول، وكذلك أيضا السخط المتزايد نتيجة لنفوذ الشركات (لا سيما شركات السكك الحديدية).
وفي ولاية أوكلاهوما المجاورة، وقبيل تحولها إلى ولاية عام 1907، قادت معلمة وكاتبة صحفية تبلغ من العمر واحدا وثلاثين عاما تدعى كيت برنارد حملات لتنظيم عمال مدينة أوكلاهوما سيتي والعاطلين عن العمل بها داخل نقابة محلية تابعة للاتحاد الأمريكي للعمل. كذلك كتبت أبوابا مهمة في الدستور الأول للولاية. وفي عام 1906 قادت بنجاح تحالفا للمزارعين والعمال أدرج فقرات تحظر عمالة الأطفال وتلزم بالالتحاق بالمدارس بالدستور الجديد للولاية، وهو الأمر الذي اعتبرته إسهامها الرئيسي (وإن لم يكن الوحيد). كما أسس الدستور أيضا منصبا بالانتخاب يدعى مفوض الأعمال الخيرية والإصلاحات. ترشحت برنارد لذلك المنصب عن الحزب الديمقراطي عام 1907، وفازت به؛ ومن ثم أصبحت أول امرأة في منصب رسمي منتخب على مستوى الولاية في البلاد. كذلك دعمت إصلاح السجون والقوانين التي تحظر إدراج العمال الذين أضربوا عن العمل في قوائم سوداء. كتبت صحيفة معاصرة أن مكانة برنارد «في ولاية أوكلاهوما الجديدة تضاهي مكانة جين آدمز في شيكاجو؛ فهي مواطنتها الأولى.»
شكل 3-5: كيت برنارد المصلحة الشابة التي كانت السبب وراء أجزاء كبيرة من الدستور الأول لولاية أوكلاهوما (1907) وقوانين العدالة الاجتماعية الأولى بها.
وفي دنفر، تزعم قاض بمحكمة محلية يدعى بنجامين بي لينزي، يبلغ من العمر واحدا وثلاثين عاما أيضا، إنشاء محكمة للأحداث عام 1901، تفصل المتهمين الذين تقل أعمارهم عن ستة عشر عاما عن محاكمات البالغين وحبسهم. لم تكن تلك المحكمة هي الأولى في البلاد - أنشأت شيكاجو محكمة للأحداث عام 1899 - ولكن بعد تعيين لينزي قاضيا لتلك المحكمة، أضحت الأذيع صيتا ونموذجا لمحاكم أخرى عديدة. هاجم لينزي، شأنه شأن برنارد، عمالة الأطفال وروج لمحاكم الأحداث من خلال المنشورات والكتب والمحاضرات. ومن واقع خبرته، فإن المذنبين الصغار لا يتحملون المسئولية الكاملة على أفعالهم، كما يمكن إعادة تأهيلهم. كانت حجته مقنعة، وانتشرت محاكم الأحداث عبر ربوع البلاد.
أما الجنوب فقد طور نمطه الخاص من الإصلاح التقدمي. لم يشيد الجنوب قط المدن والمصانع بالحجم نفسه الذي شيدت به في منطقتي الشمال الشرقي والغرب الأوسط في العقود التي تلت الحرب الأهلية، بل ظل ريفيا وزراعيا إلى حد كبير. أثار ظهور حزب الشعب في تسعينيات القرن التاسع عشر كتحالف بين المزارعين السود الفقراء والبيض الفقراء فزع قادة الحزب الديمقراطي المستحكم النفوذ عبر أرجاء الجنوب، فأجازوا قيود جيم كرو على التصويت من تكساس إلى فيرجينيا بين أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر وعام 1905، وبذلك حرم السود والبيض الفقراء من حقهم في التصويت، وحرمت النساء السود من التصويت أيضا، لكنهن تعاون أينما تسنى لهن مع النساء البيض للحصول على حق التصويت لجميع النساء.
دافع السياسيون الناجحون بالتأكيد عن المصالح الزراعية - الخاصة بالبيض - لكن الديمقراطيين الجنوبيين كانوا ألد الأعداء للشعبويين، على غرار الجمهوريين في كانساس. وشرعوا - على غرار الجمهوريين بكانساس أيضا - في تبني بعض مقترحات الشعبويين. دعم جيمس كيه فاردامان بولاية ميسيسيبي، أثناء توليه منصب الحاكم من 1904 إلى 1908: حظر المشروبات الكحولية، ورفع الضرائب على شركات السكك الحديدية وغيرها من الشركات، وسعى وراء إصلاح التعليم والسجون، وعندما أصبح عضوا في مجلس الشيوخ فيما بعد (في الفترة ما بين عامي 1913 و1919)، اتحد مع لافوليت لإنهاء عمالة الأطفال. لكن فاردامان كان عنصريا متشددا ومدافعا عن الإعدام دون محاكمة. وهكذا كان بن تيلمان، وهو سيناتور من ولاية ساوث كارولينا، إلا أنه كان مناصرا قويا لتنظيم عمل شركات السكك الحديدية وإصلاح عملية تمويل الحملات الانتخابية. أما جيف ديفيز، حاكم أركنساس من عام 1901 إلى 1906، فدافع عن تفوق الجنس الأبيض وقضايا المزارعين بالتوازي معا. ومن ناحية أخرى، لم يكن أوسكار بي كولكويت حاكم تكساس من عام 1911 إلى 1915 عنصريا صريحا، وأيد القوانين التي تقر بإصلاح السجون، ووضع قيودا على عمالة النساء والأطفال، وتعويض العمال، والتعليم الحكومي. أما تشارلز بي إيكوك، حاكم نورث كارولينا من عام 1901 إلى 1905، فقد أعلن صراحة عن تأييده لتفوق الجنس الأبيض وقوانين جيم كرو، بيد أنه كان داعما قويا للتعليم الحكومي أيضا؛ من ثم ارتبطت الحركة التقدمية بالجنوب في العادة بالتمييز العنصري ضد الأمريكيين من أصل أفريقي. وعلى الرغم من أن التقدميين في الشمال كانوا قد تخلصوا بالكاد من تلك الآفة، فقد ألقت بظلالها على كافة الأصعدة السياسية تقريبا في الجنوب.
جاء عدد من الإصلاحات التي وقعت في الجنوب بعد عام 1900 بدعم من رواد العمل الخيري بالشمال، بما في ذلك جوليوس روزنفالد، الذي وفر الدعم المعنوي والمادي القوي لمدارس الأمريكيين من أصل أفريقي. كما أحضر أيضا جين آدمز وعشرات غيرها من التقدميين الشماليين عام 1915 إلى معهد تاسكيجي الذي أسسه بوكر تي واشنطن. ترأس واشنطن معهد تاسكيجي بدءا من عام 1881 لتدريب السود بالجنوب للعمل كمعلمين وعلى الفنون الصناعية. أنفق الجنوبيون الأموال القادمة من الشمال على القضايا التقدمية، مثلما فعل إدجر جاردنر ميرفي بألاباما، فقد أسس عام 1901 لجنة عمالة الأطفال بألاباما ومجلس التعليم الجنوبي عام 1903، بدعم بلغ ما يزيد على 50 مليون دولار في النهاية من مؤسسة روكفلر. اعتمد القضاء على مرضي الحصاف والإنكلستوما سواء عبر الحملات الطبية أم التثقيفية على ما تقدمه لجنة روكفلر الصحية من تمويل وأفراد. قدمت لجنة التعليم العامة، وهي مؤسسة خيرية أخرى تابعة لروكفلر تأسست عام 1902، إسهامات كبيرة من أجل تحسين التعليم والصحة العامة والأوضاع الصحية.
ازدهرت الحركة التقدمية في الغرب. في كاليفورنيا، تعددت أوجه الإصلاح. كان الحفاظ على البيئة أحد هذه الأوجه، وتمثل في حماية الجمال الطبيعي للولاية. وهذا الأمر أثار مسألة هل كان ينبغي لأصحاب المصالح الخاصة أو الحكومات المحلية التحكم في المياه والطاقة الكهرومائية أم لا؛ وضع التقدميون ثقتهم في الحكومات المنتخبة، مع ذلك لم ينتصر دعاة الدفاع عن البيئة دوما. فهل كان الهدف هو حماية الجمال الطبيعي، أم الحفاظ على الموارد الطبيعية (واستخدامها)؟ انقسمت الحركة حول قضية الحماية/الحفاظ هذه. لم يستطع زعيم المحافظين على البيئة، جون ميور، ومؤيدوه الحيلولة دون بناء سد عند وادي هيتش هيتشي بالقرب من جبال سييرا نيفادا، صمم لتزويد سان فرانسيسكو بالمياه. شيد المطورون بلوس أنجلوس قناة مائية بطول 200 ميل من وادي أوينز بالجانب الشرقي من جبال سييرا نيفادا لتزويد لوس أنجلوس بالمياه، فبدون المياه سيكبت نمو هاتين المدينتين. اعترض التقدميون المهتمون بالبيئة، لكن التنمية الحضرية كانت تحظى ببعض من الدعم التقدمي أيضا. استطاعت نساء ولاية كاليفورنيا، عضوات الجمعيات والنساء الاشتراكيات معا، انتزاع حق المرأة في الانتخاب عام 1911. كما كان للإصلاح وجه عنصري هناك أيضا؛ فقد مررت كاليفورنيا قانونا عام 1913، وحصنته عام 1920، يحظر على المهاجرين اليابانيين امتلاك الأراضي.
كان هيرام جونسون من أبرز التقدميين في كاليفورنيا، وهو جمهوري تولى منصب حاكم كاليفورنيا من عام 1911 إلى 1917، وأصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي منذ ذلك الوقت حتى وفاته عام 1945. قاد جونسون حملة عام 1910 ضد «الأخطبوط»، شركة ساذرن باسيفيك ريلرود. تذكرنا خطاباته بخطابات الشعبويين والتقدميين في مناطق أخرى، مثل قوله: لا بد أن ينتصر الشعب على «أصحاب المصالح الخاصة»، وفي خطابه الافتتاحي عام 1911، شدد قائلا: «أول واجب يقع على عاتقي أداؤه يتمثل في القضاء على جميع المصالح الخاصة في الحكومة، وأن أجعل الخدمة العامة بالولاية لا تستجيب إلا للشعب وحده.» لا بد أن تتسم الحكومة بالفاعلية - وهي أحد الشعارات التقدمية - وسرعة الاستجابة. استهدف جونسون أيضا الأحزاب السياسية؛ وبناء عليه أيد الإصلاحات التي من شأنها إضعاف الأحزاب؛ أولا: المبادرة التي بموجبها كان يستطيع المواطنون العاديون (من خلال جمع عدد كاف من المصوتين للتوقيع على عريضة) إجراء تصويت على تشريع ما في حالة عدم ارتياحهم لقيام السلطة التشريعية بذلك، وثانيا: الاستفتاء، الذي بموجبه يستطيع جمهور الناخبين التصويت على تلك المبادرة الشعبية، وثالثا: سحب الثقة الذي بموجبه يستطيع الأفراد التصويت لعزل مسئول لا يشعرون بالرضا عن أدائه في منصبه (مثلما فعل أهل كاليفورنيا مع الحاكم جراي ديفيز عام 2003)، كذلك دعا جونسون لوجود لجنة أكثر صرامة لتنظيم عمل شركات السكك الحديدية تتمتع بصلاحية تحديد الرسوم، وسلطة قضائية لا حزبية، والحفاظ على البيئة على خطا ثيودور روزفلت، وقانون يحدد مسئولية صاحب العمل، وغير ذلك. تحقق أغلب ذلك، على الرغم من أن المعلقين منذ ذلك الحين أشاروا إلى أن هذه الإصلاحات الهيكلية تمادت كثيرا؛ وأضعفت الأحزاب السياسية على نحو بالغ الخطورة وزعزعت استقرار حكومة الولاية نتيجة للكم الهائل من مبادرات التصويت التي كان يمكن، للمفارقة، أن يحركها أصحاب المصالح الخاصة أو الأثرياء. تبين بمرور الوقت أن التقدميين استهانوا بنفوذ «أصحاب المصالح الخاصة» المبغوضين في إدارة الإجراءات الإصلاحية ضدهم. ثمة مثال هو خير دليل على هذا الأمر، وهو مبادرة جارفيس-جان عام 1978، الشهيرة ب «المقترح 13»، التي قللت ضرائب الأملاك على نحو شديد لدرجة أنها أضرت بالنظام التعليمي بالولاية وبهيئات أخرى.
كانت أوريجون إحدى الولايات الغربية الأخرى التي ازدهر فيها الإصلاح التقدمي أيضا. حظيت مدينة بورتلاند، على الأخص، بمجموعة متعاقبة من قادة الإصلاح الذين طوروا ما أطلقوا عليه «نظام أوريجون» بين عام 1902 وعام 1908. وعلى النقيض من الوضع في كانساس أو بالجنوب؛ حيث حارب التقدميون في الغالب الشعبويين في وقت سابق، كان للتقدميين في بورتلاند أصول شعبوية في الأغلب؛ فشهدت تلك المدينة تداخلا بين الحركتين. وإبان تسعينيات القرن التاسع عشر، تحالف كل من تحالف المزارعين وفرسان العمل واتحادات النقابات العمالية معا. وفي عام 1902، وتحت زعامة ويليام إس يورين، الذي ولد لأبوين مهاجرين من كورنوال، مرر ذلك التحالف قانونا للمبادرة والاستفتاء بفارق حاسم، حتى قبل قيام كاليفورنيا بذلك. وبعد مرور عامين، جاء التحالف نفسه بقانون الانتخابات الأولية المباشرة، وفي عام 1908 بإجراء سحب الثقة وقانون الممارسات الفاسدة. أعقب ذلك الانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي؛ من ثم كانت الغاية من «نظام أوريجون» هي وضع السلطة على نحو مباشر في أيدي المصوتين. في عام 1912، أصبحت أوريجون الولاية السابعة التي تمنح حق التصويت للنساء. قطعت الديمقراطية المباشرة شوطا كبيرا للغاية، لكنها لم تمتد أكثر من ذلك؛ فبعد عام 1908 تعطل إصدار إجراء يطالب بأن يتم الموافقة على الضرائب فقط من خلال استفتاء وكذلك بإبطال حق الفيتو الخاص بحاكم الولاية، وذلك مع أن التحالف الشعبوي التقدمي - وأصوله المرتكزة على دعم المزارعين والعمال وأصحاب المشروعات الصغيرة - استمر في تحقيق بعض النجاحات.
شكل 3-6: ويليام إس يورين هو من صاغ «نظام أوريجون» وتزعم تشريعه، الذي هو على الأرجح أنجح نموذج جمع بين التوجه الشعبوي والتقدمي على مستوى البلاد.
يرى روبرت جونستون، وهو مؤرخ لنظام أوريجون، أن نجاح ذلك النظام ودعمه ارتكزا على الطبقة الوسطى الدنيا من صغار ملاك المنازل، والعمال المهرة، والعمال الميكانيكيين ممن لم يختلفوا في واقع الأمر كثيرا من حيث الثروة والطبقة عن أصحاب الأعمال الصغيرة؛ إنهم في واقع الأمر انتقلوا في أغلب الأحوال من فئة إلى أخرى على مدار حياتهم العملية. كان هؤلاء «المواطنون العاديون» يشكلون جمهور الناخبين، وقد كانت فلسفتهم السياسية مستمدة بدرجة كبيرة من النزعة الإنتاجية التي سادت في أواخر القرن التاسع عشر واستنادها إلى التآلف بين «الطبقات المنتجة»، التي لم تشمل قطعا الرأسماليين الذين وظفوا الآلاف في مصانعهم واستغلوهم؛ ومن ثم جمعوا ثروات طائلة.
لم يرتكز الإصلاح في أوريجون، وفي أرجاء البلاد، على الزعماء المشهورين والمتحمسين أمثال برايان وروزفلت ولافوليت فحسب. ففي واقع الأمر، ما كان سيتحقق أي شيء لولا العمال وأصحاب المحال والمزارعون والمهنيون «الصغار» مثل المعلمين وأمناء المكتبات والقساوسة والمحررين الذين اتبعوا الحركة وانضموا إليها على نحو واسع النطاق. وكان التوجه التقدمي، على مستوى الحكومة وخارجها، سواء ركز على إصلاح الضرائب والدخل أو إجراءات العدالة الاجتماعية ومؤسساتها أو تحسين المنظومة الأخلاقية العامة والشخصية، يلتحم ليشكل حركة وطنية واسعة. اتحدت أفكار المزارعين من برنامج أوماها والنزعة الإنتاجية مع برامج المصلحين الحضريين، وسرعان ما ستتبلور في التشريعات الفيدرالية، ومن بينها التعديلات الدستورية الأربع التي صدرت إبان الحقبة التقدمية (ضريبة الدخل، والانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ، وحق المرأة في الانتخاب، وحظر المشروبات الكحولية).
كان من النادر أن يتكرر التحالف الذي أسفر عن «نظام أوريجون» في مناطق أخرى بالشكل نفسه، لكن بحلول عام 1908، أخذت الخيوط العديدة للإصلاح، في نطاق السياسة والقانون وخارجهما، تشكل إجماعا متماسكا - ومتزايدا بوتيرة سريعة - على الإصلاح الاجتماعي والسياسي. تم التخلي عن مبدأ عدم التدخل، وحلت محله السلطة الحكومية - على المستوى المحلي والولايات أولا، ثم على المستوى الفيدرالي بعد وقت وجيز.
لم تكشف انتخابات عام 1908 مع ذلك عن حركة تقدمية متماسكة ومكتملة الجوانب في السياسة الوطنية، ولكن سطوة الحزب الجمهوري كانت أكثر تداعيا مما بدت. وبحلول عام 1908، كان ما يقرب من نصف الولايات - اثنتا عشرة منها ليست من ولايات الجنوب - يستخدم الانتخابات الأولية المباشرة لاختيار المرشحين للمناصب الرسمية. وفي عدد من دوائر الكونجرس، أطاح «المتمردون» - الاسم الذي أطلق في ذلك الوقت على الجمهوريين ذوي الميول الإصلاحية - بالمحافظين المتعنتين. وفي بعض المناطق، تقاعد المحافظون ببساطة في وجه قوى الإصلاح في دوائرهم. انطبق هذا الأمر على الأخص بدءا من الجزء العلوي لوادي الميسيسيبي وامتد غربا. كان الولاء الحزبي، خاصة لرئيس مجلس النواب الدكتاتور جوزيف جي كانون من إلينوي، أضعف بدرجة كبيرة بين أعضاء مجلس الشيوخ الجدد المنتخبين عام 1908، الذين تولوا مسئولياتهم في مارس 1909. واستطاعوا معا كسر قبضة كانون وآذنوا بالأوج الحقيقي للحركة التقدمية. إن خيوط الإصلاح العديدة التي شكلت الحركة التقدمية في مرحلتها المبكرة - سواء في نطاق السياسة والقانون والحكومة أو خارجها - ودعاة العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة والمصلحين التعليميين والمهتمين بتنظيف الأحياء الفقيرة، سيتلاقون في النهاية لتشكيل حركة سياسية مكتملة النمو. لم يكن يوم اكتمال نمو الحركة قد أتى تماما بعد بحلول انتخابات عام 1908، لكنه أتى بعد وقت وجيز للغاية بعد ذلك؛ ومن باب المفارقة أن ذلك كان بعد رحيل ثيودور روزفلت عن منصبه، الذي لعب دورا حاسما للغاية في تهيئة الاندماج بين المطالب العديدة المنفصلة الخاصة بالتغيير.
الفصل الرابع
أوج الحركة التقدمية: 1908-1917
بحلول عام 1908 كانت الحكومات المحلية وحكومات الولايات في كافة قطاعات البلاد قد استجابت بطرقها الخاصة لحالة الاضطراب والشعور بالأزمة المتفاقمين منذ كساد تسعينيات القرن التاسع عشر. كان الاقتصاد بوجه عام قد تحسن منذ تلك الكارثة. وعندما هدد الذعر المصرفي الذي حدث في أكتوبر عام 1907 بحدوث كساد آخر، استدعى روزفلت جيه بي مورجان لحشد موارد مؤسسات وول ستريت لوضع حد للأزمة، وهكذا حدث. ترتب على ذلك حالة من الارتياح شابها التوجس بين عامة الشعب؛ فقد أدرك الناس الآن أن النظام المالي والنقدي للبلاد يحتاج إلى إصلاح جدي. ولكن هذا لن يتحقق إلا بواسطة مؤسسات وول ستريت، غير المنتخبة وغير المسئولة إلا عن نفسها فقط، أو بواسطة حكومة فيدرالية منتخبة. استمرت الثروة في التدفق على نحو غير متكافئ لصالح الأكثر ثراء، ولا تزال الشركات الكبرى تدار في إطار قدر ضئيل من القوانين التنظيمية، وواصلت المحكمة العليا إصدار أحكامها المضادة للنقابات العمالية.
شابت أوائل القرن العشرين صراعات بين العمال والرأسماليين كما كانت الحال في أواخر القرن التاسع عشر. فلم يمر عام منذ أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر إلا وحدث ألف إضراب عن العمل على الأقل؛ وقد حدث ما يزيد على 8 آلاف إضراب عن العمل بين عامي 1917 و1918، عامي الذروة. شهد حي جرينتش فيلدج بمدينة نيويورك في مارس 1911 وفاة 146 عاملا، أغلبهم من النساء الصغيرات المهاجرات، وذلك عندما اندلع حريق في الأدوار العليا من شركة تراينجل ويست. لم يستطع العمال الهرب لأن الإدارة كانت توصد الأبواب، ولم تستطع سلالم رجال الإطفاء الوصول إلى ذلك الارتفاع لإنقاذ العمال. أجج الغضب الناجم عن تلك الحادثة الشنيعة الدعوات القوية للإصلاح. كان قطاع التعدين أيضا - وهو واحد من أخطر أنواع المهن التي لم تكن تخضع للقوانين التنظيمية الكافية - في حاجة إلى التنظيم. في ديسمبر عام 1907، لقي ما يزيد على 350 من عمال المناجم حتفهم في انفجار بولاية ويست فيرجينيا، ومائة آخرين في نوفمبر من العام التالي في بنسلفانيا. أما في الغرب، بمدينة ترينيداد بولاية كولورادو، أضرب أعضاء «عمال المناجم المتحدين» لمدة أربعة عشر شهرا ضد شركة كولورادو فيول آند أيرون، التي تجاهلت تدابير السلامة، وخدعت عمال المناجم حول وزن الفحم الذي يستخرجونه، وتقاضت منهم ومن أسرهم أسعارا مبالغا فيها بمتاجر الشركة، ورفضت الاعتراف بنقابتهم. استعانت الشركة بوكالة تحريات مسلحة لفض الإضراب. وعندما بدأ الطرفان في تبادل إطلاق النار، أرسل الحاكم قوات الدفاع عن الولاية، ولكن عندما بدا أن القوات منحازة لصف الشركة، تأجج العنف أكثر. كان اليوم الأسوأ هو 20 أبريل عام 1914، حيث قتل ما يزيد على اثني عشر امرأة وطفلا اختناقا داخل حفرة أسفل خيمة مشتعلة. اشتهرت هذه الواقعة باسم «مذبحة لودلو»، وعلى مدار الأسبوعين التاليين، قتل ما يزيد على خمسين من عمال المناجم وحراس الشركة في الاشتباكات. وفي صيف عام 1917، انتهى إضراب في مدينة بيزبي بولاية أريزونا نظم ضد شركة فيلبس دودج وغيرها من شركات تعدين النحاس عندما اقتاد أشخاص مأجورون 1186 من العمال المضربين والمتعاطفين معهم إلى داخل عربات قطار شحن وألقوا بهم في صحراء نيو مكسيكو على بعد أميال بدون طعام أو مأوى.
