إلى صاحب العظمة«فؤاد الأول» سلطان مصر
مقدمة
التمثيل اليوناني
حياة أيسكولوس
المستجيرات
الفرس
السبعة يهاجمون طيبة
بروميثيوس ديسموتيس
أجاممنون
المتقربون
الأومينيديس
حياة سوفوكليس
أياس
أنتيجونا
إلكترا
إلى صاحب العظمة«فؤاد الأول» سلطان مصر
مقدمة
التمثيل اليوناني
حياة أيسكولوس
المستجيرات
الفرس
السبعة يهاجمون طيبة
بروميثيوس ديسموتيس
أجاممنون
المتقربون
الأومينيديس
حياة سوفوكليس
أياس
أنتيجونا
إلكترا
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
تأليف
طه حسين
إلى صاحب العظمة«فؤاد الأول» سلطان مصر
مولاي
يحفظ التاريخ ما لعظمتك من أثر محمود في إنشاء الجامعة وإحيائها، وأحفظ أنا ما تفضلت به من عطف علي وتشجيع لي على درس «الأدب القديم» وإذاعته. فمن الحق أن أرفع إلى مقامك الجليل أول كتاب أنشره في «أدب اليونان». وأنا سعيد كل السعادة إن ارتاحت إليه نفسك الكريمة، وانتفع به أبناء هذا الوطن العزيز.
طه حسين
القاهرة في 20 ديسمبر سنة 1920
مقدمة
1
لم أكد أبدأ في الجامعة المصرية درس التاريخ اليوناني في هذه السنة الدراسية، حتى رضي قوم وسخط آخرون. وكان الذين رضوا أقل الناس عددا، والساخطون أكثرهم جمعا، وأضخمهم جمهورا.
قالوا: ما لنا ولتاريخ اليونان ندرسه ونحفل به؟! ننفق فيه ما نملك من وقت، ونضيع في سبيله ما عندنا من قوة وجهد. ونحن إلى إنفاق ذلك الوقت وهذه القوة والجهد في درس تاريخ مصر خاصة والأمم الإسلامية عامة أشد ما نكون حاجة!
أليس كل الناس قد علم أن الأمة المصرية - على ضخامة سلطانها السابق - وتأثل مجدها القديم، وعلى بعد صوتها في الحضارة، وجلال خطرها في المدنية: تجهل نفسها؟! وتجهلها جهلا يوشك أن يكون تاما؟
فهي لا تعلم من عصر الفراعنة إلا طرفا يسيرا، وهي لا تلم من عصر اليونان والرومان في مصر بشيء ما! فأما عصر الفتح الإسلامي فلا تعلم منه إلا ما روى مؤرخو العرب، وهو إلى التحقيق والتمحيص في حاجة شديدة!
قالوا: ولسنا نذكر شيئا عن حضارة الفاطميين في مصر، ولا عن سلطان المماليك وبعد شأوهم في أنواع العلوم والفنون؛ فإن المصريين لا يعلمون من هذا كله إلا ما لا ينقع صدى ولا يشفي غليلا!
أوليس من المعقول أن نعرف نفسنا قبل أن نعرف غيرنا؟! أوليس من الحق علينا - إذا فرغنا من درس تاريخ مصر - أن ندرس تاريخ أشد الأمم إليها قربا، وأدناها منها مكانا، وهي الأمم الإسلامية؟!
قالوا ذلك، وقالوا أكثر منه. ولم يكتفوا باللوم والتشنيع! بل أعرضوا عن الدرس، وجعل كثير من الطلاب لا يحضرونه إلا وفاء بما عليهم للجامعة من حق، أو رغبة في تكريم الأستاذ الذي تفضلوا عليه بشيء من الحب له.
ولست أشك في أنهم لم يخطئوا مكان الصواب، حين أعلنوا جهل مصر لنفسها، وحاجتها إلى درس تاريخها، وميلها المعقول إلى درس تاريخ غيرها من الأمم الإسلامية. ولكن الخطأ كل الخطأ هو اعتقادهم أن هذا مانع من درس تاريخ الأمم الأخرى، أو أن يكلف أستاذ بعينه أن يدرس كل هذا التاريخ.
أمامهم الجامعة المصرية، وأمامهم وزارة المعارف يجب أن يطلبوا إليهما القيام بما هم في حاجة إليه؛ فقد بعد عهد التعليم في مصر وكان من الحق على الذين يدبرونه ويقومون عليه أن يسلكوا به سبيلا واضحة الأعلام، تنتهي بالمتعلمين إلى ما يجب أن يعلموه من درس تاريخ أمتهم كما ينبغي.
وليس من العدل أن تقصر وزارة المعارف عن القيام بما عهد إليها، وتضعف الجامعة عن الوفاء بما أنشئت من أجله؛ فيقع إثم هذا كله على أستاذ فرد، قد عني بمادة معينة من مواد العلم، أعجبته وراقته، فتخصص فيها، وأراد أن ينشر منها في قومه ما وفق إلى نشره.
لست أزعم أن الجامعة ووزارة المعارف لو عنيتا بدرس تاريخ مصر لبلغتا به حد الكمال. ولكني أعتقد أن هذا التاريخ مجهول جهلا منكرا، وأنه ما ينبغي لبلد كمصر أن يصل من جهل نفسه إلى هذا الحد، على كثرة ما ينفق في تحصيل العلم من مال، وما يبذل فيه من جهد، وعلى جلال ما يسمو إليه من غاية، وما يحرص عليه من أمل في الاستقلال.
ولو أن الذين يقومون على نشر العلم في هذا البلد عرفوا كيف ينشرونه لما كنا من الضعف والتقصير، ومن الجهل والغفلة، بحيث لا نزال مضطرين - إذا أردنا أن ندرس تاريخ مصر - إلى أن نبعث الوفود إلى لندرا وباريس لدرس الآثار المصرية في مدارسهما ومتاحفهما.
أليس في مصر من آثار المصريين القدماء، ومن آثار العرب المسلمين، بل ومن آثار اليونان والرومان في مصر، ما يكفي لإنشاء مدرسة خاصة تقصر همها على درس هذه الآثار، وتخريج الأساتذة والأخصائيين الذين يعهد إليهم بالتعليم وحفظ الآثار وتنظيمها؟!
أوليس من المخجل أن توفد أوروبا وفودها إلى مصر لدرس الآثار، حتى إذا عادت هذه الوفود جلست مجالس الأساتذة في المدارس الأوروبية، وجلس المصريون منهم مجالس الطلب والاستفادة؟!
مثل الذين أنكروا على أني لم أقم بدرس التاريخ المصري، مثل القائمين بأمر التعليم في مصر يتركون ما يجب عليهم أن يعلموا، ويعنون بما يستطيعون أن يهملوا. ثم ينفقون الأموال في إرسال الطلاب ليحصلوا في أوروبا ما كان يمكنهم أن يحصلوه في مصر، أو ينالهم الإحجام فلا ينفقون. وتبقى الأمة جاهلة، لا يستطيع أشدها ذكاء وأنفذها بصيرة أن يتحدث إلى أوروبي في تاريخها! كل يسيء الفهم، وكل يضع الشيء في غير موضعه، وكل يلوم غير ملوم.
ولو أن هؤلاء المنكرين علي أنصفوا وتدبروا، لأخذوا عني راضين ما قدمت إليهم، ولأنحوا بلومهم وتأنيبهم على الذين يستطيعون العمل، فلا يعملون، ويقدرون على الخير ثم يقصرون عن طلبه، أو السعي إليه.
وبعد فما كان لأمة أن تعرض عن فن من فنون العلم لأنها لم تعلم غيره. إذن لقضي عليها بالجهل الدائم والغفلة المتصلة.
فليس من الميسور أن ندرس فنون العلم كلها في يوم واحد، ولا بد من أن يبدأ بدرس بعضها، وأن يتريث ببعضها الآخر.
فخليق بالناس أن يأخذوا ما قدم إليهم ويتعجلوا تحقيق ما أخر عنهم؛ فإن إعراضهم عن تحصيل ما يمكن تحصيله لا يعقبهم إلا فوات نفع محقق من غير أن يجدي عليهم الفوز بما يأملون.
2
يخيل إلي أن عدم الوقوف على تاريخ اليونان وحده هو السبب الحقيقي فيما لقي الناس به هذا الدرس من فتور وإعراض، بل من تشنيع وإنكار. فلن ينفرك من الشيء ويرغبك عنه أكثر من جهلك له.
ولو أن المصريين ألموا بتاريخ اليونان بعض الإلمام، لكلفوا بدرسه وتحصيله الكلف كله لأمرين:
الأول:
أن فهم التاريخ المصري خاصة والتاريخ الإسلامي عامة، موقوف على فهم التاريخ اليوناني. فما ينبغي لأحد أن ينسى ما كان للحضارة اليونانية من التأثير الظاهر في حضارة العالم كله ومنه البلاد الإسلامية. ولم يكن هذا التأثير مقصورا على الحياة العقلية والأدبية بل تناول الحياة السياسية؛ فإن اليونان قد ملكوا الشرق أكثر من قرنين، فوضعوا فيه نظما لم يكن له بها عهد، وجاء الرومان فلم يمحوا هذه النظم، بل شكلوها تشكيلا ما، ثم جاء العرب فأخذوا ما وجدوا، ولم يزيدوا على أن عربوه. ومن الميسور على كل مؤرخ متقن لعمله إذا درس تاريخ الأمم الإسلامية أن يتميز النظم القديمة وما بينها وبين النظم الإسلامية من صلة. وإذا كان درس التاريخ في رأي المؤرخين المحدثين عملا تحليليا قبل كل شيء، أي إنه يلزم المؤرخ أن يرد كل شيء إلى أصوله التي ألفته وعملت في تكوينه، فلا شك في أن مؤرخ الأمم الإسلامية - ولا سيما مصر - يجب عليه أن يعرف تاريخ الأمة اليونانية ويتقنه لكي يستطيع أن يميز ما كان لها من أثر في حياتها العقلية والاجتماعية والسياسية.
الثاني:
أن النهضة الحديثة في أوروبا إنما هي في معظم أمرها أثر من آثار اليونان، فإذا كانت مصر الناهضة تحاول - وهذا حق عليها - أن تتعرف أصول هذه النهضة وتتفهمها، لتختار منها ما يوافق طبيعتها ويلائم مزاجها؛ فليس لها إلى ذلك من سبيل إلا درس تاريخ اليونان والرومان. فإنك لا تكاد تتناول بالبحث التاريخي أصلا من أصول النهضة الحديثة الأوروبية إلا اضطررت، إلى أن ترجع به إلى تاريخ هاتين الأمتين.
لا أذكر العلم والفن، فما أظن من الناس من ينكر أنهما يونانيان قبل كل شيء. وإنما أذكر السياسة والحياة الاجتماعية. فما نشأت الآراء الديمقراطية، بل والمذاهب الاشتراكية في أوروبا إلا حين انتشر هذا التاريخ القديم فيها، وعرف الناس ديمقراطية اليونان وأرستقراطيتهم، وحركة العمال والزراع الرومانيين وما أدت إليه من شرع غريب.
أوليس أول داع إلى الاشتراكية في أوروبا إبان الثورة الفرنسية قد كان يسمي نفسه باسم زعيم هذه الحركة في روما «كيوس جراكوس»؟! أوليس مصدر ما وقع فيه الثوار الفرنسيون من الخطأ - في كثير من الأحيان - إنما هو محاولتهم تحقيق النظم الديمقراطية التي ألفها اليونان والرومان من غير أن يفطنوا إلى ما بين فرنسا وروما وأثينا من الفروق.
نريد أن ننهض نهضة سياسية، نريد أن ننزل الديمقراطية في بلادنا منزلة حسنة ونحن نجهل الجهل كله أصول السياسة وقواعدها، كما نجهل الجهل كله ضروب الديمقراطية ومذاهبها. فهل نستطيع أن نصل مع هذا إلى ما نريد؟
لا أدعو إلى أن يدرس تاريخ اليونان والرومان فحسب، وإنما أدعو إلى أن تدرس أقسام التاريخ كلها. وإلى أن ينال كل قسم منها حظا موفورا من العناية؛ فإن حياة النوع الإنساني في جميع العصور والأمكنة، حياة واحدة موقوف بعضها على بعض، ومن الخطأ الفاحش أن نهمل طرفا منها في حين نستطيع أن ندرسه ونعنى به.
لم أقل إلى الآن إلا ما يرغب في درس التاريخ اليوناني من الفائدة العملية، وكنت أود لو استطعت أن أستغني عن هذا كله، وألا أرغب الناس في درس قسم من أقسام التاريخ إلا بأنه قسم من أقسام العلم وأن من الحق علينا أن ندرسه لأنه علم ليس غير؛ فإن الأمم التي بلغت من الرقي مبلغا معقولا تخصص من مالها ووقتها وقوتها مقدارا غير قليل، تنفقه في درس العلم ونشره، لا تبتغي من وراء ذلك فائدة عملية. تلك منزلة يسوءني الاعتراف بأنا لم نصل إليها بعد، ويسرني أن يكون وصولنا إليها غير بعيد.
3
إذا كان الجهل وحده هو الذي ينفرنا من تاريخ اليونان ويرغبنا عنه، فما أيسر الطب لهذا الداء والتماس الدواء لشفاء هذه العلة! فليس للجهل دواء إلا العلم، كما أن الجوع لا يشفيه إلا الأكل، وكما أن الظمأ لا ينقعه إلا الشرب.
