168

Tafkir Cilmi

التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر

Genres

كما أنه: لا يمكن أن توجد «فيزياء موضوعية»؛ أي إن من الممكن وضع حد فاصل واضح بين الموضوعي والذاتي. وإن الفيزياء الذرية لا تعالج بنية الذرات، بل أحداثا نحس بها عند الرصد. وليس من الممكن جعل الرصد عملية موضوعية، ولا يمكن اعتبار نتائجه شيئا واقعيا بصورة مباشرة. وكتب: «تنحصر مهمة الفيزياء في وصف الترابط بين الإحساسات وصفا شكليا فقط. وبإمكاننا إيجاز الواقع الحقيقي كما يلي: بما أن جمع التجارب تخضع لقوانين الميكانيك الكوانتي، أصبح خطأ قانون السببية مثبتا إثباتا قاطعا.»

43

ومما يجلب الانتباه أن هيزنبرج لم يكن له موقف واضح ثابت من «الواقع الموضوعي»؛ فهو يكتب عن الذرة مثلا: «في الجوهر نجد أن الدقيقة الأولية ليست جسيما ماديا في الفضاء والزمان، إنما هي بشكل من الأشكال مجرد رمز تتخذ قوانين الطبيعة عند تقديمه شكلا سهلا واضحا ... إن خبرات الفيزياء الحديثة تبين لنا أن لا وجود للذرات كجسيمات بسيطة. إلا أن تقديم مفهوم الذرة يمكننا من صياغة القوانين التي تحكم المعطيات الفيزيائية والكيميائية صياغة سهلة.» ولكنه يكتب في نفس المقال: «إن الشرط المسبق للتدخل الفعال العلمي في العالم المادي والموجه لأغراض عملية هو المعرفة الواعية بالقوانين الطبيعية المصاغة بقالب رياضي.» وكتب في مكان آخر: «العلم يسأل بشكل من الأشكال محاولة لوصف العالم بالمدى الذي يكون فيه هذا العالم مستقلا عن فكرنا وعملنا. أما حواسنا فليست سوى وسيلة محدودة الكمال، تمكننا من اكتساب المعرفة عن العالم الموضوعي.»

44

لكن هيزنبرج في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، يقدم لنا بعضا من أصرح ما رأيت من تأكيدات لهذا الموقف الذاتي الغير موضوعي؛ فهو يقول: «في التجارب التي تجرى على الوقائع الذرية علينا أن نتعامل مع الأشياء والحقائق، مع ظواهر لها نفس واقعية الحياة اليومية. لكن الذرات أو الجسيمات الأولية ذاتها ليست واقعية مثلها. إنها تشكل عالما من الإمكانات أو الاحتمالات لا عالما من الأشياء والحقائق.» توسم آراء أينشتين بأنها واقعية دوجماطيقية، وهي تمثل موقفا طبيعيا جدا في رأي هيزنبرج. والحق أن الغالبية العظمى من العلماء يدينون به. هم يعتقدون أن أبحاثهم تشير فعلا إلى شيء واقعي «يوجد هناك» في العالم المادي، وأن الكون المادي الشرعي ليس مجرد ابتكار من خيال العلماء. إن النجاح غير المتوقع للقوانين الرياضية البسيطة في الفيزياء يدعم الاعتقاد بأن العالم إنما يطرق واقعا خارجيا موجودا بالفعل. لكن هيزنبرج ينبهنا إلى أن ميكانيكا الكم قد بنيت أيضا على قوانين رياضية بسيطة ناجحة تماما في تفسير العالم المادي، غير أنها لا تتطلب أن لا يكون لهذا العالم وجود مستقل، بالمعنى الذي تقول به «الواقعية الدوجماطية». وعلى هذا فإن العلم الطبيعي ممكن بالفعل دون أساس من الواقعية الدوجماطية.

45

وهنا يعلن هيزنبرج عن موقف مدرسة كوبنهاجن من الواقع فيقول: «إن تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم يبدأ بمقارنة. إنه يبدأ من حقيقة أننا نصف تجاربنا بلغة الفيزياء الكلاسيكية، بينما نعرف في نفس الوقت أن هذه المفاهيم لا تلائم الطبيعة بدقة، والتوتر بين نقطتي البداية هاتين هو أصل الطبيعة الإحصائية لنظرية الكم. وعلى هذا فلقد اقترح أحيانا أن علينا أن نهجر المفاهيم الكلاسيكية تماما، وأن تغيرا جذريا في المفاهيم المستخدمة لوصف التجارب قد يرجع بنا إلى وصف للطبيعة غير إحصائي، وموضوعي تماما. على أن هذا الاقتراح يبنى على سوء تفهم. إن مفاهيم الفيزيقا الكلاسيكية هي مجرد تهذيب لمفاهيم الحياة اليومية، وهي جزء أساسي من اللغة التي تشكل الأساس لكل العلوم الطبيعية. إن موقفنا الواقعي في العلوم هو أننا نستخدم بالفعل المفاهيم الكلاسيكية لوصف التجارب. ولقد كانت مشكلة نظرية الكم هي أن نجد التفسير النظري للتجارب على هذا الأساس. لا فائدة ترجى من مناقشة ماذا يمكن عمله لو كنا كائنات أخرى غيرنا نحن. وهنا يجب أن ندرك - كما قال فون فايتسيكر - أن «الطبيعة أقدم من الإنسان، لكن الإنسان أقدم من العلوم الطبيعية». والفقرة الأولى من الجملة تبرر الفيزياء الكلاسيكية ومثلها الأعلى هو الموضوعية الكاملة. أما الفقرة الثانية فتخبرنا عن السبب في أننا لا نستطيع أن نهرب من مفارقة نظرية الكم، نعني حاجتنا إلى استخدام المفاهيم الكلاسيكية.»

46

ومن الملاحظ أن هيزنبرج هنا يعتبر الحديث عن عالم موضوعي واقعي تتمتع فيه أصغر الجسيمات بنفس الوجود الموضوعي الذي ننسبه للأجسام الميكروفيزيائية حديثا مستحيلا وغير مقبول؛ إذ الظواهر الميكروفيزيائية لا توجد إلا بالنسبة لذات تدركها وبالنسبة لآلة تقيس عليها؛ فوجودها يكمن في كونها مدركة ومختبرة من طرف عالم، ومن طرف منظومة بين الذات والموضوع الملاحظ نتيجة التداخل والتفاعل بينها؛ أي يعدو من غير الممكن اعتبار الظواهر تتمتع بوجود واقعي فيزيائي مستقل وموضوعي بالمعنى الاعتيادي للكلمة. بل تخلقه خلقا إراديا حرا تلعب فيه مبادرة العالم دورا أساسيا. كما يشكل فيه الاختيار عنصرا رئيسيا.

47

Unknown page