واكبت الصراعات العمالية صراعات عرقية. اندلعت أعمال شغب عرقية شنيعة في أغسطس عام 1908 بمدينة سبرينجفيلد بإلينوي، قتل على إثرها العديد من الأشخاص، وأضرمت النيران في أحياء السود، وفر الآلاف من المدينة. وكردة فعل على هذه الأحداث، اتحد التقدميون من البيض والسود تحت قيادة دبليو إي بي دوبويز وإيدا بي ويلز-بارنيت وويليام إنجليش والنج وأوزوالد جاريسون فيلارد معا وشكلوا الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين أوائل عام 1909، وسرعان ما تعززت الجمعية بقيادة مراكز التكافل الاجتماعي من أمثال جين آدمز وفلورنس كيلي والفيلسوف جون ديوي والصحفيين لينكولن ستيفنز وراي ستانرد بيكر وغيرهم، وأسست فروعا لها في نيويورك وشيكاجو ومدن أخرى للترويج للانسجام العرقي ومنع العنف بين الأعراق المختلفة الذي استمر في الحدوث مع ذلك.
شكل 4-1: ويليام إدوارد بيرهارت دوبويز، أول أمريكي من أصل أفريقي يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد، وهو مؤسس الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، ومحرر مجلة «ذا كرايسيس» التي تصدرها.
كان الأمريكيون من أصل أفريقي - لا يزال ما يزيد على 90 في المائة منهم يعيشون في الجنوب - ممنوعين بحكم القانون من التصويت في جميع ولايات الجنوب، ويعيشون تحت وطأة التهديد المستمر بالإعدام دون محاكمة والطرد من أي ملكية خاصة بهم، وقد تعرضوا لأسوأ نظم التمييز العنصري منذ نهاية العبودية نفسها بتطبيق قوانين جيم كرو. يمكن وصف السياسيين الجنوبيين أمثال فاردامان حاكم ميسيسيبي وتيلمان حاكم ساوث كارولينا بأنهم تقدميون فيما يتعلق بالقضايا غير العرقية (الضرائب والمدارس وإصلاح السجون) ولكنهم أيدوا في الوقت نفسه عمليات الإعدام دون محاكمة كوسيلة للسيطرة الاجتماعية. وخلال العقد التالي، أسفر «النزوح الكبير» عن توجه الكثير من السود الجنوبيين شمالا إلى شيكاجو وديترويت ومدن أخرى، وغربا إلى لوس أنجلوس، تاركين وراءهم مزارع قاحلة. واجههم التمييز العنصري في الشمال أيضا، لكنهم على الأقل لم يعودوا متخوفين من نظام استئجار المدانين للعمل المطبق بالجنوب (الذي سجن بموجبه السود بتهم ملفقة ثم تم استئجارهم من قبل المزارعين ورجال الأعمال البيض مقابل أجر زهيد)، كان هذا النظام هو بديل العبودية في عصر إعادة الإعمار.
وبالرغم من كل هذا الخلل الاجتماعي، استمرت الإصلاحات السياسية في التحقق. ظهرت قوانين الانتخابات الأولية المباشرة في ولاية تلو الأخرى بعد عام 1901، وبحلول عام 1917، كان أربع وأربعون من بين ثمان وأربعين ولاية تطبقها. في عام 1912 كانت ثلاث عشرة ولاية فقط تتبع الانتخابات الأولية للمرشحين الرئاسيين، ولكن بحلول عام 1916 كان ما يزيد على نصف الولايات يتبع ذلك النهج. وردت قوانين المبادرة والاستفتاء في تشريعات اثنتين وعشرين ولاية بين عامي 1898 و1918، جنبا إلى جنب مع الانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ، في العديد من الولايات قبل تمرير التعديل السابع عشر على المستوى الفيدرالي. وفي ولايات وايومنج وكولورادو وإيداهو ويوتا عام 1908، كانت النساء يدلين بأصواتهن لاختيار الرئيس. انضمت ولاية واشنطن عام 1910 وولاية كاليفورنيا عام 1911 وولاية أوريجون عام 1912 إلى الولايات التي أعطت المرأة الحق في الانتخاب في الغرب. وبالإضافة إلى الإصلاحات التشريعية على المستوى المحلي ومستوى الولايات، استمر الصحفيون الإصلاحيون الكاشفون للفساد في كشف النقاب عن الصلات المشبوهة بين رجال الأعمال والسياسيين، وبيع العقاقير الضارة للمستهلكين، واحتيال شركات التأمين، وغير ذلك من الانتهاكات الشنيعة. قويت شوكة حركتي الإنجيل الاجتماعي ومراكز التكافل الاجتماعي، وبدأ العمل الاجتماعي المهني في التصدي لظاهرة الفقر بالحضر. نشر عالم الاجتماع إدوارد ألسورث روس من ويسكونسن كتابه الذائع الصيت «الخطيئة والمجتمع» عام 1907، الذي أكد فيه أن الخطيئة لم تعد شأنا فرديا فحسب وإنما شأن اجتماعي، وأن انتخاب أشخاص صالحين لم يعد كافيا، وأن المجتمع بحاجة إلى إصلاح هيكلي، كما واصل زميله عالم الاقتصاد جون آر كومنز نشر دراساته التجريبية عن أوضاع العمالة، التي استند إليها التشريع الإصلاحي الذي أصدره الحاكم روبرت إم لافوليت. وفي جامعة شيكاجو، أسس الفيلسوف التربوي جون ديوي «مدرسة مختبرية» عام 1896؛ ومن ثم أطلق العنان للتعليم التقدمي، الذي يبني التعليم على الخبرة لا النظرية. أصبح ديوي وويليام جيمس الأستاذ بجامعة هارفرد هما الداعيين الرئيسيين للبراجماتية، التي تعتبر بالقطع المدرسة الأمريكية في الفلسفة، بتأكيدها على المعرفة العملية بدلا من المجردة، أو على حد تعبير جيمس: «القيمة النقدية للأفكار». ساعدت البراجماتية (التي أطلق عليها ديوي «الذرائعية») في تدعيم الأبحاث التجريبية الخاصة بآلية العمل الحقيقية للمجتمع، التي قادت بدورها إلى القوانين الإصلاحية التقدمية. ازدهرت المناهج والمعايير المهنية في العلوم الاجتماعية (الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا)، وفي التاريخ وفي التدريب الطبي والقانوني.
كان آخر إجراء هام أثناء عهد تافت هو إنشاء الكونجرس للجنة العلاقات الصناعية الأمريكية في صيف عام 1912. دعم رواد العمل الاجتماعي وعلماء الاجتماع الأكاديميون وأتباع حركة الإنجيل الاجتماعي تلك اللجنة، وحظوا بدعم صامويل جومبرز، رئيس الاتحاد الأمريكي للعمل، والاتحاد المدني الوطني ذي التوجه التجاري. صدق تافت على القانون واقترح قائمة أسماء محافظة بعض الشيء لتكون أعضاء اللجنة. استطاع المؤيدون تأجيل التعيينات حتى تولي وودرو ويلسون عضو الحزب الديمقراطي الرئاسة، الذي عين مجموعة ذات توجه إصلاحي أكثر. كان رئيس اللجنة محاميا صارما من مدينة كانساس سيتي، وهو فرانك بي والش. في عام 1916، قدمت اللجنة تقريرا من أحد عشر جزءا توصي فيه بمعاشات للأرامل، والحضور الإلزامي للطلاب بالمدارس، ومحاكم للأحداث، وغير ذلك الكثير؛ كان ذلك التقرير بمنزلة بيان بمقترحات العدالة الاجتماعية التقدمية. تبنت حكومات الولايات بعضا من هذه المقترحات، وتبنت الحكومة الفيدرالية البعض الآخر. شارك والش في رئاسة مجلس عمالة الحرب بقرار من الرئيس ويلسون عام 1918، وأيد والش حقوق العمال في إنشاء نقابات، وحد أدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل بثماني ساعات يوميا، وتساوي النساء مع الرجال في الأجر. كذلك دافع والش عن الحريات المدنية في وجه موجة قوانين التحريض على الفتنة فيما بين عامي 1918 و1920. وقد انعكست فلسفته - التي تعد الجسر الذي يربط بين الحركة التقدمية وبرنامج «الصفقة الجديدة» الخاص بثلاثينيات القرن العشرين - بوضوح في مقال كتبه في ذكرى عيد العمال عام 1918:
وفقا للنظرية التي ... توارثناها، إن الوظيفة الرئيسية للحكومة هي حماية الملكية وإفساح المجال أمام الناس لاكتسابها، وفي الواقع العملي، كما نعرف، كانت وظيفة الحكومة في أحوال كثيرة للغاية ومن منطلق تلك الرخصة هي حماية أصحاب الملكية من أجل استغلال الحياة الإنسانية ... اسمحوا لي ... أن أنضم إليكم في احتفالكم بعيد العمال بوصفه يوما للوعد بأن الحق في الربح لن يكون مجددا أبدا أكثر أهمية من الحق في الحياة.
كانت تلك التغييرات جميعها حضرية، وكانت جزءا مهما وراسخا من تاريخ الحركة التقدمية. لا ريب أن الحركة التقدمية اكتسبت قدرا كبيرا من دعمها - الدعم الأبرز والأوضح بالطبع - من المحررين وأساتذة الجامعات والسياسيين والمهنيين ومناصرات العدالة الاجتماعية من مختلف الصور. عاش هؤلاء المصلحون في مدن كبيرة ومتوسطة، في الشمال الشرقي، وولايات البحيرات العظمى والغرب من دنفر إلى ساحل المحيط الهادئ. من بين الزعماء «الأربعة الكبار» الذين قادوا الحركة التقدمية الوطنية، كان ثيودور روزفلت فقط من يمكن وصفه بأنه من أبناء المدينة؛ فقد ولد وترعرع في ظروف أرستقراطية في نيويورك. اتخذت وسائل إعلام ذلك العصر من المدن الكبرى مقرات لها، وليس من المفاجئ أن الحركة الإصلاحية في المناطق الحضرية استحوذت على اهتمام وسائل الإعلام. بيد أن برايان لم ينشأ في المدينة، وكان لافوليت منحدرا من بلدة صغيرة، وكان وودرو ويلسون من أبناء الجنوب.
من ثم، لم تكن المدن بأي حال هي المنبع الوحيد للحركة التقدمية. ثمة عنصر رئيسي في الحركة التقدمية - وهو بالتأكيد أساس نجاحاتها على المستوى الفيدرالي - كثيرا ما يتم تجاهله؛ ذلك العنصر هو القاعدة الزراعية القوية للحركة. من المهم تذكر أن الولايات المتحدة قبل عام 1920 كانت مجتمعا ريفيا بدرجة كبيرة، عاش أغلب شعبها في المزارع أو القرى الريفية الصغيرة، وتركز قدر كبير من الاقتصاد والعمل في الزراعة أو ارتبط بها؛ آلاف الشوارع التجارية المركزية في البلدات والمدن الصغيرة، ومكاتب الشحن البريدي ومصانع المعدات الزراعية في المدن والبلدات الكبرى، وصناعات الجرارات والمركبات، والسكك الحديدية وغير ذلك الكثير، إلى جانب الأعداد الكبيرة التي اشتغلت بالزراعة بالفعل. مثل الجنوب أكبر المناطق الريفية (ما يزيد على 77 في المائة عام 1910)، لكن منطقتي الغرب الأوسط (وبخاصة ولايات البحيرات العظمى) والغرب استمرت الأغلبيات الريفية في الهيمنة عليهما قبل عام 1920. كانت منطقة الشمال الشرقي هي الوحيدة التي ضمت أغلبية حضرية، وذلك منذ عام 1880.
حظي الزراعيون - ليس فقط الفلاحين، بل سكان البلدات الصغيرة الذين ارتبط نشاطهم الاقتصادي بالزراعة أو اعتمد عليها، والذين أمضوا حياتهم في إطار ثقافات ريفية أو خاصة ببلدات صغيرة - بفرصة الهيمنة على العمل السياسي؛ فقد سيطرت قوتهم الانتخابية على الكثير من دوائر الكونجرس في الجنوب والغرب الأوسط والغرب، وفي المناطق الحضرية، اضطر العمال الذين ربما اتحدوا مع الزراعيين، والذين شكلوا واحدة فقط من بين الجماعات ذات المصالح المشتركة العديدة إلى التنافس مع المؤسسات التجارية وغيرها للاستحواذ على اهتمام أعضاء الكونجرس؛ لذلك، وعلى الرغم من الجهود المستمرة التي بذلها برايان وغيره من قادة الإصلاح الزراعي، لم يقدم العمال والنقابات العمالية للزراعيين سوى دعم ضعيف ومتقطع. جاءت الانتصارات الزراعية الكبرى فيما بين عامي 1910 و1917، وتمثلت في الفوز بتشريعات فيدرالية تقدمية على يد الديمقراطيين بالجنوب والغرب الأوسط والغرب، والجمهوريين المتمردين في الغرب الأوسط. وكما لاحظت إليزابيث ساندرز، أستاذة العلوم السياسية: «كان الديمقراطيون المهمشون [الزراعيون] وحلفاؤهم من العمال الأقل عددا بالشمال هم من دعم بشدة البرنامج التقدمي.»
حاول حزب الشعب في تسعينيات القرن التاسع عشر، جنبا إلى جنب مع الديمقراطيين من أتباع برايان عام 1896، تشكيل تحالف إقليمي (بين الغرب والجنوب) ولا عرقي بين العمال والمزارعين، لكن الشعبويين تداعوا فوق صخرة القضية العرقية الشقاقية في الجنوب، التي استغلها معارضوهم لاستمالة الناخبين البيض. وعندما كان الشعبويون يؤكد بعضهم لبعض أن السود «في الخندق نفسه مثلنا تماما»، كان بإمكان أحد الديمقراطيين من الجنوب أن يجيب: «لكنهم ليسوا مثلنا، إنهم سود.» رأى الكثيرون أن العرق أهم من الطبقة الاجتماعية، تردد أبناء الجنوب في التخلي عن الولاء التقليدي للحزب الديمقراطي، وتردد أبناء الغرب الأوسط في التخلي عن ولائهم للحزب الجمهوري، من أجل حزب الشعب. كذلك أخفق برايان - لا لانعدام رغبته في المحاولة - في الفوز بدعم العمال في مدن البحيرات العظمى والشمال الشرقي.
بيد أنه بحلول عام 1905 تقريبا، بدأ الكثير من أبناء الجنوب والغرب الأوسط (والغرب) في إدراك أنه لا يتحتم على المرء أن يكون شعبويا كي يصير مؤيدا للإصلاح الزراعي؛ فالمصالح الاقتصادية للمزارعين وهؤلاء المرتبطين بالزراعة فاقت أهمية التوصيفات السياسية؛ إذ يمكن أن يصير المرء ديمقراطيا مؤيدا للإصلاح الزراعي على غرار برايان والكثير من أبناء الجنوب، أو جمهوريا مؤيدا للإصلاح الزراعي على غرار لافوليت أو جورج نوريس أو جيلبرت هيتشكوك ابن نبراسكا، أو الجمهوريين بولاية كانساس الذين ناهضوا الشعبويين في السابق على غرار جوزيف بريستو أو فيكتور ميردوك أو ويليام ألين وايت. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الشعبويين لم يظهروا احتراما كبيرا لمؤيدي بريستو ووايت، فقد بدأت أفكارهما تبدو منطقية يوما بعد يوم وحظيت بالدعم في نهاية المطاف. كانت خطط برايان من عام 1896 وعلى مدار العشرين عاما التالية مستوحاة إلى حد بعيد من برنامج أوماها الخاص بالشعبويين لعام 1892، ومن بين مقترحات ذلك البرنامج، لم يظفر مؤيدو الإصلاح الزراعي قط بملكية وطنية للسكك الحديدية ونظام التلغراف؛ أو بالمشروع الأبرز الذي سعى وراءه حزب الشعب بتكساس: الخزانة الفرعية. لقد عجزوا كثيرا عن جعل النظام الرأسمالي ديمقراطيا على نحو جوهري، بيد أنهم خلال الأعوام من 1909 إلى 1918 نجحوا في نقل مجموعة مبهرة من المقترحات إلى داخل الكونجرس، ثم إجازتها كقوانين: تقليل الرسوم الجمركية، وضريبة دخل تصاعدية فيدرالية، وقوانين مناهضة للاحتكار أكثر صرامة، وعملة أكثر تداولا (ليست الفضة، بل الأفضل منها، عملة ورقية تدعمها الحكومة)، وتمويل فيدرالي للتعليم الزراعي، وتسويق المزارع، وإنشاء طرق سريعة، ودعم الجمعيات التعاونية، وانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بالتصويت الشعبي بدلا من الهيئات التشريعية للولايات (القابلة للفساد)؛ واستمرارا في التمسك بأمل الدعم العمالي، سنت قوانين تنظيمية على عمالة النساء والأطفال.
ظل الدعم العمالي هزيلا، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن المحاكم أباحت الممارسات المناهضة للنقابات العمالية على غرار إدراج العمال المضربين في قوائم سوداء وعدم سماحها بالمفاوضات الجماعية بين العمال وأصحاب العمل. ومع ذلك، استمر المصلحون الزراعيون في محاولة تأسيس تحالف، وبذاك قدموا للعمال بعض الانتصارات، على حد قول ساندرز: «بالرغم من الوصف الشائع لزعماء الإصلاح التقدمي كممثلين عن التجارة الحضرية والطبقات المهنية، فقد شكل المزارعون العدد الأكبر للناخبين المؤثرين في النفوذ الشعبي المتسع في ولايات الجنوب والغرب الأوسط؛ حيث كانت الحركات الإصلاحية في أوج قوتها.»
ساهم المتمردون الجمهوريون بآرائهم وأصواتهم الانتخابية في خدمة تلك القضية، في حين اعتمدت خطط المصلحين الزراعيين على الديمقراطيين الأكثر عددا بكثير، وكثير منهم كان من «تكتل الجنوب» ما بعد عصر إعادة الإعمار. ظهر ذلك التكتل لأول مرة في سبعينيات القرن التاسع عشر في مواجهة جهود إعادة الإعمار التي قام بها الحزب الجمهوري بالأصالة عن العبيد الذين حصلوا على حريتهم مؤخرا. وعليه، كان رجل عنصري مؤيد للإعدام دون محاكمة على غرار فاردامان بميسيسيبي يمكن أن يعد تقدميا قويا في الوقت نفسه.
استوحي دستور أوكلاهوما، عندما أصبحت ولاية عام 1907، من برايان، وساهمت كيت برنارد في كتابته، وكان نموذجا للتقدمية الشعبوية، ولعله البيان الأكمل على الإطلاق للراديكالية الزراعية الديمقراطية. كانت ولايات البحيرات العظمى الشمالية موطنا للكثير من الديمقراطيين الزراعيين، أما كانساس، فقد شذت عن تلك القاعدة، لكن هناك تم انتخاب المتمردين الجمهوريين على غرار بريستو وميردوك. كانت المناطق بدءا من غرب تكساس شمالا، ومرورا بأوكلاهوما وكولورادو ووايومنج ومونتانا والسهول العظمى، تمر بطفرة كبيرة في الهجرة الداخلية وتأسيس العزب الريفية؛ فقد شهد عام 1913 ذروة طلبات استيفاء الشروط اللازمة لتأسيس عزب ريفية - والحصول على سند الملكية النهائي - في التاريخ الأمريكي. لم يكن مؤسسو تلك العزب محافظين على المستوى السياسي، وكما أشار إريك راوتشواي، الأصوات الانتخابية في صالح البرنامج التقدمي «جاءت من جانب الديمقراطيين في الجنوب والغرب الذين أيدوا منهج برايان ... فهؤلاء الأمريكيون لم يضطروا إلى الانتقال إلى مكان يتسنى لهم منه دعم القوانين التنظيمية للشركات؛ فقد ولدوا في ذلك المكان.» ثمانون في المائة من التشريعات التقدمية التي سيتم سنها من عام 1909 حتى الحرب العالمية الأولى ظهرت عندما كان المصلحون الزراعيون يتولون زمام الأمور. باختصار؛ عندما «حادت الحركة الإصلاحية الخاصة بالطبقة المتوسطة عن آمال المزارعين والطبقة العاملة؛ أخفقت.» ورجحان كفة الزراعيين هذا يساهم في تفسير السبب في حظر المشروبات الكحولية الذي أصبح التعديل الثامن عشر في الدستور عام 1918، وفي أن أضحى نظام جيم كرو مستحكما للغاية في الجنوب، مع وجود نسخة أقل عنفا - غير أنها حقيقية - من ذلك النظام في المدن الشمالية. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين أضحت تلك الإجراءات متعصبة على نحو يثير السخرية، لكنها قبل ذلك شكلت جزءا من الحركة التقدمية.
جاءت انتخابات عام 1908، كما أشرنا آنفا، بويليام هاورد تافت رئيسا وأعادت زمام الكونجرس إلى الجمهوريين، ولكن التغييرات كانت في طريقها للحدوث. أول تلك التغييرات، ويرى البعض أنه أهم الإصلاحات في الحقبة التقدمية بالكامل، هو تمرير الكونجرس للتعديل السادس عشر في الدستور، الذي سمح بتطبيق ضريبة دخل تصاعدية. في تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، نادت أصوات يمينية صاخبة بتطبيق «ضريبة ثابتة» - وهي ضريبة دخل تحسب بمعدل واحد أو اثنين على الأكثر وتسري على الجميع - تحت ذريعتي «العدالة» و«التيسير». تنطبق وجهة النظر هذه مع تلك الخاصة بمحافظي العصر المذهب الذين عارضوا ضريبة الدخل التصاعدية. شهد ذلك العصر، شأنه شأن عصر ريجان، استحواذ الطبقة الأكثر ثراء التي تمثل خمسة أو واحدا في المائة من الشعب على حصص متزايدة من الثروات. كانت الضريبة الثابتة ستعزز أكثر اختلال التوازن هذا، أما الضريبة التصاعدية - وفقا لمدى ارتفاع معدلاتها - فكانت ستوقف ذلك المسار أو تعكسه. ومن الجدير بالاهتمام فحص أسباب وكيفية اقتناع الكونجرس الأمريكي والشعب، في وقت مبكر من القرن العشرين، بتبني التعديل السادس عشر، وهذا ما سنفعله في السطور التالية.