ولأن تكون علتنا الجهل خير من أن تكون علتنا الغباء وعدم الاستعداد. لهذا أرى أن ليس للراغبين في نشر العلم إلا أن يسعدوا ويستبشروا؛ فإن الحاجة إليهم شديدة، وعملهم أشد الأعمال نفعا، وأسرعها إنتاجا.
وقد بلوت ذلك فأحسنت بلاءه، وجربته فحمدت تجربته. لقد كان الناس في أول عهدهم بدرس التاريخ اليوناني ساخطين منكرين، يتثاقلون عن الدرس. فإذا خفوا إليه أغرقوا في النوم والأستاذ مغرق في كلامه. يشكون ما بينهم وبين هذه المادة من تنافر، ويتمنون على الأستاذ لو بدلهم منها مادة أيسر عليهم، وأحب إليهم، وأخلب لنفوسهم.
ولقد أعلن بعضهم أكثر من مرة أن الدرس يسئمهم فيملأهم سأما، ويملهم فيقتلهم مللا. فما كنت أريد أن أشجعهم مرة، وألومهم أخرى، وأعرض عنهم في كثير من الأحيان، وما هي إلا أن مضى على ذلك شهران أو ثلاثة، حتى أخذت أرى فيهم من بدأ يأنس لهذا الدرس ويتحبب إليه. وأخذت أكلف بعضهم المحاضرات وإعداد الدروس في هذه المادة، فيجيبون راضين، غير كارهين، ولا متمنعين، فأما من قرأ منهم لغة أوروبية، فقد كان يجيب إلى ذلك فرحا نشيطا، وقد كان يعمل فيحسن العمل إحسانا إضافيا.
ولقد كنت أتخير لهم أصعب المسائل فلا يحجمون. ولقد كنت أتشدد عليهم في النقد فلا يزيدهم ذلك إلا رغبة وإقداما؛ فأنا عنهم راض وفيهم آمل.
وأما الذين لم يحسنوا إلا العربية فقد أقدم بعضهم مجازفا، ونكل بعضهم معذورا؛ فإن اللغة العربية مع الأسف معدمة كل الإعدام في هذه المادة، وليس يتاح لمن لم يعرف لغة أوروبية أن يشفي نفسه من تاريخ اليونان أو الرومان.
هذا الجمهور الذي لم يعرف من اللغات الأوروبية ما يمكنه من إرضاء نفسه المتشوقة إلى العلم، العاجزة عن تحصيله، هو أحق الناس بالعناية. فلئن كان من النافع أن يدرس الناس اللغات الأجنبية فليس من الميسور أن يدرسوها جميعا، وليس من حقنا أن نطالب الناس جميعا بذلك، وما رأينا غيرنا قد أرادهم على ذلك في بلد من البلاد. وإنما يجب علينا نحن الذين قرءوا هذه اللغات، وألموا ببعض ما اشتملت عليه من علم أن نبيح لهم حماها، وأن نكون الواسطة بينهم وبين استثمار كنوزها. فإن لم نفعل فقد أسأنا إلى أمتنا، وإلى أنفسنا «وحسبك من شر سماعه».
4
ألممت بعض الإلمام بحياة اليونان والرومان وما بينهما وبين الشرق من صلة. وقضى علي مكاني في الجامعة أن أفرغ لدرس هذا القسم من أقسام التاريخ، فأخذت في ذلك مستبشرا مبتهجا، ولكني لم ألبث أن أحسست فتور الناس ونفورهم، ففترت أو كدت. ثم بدا لي، فرأيت أن أمضي فيما أنا فيه، مقدما غير محجم، وأن أصبر على هذا الفتور صبرا جميلا، فكانت العاقبة كما قدمت محمودة وكان الأثر مرضيا.
ثم رأيت أن الذين يختلفون إلى الجامعة مهما كثروا نفر قليل لا يكفي أن يعلموا فتعلم الأمة، فخيل إلي أن الكتابة والنشر أوفق لتقريب هذه المادة من الجمهور وتحبيبها إلى نفسه. فعزمت أن أنشر من هذه المادة ما قلت في الجامعة وما لم أقل، وأن أذيع كل ما من شأنه أن يعطي قراء اللغة العربية صورة واضحة بعض الوضوح، حسنة بعض الحسن، من حياة الأمة اليونانية.
أفعل ذلك لأني أراه واجبا علي للذين لم يمكنهم وقتهم من درس اللغات الأجنبية وواجبا علي كذلك للغة العربية نفسها؛ فإن من الحق علينا أن نبذل ما نستطيع من قوة، وننفق ما نملك من وقت، لنغني هذه اللغة ونكثر متاعها مما امتلأت به لغات أوروبا. وليس يغفر لنا أن نعيش في هذا القرن مطالبين بكل ما تستمتع به الشعوب الأوروبية من استقلال سياسي وعلمي، ثم نبقى عيالا على الأوروبيين في كل ما يغذو العقل والشعور من علم وفلسفة، ومن أدب وفن جميل.
أليس من المخجل أن يجهل الجمهور الضخم من شبابنا ما اشتملت عليه آداب اليونان من نظم ونثر، ومن تاريخ وفلسفة، مع أن فهم الآداب الحديثة التي أخذنا نميل إليها ونشغف بها غير ميسور إذا لم نلم بهذه الآداب إلماما غير قليل؟! وكيف نحاول أن نفهم «كرني» و«رسين» و«شكسبير» و«بيرن» و«جوت» وغيرهم من الشعراء والكتاب والفلاسفة إذا لم نفهم شعراء اليونان وكتابهم وفلاسفتهم؟
أليس مما لا بد منه أن نفهم إيفيجينيا
Iphiguénéia
لأوريبيديس
Euripidès
قبل أن نقرأ «إيفيجيني» لرسين؟
أليس يجب علينا أن نتقن تاريخ اليونان والرومان، وأن نستظهر دياناتهم وأساطيرهم، إذا أردنا أن نقرأ كتب المحدثين فلا نتعثر في فهمها، ولا تقفنا في كل سطر عقبة، وفي كل كلمة معضلة؟
أضف إلى هذا أن من حقنا الحرص على أن يحسن ظن الناس بنا ورأيهم فينا. ولعمري ما كان من مصادر حسن الظن وصدق الرأي إذا تحدثنا إلى الأوروبيين أن يشعروا بأن متاعنا من العلم قليل، وحظنا من الأدب نذر يسير، لا نحسن الحديث إلا إذا لم يخرج عن مصر وشئونها، فإذا تجاوزنا هذا إلى ما كان، أو ما هو كائن وراء البحر الأبيض بهتنا وأخذنا العي والقصور.
كل هذه أسباب ألزمتني - ولا شك في أنها ستلزم غيري من الراغبين في نشر العلم بين هذه الأمة - أن أحاول نشر تاريخ اليونان والرومان وآدابهم، في جمهورنا الذي لا يريد إلا أن يتعلم لو وجد المعلمين.
وقد رأيت أن أبدأ من ذلك بنشر ما هو أيسر على الناس فهما، وألذ في النفوس موقعا، من غير أن أطيل فأمل، أو أتعمق فأسئم.
5
بدأت بالاختيار من الشعر التمثيلي عند اليونان؛ فما أرى من فنون الأدب فنا أسهل من التمثيل فهما، وألين منه ملمسا وألذ في النفوس موقعا.
وقد أخذت نفسي أن أقدم بين يدي هذه المختارات فصلا في نشأة التمثيل وتاريخه عند اليونان. مقتصرا في هذا الجزء على التمثيل المحزن أو «التراجيديا»، فإذا فرغت من هذا الفصل، وصفت ما عرف التاريخ الأدبي من حياة أيسكولوس
Aïschulos (Eschyle)
أول الشعراء الممثلين النابهين، ثم عرضت لما بقي لنا من قصصه التمثيلية، فاخترت منها ما أعتقد أن في قراءته لذة وفائدة، معنيا بأن ألخص ما يسبقه وما يليه، حتى إذا فرغ القارئ من قراءة ما اختار من قصة من القصص كان قد ألم بموضوعها وما اشتملت عليه من حادثة.
فإذا انتهيت من أيسكولوس، ذكرت حياة سوفوكلس
Sophoclès
وصنعت بما بقي من آثاره مثل ما صنعت بآثار «أيسكولوس» ولكني اضطررت إلى أن أجعل آخر هذا الجزء في منتصف قصص «سوفوكلس» رغبة عن الإطالة المملة ورهبة من الإنفاق الفادح.
وأنا أرجو أن يروق هذا السفر لقرائنا، وأن يقع من نفوسهم موقعا يشجعني على أن أمضي في نشر هذه الأجزاء، حتى إذا فرغت من التراجيديا في الجزء الثاني عرضت للكوميديا في جزء ثالث ووددت - وليت هذا الود يغني - أن تكون هذه الصحف المختارة مشوقة للناس إلى أن يقرءوا ما بقي من تمثيل اليونان كاملا غير مبتور، وأن يدعوهم ذلك إلى الرغبة فيما تركوا من شعر قصصي، وما أعقبوا من شعر غنائي، ثم من تاريخ وفلسفة، إلى غير ذلك من آثارهم العقلية والفنية.
إذن لحق لي أن أسعد وأغتبط، وأن أعتقد أني قد وفقت من خدمة اللغة العربية إلى بعض ما كنت أريد.
طه حسين
القاهرة في 6 مايو سنة 1920
التمثيل اليوناني
مهده - نشأته وتاريخه
1
في آخر أغريقيا الوسطى حيث تماسها أغريقيا الجنوبية يتقدم في في البحر جزء ضيق صخري، هو إلى الجدب والقحولة أقرب منه إلى الخصب والرخاء. يطيف به الماء من ثلاث جهاته، وتكثر فيه التلال الجرد والوديان قد ملأتها صغار الحصى، هذا الجزء هو أتيكا، لا يعرف التاريخ من أولية الحضارة في هذا الإقليم شيئا ذا خطر. وإنما تروي الأساطير وتؤيدها المباحث العلمية عن اللغة والدين والناس، أنه كان مأوى لطوائف مختلفة الأجناس اليونانية وغير اليونانية، نزحت إليه من الشمال والجنوب والشرق، وسلكت إليه طريق البر والبحر.
فكلما أغار مغير على قسم من أقسام البلاد اليونانية وفر أمامه أهل هذا القسم، لجأت طائفة منه قليلة أو كثيرة إلى هذا الإقليم، فأوت إليه، وتحصنت فيه، وعاشت به آمنة مطمئنة.
كذلك لجأ إلى أتيكا عدد ضخم من قبائل بيوتيا حين أغار عليها التساليون.
وكذلك نزح إليها جمهور عظيم من أهل بلوبونسوس الشرقية والغربية حين احتلها الدوريون والأيئوليون.
ومما لا شك فيه أن طوائف غير قليلة من الذين كانوا يسكنون الشاطئ الآسيوي لبحر إيجيا، قد هاجروا إلى أتيكا في عصور مختلفة لم يحفظها التاريخ، عبروا البحر شيئا فشيئا متمهلين غير متعجلين، لمكان الجزر المنبثة بين الشاطئين الأوروبي والآسيوي، فكانوا كلما مروا بجزيرة نزلوها، واتخذوها مقاما. ثم نزح بعضهم، وبقي الآخرون. وتدل الآثار التي استكشفت حديثا، على أن هذا القسم، من بلاد اليونان الوسطى، قد عرف حضارة الأكويين في أرجوس ومسينا والمينيين في أوركومنيوس.
مهما يكن من شيء فقد كان أهل أتيكا يمثلون جميع الشعوب اليونانية حاشا الدوريين الذين كانوا من قوة الشخصية وتماسك الجنسية، بحيث لم يكن من الميسور لهم أن يندمجوا في غيرهم من الشعوب، ولم يكن من السهل على غيرهم من الأمم أن تهضمهم، فتمحو مميزاتهم وخصائصهم وتقطع ما بينهم وبين جنسيتهم الأولى من صلة أو سبب.
كانت هذه الشعوب المختلفة حين تفد على أتيكا مضطرة إلى شيء من الجهاد لتجد لها في هذا الإقليم الضيق منزلا تنزله، ومأمنا تستقر فيه. فإذا وصلت من ذلك إلى ما تريد، فهي مضطرة إلى الجهد والجد، وإلى العناء والكد، لتستخرج عيشها من هذه الأرض غير الغنية ولا الميسورة الاستثمار.
ومن هنا كان هذا الإقليم أشد الأقاليم اليونانية حثا لسكانه على العمل وحملا لهم على الدأب فيه، والاستمرار عليه.
لم تكن أرضه لتجود بما فيها حتى يطلبه السكان فيلحوا في طلبه، فإذا جادت لم تجد بأكثر مما يقيم الأود، ويوشك أن يسد الحاجة، ويكفي المسألة.
2
اختلاف أجناس السكان وتباين شعوبهم وافتراق منازلهم الأولى، كان سببا في أن كل شعب من هذه الشعوب قد وفد على أتيكا وله من الصفات والمزايا ما ليس لغيره.
وجدب الأرض وضنها بما فيها، كان سببا في أن كل شعب قد اضطر إلى أن يجد ويعمل، فيظهر ما امتاز به من مزايا وخصال.
