Tabiciyyat Fi Cilm Kalam
الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل
Genres
39
ويمكن بشيء من التطويع والتخريج أن نجد مكنون مبدأ الحتمية، أو بعض عناصره الأساسية، في مذهب الطبائع؛ فقد ارتبطت الحتمية بالفلسفة المادية التي يرتد فيها العالم فقط إلى المادة وطبائعها، فضلا عن أن الحتمية العلمية هي الوجه الآخر للسببية أو العلية، ومصطلح العلية أدق وأفضل.
40
وقد كانت العلية هي نسيج العلم الكلاسيكي من حيث هو يقيني ضروري آلي اطرادي ميكانيكي ... على الإجمال حتمي، فتلخص عمل العلماء في البحث عن علل الظواهر التي هي حتمياتها، استكشافا للحتمية الشاملة التي هي هدف العلم النهائي، وكما هو معروف، لم يتنازل المعتزلة عن العلية أبدا.
ثم اقترنت الحتمية العلمية في ذروة نضجها على مشارف القرن التاسع عشر بفكرة القانون العلمي الكامن في الطبيعة، التي حلت محل فكرة القانون المفروض عليها من أعلى؛ من الله. مع القانون الكامن يغدو نظام الطبيعة منبثقا من ماهيات الأشياء وصفاتها الجوهرية، وبفهمنا لهذه الصفات ندرك ما بينها من علاقات؛ وعندئذ نعلم أن تلك العلاقات أو الروابط التي تصل الأشياء ببعضها تجري على نسق مطرد، مكونة ما نسميه بالقانون العلمي، و«الطبيعة هنا تفسر نفسها بنفسها؛ لأن قوانينها صادرة عن ماهيات الأشياء أو طبائعها.»
41
كل هذا صحيح، لكن ذلك المكنون لمبدأ الحتمية العلمية، أو بعض عناصره التي وجدناها في مذهب الطبائع، من قبيل المادية والعلية الضرورية والقانون الكامن ... هذا كان ذا موضوع في الفيزياء الكلاسيكية التي تقوض عرشها مع مطالع القرن العشرين. والآن مع ثورة النسبية والكمومية وعلوم الذرة والإشعاع التي اجتاحت هذا القرن ... مع فيزيائه اللاحتمية المعاصرة، التي علمتنا معنى القطيعة المعرفية، لم يعد هذا ذا موضوع. وتلك الفلسفة الطبيعية المادية أصبحت قرينة السذاجة بعد أن قاد لويس دي بروي
L. De Broglie (+1987) ثورة الميكانيكا الموجية والتفسير الإشعاعي للمادة، فارتدت إلى كهارب، لا إلى كتل ترتطم بالقدم في الفلسفة الطبيعية المادية. وقد انهارت دعائم العلية ولم يعد أحد من العلماء يبحث عنها الآن، إنهم يبحثون عن معاملات الترابط الإحصائي لا العلل المحتمة، عن التفسيرات لا الأسباب، أما فكرة القانون الكامن فقد تبخرت تماما واتضح أن القانون العلمي لا هو مفروض من أعلى ولا هو كامن من أسفل. القانون العلمي مجرد فرض عقلي ناجح، أبدعه عقل إنسان مقتدر، دخل نسق العلم؛ لأنه أنجح من كل ما سبقه، إذن سيتلوه ما هو أنجح ... وهكذا دواليك في متوالية التقدم العلمي الذي سيستبد بنا الطموح للحاق بها، وليس للعود إلى عصر الفيزياء الكلاسيكية، للحتمية أو الطبائع.
إن الطموح في أن تبدأ طبيعياتنا من حيث انتهى الآخر الغربي، لا سيما وأن مسار العلم الطبيعي لا يسمح بغير هذا، فلا مندوحة عن القطع المعرفي مع طبيعيات علم الكلام القديم، وإن ازدهت بفكرة الطبائع.
ونعود إلى نسبوية وتاريخانية الأفكار، لنسجل أنه كان جميلا من المعتزلة - في عصرهم - الإيمان بالعلية وحتمية الطبيعة، والأجمل أن العلم عندهم نتيجة للتوحيد بينما هو عند الأشاعرة مقدمة له، قال العلاف: إن العقل هو القدرة على اكتساب العلم. وقال الجبائي: إن العقل هو العلم نفسه. وفي كل حال كان الإيمان عندهم لا يعد حقيقا بدون العلم، بدون المعرفة؛ فاعتمدوا منطقا حسيا لدراسة الطبيعة التي آمنوا بقانونيتها، واهتدوا إلى العلاقة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية حين قالوا باستحالة تعري الجواهر عن الأعراض، وهذه الأخيرة - أي الأعراض - موضوع المعرفة الحسية القاصرة عن إدراك الجواهر، لكنها طريق صحيح لمعرفة العالم الخارجي. والمعرفة العقلية بالجواهر تأتي بعد اجتياز المعرفة الحسية بالأعراض؛ أي إن لديهم تصورا صحيحا لعمل العقل النظري في تحويل الإدراكات الحسية إلى إدراكات عقلية، لكنهم لم يحاولوا تطبيق هذا على دراسة عالم الطبيعة أو عالم الإنسان؛ لأنهم لم يكونوا يبحثون في الطبيعة لذاتها،
Unknown page