هل هذا التغير في المكان سبب كاف لأن تشقي نفس ويسوء مزاجها فتكتئب أو تتوق أو تنكمش أو تخجل؟ وهل ستجد في المكان الجديد أي سبب يدعو إلى ذلك؟ (8-46) لا شيء يحدث للإنسان خارج نطاق الخبرة الطبيعية للإنسان. كذلك الأمر في الثور فلا شيء في خبراته غريب على طبيعة الثور، والكرمة لا شيء لديها غريب على طبيعة الكرم، والحجر لا شيء لديه خارج خصائص الحجر. فإذا كان كل شيء يخبر ما هو معتاد وطبيعي بالنسبة له ففيم تشكو؟ ما دامت طبيعة العالم لم تجلب لك شيئا فوق احتمالك. (8-47) إذ كان بك كرب من شيء خارجي فإن ما يكربك ليس الشيء نفسه بل رأيك عن الشيء؛ وبوسعك أن تمحو هذا الرأي الآن. فإذا كان ما يكربك هو شيء في موقفك أنت فمن ذا الذي يمنعك من أن تصحح رأيك؟ وحتى لو كنت محزونا لأنك لا تحقق شيئا معينا ترى أنه ذو فائدة، فلماذا لا تواصل السعي بدلا من الشكوى؟ - «ولكن أمامي عقبة كئودا لا أستطيع التغلب عليها.» - إذن ليس لك أن تبتئس ما دام الأمر خارجا عن إرادتك. - ولكن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا ما فشلت في ذلك». - حسن، فلترحل إذن عن هذه الحياة راضيا مثلما يرحل عنها من يحقق كل أهدافه ، وفي وئام أيضا مع تلك الأشياء التي وقفت في طريقك.
21 (8-48) تذكر أن عقلك الموجه لا يقهر إذا ما اعتصم بنفسه مكتفيا بذاته غير فاعل شيئا لا يريد أن يفعله، حتى لو كان موقفه مجرد عناء؛ فما بالك إذا كان الحكم الذي يكونه مؤيدا بالعقل والروية؛ لذا فإن العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة؛ ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه، ومن يأوي إليه فهو في حصن حصين؛ فما أجهله من لا يرى هذه القلعة، وما أتعسه من لا يلوذ بهذا الحصن.
22 (8-49) لا تزايد على رواية الانطباع الأول بشيء من عندك. افترض أنه قد جاءك أن شخصا ما يعيبك؛ هذا ما روي، أما أنك قد أضرت فهذا ما لم يرو. أو هبني أرى طفلي مريضا، هذا ما أراه، أما أنه في خطر فشيء لا أراه. هكذا التزم دائما بالانطباع الأول ولا تضف عليه شيئا من أفكارك أنت. وهكذا كل ما في الأمر، وإلا فإن بوسعك أن تضيف ما لا نهاية له إضافة من يعرف كل ما يجري في العالم.
23 (8-50) القثاءة مرة؟ ألق بها. أغصان شائكة في الطريق؟ تنح عنها. هذا كل ما يلزمك، ولا داعي لأن تسأل «ولماذا جعلت مثل هذه الأشياء في العالم؟» فهذا سؤال مضحك عند دارس الطبيعة، مثلما يضحك عليك النجار أو الإسكاف إذا رآك تستاء لمنظر قشارة أو قصاصات، متخلفة عن عملهما، على أرض الورشة. على أن لدى هذين مكانا ما لإلقاء مخلفاتهما، أما طبيعة «الكل» فلا شيء لديها خارج ذاتها. والعجيب في فنها أنها حددت حدودها، وكل ما يفسد داخلها أو يشيخ أو ينتهي استعماله فإنها تعيد دورته داخلها وتخلق أشياء جديدة أخرى من هذه المادة نفسها؛ بحيث لا تحتاج إلى مادة من الخارج ولا إلى مكان تلقي فيه نفاياتها، إنها تامة إذن ومكتفية بمكانها، ومادتها، وفنها.