وكان مكان هذه الشعوب بعضها من بعض في هذه الأرض غير السهلة ولا الخصبة، حاملا لها على أن تتعاون وتتظاهر ويشد بعضها أزر بعض فما أسرع ما قام الأمن والوفاق بينها مقام الخوف والافتراق. ومع هذا فهي لم تؤلف أمة واحدة متصلة الأجزاء، متماسكة القوى، إلا بعد أن أقامت منتثرة متفرقة زمنا غير قليل.
سلكت إلى هذا سبيلا واضحة جلية، فأخذت هذه الطوائف تتعاون وتتناصر على حياتها الاقتصادية لتستثمر الأرض من جهة، وعلى حياتها السياسية لتدفع عنها شر المغير من جهة أخرى. فنشأت في أتيكا قبائل تصل بينها الحلف والمعاهدات. ثم أخذت هذه القبائل تتقارب وتتدانى قليلا قليلا. وأخذت حياتها الاقتصادية والسياسية تتوحد وتتماس أجزاؤها حتى أصبحت أقرب ما تكون إلى الوحدة، فظهرت في ذلك الوقت قرية من القرى امتازت من غيرها بالثروة وشدة البأس، فما أسرع ما ضمت هذه القبائل وألفت منها شعبا واحدا، بل مدينة واحدة وهي مدينة أثينا.
3
تعاونت طبيعة الأرض والإقليم وموقعها الجغرافي وطبيعة السكان، على أن تكون من أهل أتيكا شعبا ممتازا كل الامتياز، من الشعوب اليونانية الأخرى، فمع أن هذا الشعب قد كان يزعم نفسه يونيا، فقد كان يمتاز من اليونيين بصفات مقصورة عليه، لم يشاركه فيها غيره من القبائل اليونية في آسيا.
ذلك لأن الشعب - كما قدمنا - كان يتألف من شعوب كثيرة أكثرها يوناني وأقلها آسيوي، فجمع إليه خلاصة ما لهذه الشعوب من فضيلة، ولأن الأرض كانت كما قدمنا مجدبة من غير أن تكون صحراء، فقد كانت تجري فيها غدران ضيقة ضئيلة، تجف إذا اشتد الحر ولكنها كانت تبل الأرض. فتنبت فيها قليلا من القمح والشعير وشيئا من الكرم والتين والزيتون. ولم تكن تخلو من المعدن وغيره من مصادر الثروة، فقد كانت فيها مناجم للفضة ومحاجر للمرمر أغنت أهلها وفضلتهم على غيرهم أكثر من مرة، وكان الإقليم فيها معتدلا جافا ليس هجيره بالمحرق ولا برده بالقارس. ليست بكثيرة السحاب، وليس لها بالضباب عهد، فالهواء فيها خفيف شفاف، وضوء الشمس والقمر فيها مجلو بديع حين تسقط أشعته على البحر أو على الصخور العارية المختلفة الألوان، ذلك إلى أن موقعها الجغرافي من البحر كان يهيئها لتكون إقليما تجاريا بحريا قبل كل شيء.
ظل شعب أتيكا بمعزل من الحياة اليونانية المضطربة عصرا غير قليل لم يشترك فيما كان يملؤها من حرب ونزاع، ومن خلاف وفرقة. بل أخذ يستحيل ويتطور شيئا فشيئا - إن صح هذا التعبير - وقد تمت له هذه الاستحالة بأقل ما يمكن من ثورة وعنف، فانضمت قبائله المختلفة، وكونت دولة واحدة من غير حرب، وعاشت هذه الدولة في ظل الملوك حينا، ثم في ظل الأرستقراطية يقرب نظامها من النظام الملكي في أول الأمر، ثم يدنو من النظام الجمهوري قليلا قليلا، حتى جاء «سولون» فأخذت الديمقراطية تظهر وتعلن وجودها وقدرتها على الحياة. ثم قام «بيزستراتيدس» فاستأثر بالحكم وتبعه ابناه من بعده. وفي عصرهم أظهر هذا الشعب أنه هو الشعب اليوناني الذي ستأوي إليه حضارة اليونان وقوتهم، فتجد عنده مأوى أمينا ومعقلا حصينا. في هذا العصر جمعت الإلياس والأوديسيا ودونتا بعد أن محصتا وبرئتا من الزيادة والاختلاف. وقبل اليونانيون كافة جمع أثينا وتمحيصها، فكان ذلك أول اعتراف لها بالسلطان الأدبي والتفوق العقلي على اليونان جميعا.
زالت من أتيكا دولة الطغاة سنة عشر وخمسمائة قبل المسيح. وقامت فيها ديمقراطية معتدلة منظمة لم يعهدها العالم القديم.
ولم يكد يمضي على هذه الديمقراطية عشرون سنة حتى أظهرت أنها نافعة مغنية، وأنها إنما نشأت لتسلك بالإنسانية سبيلا جديدة؛ فقد كانت حروب الفرس التي كادت تلتهم اليونان فتقضي على كل ما كان للإنسانية حينئذ من حياة عقلية لولا أن نهضت هذه الديمقراطية الأثينية فأنقذت اليونان مرتين: مرة في مراثون سنة تسعين وأربعمائة، ومرة في سلامين سنة ثمانين وأربعمائة. ثم لم تزل بالفرس حتى زعزعت عرشهم وأضعفت قوتهم، وخفضت كلمتهم. وجعلتهم من الوهن والاضطراب بحيث استطاع الإسكندر أن يثل عرشهم. وبهذا الانتصار على الفرس ظهرت أثينا واعترف اليونان لها بالسلطة والتفوق السياسي. فأصبحت زعيمة الإغريق في كل شيء. ولن يستطيع الناس أن يقدروا هذه الزعامة قدرها، ويعرفوا ما قامت به للأدب والفلسفة خاصة، وللحضارة المدنية عامة؛ من خدمة قد يعجز عن أن يصف خطرها الواصفون .
4
كان ظفر أثينا في رد غارة الفرس عن بلاد اليونان أول عصر جديد لها في الحياة السياسية. فقد عرف اليونان لها الزعامة كما قدمنا. وما أسرع ما ألفت مع جزر بحر إيجيا وكثير من المستعمرات اليونانية في تراقيا جماعة متحالفة على حرب الفرس، متناصرة على تحرير البحر وحماية التجارة اليونانية وإنقاذ سكان آسيا اليونان من سطوة الملك الأعظم. وأصبحت أثينا عاصمة لهذا التحالف؛ فكانت بهذا ملتقى للوفود اليونانية من جميع الشعوب على اختلاف أجناسها وملكاتها. وكل الناس يعرف أثر هذا الاختلاط بين الأجناس في الحياة العقلية والأدبية. فليس من شك في أن أثينا مدينة له بشيء غير قليل من نهضتها العامة التي بلغت أقصى ما كان يمكن أن تبلغه في القرن الخامس.
أضف إلى هذا أن أثينا أصبحت بعد الحروب الفارسية أعظم دولة بحرية، وأخذت أساطيلها تنتشر في معظم البحر الأبيض المتوسط. فكانت تزور مصر وشواطئ آسيا الصغرى، وكانت تزور البحر الأسود إلى أقصاه، ولم تقف عند هذا الحد، بل زاحمت أهل إيطاليا وصقليا فزارت أساطيلها القسم الغربي من البحر الأبيض. ومن الواضح أثر هذه السياحات البحرية والمعاملات التي كانت تصل بينها وبين غيرها من أمم الشرق والغرب المجاورة للبحر. فقد كانت تقفها من العلم على شيء كثير في فنون مختلفة، كانت تعلمها المواقع الجغرافية لهذه البلاد وترشدها إلى ما لأهلها من نظم اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية.
وكانت تطلع الباحثين من أهلها على ما كان لهؤلاء الناس من حظ علمي قليل أو كثير، وكان التجار والبحارة لا يكادون يعودون إلى أثينا حتى يتحدثوا بما شهدوا معجبين الإعجاب كله. وكان فوز التجارة وامتداد السلطان السياسي يؤيد هذا الإعجاب ويضاعف تأثيره، فتشتد الرغبة في السياحة وزيارة الأقطار المختلفة. ولولا ما كان يشغل الأثينيين في ذلك الوقت من حرب أو استعداد لحرب ومن أعمال سياسية في المدينة يقتضيها النظام الديمقراطي ولا سيما إذا أحبه الشعب وشغف به لأصبح الأثينيون وكلهم سندباد بحري.
5
هذا الفوز السياسي الذي أظهر أثينا وأعلى مكانتها بين أمم اليونان بعث في نفوس الأثينيين شيئا غير قليل من الثقة بأنفسهم والإكبار لمكانتهم، فما كان يشك هذا الأثيني الذي انتصر على الملك الأعظم فهزم جيوشه ودمر أسطوله ورده إلى آسيا تعسا ذليلا، وحرر من ربقته شعوب اليونان الآسيوية، أنه يقصر عن شيء أو أن في هذه الحياة ما يعجزه ويفوته.
ومتى نزلت هذه الثقة بالنفس من قلب الشعب منزلة حسنة من غير أن يفسدها الإسراف والغلو، أو يحمل الإعجاب بها على الركون إليها والقعود عن العمل والإخلاد إلى الاستمتاع بها، أقول متى نزلت هذه الثقة من قلب الشعب منزلة حسنة كانت مصدرا لأنواع من الفوز والظفر لم يكن الشعب لينتظرها أو يطمع فيها. ولقد كان الشعب الأثيني في هذا العصر على شدة ثقته بنفسه وشعوره بقوته مقدرا لهما حق التقدير غير مسرف في ذلك ولا مغرق، يجرؤ ولكن بعد أن يتروى، ويقدم ولكن بعد أن يتدبر. فكان هذا سبيله إلى إتمام ما بدأ من فوز وغلب. فأصبحت له السيطرة على تجارة البحر وعلى معظم جزره، وأصبحت تجبى إليه أموال هذه الجزر فينفقها في تقوية أسطوله وبسط سلطان الجماعة المتحالفة.
هذه الثقة بالنفس لم تقتصر على الجهة السياسية والاقتصادية، بل تجاوزتها إلى الجهة الأدبية والفنية والعقلية. فإذا كانت أثينا وطنا لأيسكولوس وسوفكليس وأوروبيديس من الشعراء الممثلين، ولفدياس زعيم الفن الجميل ولسقراط مؤسس الفلسفة؛ فهي مدينة بهذا لذلك المجد المؤثل الذي ملأ نفوس أبنائها ثقة وإقداما فاعتقدوا أنهم قادرون على كل شيء ونظروا إلى ما حولهم من آثار الأدب والفن والفلسفة والسياسة، فرأوا أنه من الضعف والوهن ومن القدم وطول العهد بحيث لم يكن بد من إزالته وإقامة الجديد مقامه.
وقد حاولوا ذلك في السياسة فظفروا كل الظفر وحاولوه في غيرها فأفلحوا الفلاح كله، ولولا هذه الثقة وهذا الإقدام لكان من الممكن ألا يفوز الأدب والعلم والفن بما وضع له الأثينيون من دعامة ثابتة وأساس متين.
6
لم يكن بد من إيجاز ما قدمنا من الحياة الأثينية لنفهم كيف نشأ التمثيل فيها وارتقى، وكيف استحال وانتقل من طور إلى طور حتى بلغ أقصى ما قدر له من الرقي في القرن الخامس قبل المسيح.
مع أن النصوص التاريخية التي تشير إلى نشأة هذا الفن قليلة غامضة، فمن اليسير أن نتخذ لنا من هذه النشأة صورة واضحة بعض الوضوح إذا أبحنا لأنفسنا شيئا من التدبر والاستنباط.
الدين اليوناني هو الذي أهدى هذا الفن إلى الأمة اليونانية؛ فإن لكل إله من آلهة اليونان حياة خاصة لقي فيها من ضروب الخير والشر ومن صنوف النعيم والبؤس ما حببه إلى الشعب وأقام له في نفسه مكانة ما. وقد كان اليونان إذا عبدوا آلهتهم حرصوا كل الحرص على أن يظهروا تأثرهم بما ملأ حياة الآلهة من خطوب فيفرحون لما نالهم من نعيم ويحزنون لما أصابهم من شقاء، وكانوا لا يكتفون باستشعار الفرح والحزن في نفوسهم، بل يظهرون ذلك إظهارا ويشتركون فيه اشتراكا.
وأوضح طريق تخيلوها لإظهار ما يسرهم أو يحزنهم من حياة الآلهة وما عرض لهم فيها من خطب، إنما هي تمثيلهم هذه الحياة وما اشتملت عليه في أطوارها المختلفة. ذلك هو مصدر كثير من الحفلات التي كان يقيمها اليونان لآلهتهم وأبطالهم من حين إلى حين. ومن هنا نشأ فن التمثيل.