جرى في وقت سابق تجربة تطبيق ضريبة دخل فيدرالية؛ ففي خلال الحرب الأهلية، فرضت حكومة الاتحاد ضريبة دخل باعتبارها إحدى وسائل جمع الأموال، لكنها سرعان ما ألغيت بعد الحرب. طالب برنامج أوماها عام 1892 الذي أصدره حزب الشعب بتطبيق ضريبة دخل تصاعدية، وفي وقت مبكر من عام 1894، طالب ويليام جيننجز برايان في الكونجرس بضريبة دخل، وإن كانت بمعدل 2 في المائة فقط على الدخول التي تزيد على 4 آلاف دولار، وذلك دون تدرج، واستشهد برايان بست دول أوروبية تطبق ضرائب الدخل على مدار عقود. وعن اعتراض الجمهوريين بأن الضريبة كانت بمنزلة «تشريع طبقي» وستنطبق بدرجة أكبر على منطقة الشمال الشرقي، رد برايان: «لماذا لا تدفع تلك الأجزاء من البلاد الجزء الأكبر بما أنها تستمتع على نحو أكثر؟!» واقتبس قول آدم سميث، الذي يعتبر كتابه «ثروة الأمم» (1776) الوثيقة التأسيسية للرأسمالية إلى حد بعيد: «يجب أن يسهم رعايا كل دولة في دعم الحكومة، بحسب قدرات كل منهم قدر الإمكان؛ أي نسبة إلى الدخل الذي يتمتع به كل منهم في ظل حماية الدولة.» بيد أن التعريفة الجمركية - الرسوم الجمركية التي أيدها الحزب الجمهوري دوما على مستويات عالية لحماية قاعدته الصناعية - كانت «ضريبة على الاستهلاك» وكان «الفقير هو من يدفعها بما لا يتناسب مطلقا مع الدخل الذي يحظى به.» عرض برايان بيانات من مجلة «بوليتكال ساينس كوارترلي» تذكر أن 91 في المائة من العائلات الأمريكية كانت تمتلك 29 في المائة من الثروة، في حين امتلك 9 في المائة منها 71 في المائة من الثروة، وتساءل: «من الذي يحتاج إلى أسطول بحري على نحو أكثر؟ ... من يطالب بجيش صامد؟» ليس المزارعين أو العمال، بل الرأسماليون الذين يحتاجون إلى حماية ممتلكاتهم الضخمة. في عام 1894، أجاز الكونجرس الذي هيمن عليه الحزب الديمقراطي ضريبة الدخل كجزء من قانون ويلسون-جورمان للتعريفة الجمركية، في أعقاب زعم برايان بأنها أكثر إنصافا من التعريفات الجمركية العالية، وأنها أيضا حل عملي لاستبدال العائد المفقود من خفض الرسوم الجمركية. إلا أن المحكمة العليا أصدرت حكما (خمسة أصوات مقابل أربعة) عام 1895، في قضية «بولوك ضد شركة فارمرز لون آند تراست»، بأن ضريبة الدخل هذه غير دستورية؛ لأنها ضريبة مباشرة على الملكية وليست موزعة حسب التعداد السكاني للولايات.
توقف الأمر عند ذلك حتى عام 1908. نادى البرنامج الانتخابي الخاص بالحزب الديمقراطي ذلك العام بفرض ضرائب على الدخل والتركة. اتفق ثيودور روزفلت في رسالته الأخيرة إلى الكونجرس في ديسمبر عام 1908 مع ذلك الرأي. وبحلول ذلك الوقت، كان السخط بسبب الفجوة الآخذة في الاتساع بين القلة الثرية والأغلبية الفقيرة، والتعريفات الجمركية العالية بوصفها ضريبة على المستهلكين الفقراء؛ قد انتشر حتى بين الجمهوريين. ويوما بعد يوم لم يصبح النقاش يدور حول الحاجة إلى فرض ضريبة على الدخل فحسب، خاصة إذا جرى خفض التعريفات الجمركية، بل حول فرض ضريبة دخل «تصاعدية». وكما أوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا، إي آر إيه سيلجمان، فإن الضريبة الثابتة:
سوف ... يتأثر بها بدرجة أشد وطأة نسبيا الرجل العادي الذي لا يملك سوى فائض بسيط عن نفقاته الاجتماعية الضرورية، من الرجل العادي الذي يملك فائضا أكبر تناسبيا ... تصبح الأعباء الضريبية في الولايات المتحدة ... غير موزعة بالتساوي يوما بعد الآخر. هذا وتتحمل الطبقات الأكثر ثراء حصة أصغر من العبء العام تدريجيا. فلا بد من فعل شيء لاستعادة التوازن، وهذا الشيء من الصعب أن يتخذ صورة أخرى سوى ضريبة على الدخل.
لم يكن هناك سوى سبيلين للتحايل على حكم المحكمة العليا في قضية بولوك؛ الأول: هو تمرير ضريبة الدخل كقانون عادي وإحالته فيما بعد إلى المحكمة العليا، على أمل أن تبطل المحكمة العليا الحالية حكمها الصادر عام 1895، والسبيل الآخر: هو تعديل الدستور. في يوليو عام 1909، اختار الكونجرس السبيل الثاني. تحالف المتمردون الجمهوريون من أمثال ألبرت كامينز من ولاية آيوا ولافوليت مع الديمقراطي تشامب كلارك من ولاية ميزوري، الذي أعلن في الكونجرس: «إننا نفضل كثيرا جعل ضريبة الدخل جزءا من قانون التعريفة الجمركية بدلا من التصويت على ... إحالة تعديل دستوري خاص بضريبة الدخل للولايات لاعتماده.» فقد أدرك هؤلاء أن التعديل الدستوري أمر محفوف بالمخاطر؛ نظرا لأنه قد يفشل إذا رفضته اثنتا عشرة هيئة تشريعية خاصة بالولايات فقط، وعلى أحسن تقدير ، ستتأجل الضريبة حتى تصديق عدد كاف من الولايات عليها؛ واتضح أن ذلك الأمر سيستغرق أربع سنوات تقريبا. استطاع نيلسون ألدريتش وآخرون من الحرس القديم، بمساندة الرئيس تافت، تحاشي إضافة ضريبة الدخل إلى قانون التعريفة، وبذلك دفعوا الأمر نحو إجراء تعديل دستوري.
لم يكشف النقاش بالكونجرس عن حجج جديدة بخلاف تلك التي تؤيد موقف برايان قبل سنوات، بأن هؤلاء الذين يحصلون على الاستفادة الكبرى من المجتمع يدينون بالقدر الأكبر لدعمه. لم يتضمن التعديل كلمة «تصاعدية»؛ حيث إن ذلك كان سيؤدي إلى عدم تمريره على الأرجح. لم يتضمن التعديل السادس عشر (كما تم إقراره) تلك الكلمة، بيد أن عدة أعضاء بمجلس الشيوخ افترضوا جدلا أن التدرج التصاعدي سيكون سمة أي قانون ضرائب يرتكز إلى ذلك التعديل. وكما ذكر الجمهوري نوريس براون النائب عن ولاية نبراسكا: «إن صلاحية فرض الضرائب تنطوي على صلاحية تدريجها تصاعديا.» وفي الخامس من يوليو عام 1909، صدق مجلس الشيوخ على التعديل بالإجماع، وفي الثاني عشر من يوليو من العام نفسه، أقر مجلس النواب التعديل بأغلبية ساحقة. وشيئا فشيئا اكتسب التعديل التصديقات اللازمة من الهيئات التشريعية للولايات. صوتت الهيئات التشريعية بالغرب - وهي المنطقة التي يوزع بها الدخل على نحو متساو أكثر - بالإجماع في بعض الحالات، وبشبه إجماع في حالات أخرى؛ وكانت يوتا الاستثناء الوحيد، وفي الجنوب، قدمت المناطق التي هيمن عليها الشعبويون في السابق أشد الدعم لضريبة الدخل. وما أثار دهشة الخبراء هو موافقة منطقة الشمال الشرقي على ضريبة الدخل، فيما عدا بنسلفانيا ورود آيلاند وكونيتيكت؛ حيث ظلت منظمات الحرس القديم للحزب الجمهوري باقية على الرغم من الموجة المتمردة. كررت صحيفة «هارتفورد كورانت» الحجة التي صارت قاعدة قياسية آنذاك التي تقول: «كلما زاد دخل المرء، زاد مقدار الحماية التي يتلقاها من الحكومة وزاد التزامه نحو دعم الحكومة.»
أقرت ضريبة الدخل في أنحاء البلاد؛ وذلك لأن المزارعين والعمال والمنتمين إلى الطبقة الوسطى أضحوا مقتنعين بأنها منصفة، وبأن الضرائب الأخرى مثل التعريفة الجمركية ليست كذلك، وبأن توزيع الثروة والدخل أصبح غير متوازن على نحو صارخ. أجيز التعديل الدستوري لضريبة الدخل في الوقت المناسب؛ بحيث تضمن قانون الإيرادات لعام 1913 مجموعة من المعدلات التصاعدية. وبحلول ذلك الوقت، كانت الرئاسة ومجلسا الكونجرس في أيدي الديمقراطيين.
هل أصلح التعديل الدستوري السادس عشر بالفعل عدم المساواة في الدخول؟ الإجابة هي أنه أصلحها بنحو جزئي؛ فقد انخفضت حصة الخمسة في المائة الأعلى دخلا مما يقرب من ثلث جميع الدخول فيما بين عامي 1913 و1916 إلى الربع بحلول عام 1919، لكن ليس أكثر من ذلك؛ فقد كان من الصعب أن تحقق الضريبة أكثر من ذلك؛ نظرا لأنها أثرت على عدد محدود للغاية من الناس، وبمعدلات ضريبية تبدو لنا اليوم منخفضة على نحو يبعث على السخرية. في قانون عام 1913، بدأت الضريبة بواحد في المائة من الدخول التي تزيد على 20 ألف دولار وتدرجت إلى حد أقصى يبلغ 7 في المائة على الدخول التي تزيد على 500 ألف دولار. وحينذاك، كان يحصل الواحد في المائة الأعلى دخلا على ما يقرب من 15 في المائة من جميع الدخول، ويحصل الأربعة في المائة الأعلى دخلا على 33 في المائة من جميع الدخول. وفي عام 1918، وفقا لإحدى الجهات، «ما يقرب من 86 في المائة من الموظفين كانوا يحصلون على دخول تقل عن ألفي دولار سنويا»، مع حصول الأربعة عشر في المائة الأعلى مستوى على ما يزيد على ذلك، بإجمالي 40 في المائة من جميع الدخول الشخصية. وفي عام 1918، امتلك إمبراطور النفط جون دي روكفلر 1,6 في المائة من الثروة الوطنية بأكملها؛ أي ما يعادل 192 مليار دولار بحسابات عام 2010، وهو ما يزيد على ضعف ما يملكه بيل جيتس ووارن بافيت معا. انخفض الدخل الفيدرالي من التعريفات الجمركية بمقدار الثلث بين عامي 1909 و1916، في حين أن الإيرادات الخاصة بضرائب الدخل تضاعفت تقريبا. بالطبع خضع نظام الضرائب الفيدرالي إلى مراجعة جدية على نحو ديمقراطي وأكثر إنصافا. ومن اللافت للنظر في النقاشات التي دارت آنذاك، كثرة حديث مؤيدي ضريبة الدخل، بلا استثناء تقريبا، عن العدالة والمجتمع وما يدين به أفراد المجتمع كل منهم للآخر؛ تلك الكلمات التي غابت على نحو يثير الدهشة في نقاشات تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين حول «الضريبة الثابتة».
وبالرغم من إقرار التعديل الدستوري الخاص بضريبة الدخل، ثمة أمر أثار سخط المتمردين بالحزب الجمهوري في الكونجرس مع انقضاء عام 1909، فقد نادى البرنامج الانتخابي الخاص بالحزب الجمهوري عام 1908 بخفض الرسوم الجمركية، ودعا الرئيس تافت الكونجرس لعقد جلسة خاصة لذلك السبب. وقدم عضو الكونجرس عن نيويورك، سيرينو إي باين، مشروع قانون بذلك في مجلس النواب، إلا أن السيناتور ألدريتش أعد بديلا آخر أدى إلى رفع التعريفات الجمركية، في المتوسط، في واقع الأمر، وساند تافت ذلك، بعد ذلك ثار «جدال بالينجر-بينشو». أيد المتمردون، الذين يسيرون على خطا روزفلت، الحفاظ على الموارد الطبيعية بشدة. أتاح وزير الداخلية الجديد بإدارة الرئيس تافت، ريتشارد بالينجر، بعض الأراضي الحكومية أمام أعمال التطوير الخاصة، على العكس من سالفه المحافظ على البيئة. انتقد جيفورد بينشو - الصديق الأرستقراطي لروزفلت الذي عينه رئيسا لإدارة الغابات الأمريكية، ولكنه أصبح الآن مرءوسا لبالينجر - بالينجر على الملأ حول مشكلة خاصة بإدارة الموظفين. ساند تافت بالينجر وحاول تهدئة بينشو، لكن في يناير عام 1910 انتقد بينشو الرئيس تافت في خطاب مفتوح إلى سيناتور متمرد ودعا الكونجرس إلى استجواب بالينجر، وهو ما حدث بالفعل في ربيع ذلك العام. فصل تافت بينشو عن العمل بتهمة التمرد على السلطة، فاستشاط متمردو الحزب غضبا، واتسعت الهوة بينهم وبين تافت، الذي بدا أنه يزداد انحيازا إلى ألدريتش وكانون والحرس القديم.
في الوقت نفسه استطاع متمردو مجلس النواب تقليص السلطات الاستبدادية لرئيس المجلس جوزيف جي كانون. لم تتضمن سلطات رئيس المجلس السيطرة على جميع مناقشات المجلس فحسب، بل ترأس أيضا لجنة القواعد - فما من شيء كان يعرض أمام المجلس بالكامل دون «قاعدة» - وتحكم في التعيينات الأخرى للجنة. مرر المتمردون، تحت قيادة عضو المجلس من نبراسكا جورج نوريس، وبدعم من الديمقراطيين، قرارا ينزع سلطة كانون على لجنة القواعد، وبهذا تبددت القبضة الحديدية لرئيس المجلس. وبعد شهرين، أجاز المتمردون قانون مان-إلكنز، الذي يعزز قانون التجارة بين الولايات بدرجة كبيرة للغاية ويلزم شركات السكك الحديدية بتبرير أي زيادة في الرسوم. لم يختلف تافت والمتمردون حول قانون مان-إلكنز كثيرا، الذي تبين أنه القانون الجديد الوحيد والمؤثر في عام 1910. لكن فيما يتعلق بأي قضية أخرى، ساد الحزب الجمهوري الانقسام على نحو خطير.
بحلول صيف عام 1910، عاد روزفلت من رحلة سفاري طويلة بأفريقيا شرع فيها بعد تركه للرئاسة بوقت وجيز. كان في انتظار عودته مجموعة من المتمردين الساخطين، وكذلك كتاب جديد لهربرت كرولي بعنوان «وعد الحياة الأمريكية». قرأ روزفلت الكتاب وتحدث مع كرولي ومع الأصدقاء والمؤيدين التقدميين. وندم بشدة لعدم خوضه الانتخابات مرة أخرى عام 1908 وغضب من ميل تافت نحو اليمين، كما يرى المتمردون. وفي 31 أغسطس، ألقى روزفلت خطابا بمدينة أوسواتومي بولاية كانساس بعنوان «القومية الجديدة». قطع الخطاب - الذي تبنى فيه بعضا من أفكار كرولي وفصل فيه ما جاء في رسالته الأخيرة إلى الكونجرس في ديسمبر عام 1908 - شوطا نحو التقدمية مكتملة الجوانب. امتزج نقد كرولي لكل من «فساد الحياة العامة الأمريكية» و«حالات عدم المساواة السافرة في الأوضاع والنفوذ» و«وحوش الاقتصاد»، والشركات التي «استطاعت إحكام نفوذها الفاسد والفادح على التشريعات وممارسته»؛ على نحو رائع مع آراء روزفلت، مثلما امتزج مدح كرولي الصريح لروزفلت مع انتقاده لبرايان. كانت هناك أخطاء كثيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية بأمريكا من منظور كرولي وروزفلت. والسبيل إلى تصحيح تلك الأخطاء يتمثل في إعادة توزيع الثروة من خلال ضريبة تركات تصاعدية، وإنشاء نقابات عمالية أقوى، وبصفة عامة تعزيز حس «الغاية الجماعية» بدلا من الفردية غير الملجمة.
صرح روزفلت في خطاب «القومية الجديدة» بأوسواتومي بأنه «يجب على كل إنسان أن يخضع ممتلكاته للحق العام للمجتمع في تنظيم استخدامها بأي درجة قد يستلزمها الرخاء العام.» وبهذا التصريح اقترب روزفلت من الاشتراكية الحقيقية أكثر من أي وقت مضى، بقدر يفوق كثيرا رسالته الأخيرة إلى الكونجرس. وقد نشأت الاختلافات «بين الأشخاص الذين يمتلكون أكثر مما استحقوا والأشخاص الذين استحقوا أكثر مما يمتلكون.» ولتدارك هذا الاختلال، يرى روزفلت أن «الشرط الجوهري للتقدم» هو تحقيق «المساواة في الفرص لجميع المواطنين.» وبناء عليه، قال: «أؤيد الصفقة العادلة ... ليس فحسب ... من أجل تحقيق العدالة وفق القواعد الحالية للعبة، بل ... لتغيير تلك القواعد بحيث تعمل من أجل تحقيق مساواة حقيقية أكثر في الفرص والمكافاة مقابل الحصول على خدمة جيدة على حد سواء.» وأضاف قائلا: «لا بد لنا من إقصاء المجموعات ذات المصالح الخاصة من السياسة ... وجميع تلك المجموعات يحق لها التمتع بالعدالة، لكن لا يحق لأي منها التصويت في الكونجرس، أو اعتلاء منصة القضاء، أو التمثيل النيابي في أي منصب عام.» ودعا روزفلت على وجه الخصوص إلى تنظيم شامل لعمل شركات السكك الحديدية وجميع الشركات الأخرى التي تمتد بين الولايات، وإلى ضرائب تصاعدية على الدخل والتركات، وإلى إصلاح المصارف للحيلولة دون حدوث أي اضطرابات مصرفية مستقبلية، وأيضا إلى إنشاء «جيش قوي وأسطول كبير بما يكفي ليكفل لنا بالخارج ذلك الاحترام الذي هو الضمان الأوثق للسلام»، وإلى الحفاظ على الموارد الوطنية، وسن قوانين للأجور وساعات العمل، وقوانين لتعويض العمال على مستوى الولايات والمستوى الوطني، وإلى تنظيم عمالة الأطفال والنساء، وإلى «قومية جديدة» من شأنها «تقديم الحاجة الوطنية على المصلحة الطائفية أو الشخصية.»
كانت انتخابات الكونجرس ستجرى بعد شهرين فحسب. عزز خطاب روزفلت «القومية الجديدة» من موقف التقدميين أكثر داخل الحزب الجمهوري. وكان لبرايان ونزعته الشعبوية المتجددة تأثير مماثل بين الديمقراطيين. طالب الديمقراطيون من أنصار برايان والجمهوريون المتمردون على حد سواء بزيادة القوانين التنظيمية للسكك الحديدية، وإجراءات أكثر للحفاظ على البيئة، ومعدلات ضريبية تصاعدية، وإنشاء صناديق ادخار بريدي؛ بحيث يتسنى لصغار المودعين امتلاك حسابات (وهو الأمر الذي كانت ترفض المصارف فعله)، وديمقراطية مباشرة أكثر على غرار نموذج أوريجون، بما في ذلك الانتخابات الأولية. وفي كلا الحزبين، برز دور المصلحين الزراعيين؛ من الجنوب في الحزب الديمقراطي، ومن الغرب الأوسط في الحزب الجمهوري. وفي انتخابات نوفمبر عام 1910، سيطر الديمقراطيون على نحو كبير على مجلس النواب للمرة الأولى منذ انتخابات عام 1892. وانخفض عدد المقاعد الجمهورية من 219 إلى 182، في حين أن عدد مقاعد الديمقراطيين قفز من 172 إلى 230، وحقق الحزب انتصارات في الغرب والشمال الشرقي، والأهم من هذا وذاك في الغرب الأوسط؛ 23 مقعدا في إلينوي وإنديانا وأوهايو. ظل مجلس الشيوخ في قبضة الجمهوريين الصورية، 51 إلى 41، لكن الديمقراطيين فازوا ب 12 مقعدا معظمها في الغرب والغرب الأوسط، وبعض الجمهوريين كانوا من المتمردين الذين سرعان ما ضموا أصواتهم إلى أصوات الديمقراطيين؛ ومن ثم كان الكونجرس الثاني والستون الجديد ذا أغلبية تقدمية في واقع الأمر.
لم يكن تافت رجعيا متشددا مثل السيناتور ألدريتش، لكن المتمردين بالحزب الجمهوري وصفوه بأنه خائن لإرث روزفلت. وبوصفهم هذا دفعوا تافت نحو اليمين في عام 1911. وقد حدث ذلك بغض النظر عن حقيقة أن وزارة العدل بإدارته أقامت دعاوى قضائية لمكافحة الاحتكار بلغت - حتى منتصف فترته الرئاسية - ضعف ما أقامته وزارة العدل بإدارة الرئيس روزفلت. صدق تافت أيضا على سلسلة من الإجراءات الإصلاحية مررها كل من الكونجرس ذي الأغلبية الجمهورية (1909-1911) والكونجرس ذي الأغلبية الديمقراطية (1911-1913). وكان من بينها قانون مان-إلكنز الخاص بتنظيم السكك الحديدية الذي صدر في عام 1910، والتوزيع المجاني للبريد لسكان الريف، وصناديق الادخار البريدي، وأيضا إنشاء مكتب الطفولة عام 1912 لتتبع «جميع الأمور المتعلقة برفاهية الأطفال وحياتهم»؛ وذلك بفضل الضغط المتواصل من مصلحات مراكز التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية فلورنس كيلي، وليليان فالد، وجوليا ليثروب.
وإبان شهري مايو ويونيو من عام 1912، أجاز الكونجرس التعديل السابع عشر للدستور، الذي يتيح الانتخاب الشعبي لأعضاء مجلس الشيوخ، وينهي بذلك الانتخاب بواسطة الهيئات التشريعية بالولايات. كان ذلك إصلاحا شعبيا، وجزءا من الحافز القوي للحركة التقدمية نحو تعميم النظام الديمقراطي، وانتصارا (كما في مصطلحات التقدميين) ل «الشعب» على «أصحاب المصالح الخاصة» المتهمين، كما أوضح الصحفيون الإصلاحيون الكاشفون للفساد، بإفساد المجالس التشريعية. وكما قال أحد الساخرين: «لقد فعلت شركة ستاندرد أويل كل شيء للهيئة التشريعية ببنسلفانيا باستثناء تطهيرها.» أما عن إجراء انتخابات أولية للرئاسة، فقد طبقت ثلاث عشرة ولاية صورا منها بحلول عام 1912. عززت الانتخابات الأولية في بعض الولايات حركة التمرد. أما في الجنوب، فقد عززت الفصل العنصري من خلال إقصاء السود من التصويت في الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي، التي كانت أكثر حسما للأمور عن الانتخابات العامة.
من ثم، لا يمكن النظر إلى السنوات الأربع لإدارة تافت على أنها ارتداد للخلف أو غير تقدمية كلية؛ إذ إنه على مستوى العلاقات الخارجية، واصلت إدارته تحركات روزفلت في منطقة الكاريبي وشرق آسيا. وأنجزت أكثر من المتوسط بدرجة هائلة، بيد أن إدارته تركت ذكرى لشيء لم يرغبه الرئيس: انقسام عميق بين التقدميين والمحافظين في الحزب الجمهوري، وهو الذي سيؤدي إلى خسارته الفترة الرئاسية الثانية عام 1912.
