181

ثم تفرق الغزالي عن أخيه، فارتحل إلى أبي نصر الاسماعيلي بجرجان، ثم إلى إمام الحرمين بنيسابور، فلازمه حتى صار أنظر أهل زمانه، وكان الإمام يحبه باطنا لما يصدر عنه من سرعة العبارة وقوة الطبع، وابتدأ بالتصانيف في حياة الإمام، فلما مات الإمام رحمه الله، خرج الغزالي إلى العسكر وحضر مجلس نظام الملك، وكان محط رجال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقع للغزالي أمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ومجاراة الخصوم اللد ومناظرة الفحول، ومناطحة الكبار، فأقبل النظام عليه وعظمه وسلم إليه أمورا، فعظمت منزلته وانتشر صيته في الآفاق.

وندب للتدريس بنظامية بغداد، فنفذت كلمته وعظمت حشمته، حتى علت على حشمة الأمراء والوزراء والكبار، وضرب به المثل وشدت إليه الرحال، ثم إنه ترك جميع ما كان فيه سنة ه، وأقبل على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز فحج ورجع إلى دمشق، وأقام بها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنف بها كتبا قيل منها: «الإحياء».

ثم توجه إلى القدس والاسكندرية، ثم عاد إلى وطنه طوس، فأقبل على التصنيف والعبادة والملازمة للتلاوة ونشر العلم.

ثم ان الوزير فخر الدين بن نظام الملك، حضر إليه ودعاه إلى نظامية نيسابور وألح عليه، فأجابه وأقام بها مدة، ثم تركها وعاد إلى وطنه على ما كان عليه، وبنى إلى جواره خانقاه للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم، ولازم الانقطاع، ووزع أوقاته على وظائف الخير بحيث لا يمضي عليه لحظة منها إلا هو في طاعة من تلاوة القرآن والتدريس والنظر في الأحاديث خصوصا البخاري، وإدامة القيام والتهجد، وملازمة أهل القلوب.

قال الاسنائي في ترجمة الغزالي وقد أفرده بباب في حرف الغين المعجمة: «كان التقوى دأبه وديدنه، حتى انتقل إلى رحمة الله؛ وهو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وروح خلاصة أهل الإيمان والطريق الموصلة إلى رضاء الرحمن، يتقرب به

Page 194