كانت الأساطير تحدث اليونان بأن أبلون مثلا حينما وصل إلى دلف قتل حية تسمى بيثون رميا بالسهام، فكانوا إذا أرادوا إعلان مجد الإله وما كان له من فوز وظفر مثلوا هذه الحادثة من حين إلى حين. وكانت الأساطير تحدثهم بأن أبلون بعد ظفره قد أعلن فرحه وابتهاجه فجمع إليه القيان من آلهة الشعر والموسيقى بالقرب من أعين جارية وأشجار مورقة في سفح البرناس، فأخذ يوقع على قيثارته وهن من حوله يتغنين ويرقصن ويلعبن ضروبا من اللعب، فمثلوا ذلك وأقاموا من وقت لوقت حفلات موسيقية تسابق فيها المغنون والموقعون، وقدرت الجوائز لمن فاز منهم بالسبق. على أن إلهين اثنين أثرا في نشأة التمثيل أثرا خاصا: هما ديونوزوس إله الخمر ودمتير آلهة الخصب. كلاهما امتلأت حياته بكثير من الخطوب المحزنة والسارة ، كلاهما مازج الشعب وخالطه في حياته اليومية، وكلاهما كان في نفس الشعب رمزا لما ينال الطبيعة في فصول السنة على اختلافها من نضرة وبهجة حينا، ومن ذوي وذبول حينا آخر. وكلاهما شغف اليونان بعبادته وتمثيل حياته في طور خاص من أطوارهم السياسية والاجتماعية، هو طور النزاع العنيف بين طبقة الديمقراطية والأرستقراطية الذي بدأ في أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل المسيح.
في هذا العصر كان العقل اليوناني قد رقي رقيا ما، فظهرت حكمة الحكماء وأمثالهم من جهة، وأحس الشعب وجوده وشخصيته من جهة أخرى، وأحس إلى جانبهما سوء حاله من كل وجه، وحسن حال الأرستقراطية. فأخذ يطالب بحقه شيئا فشيئا، وكثيرا ما كان يدركه اليأس والفشل لقوة الأرستقراطية والطغاة وتمكنهم من كل شيء، سواء أكانت قوة سياسية أم قوة اجتماعية واقتصادية. فكان الشعب ينتهز فرصة هذه الحفلات الدينية ليلهو ويلعب ملتمسا في هذا اللعب وذلك اللهو عزاء عما كان يملأ حياته من بؤس ويثقله من سوء حال، مستفيدا مما كان يبيح الدين له من الإغراق في الأكل والشرب والاستمتاع بلذة الحياة المادية، فكان يأكل فيسرف، ويشرب فيفرط وتأخذه نشوة هذا الإسراف والإفراط فيتغنى ويرقص، ثم لا تكاد تتألف جماعاته للحفل بالإله وتمثيل حياته المحزنة أو السارة حتى يملكه السكر ويأخذه شيء من الذهول فينسى حياته الحقيقية وما فيها من شقاء.
في هذه الحفلات التي كانت تقام إكراما لديونوزوس ودمتير عنى بعض الشعراء الغنائيين بتناول بعض ما عرض لهما من صروف الحياة فنظم فيه الشعر، وكان يجمع إليه طائفة من الناس يلقنهم الأبيات ملؤها الحزن والشكاة يرددونها من حين إلى حين، يقطعون بها ما كان يلقى من شعر يبسط فيه ألم الإله أو لذته. وكان هؤلاء الناس الذي يسمون «الجوقة» في حفلات ديونوزوس يرتدون جلود المعز
1
تمثيلا لرفاق هذا الإله. فسمي هذا الغناء غناء تراجيديا وكان أول مظهر من مظاهر التمثيل.
7
ظهر هذا الغناء التراجيدي في شمالي بيلوبونيسوس آخر القرن السابع وأول القرن السادس قبل المسيح. ويذكر مؤرخو الآداب اليونانية شاعرا من مدينة سيكيون يردون إليه فضل اختراع هذا الفن، واسمه أبجنيس، ولكنهم لا يعرفون من أمره شيئا. ومما لا شك فيه أن هذا الشاعر وغيره من شعراء بيلوبونيسوس لم يتجاوزوا بالتمثيل هذا الطور الذي وصفناه، ولم يزيدوا على هذا الغناء التراجيدي شيئا؛ لهذا كانت أتيكا مهدا للتمثيل؛ فإنه قد ولد فيها ونشأ وما زال يرقى ويستحيل شيئا فشيئا حتى وصل إلى ما وصل إليه من الرقي في القرن الخامس قبل المسيح.
يعرف التاريخ الأدبي لليونان اسم شاعر ولد في قرية من قرى أتيكا نحو سنة ثمانين وخمسمائة يقال له تسبيس، وقد أجمع رواة اليونان والرومان ومؤرخوهم على أنه هو الذي اخترع التراجيديا وأذاعها في بلاد أتيكا جميعا. يقول هوراس الروماني إن تسبيس هذا كان يتنقل بين قرى أتيكا ومعه فنه على عجلة يمثل في الأسواق والمجتمعات. فما أسرع ما كلف الناس بهذا الفن الجديد ورغبوا فيه. وأول شيء أحدثه تسبيس في التمثيل، فغاير بينه وبين الغناء التراجيدي، هو أنه أوجد مكان الشاعر الذي كان يقص حياة الإله أو البطل شخصا يمثلهما. ولم يكن هذا الشخص يكتفي بأن يقيم نفسه مقام البطل أو الإله، بل كان يحاول بقدر ما يستطيع أن يتخذ شكلهما، فكان يصبغ وجهه بشيء من الأصباغ، وربما أضاف إلى لباسه شيئا ما يمثل بعض التمثيل ما كان يتصور اليونان من زي الآلهة والأبطال.
ثم لم يكتف تسبيس بأن يكلف الجوقة استظهار أبيات من الشعر وترديدها من حين إلى حين، وإنما أحدث بينها وبين الشخص الممثل شيئا من الحوار ساذجا في أول الأمر، ولكنه مصدر رقي التمثيل.
كانت الجوقة تلقي السؤال من وقت إلى وقت على الشخص الممثل فيجيبها عليه ذاكرا بعض أخبار القصة التي يراد تمثيلها، مضيفا إلى ذلك ما يتخذ من المهارة في حركات وجهه ويديه وسائر جسمه، ليمثل البطل أو الإله، ومن هنا أصبحت التراجيديا كما كان يتصورها تسبيس تنحل إلى ثلاثة أشياء:
الأول:
قصة يلقيها الشخص الممثل مبتدئا تارة، ومجيبا على أسئلة الجوقة تارة أخرى.
الثاني:
ما تتغنى به الجوقة من شعر في الرثاء للبطل أو الإله أو في الإعجاب بالطبيعة ومظاهرها، ومن مسائل تلقيها على الممثل.
الثالث:
ما يضيفه الممثل نفسه إلى أقواله من حركات جسمية أو نبرات في الصوت، ليحسن تشخيص الإله أو البطل، ويزيد التأثير في نفس الجمهور.
8
اشتد كلف الجمهور بهذا الفن وبلغ من الشدة أن اعترفت به الحكومة السياسية، فأصبح التمثيل المحزن من الحفلات التي تقيمها الحكومة في عيد ديونزوس إكراما له وإجلالا.
ويقال إن من أهم الأسباب التي حملت الحكومة الأثينية على أن تعترف بالتمثيل وتضيفه إلى البرنامج القانوني لعيد ديونزوس أن بزستراتيدس الطاغية بعد أن عاد من النفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة أراد أن يكسب قلوب الشعب ويلهيه عما فقد من حرية سياسية، فأهدى إليه فن التمثيل وقرر أن يتسابق فيه الشعراء قبل أن يئون أوان العيد.
وأحسب أن في هذا شيئا من المبالغة والإسراف؛ فإن درس تاريخ أثينا يعلمنا أن الحكومة الأثينية ما كانت ترى الشعب يكلف بشيء من الأشياء كلفا عاما إلا اعترفت به واتخذته لنفسها قانونا؛ فإن الحكومة الأثينية على اختلاف أشكالها السياسية كانت شديدة الميل إلى النظام الديمقراطي وما يستتبع من الاعتراف بميول الشعب وأهوائه والإسراع إلى تحقيقها في كثير من الأحيان. ومهما يكن من شيء فقد كان اعتراف بزستراتيدس بالتمثيل مصدرا لحياته الحقيقية وحاميا له من التشتت والضياع، وحاملا إياه على أن ينمو ويستحيل في هدوء ونظام حتى يبلغ أشده.
ليس من الميسور أن نعرف كيف استحال التمثيل منذ اعترفت به الحكومة إلى نحو سنة ثمانين وأربعمائة قبل المسيح. ولكنا نعرف أنه قد ارتقى في هذا الأمد القصير رقيا ظاهرا. فعدلت الجوقة عن أن ترتدي جلد المعز لتمثل رفاق ديونزوس. ومعنى هذا أن التراجيديا قد تجاوزت حياة ديونزوس إلى غيرها من الموضوعات، وأصبحت قادرة على أن تمثل كل شيء من حياة الآلهة والأبطال. بل هي لم تكتف بهذا، فتناولت الموضوعات المعاصرة، وحاولت تمثيل الحياة اليونانية، أو على أقل تقدير ما يقع في هذه الحياة من الأحداث ذات الخطر. فمثل فرنكوس الشاعر سنة خمس وتسعين وأربعمائة أمام الشعب الأثيني سقوط مدينة ميليه في يد الفرس فأبكاه وأحزنه، وساء أثر هذه القصة في نفس الأثينيين فعاقبوا الشاعر الممثل؛ لأنه لعب بين يدي الشعب ما يسوءه ويحزنه، ومثل سنة خمس وسبعين وأربعمائة قصة الفينيقيين أظهر فيها ظفر أثينا على الفرس.
كانت هذه الاستحالة التي أشرنا إليها خطوة خرج بها التمثيل من طفولته إلى شبابه، وفارق بها سذاجته الأولى، فأصبح غير مقصور على القيام بما كان يقوم به من واجب ديني يقصد به إلى تعظيم الآلهة والأبطال وتسلية الجمهور، بل سما إلى غاية أخرى أشد من هذه الغاية دقة وأجل خطرا وأبعد منالا، هي تمثيل الحياة الإنسانية وما يبعث العمل فيها من عواطف مختلفة وميول متباينة وأهواء متناقضة.
فلم يكن الشاعر الممثل حين يضع قصة من القصص يقصد إلى سرد حوادث ملأت حياة بطل أو إله، ولا إلى أن يسمع الجمهور ما يتلوه الممثل أو تتغنى به الجوقة من شعر جميل النظم حسن الموقع وإنما كان يقصد إلى أن تكون قصته مرآة ناصعة تظهر فيها صورة من صور الحياة القديمة أو الحديثة وما عمل في تكوين هذه الصورة من عاطفة أو هوى. وكان يريد أن يرى الجمهور نفسه على مسرح التمثيل، فيشعر بما يزينه من فضيلة أو يشينه من عيب، وكان إلى هذا وذاك يريد أن يبعث في نفس النظارة من العواطف ما تقوم عليه الحياة الاجتماعية والسياسية من ثقة تحمل على الإقدام والجرأة والشغف بجلائل الأعمال، أو رحمة تدعو إلى البر والإشفاق والأخذ بيد الضعفاء والبائسين، وكان فوق هذا كله يحرص على أن يمثل للجمهور الجمال في أبدع مظاهره وأبهجها حتى لا ينحط ولا يفسد، والقضاء في أشد ما يكون قسوة على الإنسان وعبثا به حتى لا يغتر ولا يطغى، إلى غير ذلك مما ستراه واضحا جليا فيما سنترجم أو نلخص في هذا الكتاب.
9
هذا الرقي المعنوي الذي رقاه التمثيل في أمد قصير متأثرا بما أصاب الحياة الأثينية من استحالة سياسية أو اجتماعية استلزم رقيا ماديا لم يكن منه بد. فبعد أن كان الممثل فردا واحدا يمثل بطلا أو إلها لا يتكلف في تمثيله إياه إلا الشيء القليل من تلوين الوجه والإضافة إلى الزي، أصبح في عصر أيسكولوس شخصين، ولم يكن بد من اتخاذ الأزياء الخاصة لكل قصة، ومن اتخاذ النقب التي تمثل الوجوه المختلفة. فأما تعدد الأشخاص فقد استلزم تنويعا في المحاورة قرب القصة إلى الحقيقة ودانى بينها وبين الواقع ونقل المنفعة من حوار الجوقة والممثل إلى حوار الممثلين، فأصبح مكان الجوقة مكانا إضافيا يزيد في جمال القصة وروائها من غير أن تكون رهينة به أو موقوفة عليه. ونحن مدينون لهذا التعدد بأجمل ما اشتملت عليه القصص التمثيلية من حوار. وأما اتخاذ النقب وتغيير الزي فيدلان على أن الممثلين قد أصبحوا محققين أكثر منهم مخيلين؛ أي إنهم كانوا يحاولون أن يخلبوا الجمهور ما استطاعوا أو يحملوه على أن يعتقد أنه إنما يرى شيئا واقعا محققا لا متوهما ولا مخيلا، وذلك بالعدول عن الإسراف في الخيال من جهة والاستعانة بالآلات المادية من جهة أخرى.
وبعد أن كان التمثيل بدويا ينتقل من مكان إلى مكان ويطوف أنحاء أتيكا في المواسم والأعياد أصبح حضريا مستقرا فأقيمت له الملاعب ونظمت حفلاته تنظيما لا بد من الإلمام به.
10
يدل ما قدمناه على أن حفلات التمثيل كانت دينية قبل كل شيء؛ أي إن اليونان كانوا يعبدون آلهتهم حين يمثلون أو يشهدون التمثيل، ولم تكن هذه الصفة الدينية لتمنعهم أن يلهوا ويلعبوا، أو أن يلذوا ويطربوا، فقد كانت ديانتهم سمحة سهلة حظها من الشعر عظيم، فكانوا يقاسمون آلهتهم لذاتهم وآلامهم، وربما انفردوا دونهم بالحظ الأعظم منها، فقلما كانوا يضحون للآلهة إلا أكلوا معظم ضحاياهم ولم يقدموا إليهم منها إلا الشيء القليل.