بعد خسارة الجمهوريين لمجلس النواب في انتخابات عام 1910، شرع التقدميون المتمردون داخل الحزب في الالتفاف حول سيناتور ويسكونسن روبرت إم لافوليت ليكون مرشحهم الرئاسي عام 1912. كان لافوليت الشخصية الأبرز بينهم؛ فقد أسس صحيفة أسبوعية خاصة، وأيضا الاتحاد الوطني للجمهوريين التقدميين للترويج لترشحه وبرنامجه الذي تضمن إقرار الانتخابات الأولية والمبادرة والاستفتاء، والانتخاب الشعبي لأعضاء مجلس الشيوخ. كان هدفه كسب دعم التقدميين لهزيمة تافت والفوز بترشيح الحزب الجمهوري عام 1912. لكن سرعان ما اتضح للافوليت في أواخر عام 1911 أن تافت ليس مشكلته الرئيسية، بل ثيودور روزفلت.
في عام 1912، أعلن روزفلت - بعد كثير من التأمل الذاتي - «خوض السباق الرئاسي»، انزعج لافوليت بشدة، وفي خطاب ألقاه في شهر فبراير في حفل عشاء جمعية الناشرين الدوريين، صب لافوليت جام سخطه على الصحافة بدرجة عنيفة للغاية في خطاب مشتت حتى إن تلك الواقعة فسرت على نحو قاس على أنها انهيار عصبي، وتقوض ترشحه للرئاسة. فاز روزفلت بمعظم الانتخابات الأولية القليلة، وفي غضون ذلك، فاقه تافت براعة في المناورات وجمع في هدوء تأييد أغلبية الموفدين إلى مؤتمر الحزب الجمهوري وقيادة اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، التي من المقرر أن تعين أكثر من 250 موفدا، وضعتهم جميعا تقريبا في صف تافت. لم يدرك روزفلت، الذي أضاع الوقت سدى، سيطرة تافت على آليات عمل الحزب الجمهوري قط. وفي مؤتمر الحزب في شيكاجو في يونيو عام 1912، فازت قوى تافت بالأصوات الإجرائية الأولى، والتي تضمنت نزاعات الاعتماد. وقفت القلة المتبقية من مؤيدي لافوليت خلف تافت، وتمت إعادة ترشيحه. وكما جاء على لسان المؤرخ لويس إل جولد، كان المؤتمر «أشبه بمباراة ملاكمة حرة» تفوق فيها تافت المعروف عنه اللطف والدماثة على سالفه المشاكس.
وفي أواخر الشهر نفسه، اجتمع الديمقراطيون في بالتيمور لتحديد مرشحهم الرئاسي. تفوق تشامب كلارك من ميزوري ورئيس مجلس النواب على الديمقراطيين الطامحين في الترشح في الاقتراعات المبكرة، لكنه لم يحقق قط أغلبية الثلثين اللازمة لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي في الرئاسة آنذاك. وفي هدوء جمع وودرو ويلسون، حاكم نيوجيرسي، تأييد الموفدين إلى مؤتمر الحزب، وعندما أعلن برايان - الذي كان لا يزال يمثل قوة كبيرة داخل الحزب وقد كان هو من وضع برنامج الحزب - دعمه لويلسون، احتل ويلسون المرتبة الأولى في الاقتراع السادس والأربعين. كان ويلسون قد انتخب حاكما لنيوجيرسي قبل عامين فقط، وكان ذلك المنصب الانتخابي الوحيد الذي احتله. وقبل ذلك، عمل أستاذ علوم سياسية، ثم رئيسا لجامعة برنستون لثماني سنوات. ولد وودرو ويلسون في مدينة ستانتن بولاية فيرجينيا لقس بالكنيسة المشيخية موال للجيش الكونفدرالي، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز ثم انضم إلى هيئة التدريس بجامعة برنستون عام 1890. كان ويلسون باحثا لامعا، وخطيبا جذابا، لكنه ذو شخصية جافة. أشار أحدهم ذات مرة إلى أن الجميع كان ينادي روزفلت ب «تيدي»، لكن لم يناد أحد قط ويلسون ب «وودي».
وفي أوائل أغسطس عام 1912، التقى ثيودور روزفلت ومؤيدوه في شيكاجو وانشقوا عن الحزب الجمهوري، وهتفوا: «نحن أمام معركة فاصلة، ومعركتنا في سبيل الرب.» وأصبح روزفلت مرشح الحزب التقدمي الوطني، الذي يطلق عليه أحيانا «حزب ثور الموظ»؛ وذلك لأنه عندما سئل روزفلت في يونيو عما يشعر به، صرح: «أشعر أنني في قوة ثور الموظ.» اختير هيرام جونسون حاكم كاليفورنيا، وهو أبرز التقدميين في الغرب، مرشحا لمنصب نائب الرئيس. وعلى مدار شهور الصيف، ازداد روزفلت انزعاجا؛ لأنه ببساطة لم يكن قادرا على تقبل حقيقة أن تافت فاقه براعة في المناورة. عكس برنامج حزب ثور الموظ الكثير من أفكار الرفاهية الاجتماعية التي رددها روزفلت في خطاب أوسواتومي قبل عامين، بيد أنه نادى بمنح المرأة الحق في الانتخاب على المستوى الوطني وأيد قوانين الحد الأدنى للأجور، التي كانت فكرة متطرفة آنذاك. وقد أيد أيضا سحب الثقة بالتصويت الشعبي من القضاة والأحكام القضائية، وهو ما أفقده دعم الجمهوريين المعتدلين. رفض روزفلت «وروحه المنقسمة حول مسألة العرق» بندا ببرنامجه ينادي بالمساواة العرقية تقدمت به الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين. وعليه دعم الكثير من الناخبين السود ويلسون، وهو الأمر الذي ندموا عليه فيما بعد. فبعد تولي وودرو ويلسون المنصب، فرضت فيرجينيا فصلا عنصريا على إدارة مكاتب البريد ورفضت نقض قانون يحظر الزواج بين الأعراق المختلفة في منطقة كولومبيا.
كان برنامجا الإصلاح التقدميان مختلفين تماما. واصل روزفلت تسمية برنامجه «القومية الجديدة»، وقابله ويلسون بتسمية برنامجه «الحرية الجديدة». اتفق الاثنان على أن التغيير أصبح ضرورة ملحة، وأن «الشعب» من يجب أن يحكم وليس «أصحاب المصالح الخاصة»، وأن الحكومة - الفيدرالية - منوط بها دور هام، وأن ارتقاء المجتمع يعني ارتقاء معيشة أفراده، لكنهما لم يتفقا على كيفية بلوغ تلك الأهداف.
من وجهة نظر روزفلت وبرنامج «القومية الجديدة»، الشركات الكبرى - المؤسسات التجارية الضخمة - لن تزول رغم أنها كانت تتصرف دائما بأنانية وعلى نحو غير ديمقراطي. يكمن الحل في وضع قواعد تنظيمية فيدرالية أقوى، خاصة من خلال هيئات منفصلة عن الكونجرس والسلطة التنفيذية، على غرار لجنة التجارة بين الولايات التي أنشئت عام 1887 وتعززت صلاحياتها عدة مرات منذ ذلك الحين، غير أن اللجنة احتاجت إلى سلطات أكثر بكثير. بالإضافة إلى ذلك، أكد برنامج حزب ثور الموظ على أهمية العدالة الاجتماعية وإدخال النظام الديمقراطي على الحكومة عبر القوانين التي تحد من ساعات العمل للنساء والأطفال، وتقر حدا أدنى للأجور، ورواتب التقاعد لكبار السن، وتقدم تعويضات للعمال. قدم هذا البرنامج قائمة منشودة لكثير من الإصلاحات التي دار حولها الكثير من النقاش، مع وجود لجان تنظيمية فيدرالية قوية في قلب تلك الإصلاحات، لضمان تنفيذها.
بدا برنامج ويلسون «الحرية الجديدة» أقل تطرفا (أو أقل تقدمية، وفقا لمنظور كل فرد) إلا أنه كان يمثل فحسب شكلا آخر من الحركة التقدمية. كان روزفلت يقود حركة انفصالية عن الحزب الجمهوري، وكان من المفترض أن يكفل له الجمهوريون التقدميون الدعم إذا كان سيحظى بأي منه؛ من ثم عكست الإجراءات والمناهج التي أعدها الرغبات الإصلاحية لمنطقتي الشمال الشرقي والجزء العلوي من الغرب الأوسط الحضريتين الصناعيتين، وهما من مناطق النفوذ الجمهوري الإصلاحي، وبدت الإصلاحات مألوفة إلى حد بعيد، في حالات كثيرة؛ إذ تم تجريبها بصور مختلفة على مستوى الولايات. على الجانب الآخر، تمثلت مهمة ويلسون في تنشيط ما نطلق عليه اليوم «القاعدة الديمقراطية» التي تألفت من الزراعيين بالجنوب والغرب الأوسط بصورة رئيسية. وبناء عليه تحتم على برنامج «الحرية الجديدة» أن يعكس التقاليد والقناعات الطويلة الأمد الخاصة بسلطات الولايات في الجنوب، جنبا إلى جنب مع مصالح الزراعيين من جميع الطوائف.
مما لا شك فيه أن الحزب الديمقراطي شهد إصلاحات كثيرة تحت زعامة برايان، وسيستمر الحزب في دعم تلك الإصلاحات تحت قيادة ويلسون. أكدت الحركة التقدمية، على نمط ويلسون، على تفكيك الاتحادات الاقتصادية (أي الاتحادات الاحتكارية وغيرها من المؤسسات التجارية الضخمة) من خلال ملاحقات قضائية قوية لمناهضة الاحتكار، وخفض التعريفة الجمركية بشدة، والتي لم تحم المنتجات الزراعية، بل استنزفت المزارعين باعتبارهم مستهلكين، ونقل السيطرة على المصارف والعملة بعيدا عن آل مورجان وغيرهم من كبار المصرفيين إلى الشعب. عبر برنامج «الحرية الجديدة» عن الدوائر الانتخابية الديمقراطية ذات الغلبة الزراعية، والأقل مدنية وصناعية، مؤكدا على العودة إلى المنافسة على نطاق أصغر وتكافؤ الفرص، بنحو أقل اعتمادا على الحكومة منه في برنامج «القومية الجديدة»؛ ليس عبر اللجان التنظيمية بالطبع. صرح ويلسون في خطاباته أنه لا يرغب في أن تتحكم الحكومة الفيدرالية في الاقتصاد، كما بدا أنه ما ينشده روزفلت، بل يرغب في الاستعانة بالحكومة لإزالة الحواجز التي تعيق المنافسة مثل التعريفة الجمركية والاتحادات الاحتكارية، وبذلك، كما يمكن لنا أن نقول، «تمهيد ساحة التنافس الاقتصادي»، وحينئذ يمكن للحكومة الخروج من اللعبة. زعم ويلسون أن برنامج الحزب «ينادي بالحرية في حين أن الآخر [برنامج حزب ثور الموظ] ينادي بقواعد تنظيمية.» فعلى النقيض من برنامج «القومية الجديدة»، لم يطالب ويلسون والديمقراطيون بمنح المرأة الحق في الانتخاب، وهو الأمر الذي رآه الجنوب شديد التطرف. بعد بضع سنوات، صدقت هيئة تشريعية واحدة فقط بإحدى ولايات الجنوب (الهيئة التشريعية لتينيسي) على التعديل الدستوري الخاص بحق المرأة في الانتخاب.
تعكس البرامج الحزبية ما يود أن يراه نشطاء الحزب يتحقق. بدأ برنامج الحزب الديمقراطي لعام 1912 بدعوة لإصلاح التعريفة الجمركية؛ حيث إن «التعريفة الجمركية المرتفعة هي السبب الرئيسي وراء التوزيع غير العادل للثروة، الذي يجعل الأغنياء أكثر ثراء، والفقراء أشد فقرا ... فالمزارع والعامل الأمريكيان من يتكبد المعاناة الكبرى بسبب هذا.» ثم طالب بعد ذلك بتطبيق صارم وتعزيز «القانون الجنائي والمدني على حد سواء في مواجهة الاتحادات الاحتكارية والمسئولين عنها.» ثم أكد مجددا على سلطات الولايات (في إشارة إلى ولايات الجنوب)، ودعا إلى قوانين من شأنها تفعيل التعديلات الدستورية الجديدة الخاصة بضريبة الدخل والانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ، وأيضا دعم الانتخابات الأولية لاختيار المرشح الرئاسي في كل ولاية، وأيد حظر تقديم المؤسسات التجارية تبرعات للحملات السياسية. أراد البرنامج تنظيم عمل «شركات السكك الحديدية، وشركات الشحن السريع، ونظام التلغراف، وخطوط الهاتف المرتبطة بالتجارة بين الولايات» بغية حماية شاحني البضائع والمستهلكين (الزراعيين). كذلك عارض البرنامج إنشاء مصرف مركزي (خشية سيطرة مؤسسات وول ستريت عليه)، ودعا إلى الائتمان الزراعي لحماية ملكية المزارع، والتعليم المهني (لا سيما الزراعي)، وإنشاء وزارة عمل فيدرالية، والحفاظ على الموارد الطبيعية، واتخاذ الإجراءات ذات الصلة. وعلى مستوى السياسة الخارجية، طالب برنامج الحزب باستقلال الفلبين، مرددا مذهب برايان المناهض للإمبريالية عام 1898. وبهذا أنهى الديمقراطيون صلتهم بالجمهوريين الاستعماريين.
وإلى جانب روزفلت وويلسون، اللذين مثلا الوسط التقدمي عام 1912 بطرقهما الخاصة، ضمت المنافسة الانتخابية مرشحين آخرين بارزين: تافت ممثلا لليمين، ويوجين في ديبس، مرشح الحزب الاشتراكي، ممثلا لليسار. يستحق ديبس والاشتراكية الأمريكية (وسبب ضآلة انتشارها) أن نقف عندهما قليلا. استخدمت كلمتا «اشتراكي» و«اشتراكية» كثيرا للغاية في الماضي من قبل الساسة الأمريكيين اليمينيين للدلالة على أي شيء يؤيد الصالح العام أو العدالة الاجتماعية بدرجة حطت من قدرهما. كان الحزب الاشتراكي الأمريكي الفعلي في أوائل القرن العشرين يعد «اتحادا واحدا ضخما» لجميع العمال، مرددا شعار فرسان العمل والشعبويين: «وحدة الطبقات المنتجة»، كما دعا الحزب إلى الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج؛ ومن ثم محو المؤسسات التجارية. انقسم الاشتراكيون في البداية حول ما إذا كان ينبغي استخدام العنف في مواجهة إدارات المؤسسات الرأسمالية، لكن الحزب التزم السلمية، وانفصل عن الجناح المتطرف (الفوضوي بعض الشيء) منه الذي يدعى «اتحاد العمال الصناعيين الدولي».
كان يوجين في ديبس الزعيم الأبرز للاشتراكية في الحقبة التقدمية. أصبح ديبس، المنحدر من تير هوت بولاية إنديانا، الذي كان ديمقراطيا في الأساس، ناشطا في مجال الحركة العمالية. أسس اتحاد عمال السكك الحديدية الأمريكيين، الذي قاد إضراب بولمان عام 1894. ألقي القبض على ديبس، وأمضى ستة أشهر في السجن، وخرج منه أكثر قناعة من أي وقت مضى بأنه لا بد من القضاء على رأسمالية الشركات من أجل صالح العمال. أصبح ديبس، الخطيب الملهم، مرشح الحزب الاشتراكي للرئاسة عام 1900، ورشح مرة أخرى في انتخابات أعوام 1904 و1908 و1912 و1920. أطلق ديبس تلك الحملة الرئاسية الأخيرة من داخل السجن؛ حيث أودعه منفذو قوانين جرائم التحريض على الفتنة إبان إدارة ويلسون وقت الحرب في السجن لقضاء عقوبة تبلغ عشرين عاما. (أطلق الرئيس وارن هاردينج سراحه يوم عيد الكريسماس عام 1921، بعد حبسه لمدة عامين ونصف.) علق أحد المعلقين على ديبس قائلا إنه: «دعا العاملين من جميع الطبقات لتشكيل مجتمع يتميز بالسخاء الشخصي في الحياة الخاصة، والمسئولية المشتركة في الاقتصاد السياسي، والتضامن الحقيقي عبر كل تلك الحدود التي تفصل الناس وتحطم أرواحهم.» كما آمن بشدة بالديمقراطية الاقتصادية والصالح العام.
حصل ديبس، في انتخابات عام 1912 ذات المرشحين الأربعة، على 900 ألف صوت؛ أي ما يقرب من 6 في المائة من جميع الأصوات المدلى بها. تبين أن ذلك، بحسابات النسب المئوية، أفضل أداء حققه الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية على الإطلاق. لطالما تساءل المؤرخون عن السبب وراء إخفاق ديبس والاشتراكية في تحقيق أداء أفضل؛ وهذا نظرا لأن كثيرا ممن استمعوا إلى خطبه تجاوبوا رغما عنهم مع تأييده لروح الأخوة بين البشر، ومطالب العدالة الاجتماعية، وأخطاء المؤسسات والحكومة التي تدعمها. شهد أوائل القرن العشرين تشكل الأحزاب الاشتراكية وتفوقها في بلدان صناعية أخرى. حظي حزب العمل البريطاني، وحزب الديمقراطيين الاجتماعيين في ألمانيا، والاشتراكيون في فرنسا بدعم شعبي واستمرارية أكبر من الحزب الاشتراكي الأمريكي، بالرغم من قدرات ديبس الخطابية الاستثنائية.
شكل 4-2: أسس يوجين في ديبس اتحاد عمال السكك الحديدية الأمريكيين عام 1894 ليخوض إضراب بولمان، هذا الخطيب الملهم كان المرشح الرئاسي للحزب الاشتراكي خمس مرات من عام 1900 إلى عام 1920. التقطت هذه الصورة له خلال الحملة الرئاسية لعام 1912.
نشر عالم اقتصاد ألماني، يدعى فرنر سومبارت، في عام 1906 كتابا صغيرا تساءل في عنوانه: «لماذا لا توجد اشتراكية في الولايات المتحدة؟» وكان جوابه المبدئي أن المستوى المعيشي للطبقات العاملة وعائلاتها كان أعلى كثيرا في الولايات المتحدة منه في أوروبا. كتب يقول: «تذهب أي يوتوبيا اشتراكية في بلد يأكل فيه العامل اللحم البقري المشوي وفطيرة التفاح أدراج الرياح.» يستطيع العامل في أمريكا بالفعل إحراز النجاح والتخلص من الحواجز الطبقية الصارمة والاستمتاع ببعض من الأمور الطيبة في الحياة. طرح كثير غيره التساؤل نفسه وتوصلوا إلى إجابات أخرى؛ مثل أن الاشتراكيين الأمريكيين كانوا ماركسيين بنحو علني أكثر من اللازم (لكن أنصار حزب العمل البريطاني كانوا كذلك قبلهم بوقت طويل)، أو أن الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات قمعتهم (لكن هذا ما حدث أيضا في أماكن أخرى وازداد فيها الاشتراكيون قوة)، أو أن هيكل النظام السياسي الأمريكي يمانع وجود حزب ثالث. (ثمة دلالة حقيقية في ذلك القول، إلا أن فشل وجود تلك الأحزاب انطوى في أغلب الأحوال على الأخذ بأفكارها من قبل أحد الحزبين الكبيرين، على غرار الديمقراطيين بل والجمهوريين أيضا في استيعابهم لمقترحات كثيرة خاصة بالشعبويين. وعلى النقيض، لم تستوعب المقترحات الاشتراكية الجوهرية على غرار الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج.) ينطوي رأي سومبارت الخاص ب «اللحم البقري المشوي وفطيرة التفاح» على جانب كبير من الحقيقة؛ كانت أجور العمال وأوضاعهم المعيشية أفضل للغاية بلا شك في الولايات المتحدة منها في أوروبا، وهذا ما يفسر جدا معدلات الهجرة المرتفعة في ذلك الوقت. انقسم عمال الولايات المتحدة، الذين كان أغلبهم من المهاجرين، بفعل اللغة والعرق، وهو الأمر الذي أفسد تضامنهم. يشدد بعض المراقبين أيضا على أن الاشتراكية نجحت بالفعل في الولايات المتحدة بصرف النظر عن إحرازها 6 في المائة فقط في أفضل أداء انتخابي لها، زاعمين أن أفكارا عديدة من تلك التي صاغها الاشتراكيون من أنصار ديبس سنت كقوانين في نهاية المطاف، على الرغم من أن ذلك لم يحدث حتى ثلاثينيات أو ستينيات القرن العشرين أو حتى أوائل القرن الحادي والعشرين.
لم تكن نتائج الانتخابات في خريف عام 1912 مفاجئة للكثير، حتى أولئك الذين خسروا؛ فبعد أن رحل روزفلت وأتباع حزب ثور الموظ عن الحزب الجمهوري، كان من المتوقع أن ويلسون والديمقراطيين سيسلكون طريقهم نحو الانتصار. يرى بعض المحللين أن الديمقراطيين كانوا سيحققون النصر حتى وإن ظل الحزب الجمهوري متماسكا؛ أي إن روزفلت، وتافت بالطبع، كانا سيخسران المعركة أمام ويلسون إذا كان واحد منهما هو المرشح الجمهوري. في واقع الأمر، فاز ويلسون بأربعين ولاية و433 من أصوات المجمع الانتخابي، أما روزفلت ففاز بست ولايات و88 من أصوات المجمع الانتخابي، وفاز تافت بولايتين و8 من أصوات المجمع الانتخابي، وهي أقل نسبة يحصل عليها رئيس في منصبه ويخوض الانتخابات لولاية ثانية. وجاءت نتائج انتخابات مجلس الشيوخ بفوز الديمقراطيين ب 51 مقعدا، و44 مقعدا للجمهوريين، ومقعد واحد للتقدميين. وفي مجلس النواب، فاز الديمقراطيون ب 63 مقعدا إضافيا بينما خسر الجمهوريون 46 مقعدا. كما فاز التقدميون ب 17 مقعدا، وبعد ضم المقاعد الجديدة استحوذ الديمقراطيون على 291 مقعدا، بينما حصل الجمهوريون على 127 مقعدا. وهكذا أحكم الديمقراطيون سيطرتهم على البيت الأبيض والكونجرس.
على المدى البعيد، رسخت انتخابات عام 1912 توجها جديدا، لكن على نحو معاكس. لم يسمح محافظو الحزب الجمهوري بانتساب أتباع حزب ثور الموظ إلى حزبهم مرة أخرى، وعلى مدى فترة طويلة من القرن العشرين، التزم الحزب الجمهوري السياسة اليمينية ، ولم يقترب مجددا من السياسة التقدمية المعتدلة التي سادت الفترة الرئاسية الثانية لروزفلت، كما لم يرشح للرئاسة شخصا قط يميل إلى اليسار - التقدمي - كروزفلت. زعمت قلة قليلة، مثل رونالد ريجان وجون ماكين، بأن ثيودور روزفلت مثلهم الأعلى، إلا أن الحقائق لا تؤيد مزاعمهم؛ فقد مقتوا بشدة الحكومة التنظيمية القوية التي أيدها روزفلت. على الجانب الآخر، لم يمثل الديمقراطيون جزءا كبيرا من الأغلبية الزراعية بالبلاد عام 1912 فحسب، بل مهدوا الطريق - عبر برنامج تشريعي قوي - أمام برنامجي «الصفقة الجديدة» و«المجتمع العظيم» اللذين أطلقهما فرانكلين روزفلت وليندون جونسون في وقت لاحق من القرن العشرين.