24 (8-51) لا تكن متثاقلا في فعلك، ولا مشوشا في محادثتك، ولا غامضا في تفكيرك. ولا تترك عقلك نهبا للانقباض ولا للتيه، واجعل في وقتك ساعة للفراغ والترويح. - «إنهم يقتلونني، يمزقونني، يلعنونني .» - وكيف يمكن لكل ذلك أن يحول بين عقلك وبين الصفاء والحكمة والرصانة والعدل؟ هب واحدا أتى إلى نبع من الماء النمير وأخذ يلعنه، فهل سيمنع النبع من أن يظل يتدفق بالماء الزلال؟ وهبه ألقى فيه بشيء من الطين والروث ... فلن يلبث النبع أن يفتته ويزيحه ويعود إلى نقائه. كيف إذن تؤمن لنفسك نبعا دائما لا مجرد صهريج؟ بأن توطن نفسك طول الوقت على الحرية، وتظل قانعا، بسيطا، متواضعا. (8-52) من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو. ومن لا يعرف لأي غاية وجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم. ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وجد هو ذاته. ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟! (8-53) هل ترغب في أن يمدحك إنسان يلعن نفسه ثلاث مرات كل ساعة؟ هل تود أن ترضي إنسانا لا يستطيع أن يرضى عن نفسه؟ وهل يمكن أن يرضى عن نفسه من يندم على كل شيء يفعله؟ (8-54) لا تعد تتنفس فقط من الهواء المحيط، بل خذ فكرك أيضا من العقل الذي يضم الأشياء جميعا؛ فالقوة العاقلة منتشرة، كالهواء، في كل مكان ومتخللة في كل شيء، طوع من يشاء أن يتشربها، تماما كالهواء لمن يستطيع أن يتنفسه. (8-55) عموم الشر لا يضر العالم بشيء على الإطلاق، والشر المفرد لا يضر متلقيه بشيء، إنما يضر مرتكبه فحسب. وبوسع هذا أن يتخلى عنه، بمجرد أن يقرر ذلك.
25 (8-56) بالنسبة لإرادتي الحرة فإن إرادة جاري غير فارقة
indifferent ، شأنها في ذلك شأن نفسه وجسده. صحيح أننا خلقنا من أجل بعضنا البعض، ولكن لعقل كل منا سيادته الخاصة. وإلا لكان خبث جاري هو ألمي أنا، والله لم يرد هذا ولم يدع شقائي في يد شخص آخر. (8-57) تبزغ الشمس لكي تريق نفسها. ينتشر ضياؤها حقا في كل اتجاه ولكن تياره لا ينفد؛ فهذا التدفق امتداد خطي؛ لذا تسمى خطوطه أشعة؛ لأنها تشع في خطوط ممتدة،
26
يمكنك أن تعرف ما هو الشعاع إذا لاحظت ضوء الشمس ينفذ إلى حجرة مظلمة من خلال فتحة ضيقة. إنه يمتد في خط مستقيم وحين يلتقي بجسم صلب أصم ينقسم وينقطع ولكنه لا ينزلق ولا يسقط بل يبقى هناك.
شيء شبيه بذلك ينطبق على تدفق عقل العالم وانتشاره؛ ليس تيارا ينفد بل إشعاع دائم. ولن يكون ثمة قهر أو عنف في اصطدامه بالعقبات التي يلتقي بها؛ لن يسقط بل سيستقر هناك ويضيء كل شيء يتلقاه. وكل ما هو غير عاكس سوف يحرم نفسه من هذا الضياء. (8-58) من يخشى الموت إنما يخشى فقدان الحس أو يخشى حسا من صنف آخر. فإذا كنت سوف تفقد الحس فلن تشعر أيضا بأي أذى. أما إذا كنت ستكتسب شعورا مختلفا، فسوف تكون كائنا آخر ولن تتوقف الحياة. (8-59) خلق البشر من أجل بعضهم البعض. إذن علمهم أو تحملهم.
Unknown page