هذه الصفة الدينية التي حملت الحكومة على الاعتراف بالتمثيل حملتها على العناية بتدبيره والإنفاق عليه، فكان التمثيل في حقيقة الأمر إجلالا وتكرمة ترفعهما الدولة في كل سنة إلى الإله.
كعادة اليونان في جميع حفلاتهم اتخذت المسابقة قاعدة لتنظيم التمثيل. فكان الشعراء الممثلون يقدمون إلى رئيس معين من رؤساء الحكومة هو الأركنتوس الذي كان يعطي اسمه للسنة ما كان يريد أن يمثل من قصة. ولم يكن بد لكل شاعر يريد أن يشترك في هذه المسابقة من أن يقدم قصصا ثلاثا وقصة رابعة قصيرة يحافظ فيها على النظام التمثيلي القديم: من ارتداء الجوقة جلود المعز ومن حرية التعبير واستعمال ألفاظ وجمل وحركات قد لا تبيحها الآداب العامة.
فإذا قدم الشعراء ما لديهم إلى هذا الأركنتوس اختار منهم ثلاثة هم الذين توضع قصصهم موضع البحث والانتحال. ودفع لهؤلاء الشعراء أجرا يتفق معهم عليه بعد مساومة ومشادة، والدولة هي التي كانت تدفع هذا الأجر. وكانت العادة أن تنتخب كل قبيلة فردا من سراتها وأغنيائها ليقوم بما بقي من تنظيم حفلة التمثيل. يكلف ذلك ثلاثة في كل عام.
فكان كل فرد من هؤلاء الأفراد يكلف تنظيم التمثيل لواحد من الشعراء، فيختار الجوقة ويختار لها المعلمين والملقنين ويكسوها ويشتري ما تحتاج إليه من آلة، ينفق على هذا كله من ماله، حتى إذا ما جاء ميعاد التمثيل ازدحم الناس في الملعب ولم يكن بد من أن يشهد التمثيل جميع أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم، فمن منعه فقره وإعدامه من ذلك فعلى الدولة أن ترزقه أجر دخوله إلى الملعب.
كان هذا الملعب في أثينا قد أقيم على منحدر تل صغير نحتت في صخره مجالس للناس مدرجة في شكل نصف دائرة. وقد خصصت صفوفهم الثلاثة السفلى لمن أريد تشريفهم: يجلس في أولها القسس والكهنة محيطين بقسس ديونوزوس الذي كان يقام التمثيل إكراما له. هذا المدرج كان يسميه اليونان «ثيانرون» أي «موضع النظر».
دون هذا المدرج كانت تنبسط أرض سهلة ممهدة في شكل نصف دائرة أيضا، كان اليونان يسمونها أركسترا أي «موضع الرقص» وفي وسط هذه الأرض كانت تقوم مائدة الآلهة تطوف بها الجوقة راقصة متغنية محاورة، ثم يرتفع فيما دون هذا المرقص أمام النظارة حائط هو الذي يسمى المنظر ، عليه يمثل ما كان يراد تمثيله من الصور والمناظر. وأمام هذا الحائط يمتد مرتفع ضيق مستطيل كان يقوم عليه الممثلون يصلون إليه من باب قد شق في وسط الحائط.
يفد الناس إلى الملعب منذ آخر الليل ويبدأ في التمثيل مطلع الشمس فتدخل الجوقة صفوفا يتقدمها رئيسها، ثم يظهر الممثل، وكان في أول الأمر واحدا كما قدمنا، ثم أصبح اثنين ثم ثلاثة، ولم يتجاوز الممثلون هذا العدد. وكان من الحق على الشاعر مهما كثرت أشخاص قصته أن يقسمها بين هؤلاء الممثلين، فكان أحدهم ربما مثل شخصا أو شخصين أو أكثر من ذلك وكان يمثل الرجل والمرأة لا يتغير في هذا إلا الزي؛ فإن المرأة لم يكن يسمح لها أن تشترك في التمثيل.
يظهر الممثل وقد اتخذ من الأزياء ما يلائم مكانه من القصة، وكانت العناية شديدة بأن يمثل هذا الزي صاحبه جليلا وقورا، تراه الأعين فتهابه ويشعر الناس حين يرونه بكل ما يملأ قلوبهم من جلال الأبطال.
كان ممثل التراجيديا يتخذ نعالا عالية ترفع قامته وتباعد ما بينه وبين الأرض، وثيابا ضافية فضفاضة، ونقابا يرسم صورة الشخص الذي يريد أن يمثله. ومع أن هذا النقاب كان يحول بين الممثل وبين ما كان يود أن يظهر الجمهور عليه من حركات وجهه وتشكله بما يلائم أحواله المختلفة من الأشكال المتباينة، فقد كان يستطيع بواسطة اللحظات ونبرات الصوت وحركات اليدين وسائر أعضاء الجسم أن يبلغ من نفوس النظارة ما يريد من تأثير.
مثل الشعراء أنفسهم في أول الأمر ما كتبوا من قصص ولكن ما كاد التمثيل يرقى بعض الرقي حتى ظهرت طائفة الممثلين تخصصت لهذا الفن وارتاح لذلك الشعراء، فكانوا يتقسمون فيما بينهم آثار الشعراء فيدرسونها ويأخذون أنفسهم بتمثيلها وتفسيرها، يتقاضون على ذلك أجرا من الدولة. وما زالت هذه الطائفة ترقى ويتميز أفراد منها بالإجادة في الفن حتى أحرزوا في الجمهور مكانة عالية، واضطر الشعراء إلى أن يحسبوا لهم حسابا حين ينظمون قصصهم، وكثيرا ما أنشأ الشاعر قصة من القصص ليلعبها بين يدي الجمهور ممثل بعينه.
يبدأ التمثيل كما قلنا مطلع الشمس ويستمر النهار كله، ثم يعود فيبدأ من غد ومن بعد غد؛ ثلاثة أيام، لكل شاعر يوم، وفي كل يوم ثلاث قصص إلى القصة الصغيرة الستيرية التي أشرنا إليها آنفا. فإذا تم التمثيل انتخب الرئيس الذي وكل إليه تنظيمه قضاة عشرة لا يستشير في انتخابهم إلا القداح. ثم حلف هؤلاء القضاة ليحكمن عادلين غير جائرين ولا متبعين للهوى. فمن حكموا له بالأولية فهو الفائز الظافر، ثم يأتي بعده الثاني الذي يليه إجادة وإتقانا، أما الثالث فمقهور مغلوب لا حظ له من المكافأة.
وليس معنى اختصاص هؤلاء القضاة بالحكم أن صوت الجمهور لم يكن ذا قيمة ولا خطر؛ فإن القضاة أنفسهم كانوا من هذا الجمهور يتأثرون بما يتأثر به، وما كان أشد تأثر الجمهور الأثيني، وما كان أسرعه إلى إظهار ما يشعر وأعنفه في إظهاره، فكان يصفق ويصيح مشجعا حين يعجب ويسر، وكان يصفر ويصيح مزريا ساخرا حين لا يروقه ما يرى أو ما يسمع. وكثيرا ما حصب الممثل وكثيرا ما طرده. ومن هنا أصاب التمثيل في أثينا كثيرا من الأحيان ما أصاب السياسة من تنافس في كسب الجمهور واستباق إلى اشترائه وابتغاء رضاه.
تظفر القصة من القصص، فلا يكون هذا الظفر ولا ما استتبع من جائزة موقوفين على الشاعر وحده، أو الممثل وحده، أو عليهما معا. وإنما هو حظ مقسوم بينهما وبين هذا الذي علم الجوقة وأنفق عليها. ولا يكاد يعلن هذا الظفر حتى يخلده أثر مادي ما تنقش عليه نتيجة المسابقة وأسماء الفائزين، وهذه الآثار نفسها هي التي استخدمها مؤرخو الآداب في العصور اليونانية حين حاولوا إنشاء تاريخ التمثيل والممثلين.
11
أشرنا إلى أن التراجيديا إنما تولدت من الشعر الغنائي حين كان يتناول تمجيد ديونوزوس، وذكر حياته وما ملأها من لذات وآلام، وإلى أنها كانت وما زالت نوعا من العبادة لهذا الإله. فكان من الطبعي إذن أن يكون موضوعها دائما حياة هذا الإله أو غيره من الآلهة. وقد بدأت كذلك. ولكنها لم تكد تتكون وترقى بعض الرقي حتى تركت الآلهة جانبا وبحثت عن أبطال العصور الأولى الذين تغنى بهم الشعر القصصي، فاتخذت منهم لقصصها موضوعا. فهذا العدول عن موضوعها الطبعي خليق أن يعلل ويبحث عن سببه. وليس من العسير الاهتداء إلى هذا السبب والوقوف عليه؛ ذلك أن الآلهة على قربهم من البشر في تصور اليونان كانوا لا يزالون آلهة يخالفون البشر في طبيعتهم وحياتهم وما يملؤها من عمل وما يجري فيها من خير ومن شر. فلم يكن من الميسور اتخاذهم موضوعا للقصص التمثيلية ولا إلى أن يجد الشاعر في حياتهم ما لا بد منه لجمال القصة من درس العواطف وتحليلها ووضعها موضع النقد والإنكار. فإذا لاحظنا إلى هذا أن التمثيل إنما نشأ عند اليونان في العصر الذي ارتقى فيه العقل وأخذت فيه الفلسفة تمد ظلها على كل شيء وتتناول أجزاء هذا العالم بالبحث والتمحيص. عرفنا أن الآلهة لم يكونوا يصلحون موضوعا للتمثيل لبعد ما بينهم وبين الحقيقة الواقعة، ولما في وضعهم موضع البحث والنقد من خطر على مكانتهم الدينية أن تتزعزع، وعلى سلطانهم أن يظهر باطله فيزول، ولأن إظهارهم على مسارح التمثيل يتحاورون فيما بينهم أو يحاورون الناس لم يكن يخلو من غرابة لا يسيغها العقل ولا تطمئن إليها النفوس.
ولقد حاول «أيسكولوس» تمثيل الآلهة في قصة سيراها القارئ في هذا السفر وفي قصة أخرى هي الأمنيدس ولكنه لم يعد إلى ذلك كأنه آنس من الجمهور شيئا غير قليل من الدهش لما يرى والقصور عن فهمه وتذوقه. فآثر أن يجعل الآلهة من قصصه بمكان المشرف عليها من كثب المدبر لما يقع فيها من حادثة. ومضى على سنته غيره من الشعراء.
جل الآلهة عن أن يكونوا موضوعا للتراجيديا وقصرت الحوادث المعاصرة للشعراء عن هذا أيضا. فإنا لا نرى فيما بقي من آثار الشعراء الممثلين ولا فيما حفظ التاريخ الأدبي من عنوانات قصصهم الدارسة ما يؤذن بأنهم مثلوا حياة الأمة اليونانية المعاصرة لهم إلا مرات معدودة، فشلوا في بعضها وحفظتهم ظروف خاصة من الفشل في بعضها الآخر. فقد مثل فرنكوس سنة خمس وتسعين وأربعمائة بين يدي الأثينيين سقوط ميليه في يد الفرس فأبكى الشعب وأحزنه، ولكنه لم يلبث أن عوقب على ذلك، ثم مثل سنة خمس وسبعين وأربعمائة قصة الفينيقيين، ومثل أيسكولوس سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قصة الفرس، فظفر كل الظفر لا لشيء إلا لأن الأثينيين خاصة واليونانانيين عامة كانوا في هذا الوقت سكارى بما نالوا على الملك الأعظم من تفوق وانتصار.
فإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الإعراض عن الحوادث المعاصرة وجدناه يكاد ينحصر في شيئين: الأول أن الحوادث كانت تملأ النفوس وتؤثر في القلوب بمجرد وقوعها؛ فلم يكن اليونان في حاجة إلى قوة الشعراء وبراعتهم ليستقصوا كل ما كان فيها من جمال وروعة أو من خير وشر، والثاني أن التراجيديا كانت عملا دينيا قبل كل شيء، فلم يكن بد من أن يمت موضوعها إلى الدين بسبب، ومن الظاهر أن هذه الحوادث لم تكن من الدين في شيء.
مكان التراجيديا من الدين وحرص اليونان على سننهم الموروثة - لا يغيرونها مهما ظهر من فسادها - حالا بين الشعراء وبين اختراع الموضوعات الطريفة لقصصهم التمثيلية. وقد حاول بعضهم ذلك فلم يفلح ولم ينل إعجاب الشعب ولا رضاه.
إذن فقد اضطر الشعراء إلى أن لا يتخذوا موضوعات قصصهم إلا من أبطال العصور الأولى الذين نوهت بهم الإلياس والأوديسا وغيرهما من قصائد الشعر القصصي. ولم يكن كل هؤلاء الأبطال ليصلحوا موضوعا للتمثيل، فاختار الشعراء من بينهم من هو أشد إلى الحياة الواقعة قربا وأدنى منها مكانا لما أصابه من سعادة أو شقاء ومن نعيم أو بؤس ولما امتاز به من قوة لا تقطع ما بينه وبين الإنسانية من صلة أو ضعف يقربه من الناس ولا يبعده من الآلهة. فمثلوا أجاممنون وكلوتيمنسترا
2
وإيلكترا
3
وأوريستيس
4
وأويديبوس
5
وأنتيجونا
6
إلى غيرهم. ولقد حاول سفوكليس تمثيل هيراقل فلم ينل من الإجادة والإتقان والقدرة على تحريك القلوب ما نال حين مثل غيره من الأبطال؛ لأن هيراقل كان إلى الآلهة أقرب منه إلى الناس.