دعا ويلسون، عندما تولى السلطة في مارس عام 1913، الكونجرس لعقد جلسة خاصة. اعتاد الرؤساء منذ جيفرسون بعث رسائلهم فحسب إلى الكونجرس لقراءتها، بيد أن ويلسون كسر العرف التقليدي وحضر بنفسه إلى الكونجرس حاملا خطاب «الحرية الجديدة» في 13 أبريل عام 1913. وكما وعد في برنامجه، تمثلت أولوياته في خفض التعريفة الجمركية، وإخضاع النظام المصرفي والعملة للسلطة الشعبية، وتشديد قوانين مكافحة الاحتكار. وفي غضون العامين التاليين، نجح ويلسون والكونجرس في إجازة تلك الإصلاحات الثلاثة، جنبا إلى جنب مع عدد من التدابير الخاصة التي عادت بالنفع على المزارعين والعمال.
أطلق على إنجازات ويلسون والكونجرس فيما بين عامي 1913 و1915 «الحرية الجديدة الأولى»، وستكون هناك «الحرية الجديدة الثانية» فيما بين عامي 1915 و1917، التي حفلت على نحو أكثر صراحة بإجراءات خاصة بالعدالة الاجتماعية وبمزايا للمزارعين والعمال. ستنتهي السنوات الأكثر إثمارا للحركة التقدمية، والتي بدأت عام 1911، مع دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في أبريل عام 1917.
تناول ويلسون والكونجرس قضية التعريفات الجمركية أولا، التي مثلت البند الأول في برنامج الحزب الديمقراطي لعام 1912. ارتكزت الحجة على أن التعريفات الجمركية المرتفعة - التي حددتها تعريفة باين-ألدريتش الجمهورية بمعدلات تزيد عن 40 في المائة في المتوسط - تسلب المستهلكين أموالهم؛ لأنها رفعت أسعار الأشياء التي يحتاجون إلى شرائها على نحو غير مبرر. وبحلول شهر مايو، تزعم عضو الكونجرس عن ألاباما، أوسكار أندروود، تمرير مشروع قانون عبر مجلس النواب يقضي بخفض المتوسط إلى 25 في المائة تقريبا. دخلت ضريبة الدخل ضمن مشروع القانون، وتيسر ذلك بفضل التعديل السادس عشر الذي صدق عليه مؤخرا. واجه مشروع القانون صعوبات أكثر في تمريره عبر مجلس الشيوخ، لكنه أجازه في سبتمبر، وصدق عليه ويلسون كقانون في أكتوبر تحت اسم «تعريفة أندروود-سيمونز».
أصبحت البنود المتعلقة بضريبة الدخل قانونا تحت اسم «قانون الإيرادات لعام 1913». ومثلما حدث في الجدال الذي أثير حول التعديل الدستوري في عام 1909، كانت أكثر الحجج المؤثرة في صالح التعديل الدستوري هي أن أولئك الذين لديهم أكبر قدرة على الدفع، أولئك الذين كافأهم المجتمع على أفضل نحو، ينبغي لهم سداد أعلى معدل ضريبي. في عام 1913، كان مستوى التردد حول المعدلات الضريبية التصاعدية أقل مما كان عليه في عام 1909، مع ذلك كانت المعدلات التي صدق عليها بعيدة كل البعد عن كونها ضرائب مصادرة للأموال. فأولئك الذين يجنون أقل من 3 آلاف دولار كأفراد أو 4 آلاف كأزواج تم إعفاؤهم تماما. وأولئك الذين يجنون 20 ألف دولار (أي عشرة أضعاف المتوسط على الأقل) سيدفعون 1 في المائة؛ وأولئك الذين يجنون 50 ألف دولار فما فوق (بحسابات اليوم، 10 ملايين دولار تقريبا)، وهم قلة ضئيلة، سيدفعون الحد الأقصى للضريبة وهو 7 في المائة. وما لا يمكن التنبؤ به هو ما إذا كان مشروع القانون هذا سيتم تمريره، أو حتى التعديل السادس عشر نفسه في المقام الأول، إذا ارتاب المشرعون في أن المعدلات سترتفع بدرجة كبيرة خلال وقت قصير.
التفت ويلسون بعد ذلك إلى إصلاح المصارف. أراد الكثير من الناس - المصرفيون والمزارعون وأصحاب المشروعات الصغيرة، وتقريبا جميع من كان يملك المال أو يكتسبه - إصلاح النظام المصرفي الفوضوي الذي نما منذ الحرب الأهلية. تذكر هؤلاء أزمات الكساد في سبعينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته، والذعر المصرفي لعام 1907، وأدركوا أن الإخفاقات المصرفية وندرة العملة لعبتا أدوارا هامة في جميع تلك الأزمات. لكن ما نوع ذلك الإصلاح؟ طالب الزراعيون منذ عهد الشعبويين إبان تسعينيات القرن التاسع عشر بزيادة عدد تداول العملة، على ألا تكون في قبضة المصرفيين، لا سيما من في مصارف وول ستريت الضخمة. على الجانب الآخر، أدرك المصرفيون جيدا ضرورة وجود آليات لتجنب حدوث أزمات الذعر المصرفي والتهافت على سحب الودائع، بيد أنهم رأوا أنهم أفضل من يضطلع بالإشراف على النظام المصرفي مع ضمان حكومي فيدرالي بالقدرة التامة على الوفاء بالديون. انبثقت وجهة نظر المصرفيين هذه من اللجنة النقدية الوطنية، التي تعرف على نطاق واسع بلجنة ألدريتش، التي أنشئت بعد الذعر المصرفي عام 1907.
بعد استحواذ الديمقراطيين على الكونجرس في أعقاب انتخابات عام 1910، قاموا بمباشرة تحقيق حول ما أطلقوا عليه «المؤسسة النقدية الاحتكارية»، التي كانت أساس جميع الاتحادات الاحتكارية، كما زعموا؛ وذلك لأنها تحكمت في النقود نفسها؛ ومن ثم الائتمان؛ وبناء عليه تحكمت في الاقتصاد بأسره. وعلى مدى عامين، استجوب هذا التحقيق، الذي ترأسه عضو الكونجرس عن لويزيانا، أرسين بوجو، المصرفيين وغيرهم وصولا إلى جيه بيربونت مورجان نفسه. وفي نوفمبر عام 1912، أقر مورجان بأن مصرفه يملك ودائع مقدارها 100 مليون دولار تعود إلى ثلاث وسبعين مؤسسة تجارية تعمل بين الولايات، وأنه بنفسه يتولى إدارة بعض من تلك المؤسسات التجارية، وأن الأهلية الائتمانية لطالب الاعتماد تخضع لقراره الفردي. وصرح قائلا: «إن المعيار الأساسي هو الشخص»، وليس ضمان السداد. واعترف بأن مصرفه ملكية خاصة تماما وليس خاضعا لقوانين فيدرالية أو خاصة بأي ولاية أو أي رقابة عامة، ولا ينبغي له ذلك. من وجهة نظر مورجان، هذا هو الوضع الطبيعي والأفضل للأمور. أما بوجو وقطاع كبير من الشعب، فقد رأوا في ذلك اعترافا سافرا بانعدام المسئولية في القطاع المصرفي.
يجب بطريقة أو بأخرى المواءمة بين وجهة النظر الخاصة بالمصرفيين وبين تلك الخاصة بالزراعيين. حاولت مشروعات قوانين عديدة فعل ذلك، وفي النهاية، ومع تدخل ويلسون الشخصي، ظهر مزيج من المقترحات المختلفة أسفر عن تأسيس ما يقرب من اثني عشر مصرفا إقليميا، تمتلكها المصارف الخاصة التابعة لها، لكن يشرف عليها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي يعينه الرئيس ويصدق عليه مجلس الشيوخ. ستصدر مصارف الاحتياطي الإقليمية عملات («أوراق نقد الاحتياطي الفيدرالي»، كما أطلق عليها منذ ذلك الحين وحتى الآن) تدعمها الحكومة الفيدرالية. تتمتع مصارف الاحتياطي الإقليمية بسلطة تزويد المصارف الأعضاء التابعة لها بالأموال في حالة حدوث ذعر مصرفي أو تهافت على سحب الودائع؛ باختصار، يمكن أن تؤدي دور «المقرض الأخير»، وهو إحدى الوظائف التقليدية لأي مصرف مركزي. وخلال الذعر المصرفي عام 1907، اضطلع مورجان وبضع مصرفيين آخرين بتلك الوظيفة.
أسفرت جلسات الاستماع التي عقدها بوجو عن مطالبة الشعب بدرجة أكبر من المحاسبة العامة. لم تستغل سلطات «المقرض الأخير» الخاصة بالاحتياطي الفيدرالي بفاعلية في مستهل أزمة الكساد الكبير، عندما انهارت آلاف المصارف أثناء تولي هوفر الرئاسة (1929-1933). مع ذلك، أسس قانون الاحتياطي الفيدرالي لعام 1913 أول نظام وطني حقيقي منذ رفض أندرو جاكسون تجديد ميثاق المصرف الثاني للولايات المتحدة عام 1833. أصبح «الاحتياطي الفيدرالي» النظير الأمريكي لمصرف إنجلترا والمصارف المركزية بالبلدان الكبرى الأخرى. مرر مشروع القانون في مجلس النواب في سبتمبر وفي مجلس الشيوخ في ديسمبر، بشبه إجماع بين الديمقراطيين وانقسام بين الجمهوريين، وصدق عليه ويلسون في 23 ديسمبر عام 1913. ومن بين المشروعات الثلاثة الكبرى ل «الحرية الجديدة الأولى»، لم يتبق سوى وضع قانون جديد لمكافحة الاحتكار.
ظل الكونجرس الثالث والستون في حالة انعقاد دائم، حتى انتخابات عام 1914 تقريبا، باستثناء بعض فترات الراحة القصيرة. وفي ربيع عام 1914، أجاز قانون سميث- ليفر، الذي سمي تيمنا بالسيناتور هوك سميث من جورجيا وعضو الكونجرس إيه إف ليفر من ساوث كارولينا، ربط ذلك القانون التعليم المهني في مجال الزراعة والاقتصاد المنزلي بنظام منح الأراضي للكليات الموجود منذ عام 1862. كما وفر دعم الحكومة الفيدرالية للجمعيات التعاونية الزراعية؛ مما أفضى إلى نظام وكلاء المقاطعات الذين ساعدوا المزارعين في زراعة المحاصيل وتربية المواشي بطريقة علمية وفعالة أكثر. تولت الحكومة الفيدرالية بالاشتراك مع حكومات الولايات تمويل هذه الجهود، واستخدم أول اتفاق تمويل مشترك على هذا النحو في غضون بضع سنوات لإنشاء أول شبكة طرق سريعة فيدرالية. ومن باب المفارقة، أصبح نظام وكلاء المقاطعات في حينه مصدر دعم لكبار المزارعين الأكثر ثراء وميلا للتوجه المحافظ، على الرغم من أن قانون سميث-ليفر كان في جميع جوانبه إجراء مناصرا للزراعيين، وحظي بدعم المزارعين الديمقراطيين الأقل ثراء، مع ذلك كان جزءا هاما ونموذجيا من برنامج «الحرية الجديدة»، وصدق عليه ويلسون في 8 مايو 1914.
تمثل الإجراء الرئيسي الأخير في «الحرية الجديدة الأولى» في تشريع لمكافحة الاحتكار، وهنا سلك ويلسون منعطفا يمينيا بعض الشيء، مع انزلاق الاقتصاد نحو الكساد؛ فبعد أن أنجز أول بندين من أولوياته (خفض التعريفة الجمركية وإصلاح النظام المصرفي)، مضى قدما في وضع تشريع لمكافحة الاحتكار في ربيع وصيف عام 1914. حمل هذا الإجراء الذي من شأنه تعزيز قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890 - الذي جردته المحاكم من جوهره إلى حد بعيد - اسم عضو الكونجرس عن ألاباما هنري كلايتون. حدد مشروع القانون العديد من وسائل وممارسات الاتحادات الاحتكارية التي تعتبر مستهجنة ومتعارضة مع الصالح العام، ومرر القانون في مجلس النواب في مايو، ولكنه توقف في مجلس الشيوخ.
في ذلك الوقت، هب مستشار ويلسون، المحامي لويس دي برانديز، لمساعدة ويلسون. اقترح برانديز أن يدعم الرئيس مشروع قانون آخر يشق طريقه عبر الكونجرس، وينص على إنشاء لجنة تنظيمية قوية من صلاحياتها تحديد الممارسات التجارية غير العادلة حال ظهورها وملاحقتها. كما أنه كان سيكفل مرونة أكثر من مشروع قانون كلايتون. آثر التقدميون الجمهوريون، أتباع حزب ثور الموظ في السابق، هذا النوع من القوانين المنظمة المكافحة للاحتكار على مشروع كلايتون الأكثر صرامة وتصديا (من وجهة نظرهم). كان إنشاء لجنة تنظيمية قوية ما أيده روزفلت تحديدا عام 1912، بينما كان سن تشريع على غرار مشروع كلايتون ما كان يخطط له ويلسون، ومع ذلك وقف ويلسون خلف فكرة إنشاء اللجنة. أقر مجلس الشيوخ قانون لجنة التجارة الفيدرالية في أوائل سبتمبر، وصدق عليه ويلسون في 26 سبتمبر. وبعد أسبوعين تقريبا، أقرت نسخة أقل صرامة من مشروع كلايتون كقانون أيضا، ما أدى إلى الدمج بين نهجي برنامجي «الحرية الجديدة» و«القومية الجديدة».
نجح القانونان معا في مكافحة الاحتكار. استثنى القانونان الاتحادات العمالية والجمعيات التعاونية الزراعية، وبهذا قضيا على الأحكام القضائية المعتادة بأن الإضرابات والمقاطعات كانتا «تعرقلان التجارة»، علاوة على ذلك، أكد قانون كلايتون على أن عمل المرء ليس سلعة تجارية. كان الديمقراطيون الزراعيون بالجنوب والغرب الأشد تأييدا للبنود المؤيدة للاتحادات العمالية. وكانت قرارات اللجنة خاضعة للمراجعة القضائية، ولم تتفق المحاكم مع تلك القرارات على الدوام، إلا أن ويلسون أوفى بوعده بتحسين قوانين مكافحة الاحتكار بجدية.
وسرعان ما حل موعد انتخابات الكونجرس لعام 1914، وتحول ما يقرب من ستين مقعدا بمجلس النواب من سيطرة الديمقراطيين إلى الجمهوريين، إلا أن الديمقراطيين احتفظوا بأغلبية آمنة بأربعة وثلاثين مقعدا. وفي واقع الأمر استحوذ الديمقراطيون على العديد من المقاعد الإضافية بمجلس الشيوخ. وفي كلا المجلسين، كان باستطاعة رجال ويلسون من الديمقراطيين (جنبا إلى جنب مع أعضاء الكونجرس المنتمين إلى الحزب التقدمي، الذين كانوا يصوتون معهم بوجه عام) الاستمرار في تمرير إجراءات برنامج «الحرية الجديدة». لم تصدر قوانين جديرة بالأهمية في عام 1915، باستثناء قانون متعلق بحماية بحارة السفن التجارية في 4 مارس، وقد تبناه لافوليت. حظر ذلك القانون استغلال البحارة من قبل مسئولي السفن وأصحابها بممارسات بعينها مثل: الأجور المنخفضة، والطعام الرديء، وساعات العمل غير المحددة، وتركهم في موانئ أجنبية وهم مدينون لهم بأجور مستحقة. وفي نهاية المطاف، شكل هذا أهم قانون أسهم به لافوليت على المستوى الفيدرالي.
استغرق ويلسون، من جانبه، في أمور شخصية: وفاة زوجته الأولى في أغسطس عام 1914، وعلاقته العاطفية السريعة جدا، وزواجه الثاني في أواخر عام 1915. كما ازداد انشغاله بالقضايا الخارجية؛ فقد أرسل قوات من البحرية الأمريكية إلى هايتي (مثلما فعل في نيكاراجوا عام 1914 ومثلما سيفعل في جمهورية الدومينيكان عام 1916)، وانحاز إلى المتمردين في الثورة المكسيكية، وفوق هذا وذاك حاول تجنب التورط في الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في أوروبا في أغسطس عام 1914. وعندما نسفت غواصة ألمانية السفينة البريطانية لوسيتينيا في مايو عام 1915، وقتلت 128 أمريكيا كانوا على متنها، احتج ويلسون بشدة، على نحو مبالغ فيه من منظور برايان الداعي إلى السلام، الذي استقال من منصبه كوزير للخارجية.
شكل 4-3: الرئيس وودرو ويلسون وزوجته الثانية، إديث بولينج جالت ويلسون، في صورة التقطت بعد زواجهما عام 1915 وقبل إصابته بالسكتة الدماغية التي أقعدته عام 1920.
في عام 1916 وأوائل عام 1917، أقرت مجموعة كبيرة من الإجراءات الهامة من قبل الكونجرس الرابع والستين، وصدق عليها ويلسون كقوانين على الفور. فقد صدر في يوليو قانون القروض الزراعية الفيدرالية، الذي نص على تقديم الائتمان لصغار المزارعين من خلال الجمعيات التعاونية. وفي أغسطس، صدر قانون آخر بتأسيس إدارة المتنزهات الوطنية، التي جمعت المتنزهات الوطنية والمعالم الأثرية والمواقع التاريخية العديدة تحت مظلة هيئة واحدة، الأمر الذي راق للتقدميين المهتمين بقضايا الحفاظ على البيئة. وصدق الرئيس في الأسبوع الأول من سبتمبر فقط على أربعة قوانين هامة أخرى: الأول هو قانون كيتنج-أوين لعمالة الأطفال، الذي يحظر التجارة بين الولايات في أي سلعة صنعها أطفال دون عمر الرابعة عشرة. (أبطلت المحكمة العليا هذا القانون عام 1918 في قضية «هامر ضد داجينهارت».) وبعد يومين، صدق ويلسون على قانون آدمسون، الذي أعطى لعمال السكك الحديدية بالخطوط الممتدة بين الولايات ثماني ساعات عمل يوميا. كان مثل هذا الإجراء الوقائي ملحا للغاية، مع إظهار الإحصاءات أن ساعات العمل الأطول من ذلك ترفع من معدلات الحوادث على نحو كبير. صدر بعد ذلك أول قانون فيدرالي للتعويضات العمالية في 7 سبتمبر، الذي يوفر التأمين الطبي للعمال الفيدراليين الذين يعانون من إصابات عمل. وأخيرا، صدر قانون الإيرادات لعام 1916 في 8 سبتمبر، الذي رفع معدلات ضريبة الدخل ليصل أعلى معدل إلى 15 في المائة، ويسري على الدخول المقدرة ب 2 مليون دولار أمريكي فأعلى. ومع ازدياد الاحتمال غير المرغوب والواضح مع ذلك بدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، احتاجت الحكومة الفيدرالية إلى المزيد من الأموال، وساعد ذلك القانون في ذلك؛ حيث إنه تضمن أيضا ضرائب فيدرالية على التركات وضرائب على «الأرباح الاستثنائية» للشركات. وفي عام 1917، بعد أن خاضت البلاد بالفعل حربا مع ألمانيا، اضطر الكونجرس إلى رفع الضرائب بشدة. وبفرض عدم وجود ضرائب على الدخل من الأساس، فعلى الأرجح ما كانت الولايات المتحدة لتخوض الحرب العالمية الأولى لعدم امتلاكها المال الكافي لذلك.
ومن ثم، أنشأ الكونجرس والرئيس ويلسون سجلا تقدميا حافلا سيخوضان على أساسه الانتخابات الوشيكة لعام 1916. أنجز ويلسون أمورا كثيرة مما وعد بها في برنامج «الحرية الجديدة» قبل أربعة أعوام. وعندما أعيد ترشيحه، لم يواجه سوى منافس واحد مهم، وهو مرشح الحزب الجمهوري تشارلز إيفانز هيوز من نيويورك. فاز ويلسون في الانتخابات، لكن كانت الخسارة وشيكة. رشح الحزب التقدمي ثيودور روزفلت مجددا، إلا أنه رفض خوض الانتخابات، ولم يترشح أحد بدلا منه. فاز ويلسون ب 49,4 في المائة من التصويت الشعبي، وهي نتيجة أفضل كثيرا من انتخابات عام 1912، التي حصل فيها على 41,9 في المائة. إلا أن هيوز حقق نسبة أعلى من مجموع الأصوات التي حصل عليها روزفلت وتافت معا في عام 1912. فاز ويلسون بأصوات المجمع الانتخابي بفارق ضئيل للغاية؛ 277 إلى 254، وجاءت نتيجة كاليفورنيا المتأخرة لتدفعه قليلا نحو الصدارة. ولو أن أصوات الناخبين المؤيدين لروزفلت في عام 1912 الذين لا يزالون يشعرون بالاستياء ذهبت إلى هيوز، لخسر ويلسون. كان مستقبل الديمقراطيين مبهما؛ فقد اعتمد فوز ويلسون عام 1912 على انشقاق روزفلت عن حزبه، ويعود الفضل في فوزه في الانتخابات الثانية بقدر كبير إلى شعار الحملة: «لقد جنبنا الحرب»، وهو الشعار الذي ستدحضه الأحداث بعد ذلك بفترة وجيزة جدا. تراجعت الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب إلى ستة مقاعد فقط، وخسروا ثلاثة مقاعد في مجلس الشيوخ. أخفق الحزب الجمهوري مع ذلك في استرجاع الأغلبية التي حظي بها قبل عام 1911، لكنه سيحققها في عام 1918. وهكذا ولت أيام أوج الحركة التقدمية الزراعية.
أسفرت الجلسة الأخيرة للكونجرس الرابع والستين عن التشريع الأخير من برنامج «الحرية الجديدة». كان يجب إدراج الإجراء الأول، قانون الهجرة لعام 1917، ضمن قائمة الإصلاحات التقدمية، لكن من الصعب أن نعتبره جزءا من برنامج «الحرية الجديدة»؛ نظرا لأن الكونجرس أجازه في فبراير عام 1917 رغم استخدام ويلسون لحق النقض. اشترط القانون قدرة المهاجرين على القراءة بالإنجليزية أو بلغة أخرى. طرحت مقترحات مثل هذه بوضع اختبارات الإلمام بالقراءة والكتابة أمام الكونجرس قبل هذا منذ عام 1896. وعلى مدار السنوات الأولى من القرن العشرين، كان هذا الاختبار هو الوسيلة المحبذة للمطالبين بتقييد الهجرة، بما في ذلك لجنة ديلنجهام، التي افترضت أن ذلك سيخفض أعداد الوافدين من جنوب وشرق أوروبا، بما سيسمح بقدوم الوافدين «المرغوبين أكثر» من شمال وغرب أوروبا. لم يحقق هذا الاختبار ذلك الهدف مطلقا؛ ومن ثم شرع قانون عنصري صريح أكثر في عام 1921، ينص على تحديد نسب معينة للهجرة حسب الجنسيات، مع تخفيض الأعداد الوافدة من الشعوب «المرغوبة بدرجة أقل» بصورة كبيرة أو منعها تماما. كما حظر قانون عام 1917 جميع المهاجرين تقريبا من أي دولة آسيوية. كان تقييد الهجرة جزءا من الحركة التقدمية، أو على الأقل جزءا من أجندة الكثير من التقدميين اليمينيين.