انحصر موضوع التراجيديا في أبطال العصور الأولى وكان من المنتظر أن يشق ذلك على الشعراء ويجهدهم وينتهي بهم إلى التقصير؛ لأن هؤلاء الأبطال قد تناولهم الشعر القصصي أكثر من مرة في عصور مختلفة. فوصف حياتهم وصفا دقيقا وأظهر ما كان يبعثهم على العمل من شهوة عنيفة أو هوى قوي، ومن عاطفة دقيقة أو شعور عميق، ولكن الشعراء الممثلين لم يعجزهم ذلك عن الإجادة، بل عن الإبداع والإعجاز، فما كادوا يتناولون هؤلاء الأبطال حتى أحسنوا تمثيلهم وأبدعوا في تصوير نفوسهم واتخذوا منها مرآة صافية وضعوها أمام النوع الإنساني، فرأى كل فرد من أفراده في هذه المرآة نفسه وما يزينها من فضيلة أو يعيبها من نقص، ولم يقف نبوغهم عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى إظهار الحياة اليونانية الأولى، في صورة من المجد جميلة خلابة ملأت قلوب الجمهور إعجابا وفخرا، وبعثت فيها عاطفة الإقدام على كل جليل، والإعراض عن كل دنيء لا يلائم نفسا عزيزة ولا يليق بقلب ذكي.
فهذا كله ينتهي بنا إلى قضيتين ليس فيهما شك؛ الأولى: أن الشعراء القصصين قد بذروا في النفس اليونانية بذورا كانت من القوة والاستعداد للحياة والنمو والإنتاج بحيث يعجز الزمان عن إفنائها وإبلائها؛ فقد أثمرت هذا الشعر القصصي وأثمرت غير قليل من الشعر الغنائي وأثمرت الشعر التمثيلي عند اليونان والرومان، ولا ينبغي أن ننسى أنها أثمرت أجمل ما يزدان به التمثيل الفرنسي في القرن السابع عشر، وهي على هذا كله جديدة رائعة خلابة للنفوس، أخاذة بمجامع القلوب، وأثمرت إلى هذا كله حظا موفورا من الفن القديم والحديث، بين تصوير ونقش، وحفر وبناء.
الثانية: أن شعراء اليونان كانوا من النبوغ وقوة البصيرة ونفاذها ومن ذكاء القلب وحدة الخاطر، بحيث استطاعوا أن يتناولوا هذه الموضوعات التي طال عليها العهد وتداولها غيرهم من الشعراء، فيجددوها ويكسوها روعة طريفة وبهجة لم يكن لها بها عهد، حتى لكأنها آية مبتكرة، أو بدع في الأدب جديد، فإذا أضفت إلى هذا أن هؤلاء الشعراء على تعاصرهم كانوا يتناولون الموضوع المعين الذي قدم وطال عهده فيمثله كل واحد منهم تمثيلا خاصا يعطيه شكلين مختلفين وصورتين من الجمال تتباينان وتتباعدان، وكلتاهما تملك القلب وتستهوي النفس وتملأ الجمهور إعجابا يخرجه عن وقاره، وينسيه حياته وما يملأها من حوادث وخطوب، عرفنا السر في أن الأدب اليوناني قد كان ولا يزال أحسن صورة وصلت إليها الإنسانية في تمثيل الجمال.
12
على أن هذا كله لا يكفي ليعطي القارئ من التراجيديا صورة واضحة جلية تمكنه من أن يقدم على قراءتها ملما بها بعض الإلمام، متصورا لها بعض التصور، فلا بد من أن نشير بشيء من الإيجاز إلى تأليفها، والأجزاء التي كانت تكونها، وما اتخذ الشعراء الممثلون في إنشائها من قاعدة وأصل.
هبك في الملعب تنتظر ابتداء التمثيل، فأول ما تشهد من ذلك غالبا إنما هو قدوم الجوقة ولكن هذا ليس أول القصة، إنما أولها شيء تمهيدي يلخص فيه موضوع القصة، ويشار فيه إشارة خفية - ولكنها كافية لإعداد النظارة - إلى ما سيقع أمامهم من حادثة. هذا القسم الأول يسميه اليونان برولوجوس
7
أي مقدمة ينطق به واحد أحيانا،
8
وربما كان حوارا بين اثنين
9
وربما أعرض عنه الشاعر إعراضا تاما وبدأ قصته بالجوقة تتغنى بما يشير إلى ما في القصة إشارة ما. فإذا فرغ هذا التمهيد تغنت الجوقة بمقطوعة شديدة الطول في أكثر الأحيان، بينها وبين موضوع القصة صلة ما، ولكنها تشتمل على شيء كثير غير ذلك وهذه المقطوعة أقرب إلى الشعر الغنائي منها إلى الشعر التمثيلي، سيرى القارئ منها نماذج مختلفة فيما سيقرأ من هذا الكتاب وهي تسمى عند اليونان بارودوس
10
ومعناه الغناء في مكان معين. فإذا فرغت الجوقة من غنائها بدأت حوادث القصة تمثل بالفعل بين يدي الجمهور في قطع من الحوار أو القصص تختلف طولا وقصرا، ويفصل بعضها عن بعض قطع تتغنى بها الجوقة. فأما هذه الحوار أو هذه القصص فيسميها اليونان إيبيزوديون
11
ومعناها الفصل تقريبا. وأما ما يفصل بينها من أغاني الجوقة فتسمى ستاسيمون.
12
فإذا مثلت القصة فآخر فصل من فصولها أو آخر قطعة من قطعها التمثيلية تسمى إجزودوس
13
أي خاتمة أو نتيجة أو ما نحو ذلك.
هذه هي الأجزاء التي تتألف منها عادة قصة تمثيلية، فأما عدد الإيبيزوديون أو الفصول فلم يكن معينا ولا محدودا في القرن الخامس، ولكن عصر الإسكندريين لم يتجاوز به الخمسة فأصبح هذا قانونا أثبته هوراس في فنه الشعري، كأنه شيء لا يجوز خلافه. ومن هنا نلاحظ أن القصة التمثيلية كانت تقوم على شيئين متناقضين، وكان هذا التناقض نفسه مصدر جمالها وما فيها من روعة. هذان الشيئان هما الوحدة من جهة والاختلاف من جهة. فأما الاختلاف فقد لاحظناه فيما يتعاقب على سمع الجمهور من غناء وحوار وقصص؛ ذلك إلى اختلاف ما يشتمل عليه كل من هذه الأجزاء الثلاثة من معنى، وما يصحبه من حركة، وما يمثله من حادث. وأما الوحدة فهي وحدة الموضوع ووحدة الغرض من كل هذه الأجزاء المختلفة، فقد كان الشاعر يتخير بطلا من أبطال اليونان ويتخير من صفات هذا البطل صفة معينة يحاول إظهارها في أوضح مظاهرها وأشدها تأثيرا في نفسه فيسلك إلى هذا الإظهار طرقا مختلفة متباينة ولكنها تنتهي كلها إلى غاية واحدة، هي وضع هذه الصفة من صفات البطل الموضع الذي قصد إليه. وهناك وحدتان أخريان كان الأدباء في القرن السابع عشر والثامن عشر يزعمون أنهما تكونان مع هذه الوحدة التي أشرنا إليها قاعدة مقدسة من قواعد التمثيل، هما وحدة المكان بحيث يجب أن تقع حوادث القصة كلها في مكان واحد، وبحيث لا يصح أن يمثل المسرح إلا مكانا بعينه، ووحدة الزمان بحيث لا يتجاوز الوقت الذي تقع فيه حوادث القصة يوما واحدا. ولكن درس ما بقي من القصص وما ترك أرستطاليس من القواعد التي وضعها للتراجيديا، يدل على أن الشعراء قد ألفوا ملاحظة هاتين الوحدتين من غير أن يلتزموها. فقد انتقل مسرح التمثيل من دلف إلى أثينا في الأمنيديس، ومثلت قصة أجاممنون في وقت واحد وصول خبر الانتصار بواسطة الإشارات النارية إلى أرجوس، ثم وصول الملك وجيشه إلى هذه المدينة، ثم مقتل الملك. ولا شك في أن هذه الحوادث إذا لم يستغرق تمثيلها إلا ساعات؛ فإن وقوعها يستغرق أياما.
هذه هي أصول التراجيديا ونظمها العامة قد ألممنا بهذا إلماما. فأما تفصيل ما فيها من جمال فني فقد آثرنا ألا نعرض له؛ لأن فهمه يستلزم أن يكون القارئ قد ألم بها وقرأها، فخير أن نترك لما ترجمنا ولخصنا في هذا الكتاب دلالة القراء عليه، وأن نأخذ في ذكر ما يعرف التاريخ من حياة أقدم الشعراء الممثلين المعروفين عهدا وهو أيسكولوس.
حياة أيسكولوس
1
لا يعرف التاريخ الأدبي من حياة أيسكولوس إلا شيئا قليلا؛ لأنه على جلال خطره وشدة أثره في الحياة الأدبية اليونانية قد عاش في عصر قلت فيه العناية بتدوين التاريخ عامة وحياة الأفراد خاصة. ذلك إلى ما أصاب آثار هذا العصر اليوناني من ضياع وفساد جعلاها إلى الظلمة والجهل أقرب منها إلى النور والعلم.
ولد أيسكولوس بن أوفريون «بمدينة أيلوزيس» في أتيكا سنة خمس وعشرين أو أربع وعشرين وخمسمائة قبل المسيح. ولسنا نعرف من طفولته شيئا ما.
ولكن من المحقق أنه تأثر في صباه أشد التأثر بشيئين؛ أحدهما: أخلاق أسرته التي كانت أرستقراطية، تحافظ على منزلتها القديمة من العز والشرف وتكره أن تتبذل فترضى عن هذه الديمقراطية التي أخذت تسود وتمد ظلها في أتيكا أواخر القرن السادس. والثاني: هذه الحياة الدينية القوية التي كانت تملأ مدينة أيلوزيس وتنزلها من بلاد أتيكا خاصة ومن بلاد اليونان عامة منزل المكان المقدس، يحج الناس إليه من كل وجه لتكريم دمتير إلهة الطبيعة الحية الخصبة التي تكفل للإنسان حياته المادية وما فيها من لذة وراحة، ومن طمأنينة وهدوء.
كانت دمتير أشد آلهة اليونان شبها لديونزوس كما قدمنا. فكلاهما امتلأت حياته باللذة والألم، وكلاهما كانت لذته رمزا لخصب الطبيعة وجمالها، وألمه آية لما ينالها من جفاف وذبول في بعض فصول السنة، وكلاهما أقيمت له حفلات امتزج فيها الحزن بالسرور، واللذة بالألم. ووجد فيها الجمهور مفرجا لكربه ومسليا لهمه، وفرصة يألم فيها، فيعلن تأثره بما كان يملأ حياته من شقاء، فينسى ما كان يثقله من بؤس وسوء حال.
وكل ما بين الإلهين من الفرق أن دمتير كانت أنثى فدخل في أعيادها شيء من الألغاز والتكتم غير قليل. أما ديونزوس فكان لا يتستر ولا يستخفي؛ ومن هنا كانت آثاره في الحياة اليونانية أظهر وأوضح، وكان منها التمثيل، بينما انحصرت آثار دمتير في حياة العقل والعاطفة فأوجدت - وحدها أو بمعونة ديونزوس - في نفوس اليونان، هذا الهيام الديني الذي يحمل الإنسان على أن ينسى حياته المادية ووجوده الخاص، ليفنى في إلهه وقتا قليلا أو كثيرا.
ومهما يكن من شيء فقد كان أهل أيلوزيس في جميع العصور اليونانية إلى أواخر القرن الخامس ديانين متورعين، يكرهون الإثم وينفرون منه، ويحبون التقى ويرغبون فيه، وقد ظهر أثر هذه الديانة والورع في حياة أيسكولوس وعمله، فتراه في جميع آثاره الأدبية محبا للآلهة، معظما لهم، مؤثرا لطاعتهم، منكرا للخروج عليهم، وسنرى بعد حين أن قصصه التمثيلية تقوم على الدين قبل كل شيء، كما أن مكان أسرته من الأرستقراطية قد جعله أنفا أبيا في حياته الخاصة والعامة، وصانه أن ينزل بنفسه إلى حيث يعنى بما كان يجري حوله من الأعمال السياسية، فيطلب العمل في حكومة الجمهورية، وقد قدمنا في المقالة السابقة أن الأرستقراطية الأثينية كانت تمتاز بالاعتدال والهدوء وكانت قلما تلجأ إلى العنف والشدة في حربها للديمقراطية، فهذا هو الذي منع شاعرنا أن يعلن سخطه على حكومة الشعب وازدراءه لها، وحمله على أن يكتفي باجتناب الأعمال العامة، والانكباب على فنه يجوده ويرقيه، ويقرب ما بينه وبين الكمال.
هناك مؤثر ثالث عمل في تكوين النفس الشعرية لأيسكولوس، هو الشعر الغنائي الذي كان قد بلغ في هذا العصر أقصى ما كان يمكن أن يبلغه من رقي ورقة، وقدرة على التأثير في النفوس والأخذ بمجامع القلوب، والذي كان قد انتشر انتشارا لم يعهده اليونان من قبل في جميع طبقات الجمهور اليوناني.
كان هذا الشعر قد وصل إلى أقصى أمد من تمثيل عواطف النفس وإثارة كمينها، واستطاع أن يرسم حياة الشعور اليوناني وما فيها من دقيق وجليل ، فتغنى بالحب وما يبعث في النفس من رقة ولطف، ومن رحمة وإشفاق، وافتخر بمآثر اليونان وحسن بلائهم في حياتهم الماضية والحاضرة، ومدح فأحسن المدح، ورثى فأجاد الرثاء. ومجد الآلهة فبرأهم من أكثر ما كانت تضيف إليهم الأشعار القصصية من صفات وخصال لم تكن تلائم العصر الحديث، وأنزلهم من القلوب منزلة عزيزة مطهرة بعض التطهير من آثار الشهوات والأهواء المادية، ووصف الطبيعة فجلاها للحس جميلة خلابة تستهوي النفوس وتفتن القلوب. وأبرزها للعقل متقنة منظمة تسترعي الفكر وتدعو إلى التروية والتفكير، فأعد النفس اليونانية لشيئين أحدهما التأمل المتصل المتنوع الذي نشأت عنه الفلسفة. والآخر التقليد والمحاكاة اللذان نشأ عنهما التمثيل.
وكان شاعرنا قد روى من هذا الشعر حظا موفورا، وضرب فيه بسهم فبكى ووصف وغنى الجمال، ثم رأى تسبيس وتمثيله المتنقل فأعجبه هذا الفن الناشئ وراقه فما أسرع ما كلف به وأقبل عليه.
فما كاد يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره حتى تقدم إلى المسابقة في التمثيل وكأن هذا الفن إنما نشأ ليشغف به هذا الشاعر فيتناوله ويهبه من قوته ونبوغه ما يمنحه حياته ويعطيه شخصيته وحظه الصحيح من الوجود.
كانت بعد ذلك الحروب الميدية فاشترك أيسكولوس في وقعة مارثون من غير شك - يشهد بذلك ما أمر أيسكولوس أن يكتب على قبره - واشترك كذلك في وقعة سلامين وبلاتيه وغيرهما من المواقع التي كانت سنة ثمانين وأربعمائة فيما يروي المؤرخون.
ويقال إن أخاه كونايجايروس
Kunaïgueïros
قد أبلى في سلامين بلاء حسنا.
ومهما يكن من شيء فإن انتصار اليونان على الفرس قد ملأ نفوس هذا الشعب إعجابا وفخرا وإقداما وجرأة كما قدمنا في المقالة السابقة، ولا سيما نفوس الأثينيين الذين كانوا زعماء هذه الحرب وملاك هذا النصر؛ فأقدموا على كل شيء، وكانوا لا يحاولون أمرا إلا وظفروا منه بالغاية، وقد ظهر أثر هذا الإعجاب والإقدام في الشعراء الممثلين أنفسهم فمثلوا هذا النصر مرتين وحفظ التاريخ تمثيل أيسكولوس في قصة الفرس سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
كانت حياة أيسكولوس خصبة كثيرة الغنى، فقد روى مؤرخوه أنه انتصر في المسابقة التمثيلية ثلاث عشرة مرة. فإذا لاحظنا أن الشاعر الممثل كان يجب عليه أن يقدم للامتحان ثلاث قصص تراجيدية وقصة ستيرية عرفنا أن الجمهور قد أعجب من آثار أيسكولوس باثنتين وخمسين قصة وليس هذا بالشيء القليل.
على أن حياة أيسكولوس لم تخل من فشل أحزنه ونغص عليه ما كان يجنيه من فوز، فقد ظهر له في آخر أمده خصم شاب سابقه فسبقه سنة ثمان وستين وأربعمائة وهو سوفوكليس. ثم لم يلبث أيسكولوس أن انتصر سنة سبع وستين وأربعمائة وكان آخر ظفره الفني سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ثم ارتحل بعد ذلك إلى صقلية فمات فيها سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وقد اختلف الرواة في سبب رحلته إلى صقلية فزعم بعضهم أنه حنق على سوفوكليس ولم يستطع صبرا على تفوقه وزعم الآخرون أن الشعب قضى عليه بالنفي لأنه أفشى أسرار الآلهة.
كلتا الروايتين يمكن أن تكون صحيحة. ولكن التاريخ لا يؤيد واحدة منهما. بل نحن نعلم أن أيسكولوس قد سابق خصمه فسبقه أكثر من مرة، وأنه إنما سافر من أثينا سفرته الأخيرة «لأنه ارتحل إلى صقلية مرتين» بعد أن انتصر سنة ثمان وخمسين. ولو أن الشعب كان قد قضى عليه بالنفي لحفظ لنا التاريخ الصحيح شيئا من قضيته. وليس أيسكولوس بالرجل الذي ينسى ما كان بينه وبين الشعب من صلة. ونحن نرجح مع الباحثين المحدثين أنه إنما ارتحل إلى صقلية مجيبا لدعوة هيرون طاغية سوراكوزا
1
الذي كان يدعو إلى قصره نوابغ اليونان في كل فن، ليزين بهم قصره ومدينته.
2
لم يبتدع أيسكولوس فن التمثيل ولم يخترع التراجيديا. ولكنه أعطاها شكلها الحقيقي وصورتها الأخيرة. ورسم لها الطريق التي لم يكن بد من أن تسلكها لتبلغ ما قدر لها من الكمال. وسلك بها معظم هذه الطريق. فصح أن يسمى أبا التراجيديا، كما سمي هردوت أبا التاريخ.
لم تكن التراجيديا قبله إلا نوعا من الغناء تقوم به الجوقة أو الممثل الذي أضافه تسبيس أو كلاهما. فلم يكتف أيسكولوس بهذا الغناء يصحبه شيء من القصص. بل أضاف إليهما شيئا من الحركة. فأصبحت التراجيديا بذلك حقيقة هي أقرب إلى ما يحدث بين أيدي الناس منها إلى التاريخ والأساطير. وقد استلزم هذا الجزء الثالث أن يتعدد الممثل فأصبح اثنين ثم ثلاثة كما قدمنا، وأن يرتقي تدبير المنظر وتنظيمه بحيث يستطيع أن يعاون الممثلين على أن يحاكوا الحقيقة ويخيلوها إلى الناس، فأقدم أيسكولوس على ذلك غير متردد ولا هياب، ثم لم يكد يقدم حتى أمده خياله وقدرته على الإبداع والابتكار بما جعل دار التمثيل من الرقي الآلي بحيث استطاعت أن تسع ما كتب هو وكتب غيره من القصص التمثيلية.
أضف إلى هذا ما قدمنا من عنايته بلباس الممثلين وأحذيتهم وقلانسهم ونقبهم مما صبغ التراجيديا صبغتها المعروفة، وكان مصدر الرقي هذا القسم المادي من أقسام التمثيل. فأما الوجهة الأدبية خاصة فليس من شك في أن أيسكولوس هو الذي بلغ بها من الرقي إلى ما نعلم، وأن خصمه سوفوكليس ومن بعده أوربيديس إنما سلكا سبيله واقتفيا أثره، وكانا له مقلدين، وإن امتاز كل منهما بميزته الخاصة التي سنراها في هذا الجزء وفي الذي يليه.
حاول أيسكولوس أن يمثل بين أيدي الناس صورة من صور الحياة الإنسانية لم يكد يتجاوزها إلى غيرها، وهي هذه الصورة التي يظهر فيها الإنسان متنازعا بين إرادته وبين إرادة أخرى أشد منها قوة وأعظم بأسا وأضخم سلطانا، وهي إرادة الآلهة أو إرادة القضاء إن صحت هذه العبارة.
في هذه الحرب العنيفة التي تقع كل يوم بين هذه الإرادة الضعيفة تنكر ضعفها ولا تعترف به، بل تمضي فيما تحاول مغرورة مفتونة بما يظهر لها من قدرة وبين تلك الإرادة الهادئة المطمئنة لا تضطرب ولا تجيش وإنما تقدر فينفذ ما قدرت، وتقضي فيتم ما قضت، قد علمت ذلك واستيقنته، فهي تنظر ساخرة مرة ومشفقة مرة أخرى إلى الإنسان يمانعها ويدافعها من غير أن ينفعه ذلك أو يغني عنه شيئا.
أقول في هذه الحرب العنيفة بين هاتين الإرادتين تظهر الحياة الإنسانية في صور مختلفة من السطوة والجلال، ومن الكبرياء والغطرسة، ثم من الضعف والضآلة، ومن الخمود والاستسلام.
وكل هذه الصور صحيحة واقعة في كل وقت وفي كل قطر وفي كل طور من أطوار الحياة العاقلة، ليست بالمنتحلة ولا المتكلفة، وقد ألفها الناس واطمأنوا إليها وأصبحوا لا ينكرونها. بل أصبحوا لا يشعرون بها، ولا يقدرون لها وجودا. فإذا استطاع الشاعر أن يستعين بما أوتي من نبوغ على أن يمثل لهم هذه الصور تمثيلا يملك قلوبهم ويستهوي نفوسهم حتى يلمسوا بأيديهم ما في قوتهم من وهن وما في كبريائهم من غرور، فقد سلك بهم إلى الكمال الخلقي سواء السبيل. ذلك إلى ما يشتمل عليه هذا التمثيل من جمال وروعة فيهما للنفوس فتنة ولذة، وذلك هو الذي حاله أيسكولوس فوفق منه إلى كل ما كان يريد.
وفق إلى ذلك من غير أن يكلف الجمهور الذي يشهد تمثيله أو يقرأ قصصه عناء البحث والكد في حل المعضلات الفلسفية. بل من غير أن يحاول حل هذه المعضلات؛ فلن ترى قصة من قصصه تتعرض لتحديد ما بين القضاء والحرية الإنسانية من صلة، أو للتوفيق بينهما، أو لتفسير هذه الحركة حركة الإنسان في هذه الحياة ممانعة أو موافقة لهذه القوة القاهرة التي تدير العالم وتسيطر عليه.
لم يحاول شيئا من هذا، وإنما استعان الحقيقة الواقعة واتخذ منها طريقة للإقناع لا تثبت أمام منطق الفلاسفة ولكنها قادرة كل القدرة على أن تصل إلى القلوب فتحملها على الاطمئنان والرضى.
انظر إلى قصة الفرس كيف ابتدأها بالجوقة تتغنى مجد فارس وعظمتها، ولكنها تشفق من شر تتوقعه، من غير أن تتحقق كنهه. ثم كيف تقبل أم الملك متولهة مشفقة لحلم رأته، وكيف تشعر الملكة والجوقة بالشر وتحاولان اتقاءه واسترضاء الآلهة. وما هي إلا أن يأتي الرسول فينبئ بما دهم الفرس من كارثة وما أصابهم من هزيمة.
هنالك يصعقهما الخبر فتعولان وتشكوان وترثيان لمن مات وتألمان للأحياء ثم تشعران بالحاجة إلى تعرف سبب هذه الهزيمة والتعزي عنها فتستشيران طيف دارا: هذا الملك العظيم الذي قضى وجاور آلهة الجحيم فألم من الغيب بطرف.
ينبئهما هذا الطيف بأن مصدر نكبة الفرس إنما هو طغيان الملك الأعظم وعناده للآلهة وخروجه عن أمرهم. ثم يقبل هذا الملك نفسه خانعا ذليلا فيشتد بينه وبين الجوقة حوار ملؤه الحزن والألم يختمه الإذعان للقضاء والاطمئنان إليه.
ذلك دأب الشاعر فيما بقي لنا من آثاره التمثيلية يظهر الإنسان في أول قصته عنيدا قد ملأه الكبر وأعماه الغرور عن مواضع ضعفه ثم لا يزال بهذا العناد ينميه ويضاعفه حتى يبلغ به أقصاه. فإذا انتهى ببطله من الرفعة إلى هذه المنزلة أخذ ينحط به قليلا قليلا، حتى ينتهي به إلى الحضيض.
انظر إلى الجمهور الأثيني يشهد هذه القصص مرة في كل عام يسحره أولها فيمتلئ إعجابا ويزداد إعظاما لنفسه، ثم يفجؤه آخرها فيصغر ويرى ما قدر للإنسان في هذه الحياة من قوة لن تكون عاملة منتجة إلا إذا قصد صاحبها في استخدامها وتجنب بها الإغراق والإسراف.
انظر إلى هذا كله، ثم اقرأ تاريخ الأثينيين في القرن الخامس تجده ممثلا فيه تمثيلا صحيحا؛ إقدام شديد ولكن ملؤه القصد والتؤدة، فإذا أسرفوا أو طغوا لم تلبث عاقبة ذلك أن تحيق بهم وتردهم من الحزم والأناة إلى ما كانوا قد تعودوه.