خرجت بضعة قوانين أخرى تابعة لبرنامج «الحرية الجديدة» من الكونجرس بدعم من الزراعيين. صدر في مارس عام 1917 قانون جونز-شافروث الذي منح الجنسية لمواطني بورتوريكو، وقانون سميث-هيوز للتعليم المهني، الذي زاد بنود قانون سميث-ليفر لعام 1914 ودعم تدريب المعلمين والتدريب في مجالات الزراعة والاقتصاد المنزلي والمهن الصناعية. وكان هذا آخر تشريع يستهدف العمال أو التعليم في الحقبة التقدمية. وفي غضون شهر، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى. لم تنته الحركة التقدمية تماما؛ فسوف تصدر التعديلات الدستورية الخاصة بحظر المشروبات الكحولية وحق المرأة في الانتخاب لاحقا، غير أن أجندة الأعوام من 1910 إلى 1917، الخاصة بالقوانين المؤيدة للرفاهية الاجتماعية، والبنى الحكومية الأكثر ديمقراطية، وضرائب الدخل والرسوم الجمركية المخفضة، والمصرف المركزي، قد استنفدت.
الفصل الخامس
الحرب العالمية الأولى ووباء الأنفلونزا: 1917-1919
علق وودرو ويلسون عندما تسلم مقاليد الحكم أنه من سخرية الأقدار أن تضطر إدارته للتعامل مع الشئون الخارجية بصورة رئيسية. توحي قائمة الإجراءات المثيرة للإعجاب ببرنامج «الحرية الجديدة» من عام 1913 إلى عام 1917 بأن ذلك لن يحدث، إلا أن ويلسون غرق على الفور في المشكلات الخارجية في المكسيك ومنطقة الكاريبي، واستنزفت ولايته الثانية باشتراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى.
كانت خبرة ويلسون وتوجهاته، والقضايا التي دفعته نحو الرئاسة، منصبة حقا على الشئون الداخلية أكثر من الخارجية. وفي هذا الصدد، كان مختلفا تماما عن ثيودور روزفلت، الذي تحمس للعب دور الوسيط في نزاعات البلدان الأخرى، الذي «انتزع بنما» (كما أقر)، والذي طالب بقوة بعد عام 1914 بخوض الولايات المتحدة الحرب إلى جانب فرنسا وبريطانيا، بل وطلب من الرئيس تعيينه قائدا للجيش، إلا أن ويلسون رفض طلبه، مدركا أنه لن يجد من هو أشد تمردا وتهورا من روزفلت كقائد للجيش. أمضى ثيودور روزفلت فترة الحرب في إحباط شديد، ووجد ويلسون نفسه ينزلق نحو الشئون الخارجية التي لجأ فيها، نظرا لافتقاره إلى الخبرة الواسعة، إلى مثاليته القاسية في كثير من الأحيان.
بدأ انخراط الولايات المتحدة في منطقة الكاريبي في عهد ماكينلي، وازداد في عهد روزفلت وتافت، وحظي ذلك بدعم وافر من الجمهوريين أكثر من الديمقراطيين، إلا أن ويلسون لم يواصل النزعة الإمبريالية الأمريكية في تلك المنطقة فحسب، بل وسع نطاقها؛ فعندما تولى السلطة في عام 1913، كانت قناة بنما أنجزت تقريبا. وكانت كوبا ونيكاراجوا دولتين مستقلتين صوريا لكنهما ظلتا «تحت الوصاية» الأمريكية، وحافظ ويلسون على وجود بعض قوات البحرية الأمريكية في نيكاراجوا. وعندما اندلعت الاضطرابات في هايتي عام 1915، أرسل قوات البحرية إلى هناك، وظلت هناك حتى عام 1934. ومع تأزم الأوضاع في جمهورية الدومينيكان عام 1916، أرسل قوات البحرية إلى هناك أيضا، وظلت هناك حتى عام 1924. أدارت حكومات صورية البلدين. وفي يناير عام 1917، صدق ويلسون على شراء جزر الإنديز الغربية الدانماركية، التي أصبح اسمها جزر فيرجين الأمريكية. ومن تلك الجزر شرقا حتى قناة بنما غربا، أصبحت منطقة الكاريبي بحيرة أمريكية. «المثالية الويلسونية» هي منهج في التعامل مع القضايا الخارجية يسعى إلى نشر الفضائل الأمريكية - أو فرضها، إذا اقتضت الضرورة - مثل الديمقراطية والحرية والأخلاق العامة وسيادة القانون في مناطق أخرى، وهي مثل رائعة، إلا أنها لم تكن تناسب دوما تلك المناطق. إبان الوقت الذي تولى فيه ويلسون المسئولية عام 1913، استولى جنرال يدعى فيكتوريانو ويرتا على السلطة في المكسيك وقتل سلفه. رفض ويلسون الاعتراف بحكومة ويرتا وأرسل سفنا حربية عند ساحل المكسيك لتقويض نفوذه. وبعد واقعة القبض خطأ على بعض البحارة الأمريكيين، طلب ويلسون من الكونجرس تفويضه «باستخدام القوة لإخضاع ويرتا». رست قوات البحرية الأمريكية في فيراكروز في أبريل عام 1914 وظلت هناك حتى نوفمبر. قتل تسعة عشر من القوات، وما لا يقل عن مائتي مكسيكي أيضا. رحل ويرتا عن السلطة، واعترف ويلسون بخليفته «الشرعي دستوريا». مع ذلك ظلت المكسيك في حالة فوضى حقيقية، وبعد عام تقريبا أغار أحد قادة الفصائل، بانشو فيا، على مدن بمحاذاة الحدود الأمريكية. رد ويلسون بإرسال 11 ألف جندي تحت قيادة الجنرال جون جي بيرشنج لمطاردة فيا. لكنهم لم يلقوا القبض عليه قط. ومع دنو الاشتراك في حرب أوروبا، أمر ويلسون بيرشنج وقواته بالعودة إلى البلاد في يناير عام 1917. وأخيرا، حظيت المكسيك بحكومة مستقرة عام 1920، إلا أن ويلسون ومثاليته لم يكن لهما دخل بذلك.
ومع أهمية التدخلات في منطقة الكاريبي والمكسيك، واجه ويلسون والولايات المتحدة المشكلة العظمى الخاصة بتجنب الدخول في الحرب الأوروبية التي بدأت في أغسطس عام 1914. عندما اندلعت الحرب، دعا ويلسون الأمريكيين إلى الحفاظ على حيادهم في الأفكار والأفعال. بيد أنه بحلول أبريل عام 1917، كان الأمريكيون قد أقرضوا الحلفاء (بريطانيا بصفة رئيسية) ما يزيد على ملياري دولار وألمانيا 27 مليون دولار فقط. قاوم ويلسون الاشتراك في الحرب، لكنه وجد أن من المحال عدم الانحياز إلى صف الحلفاء. ومع إغراق سفينة لوسيتينيا في 7 مايو عام 1915، أرسل وزير الخارجية ويليام جيننجز برايان مذكرة احتجاجية إلى الحكومة الألمانية، داعيا فيها إلى إيقاف هجمات الغواصات. رأى ويلسون أن الرد الألماني ليس كافيا، وطلب إرسال مذكرة ثانية أشد لهجة. رأى برايان أن المذكرة الثانية ستؤدي مباشرة إلى الدخول في الحرب، ففضل تقديم استقالته في 9 يونيو بدلا من إرساله المذكرة.
لم يعقب ذلك نشوب الحرب مع الولايات المتحدة، وعلقت ألمانيا بالفعل الهجوم بالغواصات، إلا أن إدارة ويلسون مضت قدما في «التأهب»؛ أي في التعزيزات العسكرية السريعة تحسبا لاستئناف ألمانيا هجمات الغواصات. وإذا حدث ذلك، فإن المذكرة الاحتجاجية الثانية أكدت بقوة على أن الولايات المتحدة ستعتبر ذلك سببا مباشرا للحرب، وستعلن الحرب على ألمانيا. وفي يونيو 1916، أجاز الكونجرس زيادة حجم الجيش إلى الضعف تقريبا، وقدم في أغسطس مئات ملايين الدولارات لشراء سفن حربية جديدة. عارض برايان والسيناتور لافوليت وجين آدمز وغيرهم من التقدميين جهود التأهب هذه، إلا أن الكثير من الديمقراطيين ومعظم الجمهوريين في الكونجرس دعموا ويلسون. أصر التقدميون في الكونجرس، مع ذلك، بقيادة نائب نبراسكا جورج نوريس، على أن هؤلاء الذين سيستفيدون من التعزيزات العسكرية الجديدة - صانعي الذخائر وأحواض بناء السفن والمستثمرين - يجب أن يدفعوا في المقابل. وحرصوا في سبتمبر على أن يضاعف المعدل الأدنى لضريبة الدخل في قانون الإيرادات لعام 1916 من 1 إلى 2 في المائة، مع رفع الضريبة الإضافية على الدخول المرتفعة ليكون حدها الأقصى 15 في المائة، وفرض ضريبة تصاعدية على التركات وضرائب خاصة على أرباح المؤسسات وصانعي الذخائر. لم تكن الولايات المتحدة قد دخلت الحرب بعد، إلا أن التقدميين في كلا الحزبين الرئيسيين بدءوا في الانقسام حول مقدار «التأهب» الذي يجب دعمه.
رأى البعض أن من الممكن القيام بالتأهب للحرب والدعوة إلى السلام على حد سواء، وحتى أوائل عام 1917، لم يخيب ويلسون ظن هؤلاء. حاول ويلسون لم الشمل بين الحلفاء ودول المحور، وفي 22 يناير، دعا في خطاب في الكونجرس، إلى «سلام دون انتصار»؛ أي هدنة بالتفاوض. لم يجد هذا الحديث صدى لدى قطاع كبير من الشعب، وكذلك لم يأخذه الحلفاء أو الألمان على محمل الجد. وفي المقابل، أعلنت ألمانيا في 31 يناير - في رهان على الإنهاء السريع لحرب الخنادق الدامية والجامدة التي تحولت إليها الساحة الغربية - بأنها ستستأنف هجمات الغواصات بلا قيود. قطع ويلسون العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا في 3 فبراير. وفي مارس، وأثناء تمرير التشريع المحلي الأخير من برنامج «الحرية الجديدة»، أغرقت الغواصات الألمانية خمس سفن تجارية أمريكية. وفي 2 أبريل، طلب ويلسون من الكونجرس إعلان الحرب على ألمانيا. صوت مجلس الشيوخ على الفور بالموافقة على ذلك، بتصويت 82 إلى 6، وأعقبته موافقة مجلس النواب بأربعة أيام، بتصويت 373 إلى 50، وأعلن ويلسون الحرب في ذلك اليوم.
أظهر تصويت مجلس النواب أن أقلية من التقدميين، وإن كانت هامة، ظلت غير مقتنعة بضرورة خوض أمريكا هذه الحرب. صوتت جانيت رانكين النائبة عن مونتانا، وهي أول امرأة على الإطلاق تنتخب في الكونجرس، ضد إعلان الحرب. وعارض التقدميان جين آدمز وراندولف بورن دخول أمريكا الحرب، بيد أن جون ديوي، وهو تقدمي كبير بالمثل، دعم القرار كلية، وكذلك أيضا العديد من المصلحين الآخرين. أيدت عامة الشعب الرئيس، مثلما تفعل على الدوام تقريبا في مثل هذه المواقف. كانت الحرب العالمية الأولى على النقيض - بالنسبة للولايات المتحدة، وليس للدول الأوروبية المنهكة - «حربا جيدة»؛ فقد صورت على أنها معركة من أجل الديمقراطية في وجه الطغيان، وانقضت سريعا، فلم تسمح بظهور المشاعر المناهضة للحرب (بعيدا عن الأقلية الداعية للسلام). وصلت أولى القوات الأمريكية إلى فرنسا في يوم 26 يونيو، ووصل عدد الجنود التي أرسلتها الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى مليوني جندي تقريبا. وخلال فصلي الصيف والخريف، كان للحملة العسكرية الأمريكية تأثير حاسم في إنهاء الحرب في 11 نوفمبر عام 1918.
بعد دخول أمريكا الحرب بفترة وجيزة جدا، جاءت التشريعات الصادرة من الكونجرس والقوانين التنفيذية من الإدارة الأمريكية لتمركز الاقتصاد من أجل الجهد الحربي، ولتكبح أي انشقاق مناهض للحرب، ولتكشف عن وجه مظلم للتوجه التقدمي. كانت القواعد التنظيمية للمشروعات الخاصة على اختلاف أنواعها، بدءا من المزارع إلى شركات السكك الحديدية، غير مسبوقة وشاملة في ظل مجلس صناعات الحرب الجديد. كان مجلس عمالة الحرب الوطني مخولا بالتوسط في النزاعات وتفادي حدوث الإضرابات. كما وجهت لجنة الإعلام الأمني بقيادة جورج كريل الرأي العام لدعم الحرب. هذا وجمعت «قروض الحرية» المال من خلال بيع سندات الحرب لعامة الناس. كما جند «قانون التجنيد الإلزامي» الذي صدر في 18 مايو عام 1917 الشباب، وأسس سريعا جيشا أكبر حجما. بعد مرور شهر، مرر الكونجرس قانونا للتجسس، وفي مايو عام 1918 قانونا للتحريض على الفتنة. أباح هذان القانونان معا أشد القيود جورا على حرية التعبير منذ قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة التي أجيزت في عهد جون آدمز عام 1798، فيما عدا أن قوانين عامي 1917 و1918 طبقت بحزم أكبر كثيرا. أدين ما يزيد على ألف شخص بموجب هذين القانونين، وبخاصة الاشتراكيون، وحكم على يوجين في ديبس بالسجن لمدة عشرين عاما. وفي 16 أكتوبر عام 1918، استثنى قانون جديد للهجرة «الأجانب الذين يؤمنون بالإطاحة بحكومة الولايات المتحدة أو بجميع صور القانون بالقوة أو بالعنف أو يؤيدون ذلك» أو «الذين لا يؤمنون بجميع أشكال الحكم المنظم أو يعارضونها.» استهدف القانون المهاجرين الأجانب، إلا أن الرأي وقع ضحيته؛ فبصرف النظر عن مدى خصوصية الرأي، فقد أصبح حينها سببا للترحيل عن البلاد أو الاعتقال.
وعلى مدى ما يزيد على عقدين، كان الضغط يتزايد من جانب الكثير من التقدميين لحظر بيع المشروبات الكحولية. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء يمثل اعتداء واضحا على السلوك الشخصي، فلم ينظر إليه آنذاك على أنه إجراء أحمق أو عديم الجدوى أو اعتداء على الخصوصية، مثلما اتضح فيما بعد، بل اعتبر إجراء يتعلق بالصحة العامة والسلامة والأخلاق. منذ عام 1874، روج اتحاد الاعتدال المسيحي النسائي للآثار الضارة لتناول المشروبات الكحولية وحث على حظرها. وبداية من عام 1880، قدم حزب حظر المشروبات الكحولية مرشحين في الانتخابات الرئاسية، وفاز الحزب في جميع الانتخابات تقريبا منذ عام 1888 إلى عام 1920 بما يزيد على 200 ألف صوت. أقرت قوانين حظر بيع المشروبات الكحولية في الولايات والمحليات، وشملت ما يقرب من ثلاثة أرباع البلاد بحلول عام 1917. أيدت كنائس مسيحية بعينها قرار الحظر، شأنها شأن التقدميين الذين اعتبروا المشروبات الكحولية مدمرة للعائلات والبيوت ومساهما رئيسيا في انتشار الفقر والأحياء العشوائية وغير ذلك من الآفات الاجتماعية؛ ومن هذا المنطلق، كان حظر المشروبات الكحولية إصلاحا تقدميا.
بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، زاد الضغط من أجل تمرير تعديل دستوري يحظر بيع المشروبات الكحولية وتصنيعها واستيرادها. ثمة أسباب ذات صلة بالحرب وراء ذلك؛ فقد اعتبرت الجعة منتجا ألمانيا، كما احتاج الجهد الحربي إلى الحبوب. وبناء عليه، وبعد محاولات عديدة، أجاز الكونجرس في ديسمبر عام 1917 ما صار لاحقا التعديل الدستوري الثامن عشر وأرسله إلى الولايات للتصديق عليه. وفي يناير عام 1919 صدقت ست وثلاثون ولاية على التعديل الدستوري وهو العدد اللازم لإيجازه. ومرر قانون لتفعيل هذا التعديل يحمل اسم عضو الكونجرس عن مينيسوتا أندرو فولستيد في أكتوبر 1919، وبدأ الحظر على مستوى البلاد عام 1920، واستمر حتى تم إلغاء التعديل الدستوري في عام 1933.
ومع قدوم مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى فرنسا، تطلع الرئيس ويلسون إلى شكل السلام فيما بعد. وعندما تحدث أمام الكونجرس في 8 يناير عام 1918، أعلن عن خطة من أربع عشرة نقطة، كانت تلك الخطة أيضا وثيقة تقدمية بكل وضوح؛ صورة مختلفة بطعم مثالية ويلسون. تمثلت النقطة الأولى في «اتفاقات سلام مفتوحة، يتم التوصل إليها علانية»؛ أي لا مزيد من المعاهدات السرية، وتأتي بعد ذلك «الحرية التامة للملاحة عبر البحار»؛ وتجارة دولية تخلو من «كل العوائق الاقتصادية»، وخفض التسلح، «وتسوية حرة، وواسعة الأفق ونزيهة تماما لجميع المطالب الاستعمارية»، وتأتي بعد ذلك ضمانات محددة للحكم الذاتي للقوميات الخاضعة للإمبراطوريات العثمانية والروسية والمجرية النمساوية المتداعية. ودعا في النقطة الرابعة عشرة إلى تأسيس «جمعية عامة للأمم ... الغرض منها تقديم الضمانات المتبادلة الخاصة بالاستقلال السياسي والتكامل الإقليمي للبلدان الكبيرة والصغيرة على حد سواء.» نمت هذه الخطة المناهضة للإمبريالية والداعية إلى السلام والليبرالية في الاقتصاد والسياسة عن قائمة أمنيات ويلسون المثالية للعالم فيما بعد الحرب. كما أنها حفلت بالتناقضات فيما يتعلق بحديثه المتداخل عن حق تقرير المصير وتقديراته الشديدة التفاؤل حول ما ستوافق عليه القوى العظمى الأخرى المنتصرة. مع ذلك، عندما افتتح مؤتمر السلام في باريس في يناير عام 1919، صارت نقاط ويلسون الأربع عشرة الإطار العام لمعاهدة السلام.
حضر ويلسون شخصيا إلى المؤتمر ومكث هناك حتى منتصف فبراير لضمان أن النقطة الرابعة عشرة من خطته، التي تدعو لوضع ميثاق عصبة الأمم، جزء من المعاهدة، بعد ذلك عاد إلى الوطن لمدة شهر. برزت معارضة الميثاق في مجلس الشيوخ، على الرغم من أن الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس تلاشت مع انتخابات عام 1918، عاد ويلسون إلى باريس والمؤتمر دون أن تضم الحاشية المرافقة له جمهوريا بارزا واحدا، وكان ذلك خطأ سياسيا جسيما. وفي أوائل يوليو، عاد ويلسون إلى البلاد حاملا معه معاهدة فرساي المتضمنة في طياتها ميثاق عصبة الأمم.
أصبحت المعاهدة الآن بين يدي مجلس الشيوخ للتصديق عليها أو تنقيحها أو رفضها. انقسم أعضاء مجلس الشيوخ إلى أربع فرق: الديمقراطيين الداعمين للمعاهدة، و«المتعنتين» الأربعة عشر (اثنا عشر منهم ينتمون إلى الحزب الجمهوري) الذين لن يصوتوا على المعاهدة تحت أي ظرف، و«المتحفظين» المتشددين، الذين أرادوا إدخال تغييرات كبيرة وتأكيدات على أن السيادة الأمريكية ليست في خطر؛ و«المتحفظين» المعتدلين، الذين كانت اعتراضاتهم ضئيلة نسبيا. بيد أن ويلسون رفض التفكير في إجراء أي تغييرات بالمعاهدة على الإطلاق. وفي سبيل حشد الرأي العام، انطلق في جولة بالقطار حول المدن الصغيرة، قطع فيها 8 آلاف ميل في اثنين وعشرين يوما. وفي مدينة بويبلو، بولاية كولورادو سقط من الإنهاك، عاد به القطار مسرعا إلى واشنطن، وتبين هناك إصابته بسكتة دماغية شللية في 2 أكتوبر. ازداد عناد ويلسون وأصبح لا يتزعزع عن رأيه ولا يقبل بأي تغييرات أو «تحفظات» أيا كانت. أحبط الطرفان المتطرفان - الديمقراطيون الداعمون والمتعنتون في مجلس الشيوخ - المعاهدة المعدلة في 19 نوفمبر؛ 38 صوتا مؤيدا في مقابل 53 صوتا معارضا. نمت ردة فعل الشعب، الذي رحب بعصبة الأمم عن شعوره بالصدمة، وفرضوا أن تتم إعادة نظر في مارس عام 1920. وعلى الرغم من أن أعضاء مجلس الشيوخ المنتمين إلى الحزب الديمقراطي البالغ عددهم واحدا وعشرين صوتوا هذه المرة في صف المتحفظين، فلم تتحقق أغلبية الثلثين اللازمة.
في تلك الأثناء، مر عام 1919؛ ذلك العام المريع. كان تسريح الجند وإلغاء الصناعات والهيئات المرتبطة بالحرب غاية في السرعة وانعدام التنظيم. ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بشدة، وأعيدت السكك الحديدية، التي تم تأميمها مدة الحرب، إلى ملكية الشركات. وفي أوائل عام 1920، شجع قانون إيش-كامينز على التعاون بين إدارات الشركات، وبهذا ناقض سياسات مكافحة الاحتكار والدمج السارية منذ قضاء ثيودور روزفلت على اتحاد نورذرن سيكيوريتيز الخاص بمورجان وهاريمان عام 1904. ومع زوال قيود زمن الحرب، نشبت اضطرابات بين العمال والرأسماليين؛ فدخل ما يزيد على 4 ملايين عامل في إضراب عن العمل عام 1919. واستمر «إضراب عام» ل 60 ألف عامل في سياتل لخمسة أيام، وأظهر قوة الاتحادات والنقابات العمالية، لكنه أفزع العامة أيضا، المتخوفين بالفعل من استيلاء البلاشفة والفوضويين على البلاد. وفي سبتمبر بدأ 360 ألف عامل في صناعة الصلب إضرابا لأربعة أشهر. فشل الإضراب في نهاية الأمر، واستطاعت شركات الصلب عرقلة الاتحادات العمالية حتى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين.
اندلع ما يزيد على أربعة وعشرين عمل شغب عرقي حول البلاد، جرى أسوؤها عند أحد شواطئ شيكاجو في يوليو عندما جنح صبي أمريكي من أصل أفريقي نحو منطقة للبيض فقط. وبانتهاء الأحداث كان قد قتل أكثر من ثمانية وثلاثين شخصا وجرح أكثر من خمسمائة شخص. وفي النهاية، ابتداء من شهر نوفمبر، شرعت وزارة العدل بقيادة النائب العام إيه ميتشيل بالمر، المجهزة بقوانين التجسس والتحريض على الفتنة والهجرة، في إلقاء القبض الجماعي على المهاجرين وغيرهم من المشتبه بأن لهم توجهات تخريبية. اعتقلت «حملات بالمر» ما يربو على عشرة آلاف شخص بوقت انتهائها في منتصف عام 1920. وجرى ترحيل ما يزيد على خمسمائة شخص.
لم يتبق سوى إجراء تقدمي واحد، إلا أنه كان هاما، ألا وهو: تشريع حق المرأة في الانتخاب. بحلول عام 1912، كانت ثماني ولايات قد مررت القوانين الخاصة بحق المرأة في الانتخاب، كذلك أدرجه روزفلت في برنامج حزب ثور الموظ. تظاهر المناصرون لحق المرأة في الانتخاب، لكن ويلسون رفض دعمهم؛ يرجع هذا بدرجة ما إلى جذوره و«قواعده» في الجنوب المحافظ على المستوى الاجتماعي، وأيضا ميوله الشخصية، ومع ذلك، زادت الضغوط إبان أوج الحركة التقدمية.
وفي النهاية وافق ويلسون في يناير عام 1918 على دعم تعديل دستوري ينص على حق المرأة في الانتخاب. مرر التعديل على الفور من مجلس النواب، ولكنه تعطل في مجلس الشيوخ، وعندما حل موعد التصويت أخيرا في أكتوبر، أحبط التعديل بفارق ثلاثة أصوات. استهدفت مجموعات الضغط المؤيدة لحق المرأة في الانتخاب بعد ذلك أعضاء الكونجرس الذين رفضوا التعديل في انتخابات نوفمبر. وفي فصل الربيع، أجاز الكونجرس التعديل الدستوري الخاص بحق المرأة في الانتخاب في يسر؛ فأجازه مجلس النواب في 21 مايو عام 1919 ب 304 أصوات مقابل 89، ومجلس الشيوخ في 4 يونيو ب 56 صوتا مقابل 25. وبالرغم من رفض ولايات عديدة (خاصة في الجنوب) للتعديل، فقد صدق عليه العدد اللازم لإيجازه وهو ست وثلاثون هيئة تشريعية في أغسطس عام 1920، وأدرج التعديل التاسع عشر في الدستور. كفل التعديل ما يلي: «لا يجوز للولايات المتحدة ولا لأي ولاية فيها حرمان مواطني الولايات المتحدة حق الانتخاب أو الانتقاص لهم من هذا الحق لعلة الجنس.» وهكذا، في عام 1920، دخل آخر تعديل من بين التعديلات «التقدمية» الأربعة الدستور.
استنفد الآن البرنامج التقدمي الذي صاغه برايان وروزفلت وويلسون ولافوليت، لكن الإصلاح لم ينضب قط، ولا القوانين التي تواجه الآثار السلبية للرأسمالية الصناعية، إلا أنها احتاجت إلى فترة لالتقاط الأنفاس لبضع سنوات. احتاج الدافع التقدمي والإيمان التقدمي (الذي تضرر بطرق عديدة بأحداث عام 1919) والزعامة التقدمية إلى هدنة للتفكير. خرج القادة التقدميون «الأربعة الكبار» جميعهم من المشهد، فعليا أو ضمنيا، قرابة ذلك الوقت. فقد توفي روزفلت، وهو في الواحدة والستين من عمره. وظل لافوليت في مجلس الشيوخ لكن بمهام ضئيلة نسبيا في اللجان؛ خاض السباق الرئاسي عام 1924 وفقا لقائمة ترشيح «تقدمية»، لكنه حصل على ما يقل عن 5 ملايين صوت في التصويت الشعبي و13 صوتا فقط في المجمع الانتخابي، وتخلف كثيرا عن المرشح الجمهوري الفائز، كالفين كوليدج. أما برايان، على الرغم من تمتعه بشعبية دائمة في الجنوب والغرب، فلم يتول ثانية أي منصب سياسي بعد استقالته عام 1915 من منصب وزير الخارجية. ظل ويلسون، بعد إصابته بالسكتة الدماغية، عاجزا وغير مؤثر في الواقع حتى تركه منصبه في مارس عام 1921. وحتى ذلك الوقت، كان في رعاية زوجته إديث وحماها، التي أدارت الفرع التنفيذي لشهور بفاعلية. حل محل التقدميين العظماء الأربعة الرؤساء المحافظون وارن جي هاردينج (1921-1923)، وكالفين كوليدج (1923-1929)، وهيربرت هوفر (1929-1933).
وفوق تلك الآفات الاجتماعية والسياسية جميعها لعامي 1918 و1919، ضربت البلاد كارثة طبيعية هائلة أيضا. كان خوض الحرب سيئا بما يكفي؛ فقد خدم في الجيش 4 ملايين و700 ألف رجل وامرأة، 53 في المائة منهم خدموا خارج البلاد. قتل منهم أكثر من 53 ألفا في المعارك، ومات 63 ألفا آخرون بأسباب أخرى، لكن الأسوأ من ذلك الكارثة الطبيعية - وباء الأنفلونزا العظيم لعامي 1918 و1919 - التي أودت بحياة ما يقرب من 600 ألف أمريكي ومن 50 إلى 100 مليون شخص حول العالم.
ضرب الوباء الولايات المتحدة في ثلاث موجات. في مارس عام 1918، داخل معسكر تدريب للجيش شيد سريعا في كانساس يدعى معسكر فانستن، ظهرت فجأة أعراض الأنفلونزا على عدة مئات من الجنود المستجدين. وبعد أسبوع، برزت أنباء الإصابات بالأنفلونزا في نيويورك. انحسرت هذه الموجة الأولى خلال الصيف، لكن في أواخر أغسطس بدأت موجة أخرى عنيفة للغاية بمنشأة فورت ديفينز العسكرية بولاية ماساتشوستس، وهي منطقة تجميع للجنود تمهيدا لنقلهم إلى فرنسا. أصيب المئات بالمرض، ومات العشرات في يوم واحد، وأفاد كبير الأطباء بأن «جثث الموتى متكدسة في أنحاء المشرحة كما يتكدس الحطب.» حملت ناقلات الجند الجنود المرضى والمرض إلى أوروبا. تلاشت الاتهامات الأولية بأن الألمان وراء هذا الوباء كإجراء ضمن حرب بيولوجية عندما عرف أن الألمان أنفسهم يتساقط جنودهم بالسرعة نفسها التي يتساقط بها جنود الحلفاء من المرض.
اجتاح المرض أوروبا، وأعلنت الصحافة الإسبانية عن أعداد وفيات تفوق أي مكان آخر؛ وهذا فقط لأن إسبانيا، كإحدى دول الحياد، لم تكن خاضعة للرقابة العسكرية. ولقاء هذه المصداقية، كان جزاء الإسبان أن سمي المرض «الأنفلونزا الإسبانية». بدأ المرض مع ذلك في كانساس، على الأرجح نتيجة تحور جيني في الدجاج أو الطيور الأخرى انتقل مباشرة إلى الجنود الشباب. تعد الأنفلونزا عادة أكثر خطورة بين الأطفال وكبار السن، لكن هذا النوع هاجم الشباب؛ ربما لأن استجابة أجهزتهم المناعية له كانت قوية جدا. كانت الرئة تمتلئ بالسوائل، فأغرقت المصابين فعليا. لم يمت كل من أصيب بالعدوى، بيد أن معدل الوفيات بهذه الحالة تحديدا كان مرتفعا بدرجة استثنائية؛ وذلك لأن سلالة المرض كانت أشد فتكا من أي سلالة عادية. كان السبب فيروسيا، وفي عصر كان لا يزال فيه الفحص المجهري والطب ينقصه فعليا أي دراية بالفيروسات، كان العلاج والدواء خاطئين وغير فعالين.
أودت الموجة الثانية بأكثر ضحاياها في خريف عام 1918. كان شهر أكتوبر الأسوأ، بحصيلة معلنة تبلغ 195 ألفا من سان فرانسيسكو إلى بوسطن. طلب من المواطنين تجنب التجمعات الكبيرة؛ فأغلقت دور السينما والمدارس والكنائس أبوابها، ووزعت أقنعة الوجه على نطاق واسع وألزمت بارتدائها بعض المدن. وفي احتفالات النصر في «يوم الهدنة» في 11 نوفمبر، اجتمعت حشود مهللة، فتفشى المرض مرة أخرى. تضاءل المرض في ديسمبر وحتى يناير، إلا أن موجة ثالثة ضربت البلاد في أواخر شتاء عام 1919. وبحلول أواخر الربيع، تراجع المرض ثم تلاشى بالغموض نفسه الذي بدأ به، بعد أن انتشر كالنار في الهشيم بين الأعداد العرضة للعدوى، في الولايات المتحدة وحول العالم. كانت أعداد الوفيات العالمية من وباء الأنفلونزا أعلى كثيرا من أعداد الوفيات في المعارك جراء الحرب العالمية نفسها.
من المؤكد بدرجة كبيرة أن التفشي المبكر للمرض كان أسرع لأنه بدأ في الثكنات العسكرية، وانتقل بعد ذلك إلى ناقلات الجند ثم عبر ساحات المعارك في أوروبا. تمخض غياب المعرفة العلمية بالفيروسات عن عدة محاولات عديمة الجدوى للوقاية من المرض، على الرغم من أن الحقيقة الواضحة بأنه مرض معد شجعت السلطات الحكومية على نحو سليم على تقليل الاحتكاك بين البشر بقدر المستطاع.
تعد الصحة العامة والصرف الصحي وأعمال النظافة وتقليل الأمراض الطفيلية مثل الإنكلستوما، والتطورات في مجال العلوم الطبية والبيولوجية بصفة عامة من إنجازات الحقبة التقدمية. كانت النظافة هدفا رئيسيا للنساء المصلحات، اللائي نجحن في ذلك وساعدن الشعب الأمريكي على التحلي بمظهر أنظف والتمتع بعمر أطول عنه في مطلع القرن. أظهر وباء الأنفلونزا أن البحث والعلاج لا يزال ينقصهما الكثير، وهكذا الحال أيضا بالنسبة للمشروعات التقدمية الأخرى. كانت الفروق في الثروة والدخل تزداد اتساعا، ولم يتغير الوضع تقريبا بالرغم من فرض ضريبة الدخل التصاعدية. كما أن العلاقات بين العمال وأصحاب رأس المال كانت لا تزال سيئة على نحو ينذر بالخطر، وتكشف هذا من خلال الإضرابات العديدة التي حدثت في عام 1919 ورفض إدارات الشركات والمحاكم الرضوخ لمطالب المفاوضات الجماعية بين العمال وأصحاب العمل. منح حق التصويت للنساء البيض، لكن حرم منه الرجال (والنساء) السود بفعل قوانين جيم كرو في الجنوب إبان الحقبة التقدمية، فنقضت بذلك وعود حق الانتخاب بعصر إعادة الإعمار. (مع ذلك استطاعت النساء السود خارج ولايات الجنوب التصويت الآن.) كما حلت «مشكلة» الهجرة عبر تقييد الهجرة. أدرك التقدميون رجالا ونساء في أعماقهم أن ثمة المزيد من الأمور الأخرى التي يجب فعلها لحل مشكلات المجتمع، لكن على مدى أكثر من عقد، ندرت الإجراءات الإصلاحية، بعد أن عادت الحكومات المحافظة.
الفصل السادس
انحسار الحركة التقدمية: 1919-1921
تفاقمت أحداث عام 1919 المثبطة للآمال مع الانكماشات الاقتصادية. بلغ إجمالي الناتج القومي ذروته بسعر الدولار الثابت عام 1918، ثم انخفض في عامي 1919 و1920، وهبط بشدة عام 1921. استمر تضخم أسعار وقت الحرب للسلع الاستهلاكية في الارتفاع عام 1919، بينما ركدت الأجور والدخول. تضاعف مؤشر أسعار الاستهلاك للطعام والملابس بين عامي 1915 و1920، وانخفضت الأسعار التي استلم بها المزارعون مقابل بوشل من الذرة أو رطل من القطن - والتي بلغت ذروتها في عامي 1918 و1919 - لأقل من النصف عام 1920. لم يصل ركود ما بعد الحرب الحاد إلى الحضيض تماما حتى عامي 1921 و1922، إلا أن عامي 1919 و1920 كانا قاسيين، وغامضين أيضا.
كانت الزراعة على مشارف هزة سوقية تاريخية، مع أن القوة السياسية للزراعيين ظلت كبيرة في بعض الأحيان على مدار جزء كبير من عشرينيات القرن العشرين رغم انخفاض عدد الأعضاء الديمقراطيين في الكونجرس. وفي منطقة السهول الكبرى وغربا، استأنف الأشخاص الراغبون في العمل بالزارعة تقديم طلبات تأسيس عزب ريفية جديدة عامي 1919 و1920 بمستويات ما قبل الحرب تقريبا، غير أن العدد النهائي لسندات الملكية التي استوفت الشروط انخفض بشدة خلال العقد من 8 ملايين فدان في عام 1920 إلى ما يقل عن مليوني فدان في عام 1930. استمرت الزراعة كقطاع في الاقتصاد في النمو، بنحو رئيسي نتيجة للزيادات في حجم ورسملة المزارع. كان هذا يعني أن المزارعين الصغار، «أصحاب العزب الريفية» سواء بالمعنى الاصطلاحي أو الدارج، بدأ عددهم في التقلص. هناك أسباب عديدة وراء ذلك: الانخفاض الحاد في أسعار السلع؛ ومن ثم في دخول المزارعين عام 1920، والمنافسة من المزارع الأكبر حجما القادرة أكثر على شراء واستخدام الجرارات وغير ذلك من الآلات الجديدة (الباهظة الثمن)، والحقيقة البيئية التي لا يمكن تغييرها المتمثلة في أن حدود المزارع الريفية وصلت إلى منطقة السهول العليا، وحتى نورث داكوتا وتكساس غربا، ووايومنج ومونتانا شرقا، حيث نقص هطول الأمطار أو المياه الجوفية جعل زراعة المحاصيل أمرا مشكوكا فيه ومحفوفا بالمخاطر.
مع ذلك استمر الحلم الزراعي، مجتذبا العائلات الشابة غربا. لا يزال المشتغلون بالزراعة يشكلون 30 في المائة من الشعب الأمريكي، إلا أن الإحصاء السكاني لعام 1920، كأنه جاء ليؤكد على استقرار الزراعة، كشف عن أن الأشخاص الذين يعيشون في قرى ريفية يقل عدد سكانها عن 2500 شخص، إضافة إلى سكان المزارع، لم يعودوا يشكلون أغلبية التعداد السكاني الأمريكي. أصبح سكان المدن - وفقا لذلك التعريف السخي الذي وضعه مكتب الإحصاء السكاني الذي عرف المدينة بأنها ذلك المكان الذي يقطنه 2500 شخص فأكثر - يشكلون أغلبية طفيفة. أبدى الكونجرس ذو الأغلبية الزراعية، للمرة الوحيدة في التاريخ، صدمته ورفض إعادة تقسيم دوائر مجلس النواب وفقا لإحصاء عام 1920، كما هو مطلوب دستوريا (وهو سبب رئيسي وراء القوة المستمرة للزراعيين في عشرينيات القرن العشرين).
مع ذلك لم يعد الكونجرس ديمقراطي الغلبة مثلما كان بين عامي 1911 و1919. استرجع الجمهوريون كرسي الرئاسة بسهولة عام 1920 بحصولهم على 16 مليونا و100 ألف صوت أو 60,3 في المائة من التصويت الشعبي لقائمة هاردينج وكوليدج، في مقابل 9 ملايين و100 ألف صوت أو 34,1 في المائة للديمقراطيين جيمس إم كوكس وفرانكلين دي روزفلت. وكان فارق أصوات المجمع الانتخابي أكبر: 404 إلى 127. لم يستأثر كوكس وروزفلت إلا بأصوات «تكتل الجنوب» وولاية كنتاكي. كما شهدت الانتخابات فوزا ساحقا للجمهوريين في الكونجرس، لترتفع أغلبيتهم في كل من مجلس الشيوخ (59 في مقابل 37 للديمقراطيين) ومجلس النواب (302 في مقابل 131 للديمقراطيين و2 مستقلين).
وطدت انتخابات عام 1920 التحول الحاسم نحو الجمهوريين. كان أعلى عدد للديمقراطيين في الكونجرس هو 291 مقعدا في مجلس النواب عام 1912، وتراجع إلى 131 عام 1920. وفيما عدا تكتل الجنوب، الذي احتفظوا به، فقد خسروا في مناطق مختلفة؛ الغرب والغرب الأوسط والشرق. وعند مقارنة نتائج انتخابات عام 1920 مع تلك الخاصة بعام 1912، نجد أن الديمقراطيين خسروا 10 مقاعد في نيوجيرسي، و11 مقعدا في كل من ميزوري وبنسلفانيا، وجميع المقاعد الثلاثة عشر في إنديانا، و17 مقعدا في إلينوي، و19 مقعدا في أوهايو، و22 مقعدا في نيويورك، وخسروا ما يقل عن 10 مقاعد في 18 ولاية أخرى. كانت الأغلبيات الديمقراطية في الكونجرس مهمة جدا لتمرير تشريعات برنامج «الحرية الجديدة». قضت الأغلبيات الجمهورية عام 1918 وسطوتها الكبرى عام 1920 على أي فرصة لخروج أي تشريع إصلاحي آخر، باستثناء التعديل الدستوري الخاص بحق المرأة في الانتخاب. كانت التشريعات الأكثر أهمية التي أجازها الكونجرس المنتخب عام 1920 هي: قانون جونسون الذي صدر في 19 مايو عام 1921، والذي قيد الهجرة على الأساس العرقي الخاص بالبلد الأصلي، ورفع التعريفات الجمركية، وأعادها إلى مستويات ما قبل عام 1913؛ وقانون الإيرادات لعام 1921، الذي خفض معدلات ضريبة الدخل من المستويات المرتفعة وقت الحرب (مع أنه لم يعدها إلى مستويات ما قبل الحرب؛ كان الحد الأدنى للضريبة 8 في المائة والحد الأقصى للضريبة الإضافية 50 في المائة على الدخول التي تزيد عن 200 ألف دولار). أما على مستوى النشاط الفيدرالي - من جانب الرئاسة أو الكونجرس أو المحاكم - فقد انتهت الحركة التقدمية.
وكما أظهرت بوضوح انتخابات عام 1920، لم يعد يتأثر الناس بالنشاط السياسي بالنيابة عنهم، ولم يعد الشعار التقدمي للمعارك السياسية «الشعب ضد أصحاب المصالح الخاصة» له صدى. كان المزاج العام ساخطا وقمعيا ومحبطا. انتهت الحرب بالانتصار في نوفمبر عام 1918، لكن ما يزيد على 100 ألف أمريكي قتلوا. وقتل وباء الأنفلونزا، «الكارثة الطبيعية» التي حيرت جميع الأفراد والمؤسسات ممن حاولوا إيقافها، خمسة أو ستة أضعاف قتلى الحرب.
أصبحت الآمال العظيمة والخطب الحماسية والمثالية التي أحاطت بنقاط ويلسون الأربع عشرة وعصبة الأم باهتة تماما، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى الإعاقة الشخصية للرئيس وعناده. وجد المزارعون أنفسهم محاصرين من الجانبين: الأسعار المنخفضة والتكاليف المرتفعة، كما وجد العمال الصناعيون أن الأجور لا ترتفع لمواكبة التضخم، وحل الكساد.
أما العلاقات العرقية - التي لم تكن قط نقطة مضيئة في سجل التقدميين حتى في أيام مجدهم - فقد ساءت. قبل عقد، اتحد التقدميون البيض والسود لتأسيس الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، وأنشئت الرابطة الحضرية الوطنية بعدها بفترة وجيزة. بيد أن هذه التحركات المهمة نحو العدالة العرقية واجهت صعوبات في سنواتها الأولى؛ فقد عزز ويلسون الفصل العنصري على المستوى البيروقراطي الفيدرالي على نحو أكثر شمولا عن أي وقت مضى، كما أنه عرض فيلم دي دبليو جريفيث السيئ السمعة «ميلاد أمة» - الذي احتفى بجماعات كو كلوكس كلان إبان عصر إعادة الإعمار - في البيت الأبيض. انبعثت جماعة كو كلوكس كلان جديدة في أعقاب الفيلم، وبين عامي 1920 و1925، انضم إليها عدة ملايين من الأعضاء، وأعلنت نفسها جماعة «أمريكية 100 في المائة»، وبعد أن أحرقت الصلبان وروعت السود في الجنوب، أصبحت ذات نفوذ سياسي في أنحاء المنطقة. علاوة على ذلك، امتد تأثيرها إلى الولايات الشمالية أيضا، وهيمنت لبضع سنوات على إنديانا وأوريجون، ولم تستهدف السود فقط، بل أيضا اليهود والكاثوليك والمهاجرين.
اتخذت رغبات الإصلاح القوية التي اندمجت تحت راية الحركة التقدمية قبل الحرب العالمية الأولى منعطفا مريرا بعد عام 1919 نحو الامتثال المجتمعي والتطرف في الوطنية والاستقامة. وبدلا من جهود تعميم النظام الديمقراطي في كافة أعمال الحكومة، وتوسيع نطاق حق الانتخاب وإقامة العدالة الاجتماعية والصناعية، ظهرت أغلبية واضحة عبر البلاد الآن تشيد بالشركات، بما في ذلك المؤسسات التجارية الكبرى، وذلك في ظل اتساع الفجوة في الثروة والدخل بين الطبقات. لم تمجد الشركات وتستحسن تصرفاتها على هذا النحو من قبل منذ عهد ماكينلي.
هكذا كان الوضع فيما يتعلق بالمزاج العام للبلاد والتشريعات الفيدرالية؛ فقد كان المزاج العام للبلاد محافظا أكثر منه تقدميا، وأما التشريعات الفيدرالية، فلم تعد مبتكرة وأصبحت - في جوانب هامة عديدة مثل الهجرة - متعصبة تماما لمصالح مواطنيها الأصليين على حساب المهاجرين. بيد أن المزاج العام وصياغة القوانين لا يعكسان على الإطلاق قصة الحركة التقدمية بالكامل. ظلت الجوانب المتعلقة بالمدن من الحركة التقدمية باقية، بل ازدهرت خلال العشرينيات. فواصلت مراكز التكافل الاجتماعي أداء دورها التعليمي والاجتماعي بين فقراء المدن سواء من المواطنين الأصليين أم المهاجرين. وأصبح البحث في مجالات العلوم الاجتماعية أكثر مؤسساتية مع نشأة الهيئات غير الحكومية مثل المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية، ومؤسسة بروكينجز، ومجلس أبحاث العلوم الاجتماعية، وغيرها. كما مولت المؤسسات الخيرية المزيد من المدارس وعيادات الصحة العامة الريفية بالجنوب. وسنت قوانين محلية وعلى مستوى الولايات تلزم الأطفال بالالتحاق بالمدارس حتى سن معينة. انتشر منصب مدير المدينة كشكل من أشكال الحكومة المدنية - الذي كان وسيلة لدعم الكفاءة وكبح الفساد - حول البلاد. وبهذه الطرق وغيرها، استمرت التغييرات - وهي بالطبع أقل لفتا للنظر من تغييرات ما قبل عام 1918 ولكنها هامة - على مدار العشرينيات، وما كان يمكن لها أن تحدث دون النشاط التقدمي السابق عليها. وبالرغم من أن الحكومة الفيدرالية أصبحت محافظة، فقد وجد التقدميون في مجالات العدالة الاجتماعية والتعليم والحكومة المحلية - الذين كان أغلبية عظمى منهم من النساء - أمامهم أمورا كثيرة لفعلها؛ فقد طرحوا القضايا وأنجزوا التغييرات التي اكتسبت زخما مع زيادة المكون الحضري للسكان خلال العشرينيات؛ فتقريبا النمو السكاني كله في الولايات المتحدة منذ عام 1920 كان مدنيا أو حضريا، ولم يعد ريفيا، وبهذا النحو مهدوا لإصلاحات برنامج «الصفقة الجديدة» بالثلاثينيات.
ما الذي حققته الحركة التقدمية إذا وضعنا جميع الحقائق في الاعتبار؟ حققت أمورا كثيرة للغاية. كانت الولايات المتحدة عام 1921 مختلفة أيما اختلاف عما كانت عليه في ذلك اليوم من أيام شهر سبتمبر عام 1901 عندما أصبح ثيودور روزفلت رئيسا للبلاد؛ فقد لجمت الثروات الهائلة، سواء المملوكة للشركات أم الأفراد؛ ليس تماما بأي حال لكن بدرجة واضحة. وبعد إقرار التعديل الدستوري الخاص بضريبة الدخل، جرى تعديل هيكل الضرائب؛ مما خفض الاعتماد على التعريفة الجمركية - تلك الضريبة التي فرضت على المستهلكين - ووفر أيضا مرونة كبيرة للغاية لوضع السياسات. وأدخل النظام الديمقراطي على الحكومات المحلية وحكومات الولايات والحكومة الفيدرالية بطرق هامة؛ الانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ، وقوانين المبادرة والاستفتاء، وحق المرأة في الانتخاب، والانتخابات الأولية المباشرة، وغير ذلك. وصدرت القوانين التي تحدد ساعات العمل للنساء والأطفال، والرجال في بعض الحالات، في اليوم أو في الأسبوع، على الرغم من أن المحاكم ذات النزعة المحافظة كانت تبطلها في بعض الأحيان. كذلك حظيت قوانين تعويض العمال عن الإصابات أثناء العمل بقبول واسع، وأيضا أصبح الفقر والأمراض المستوطنة غير مقبولين، هاجمتهما مراكز التكافل الاجتماعي والعاملون في المجال الاجتماعي والمؤسسات الخيرية غير الحكومية مثل صناديق روكفلر الخيرية. وقدم علماء الاجتماع أبحاثا موثوقة حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ونشأ أول المراكز الفكرية البحثية في تلك السنوات. لقد تحقق التقدم بلا شك على أصعدة عديدة.
لكن ظلت هناك فجوات. لم يتوافق التقدميون قط على أمور بعينها؛ أبرزها العرق والعلاقات العنصرية والحرب والإمبريالية. بعض المصلحين - مثل جين آدمز وقاضي شيكاجو إدوارد أوزجود براون ودبليو إي بي دوبويز وغيرهم من مؤسسي الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين - بذلوا قصارى جهدهم للحد من التمييز العنصري، مع ذلك لم يقدم بعض من زعماء الحركة التقدمية سوى القليل في هذا المجال؛ دعا روزفلت - الذي آمن حتى النخاع بفكرة تفوق العرق الأنجلوساكسوني - بوكر تي واشنطن على العشاء في البيت الأبيض، إلا أنه رفض التعامل بإنصاف مع الجنود السود الذين اعتقلوا بتهمة إثارة الشغب في براونزفيل بتكساس عام 1906 بعقد جلسة استماع عادلة لهم. أما برايان فقد كان يحمل مشاعر التسامح تجاه معظم المجموعات وشعر «ببعض الانزعاج تجاه فكرة تفوق البيض»، لكنه قلما اعترض على قوانين جيم كرو، وهو الأمر الذي كان سيعرض نفوذه السياسي في الجنوب للخطر. أما وودرو ويلسون، المنحدر من فيرجينيا لأبوين مواليين للجيش الكونفدرالي، فقد كان مؤيدا تماما للفصل العنصري والتمييز العرقي. كانت حركة تحسين النسل جزءا أيضا من الحركة التقدمية؛ التي دعت إلى إجراء عمليات تعقيم إلزامية «لغير اللائقين»، وفيهم «المعاقون ذهنيا» وحاملو الأمراض المزمنة (لا سيما التي تنتقل بالممارسة الجنسية) حتى العاهرات والشديدو الفقر. ارتبط بتلك الحركة النظريات العرقية التي صنفت «النورديين» (و«الأنجلوساكسونيين ») باعتبارهم الأصلح بين البشر، ويتفوقون على «أبناء البحر المتوسط» وبالطبع على الأفارقة والآسيويين. ويبدو أن العنصرية التي أيدتها بعض النظريات العلمية سادت مواقف الأمريكيين، بدءا من الأكاديميين إلى رجل الشارع، خلال أوائل القرن العشرين، وساهم التقدميون في ذلك بل أيدوه.
انقسم التقدميون على نحو واضح حول الإمبريالية والحروب. في ذلك الوقت، لم يكن هناك من يضاهي روزفلت في الحياة العامة الأمريكية في نزعته التوسعية والاستعمارية الحماسية. من ناحية أخرى قدم ويلسون نفسه على أنه مناهض للاستعمار وصانع للسلام، كما أيد تشريعا في عامي 1916 و1917 يمنح حق المواطنة لمواطني بورتوريكو ويعد بالاستقلال النهائي للفلبين، لكنه لم يتردد في إرسال قوات من البحرية الأمريكية عندما لم تتفق جمهوريات الكاريبي مع معاييره، أو في إرسال قوات أمريكية إلى المكسيك في محاولة للسيطرة على الأوضاع هناك. عارض برايان بناء إمبراطورية أمريكية في الفلبين وغيرها، وأمضى قدرا كبيرا من وقته أثناء الفترة القصيرة التي كان فيها وزيرا للخارجية في إدارة ويلسون في التفاوض على ثلاثين معاهدة ترسخ آليات التحكيم مع بلدان أخرى، قبل استقالته اتساقا مع مبادئه نتيجة لمذكرة الاحتجاج العدوانية الثانية التي أراد ويلسون إرسالها بخصوص سفينة لوسيتينيا. رفضت جين آدمز والكثير غيرها من التقدميين من خارج الحكومة تأييد إعلان الحرب على ألمانيا في عام 1917، وظلوا بشجاعة دعاة للسلام أثناء الحرب وبعدها، على الرغم من التهديدات التي أحاطت بحريتهم بموجب قانوني التجسس والتحريض على الفتنة.
مع ذلك اتفق التقدميون حول قضايا عديدة، أكثرها جوهرية القناعة بوجود المجتمع وبأن الجميع أفراد به، وأن الصالح العام يؤثر على الجميع وينبغي الحرص عليه بكل طريقة متاحة. وفي هذا الشأن، تعارضت نظرتهم مع الفردية المطلقة والأنانية اللتين سادتا من قبل في العصر المذهب وعادتا في عشرينيات القرن العشرين (وفي تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، اللذين أطلق عليهما «العصر المذهب الثاني» نظرا لسوء التوزيع المتزايد للثروة والدخل على وجه الخصوص). وعلى النقيض من الفلسفة الاقتصادية الاجتماعية الخاصة بالروائية العظيمة آين راند، وأنصارها كرونالد ريجان وآلان جرينسبان ويمينيي أوائل القرن الحادي والعشرين، اشمأز التقدميون من فكرة «الجشع أمر جيد»، كما رفضوا الداروينية الاجتماعية، ونظرية «البقاء للأصلح» الاقتصادية؛ لأنهم عرفوا أن الأصلح ببساطة هم الأكثر ثروة ونفوذا، كما أنكروا أن الأسواق تعمل على نحو تلقائي وسليم بموجب «قوانين طبيعية»، مثلما اعتقد محافظو العصر المذهب ومؤيدو السوق الحرة مؤخرا.
إلا أن التقدميين كانوا ذرائعيين، ورأى كثير منهم أن أفضل وسيلة للتقدم تتمثل في الحكومة، على كافة المستويات، وبهذه الطريقة اتفقوا مع الشعبويين الذين سبقوهم في تسعينيات القرن التاسع عشر. انتشر هذا الاعتقاد بين الليبراليين بالحضر على غرار ألفريد إي سميث، حاكم نيويورك في عشرينيات القرن العشرين، والأفراد المحيطين به الذين كان الكثير منهم من النساء و(أو) اليهود أو الأيرلنديين أو من الجماعات الأخرى المهاجرة حديثا. قادت فرانسيس بيركنز رابطة المستهلكين بنيويورك منذ عام 1910 ورشحها حاكم نيويورك سميث لإدارة لجنة نيويورك الصناعية؛ وفي عام 1933 عينها الرئيس فرانكلين روزفلت وزيرة للعمل، فكانت أول وزيرة في تاريخ أمريكا. أما بيل موسكوفيتس فقد أسست لجنة مصانع نيويورك عام 1910 في أعقاب حريق مصنع تراينجل، وأصبحت معاونة أساسية للحاكم سميث. ساعدت كل منهما وغيرهما من أكبر التقدميات في الحفاظ على استمرار الإصلاح خلال عشرينيات القرن العشرين، قيل إن «ثورة أل سميث» سبقت «ثورة روزفلت» في ثلاثينيات القرن العشرين. لم يتوافق سميث - الأيرلندي الكاثوليكي الذي عارض حظر المشروبات الكحولية، وهو أحد أبناء تنظيم تاماني هول السياسي بمدينة نيويورك - مع الملامح التقدمية المعتادة بأي من هذه الطرق، بيد أن سنوات إدارته لنيويورك شكلت جسرا بين السنوات والتوجهات الفكرية بين الحركة التقدمية وبرنامج «الصفقة الجديدة».
مع ذلك، لم يستطع عدد كبير من التقدميين الذين واصلوا نشاطهم في العشرينيات - لا سيما الجمهوريين منهم أو الذين انتموا إلى حزب ثور الموظ في السابق - قبول برنامج «الصفقة الجديدة»؛ لأنه، من وجهة نظرهم، تمادى كثيرا نحو مركزية الدولة، بما يتعارض مع ما يؤمنون به بشدة من مذهب الفردية، في حين أن تقدميين آخرين أيدوا هذا البرنامج، وسعوا في السياق المختلف تماما لأزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات نحو تأسيس مجتمع أكثر إنصافا وسخاء. استنفدت الأجندة والحماسة التقدمية الأصلية بحلول عام 1920، إلا أن أمورا كثيرة تحققت، ولا يمكن الرجوع فيها. لم تنته الحركة التقدمية تماما؛ فقد أحرزت تقدما بالفعل، في بعض الأماكن، مثل ولاية نيويورك تحت إدارة سميث، واستمرت ، لكن كانت هناك حاجة لتحقيق المزيد، وفي أزمة الكساد الكبير الطاحنة التي تلت عام 1929، سيتحقق المزيد في نهاية المطاف.
مراجع
الفصل الأول: المأزق: أسباب السخط في العصر المذهب
The “scanty fortunes” idea may be found in Tocqueville’s
Democracy in America (Garden City, NY: Anchor Books, 1969), 636-37.
Statistics on U.S. population, economics, and society are most easily found in the
Historical Statistics of the United States: Colonial Times to 1970 . 2 vols. (Washington: Government Printing Office, 1975), or the update,
Historical Statistics of the United States: Earliest Times to the
5 vols. (New York: Cambridge University Press, 2006).
الفصل الثاني: أزمة تسعينيات القرن التاسع عشر: 1889-1901
Worth Robert Miller’s “Building a Populist Coalition in Texas, 1892-1896,” appeared in
Journal of Southern History
74 (May 2008).
Milton Friedman expressed his pro-silver views in “Bimetallism Revisited,”
Journal of Economic
4 (autumn 1990): 85-104, and “The Crime of 1873,”
Journal of Political Economy
98 (Dec. 1990): 1159-94.
The quotation from Michael Kazin’s
A Godly Hero: The Life of William Jennings Bryan (New York: Anchor Books, 2007), may be found on xviii-xix.
الفصل الثالث: تبلور الحركة التقدمية: 1901-1908
As Roosevelt used it, the word “bully” had nothing to do with bullying. It simply meant “outstanding” or “fi rst rate,” as in “Bully for you.”
The TR biographer referred to is Kathleen Dalton:
Theodore Roosevelt: A Strenuous Life (New York: Vintage Books, 2004), quoted here from 298, and later from 272.
The Walter Rauschenbusch quotes are from his
Christianity and the Social Crisis (New York: Macmillan, 1908), 265, 352, 345.
The support of Protestant Social Gospelers and social-justice-minded Catholics for trade unions and the labor movement is perceptively traced in Ken Fones-Wolf, “Religion and Trade Union Politics in the United States, 1880-1920,”
International Labor and Working-Class History
34 (fall 1988): 39-55.
That men as well as women took an active role at Hull-House: from Rima Lunin Schultz, “Hull-House after Jane Addams: Revisiting the Social Settlement as Women’s Space: 1889-1935,” paper delivered at the Newberry Library Seminar on Women and Gender, Chicago, Dec. 5, 2008.
Robert D. Johnston,
The Radical Middle Class: Populist Democracy and the Question of Capitalism in Progressive Era Portland, Oregon (Princeton, NJ:
Oregon System.
الفصل الرابع: أوج الحركة التقدمية: 1908-1917
The Frank P. Walsh statement is part of his essay, “Labor’s Day,” in
American Federationist (a publication of the American Federation of Labor) 25 (Oct. 1918): 895, 897. Also helpful on the U.S. Industrial Relations Commission are Allen Davis, “The Campaign for the Industrial Relations Commission, 1911-1913,”
Mid-America
45 (Oct. 1963): 211-28; the obituary of Walsh in the
New York Times , May 3, 1939; and Shelton Stromquist,
Reinventing “The People”: The Progressive Movement, The Class Problem, and the Origins of Modern Liberalism (Urbana: University of Illinois Press, 2006), esp. chap. 7.
The Elizabeth Sanders quotation is in her book,
Roots of Reform: Farmers, Workers, and the American State, 1877-1917 (Chicago: University of Chicago Press, 1999), 169. The later quotation is on 158. Sanders’ book articulates the thesis that Progressivism’s legislative muscle lay in agrarian parts of the country. Party affiliation-Populist, Democratic, or insurgent Republican-was less important than connections to the agrarian economy and the concentration of political strength in such districts. In urban or mixed districts, she argues, the interests of labor (the natural ally of agrarians) were diluted by competing forces. Close students may want to know that Sanders’ interpretation is recent and, to me, convincingly solves the problem of interparty, intersectional, urban
and
rural support for Progressivism. Earlier interpretations such as Robert Wiebe’s widely read
The Search for Order (1967) stress reformers’ search for social control of both the new industrial capitalism and the mass of potentially radical people. Others such as Martin Sklar had written in the 1960s, from a Marxist perspective, that Progressive-era reform was a cover for business interests. This became known as the “corporate-liberal” interpretation. In
The Corporate Reconstruction of American Capitalism, 1890-1916 (1988), Sklar explored more subtly and in more detail how capitalism moved “from the competitive to the corporate stage of its development” by 1914.
The Eric Rauchway quotation on Bryanites: in “Armchair Warriors,”
Reviews in American History
32 (2004): 228. For a comprehensive survey of wealth distribution comparing the Gilded Age and Progressivism with the present, see Louis Uchitelle, “The Richest of the Rich, Proud of a New Gilded Age,”
New York Times,
July 15, 2007, and supportive letters to the editor, July 17, 2007. One of the few contemporary treatments is Willford Isbell King,
Income in the United States, Its Amount and Distribution, 1909-1919 (New York: Harcourt, Brace and Co., for the National Bureau of Economic Research, 1921-22), 146.
Bryan’s speech in Congress, “An Income Tax,” given Jan. 30, 1894, may be found in
Speeches of William Jennings Bryan, rev. and arranged by Himself, with a Biographical Introduction by Mary Baird Bryan, His Wife (New York: Funk & Wagnalls, 1913), I:159-79. Quotations here are from 161, 163-65, and 174.
For E. R. A. Seligman, see his
The Income Tax: A Study of the History, Theory, and Practice of Income Taxation at Home and Abroad (1911; 2d ed., New York: Macmillan, 1914), 33, 640. The
Hartford Courant
quote appears in John D. Buenker, “The Ratifi cation of the Federal Income Tax Amendment,”
Cato Journal
1 (spring 1981): 221-22.
The Herbert Croly quotations are in
The Promise of American Life (1909; New York: Macmillan, 1911), at 118-19, 155-57, 381-82, 409. Theodore Roosevelt’s Osawatomie speech is available online at
www.theodore-roosevelt.com/trnationalismspeech.html .
Biographies of Wilson include H. W. Brands,
Woodrow Wilson (New York: Times Books, 2003) and John Milton Cooper,
The Warrior and the Priest: Woodrow Wilson and Theodore Roosevelt (Cambridge, MA: Belknap Press of Harvard University Press, 1983). “divided heart on race” of TR: Kathleen Dalton’s phrase, in
Theodore Roosevelt: A Strenuous Life , 92.
Wilson, “ours is a program of liberty,” is in Lewis L. Gould,
Four Hats in the Ring: The 1912 Election and the Birth of Modern American Politics (Lawrence: University of Kansas Press, 2008), 164. Wilson explained his program in
The New Freedom: A Call for the Emancipation of the Generous Energies of a People (Garden City, NY: Doubleday, Page, 1913).
The commentator on socialism is David J. O’Brien, “A Vote for Socialism: Like Christianity, It’s Never Been Tried.” In
Commonweal , July 18, 2008, 18.
الفصل السادس: انحسار الحركة التقدمية: 1919-1921
Bryan’s “certain discomfort with white supremacy” are words taken from Kazin,
A Godly Hero , 227.
قراءات إضافية
تقدميون يطرحون آراءهم الخاصة
Croly, Herbert.
The Promise of American Life.
New York: Macmillan, 1909.
Eisenach, Eldon J., ed.
The Social and Political Thought of American
Indianapolis, IN: Hackett Publishing Company, 2006.
James, William.
Name for Some Old Ways of Thinking: Popular Lectures on
New York: Longmans, Green, 1907.
Lloyd, Henry Demarest.
Wealth against Commonwealth. [1894] Westport, CT: Greenwood
Lippmann, Walter.
Drift and Mastery: An Attempt to Diagnose the Current Unrest.
New York: Mitchell Kennerley, 1914.
Rauschenbusch, Walter.
Christianity and the Social Crisis.
New York: Macmillan, 1907.
Ross, Edward Alsworth.
Sin and Society: An Analysis of Latter-Day Iniquity.
Boston: Houghton, Miffl in, 1907.
نظرة عامة على الحقبة التقدمية
Diner, Steven J.
A Very Different Age: Americans in the Progressive Era.
New York: Hill & Wang, 1998.
Fink, Leon.
Major Problems in the Gilded Age and Progressive Era.
Lexington, MA: D. C. Heath, 1993.
Flanagan, Maureen.
America Reformed: Progressives and Progressivisms, 1890s-1920s.
New York: Oxford University Press, 2007.
McGerr, Michael.
A Fierce Discontent: The Rise and Fall of the Progressive Movement in America, 1870-1920.
New York: Free Press, 2003.
Sanders, Elizabeth.
Roots of Reform: Farmers, Workers, and the American State 1877-1917.
Chicago: University of Chicago Press, 1999.
Stromquist, Shelton.
Reinventing “The People”: The Progressive Movement, The Class Problem, and the Origins of Modern Liberalism.
Urbana: University of Illinois Press, 2006.
تأريخ
Johnston, Robert D. “Re-Democratizing the Progressive Era: The Politics of Progressive Era Political Historiography.”
Journal of the Gilded Age and
1 (Jan. 2002): 68-92.
تراجم
Brands, H. W.
Woodrow Wilson . New York: Times Books, 2003.
Brown, Victoria Bissell.
The Education of Jane Addams.
Dalton, Kathleen.
Theodore Roosevelt: A Strenuous Life.
New York: Vintage Books, 2004.
Davis, Allen F.
American Heroine: The Life and Legend of Jane Addams . Chicago: Ivan Dee, 2000.
Kazin, Michael.
A Godly Hero: The Life of William Jennings Bryan.
New York: Anchor Books, 2007.
Knight, Louise D.
Citizen: Jane Addams and the Struggle for Democracy . Chicago: University of Chicago Press, 2005.
Lewis, David Levering.
W. E. B. DuBois: A Biography.
New York: Henry Holt, 2008.
Salvatore, Nick.
Eugene V. Debs: Citizen and Socialist.
Urbana: University of Illinois
Sklar, Kathryn Kish.
Florence Kelley and the Nation’s Work: The Rise of Women’s Political Culture, 1830-1900.
New Haven, CT: Yale University
Unger, Nancy C.
Fighting Bob La Follette: The Righteous Reformer . Chapel Hill: University of North Carolina Press, 2000.
Weisberger, Bernard A.
La Follettes of Wisconsin: Love and Politics in Progressive America.
Madison: University of Wisconsin Press, 1994.
موضوعات محددة
Andrews, Thomas G.
Killing for Coal: America’s Deadliest Labor War [the 1914 Colorado coal strike and Ludlow massacre]. Cambridge, MA: Harvard University Press, 2008.
Capozzola, Christopher J. N.,
Uncle Sam Wants You: World War I and the Making of the Modern American Citizen.
New York: Oxford University Press, 2008.
Deverell, William, and Tom Sitton, eds.
California Progressivism Revisited.
Berkeley: University of California Press, 1994.
Flamming, Douglas.
Bound for Freedom: Black Los Angeles in Jim Crow America.
Berkeley: University of California Press, 2005.
Flanagan, Maureen.
Seeing with Their Hearts: Chicago Women and the Vision of the Good City, 1871-1933.
2002.
Gordon, Linda.
The Great Arizona Orphan Abduction.
Cambridge, MA: Harvard University
Greene, Julie.
The Canal Builders: Making America’s Empire at the Panama Canal.
New York: Penguin Press, 2009.
Gregory, James N.
Southern Diaspora: How the Great Migrations of Black and White Southerners Transformed America.
Chapel Hill: University of North Carolina Press, 2005.
Grossman, James R.
Land of Hope: Chicago, Black Southerners, and the Great Migration . Chicago: University of Chicago Press, 1989.
Higham, John.
Strangers in the Land: Patterns of American Nativism, 1860-1925.
New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 2002.
Johnston, Robert D.
The Radical Middle Class: Populist Democracy and the Question of Capitalism in Progressive Era Portland, Oregon . Princeton:
Kazin, Michael.
Barons of Labor: The San Francisco Building Trades and Union Power in the
Urbana: University of Illinois
Kloppenberg, James T.
Uncertain Victory: Social Democracy and Progressivism in European and American Thought, 1870-1920 . New York: Oxford University Press, 1986.
McMath, Robert C.
American
. New York: Hill & Wang, 1993.
The Populist Vision.
New York: Oxford University Press, 2007.
Sugrue, Thomas J.
Sweet Land of Liberty: The Forgotten Struggle for Civil Rights in the North . New York: Random House, 2008.
مصادر الصور
(2-1) Nebraska State Historical Society RG3198-126. (3-1) Library of Congress LC-USZ62-113665. (3-2) Library of Congress LC-H25-16945-F. (3-3) Library of Congress LC-H261-4783. (3-4) Wisconsin Historical Society WHi-65140. (3-5) Library of Congress LC-B2-2464-10. (3-6) Oregon Historical Society ba18217. (4-1) Library of Congress LC-B2-1369-16. (4-2) Library of Congress LC-H261-1734. (4-3) Library of Congress LC-USZ62-118488.
Unknown page