كانت نفس أيسكولوس ساذجة لا تألف التعقيد ولا تميل إلى التعمق، وإنما تأخذ الأشياء كما تجدها في الخارج لا تغيرها ولا تحورها. فلم يكن إبداعه في التمثيل ناشئا من تناوله للأشياء بزيادة فيها أو نقص منها. وإنما كان مصدره صفة نفسية أخرى، أثرها في الحياة الشعرية عظيم. هذه الصفة هي شدة التأثر بالأشياء وتحويلها بمجرد الشعور بها إلى صور ليست بالغريبة، ولكنها قادرة على استهواء النفوس وامتلاك القلوب، لا تكاد تلقى إلى الجمهور حتى تخرجه عن طوره المألوف، وتملك عليه حسه وشعوره وتجعله يعيش مع الشاعر في عالم جديد من الصور يراها بعين الشاعر، ويحسها بحسه، ويتأثر بها كما كان يتاثر بها الشاعر نفسه.
فما كان أيسكولوس يكاد يبدأ تمثيل قصة من قصصه حتى يستأثر بالجمهور وينقله من حياة إلى حياة، وحتى يشعر هذا الجمهور بأنه في بيئة لم يألفها، وأنه يتقدم في طريق ليس له بها علم. فلا بد من أن يقفو أثر الشاعر ويتبعه فيها خطوة خطوة حتى يصل إلى الأمل الذي تنتهي إليه القصة؛ ذلك على أن هذه الطرق ليست بالمعوجة ولا المتعرجة، ولا بذات الثنايا والمضايق.
كان أيسكولوس يبدأ قصته بقطعة من الحوار أو الغناء تشير إلى موضوعها إشارة ليست بالخفية كل الخفاء ولا بالواضحة كل الوضوح، فتقف الجمهور موقف الحيرة والدهش؛ لأنها تنبئه بأن حادثا مجهولا - ولكنه ذو خطر - يوشك أن يقع ثم ينتقل به وقد أعد نفسه لما يريد وهيأها لقبول ما سيمثل من هذا الموقف إلى موقف آخر أدنى إلى الوضوح ولكنه لا يكشف عما اشتملت عليه القصة، وما يزال ينتقل به متمهلا من مرحلة إلى مرحلة وقد ملك عليه نفسه وشعوره، واستأثر بما لديه من تنبه والتفات، حتى ينتهي به إلى ما كان يريد أن يجلو بين يديه من فكرة أو صورة كانت في أول القصة ضئيلة شديدة الغموض فما زالت تعظم وتتضح حتى أصبحت في آخر القصة عظيمة كالعالم مشرقة كالشمس تغمر الجمهور وتحيط به وتكرهه على أن لا ينظر إلا إليها ولا يفكر إلا فيها.
ثم لم يكن أيسكولوس على سذاجته وقصده ليسلك بجمهوره كل هذه الطريق من غير أن يريحه ويروح عنه من حين إلى حين، على ألا ينسيه موضوع القصة ونمو حوادثها، فكان يضع في أثنائها هذه المقطوعات الغنائية تتغنى بها الجوقة غير مهملة موضوع القصة، ولكنها غير ملحة فيه تضيف إليه من وصف الطبعية ومحاسنها، ومن تحليل النفس الإنسانية ودقائقها، بل ومن تكهن بما عسى أن تنتهي به القصة ما ينفس عن الجمهور ويحمله هو أيضا على أن يقاسم الجوقة إعجابها وتأملها وتنبؤها، فهو حين يسمع المقطوعات معلق بين ما مضى من القصة وما هو آت منها. وإنه لكذلك إذ يأتي أحد الممثلين فيذود عنه هذه الراحة ويقوده في طريقه إلى حيث كان يريد الشاعر.
فإذا أردت أن تعرف علام كانت تشتمل هذه الطريق دهشت؛ لأنك لا ترى فيها شيئا ينكره الحس أو ينبو عنه العقل، وإنما كلها صور قد ألفناها منفردة وليس هناك من جديد إلا هذا التأليف الذي جمع بينها وقرن بعضها إلى بعض، وربما استعان أيسكولوس بما له من قوة التصور وشدة التأثر بالصور على أن يدرك الفرق بين صورتين متناقضتين أشد التناقض متباعدتين أشد التباعد فيمثل هاتين الصورتين أحسن تمثيل، ويحمل الجمهور بمهارته وقوة نبوغه على أن يشعر بهذا الفرق والتناقض كأنه يلمسه وأن يتأثر به أشد ما يمكن من التأثر.
انظر إليه في أجاممنون كيف مثل أجاممنون ملكا عظيم القوة ضخم السلطان، قد قاد اليونان إلى النصر وقهر بهم مدينة قوية منيعة، ثم أقبل على عجلته ظافرا تحفه الجلالة والمهابة، تتبعه ابنة الملك أسيرة ذليلة، فبهرت هذه الصورة جمهور النظارة ثم دخل الملك قصره يمشي على بساط أرجواني قد بعد ما بينه وبين البشر، وقرب ما بينه وبين الآلهة، وما هو إلا أمد قصير حتى يعود الملك إلى هذا الجمهور، ولكن مهابة أخرى تحفه وتحيط به هي مهابة الموت: جثة هامدة قد لفت في ثوب مضرج بالدماء وإلى جانبه امرأة كانت منذ حين تتملقه وتتلطف له وتهدي إليه من الثناء باقات حسنة التنسيق بديعة التنظيم، وهي الآن تمقته وتزدريه، بل تلعنه وتستنزل عليه السخط، والجوقة بينهما تتردد بين الغضب والخوف.
أليس في هاتين الصورتين ما يكفي ليبهر الجمهور، فيملأه إعجابا بما تمثل الصورة الأولى من جلال وعزة، ثم يروعه فيملأه ذعرا وإشفاقا لما صار إليه هذا الجلال في أمد قصير.
لم يكن أيسكولوس يحب الانتقال الفجائي من نقيض إلى نقيض وإنما كان يهيئ النفوس إلى هذا الانتقال ويسلك بها طريقه رويدا رويدا كما قدمنا، فيجمع بذلك بين ما كان يحرص عليه من التأثير القوي في نفس الجمهور وعدم مفاجأته بالمتناقضات حتى لا يناله الإنكار ولا يحول الدهش بينه وبين الفهم والاستفادة مما يقع بين يديه.
قراءة آثار أيسكولوس في أصلها اليوناني لازمة كل اللزوم لنشعر بقوته الفنية وقدرته النادرة على اختيار الألفاظ والتنسيق بينها. فهناك صور لا بد من التلطف وإتقان الحيلة لنقلها إلى لغة أخرى. ثم هي إذا نقلت مع شدة الاحتياط والحرص على الأمانة في النقل فقدت شيئا غير قليل من جمالها الفطري، ولم يشعر به قارئ الترجمة.
أضف إلى هذا أن قصص أيسكولوس إنما تنقل نثرا وهي في اليونانية شعر. وللشعر اليوناني كغيره من كل شعر في اللغات الأخرى جمال خاص، مصدره الألفاظ الشعرية والوزن، وما بين الأبيات والمقطوعات من صلة. وكل هذا شيء ليس من سبيل إلى أن ينقل من لغة إلى لغة. فكما أن مطولة امرئ القيس يمكن أن تترجم إلى الفرنسية فيؤدي المترجم معناها أحسن الأداء ويتخير لذلك أجمل الألفاظ والأساليب الشعرية في اللغة الفرنسية. ولكنه يعجز عن أن يشعر القارئ الفرنسي بما لهذه القصيدة من جمال شعري عربي؛ فإن نقل أيسكولوس وغيره من الشعراء الممثلين في العصر القديم والحديث، لن يستطيع أن ينقل من آثارهم إلا جزءا من جمالها الفني، ربما كان أقل أجزائها بهجة وروعة.
لذلك لا ينبغي أن يتخذ قراء التراجم ما يقرءون من الشعر المنقول مقياسا لجمال هذا الشعر، ولا أن يحكموا عليه بما تبعث هذه الترجمة في نفوسهم من أثر حسن أو سيئ؛ فإن هذا الحكم باطل من أصله، وما كان غرض الناقلين للشعر من لغة إلى لغة أن ينقلوا إلى قرائهم منه صورة حقيقية. وإنما ينبغي أن يكون الغرض تمكين هؤلاء القراء من أن يلموا به بعض الإلمام وحمل من أتيح لهم الوقت والقوة على أن يتعرفوه ويجدوا في أن يستقوه من منبعه.
3
تأثر أيسكولوس فيما كتب بالشعر القصصي، فاختار منه موضوعات قصصه من غير أن يتكلف الاختراع أو إحداث خلق جديد، وكان يقول إنه يكتفي بما سقط من مائدة هوميروس.
وقد قدمنا تعليل ذلك. ولكن هناك وجها آخر من وجوه تأثير الشعر القصصي في فن أيسكولوس، ولا بد من الإشارة إليه، نريد تأثيره في تشكيل أشخاص قصصه التمثيلية.
فقد كان هذا الشعر لا يحفل بتفصيل ما لأبطاله من خلق ووصف ما يبعثهم على العمل من عاطفة، وإنما كان يجتزئ بجملة أو بعض جملة يشخص بها البطل من أبطاله، أو الإله من آلهته تشخيصا قويا لا يحتمل الشك ولا يقبل التردد. وأمثال هذه الجمل وأجزاء الجمل كثيرة منتثرة في الإلياس والأوديسا فقد كان يكفي لتشخيص أوديسيوس وصفه بأنه يعدل ذوس حيطة وحذرا، فلا ترى هذا البطل في كتاب من كتب هاتين القصيدتين إلا رأيته في جميع أعماله وأقواله، بل في تحدثه إلى نفسه ومناجاته إياها إلا حذرا رشيدا، لا ينطق بكلمة، ولا تصدر عنه حركة، ولا تجول في نفسه فكرة، إلا قد قدرها وحسب لها حسابا.
كذلك فعل أيسكولوس في قصصه، فلم يحاول أن يطيل حوار الممثلين أو غناء الجوقة فيما من شأنه أن يصف أخلاق أشخاصه أو يحلل عواطفهم. وإنما كان يكتفي بأن ينطق أحد الممثلين بجملة تخلق شخصه وتضيف إليه كل ما يتصف به من صفته.
فإذا خلق البطل من أبطاله بخطة جرى بها قلمه، فهذا البطل مشبه لنفسه في جميع أجزاء القصة، لا تنقصه صفة من صفاته الأولى، ولا تعرض له صفة جديدة لم تكن له من قبل.
انظر إليه في بروميثيوس مغلولا: كيف مثل بطله في أول القصة عنيدا قوي الشكيمة لا يذعن ولا يخضع، ثم انظر إلى هذا البطل في جميع أجزاء القصة كيف احتفظ بهذه الخصلة، فلم ينزل عنها قيد شعرة على كثرة ما ألحت عليه الجوقة في ذلك، وعلى شدة ما فدحه من حادث وما نابه من خطب.
إنه ليشكو ويألم. ولكن شكاته وألمه لا يصدران عنه إلا ليصفا ما يملأ نفسه من إصرار على العناد، ومضي في الصبر والاحتمال، ومقاومة كبير الآلهة. ثم لا يزال كذلك حتى تصعقه الصاعقة وتلتهمه الأرض.
تجد مثل ذلك في جميع ما بقي من آثاره الفنية على اختلاف موضوعاتها وتباين ما تشتمل عليه من الحوادث.
وخصلة أخرى قد امتاز بها أيسكولوس هي إتقانه الإتقان كله وصف القوة والشدة وما إليهما من إباء النفس ومضاء العزم، وكل ما هو عظيم يخيل إلى من قرأه أن نبوغه قد حاول هذا الإتقان فوفق إليه، وظفر به، وقصر عن ما سواه. فهو لا يجيد وصف الضعف، ولا يحسن تمثيله، حتى إنك لتجد النساء اللاتي مثلن في قصصه قد امتزن بقوة نادرة وإباء غريب، وحتى إنه ليمثلهن قويات في ضعفهن. فإذا أبى عليه الموضوع ومكانهن من القصة أن يصفهن بالقوة وشدة البأس، وضع مكان هاتين الصفتين ما يقوم مقامهما من يقين يشد عزمهن ويعينهن على احتمال النازلة والثبات لها.
اقرأ قصة المستجيرات تجد الجوقة من فتيات ذليلات قد لجأن إلى مدينة أرجوس يطلبن إليها الجوار ويلتمسن منها الحماية. ليس لهن قوة ولا عون إلا ثقتهن بالآلهة واعتمادهن على حق الضيف. ولكن تلك الثقة وهذا الاعتماد قد ملآ قلبهن ثباتا فهن يلزمن تمثال الإله ضارعات لاجئات تساقط دموعهن، وترتفع أصواتهن بالبكاء والعويل. ولكنهن مزمعات ألا يذعن أو يصيبهن الموت.
انظر إليهن وقد أقبل رسول العدو يدعوهن إلى الإذعان والخضوع، وينذرهن عاقبة العصيان والعناد، فلا ينال منهن شيئا، وما يزلن به مترحمات مرة، متفجعات مرة أخرى، ومنذرات مرة ثالثة، حتى يأتي ملك أرجوس فيحميهن ويأمر أن ينقلن إلى حين يأمن العاديات.
على أن ما ترك أيسكولوس من الآثار لم يخل من مقطوعة تمثل الضعف والاستسلام، فتهز القلب رحمة وإشفاقا، وأكثر ما يكون ذلك في المقطوعات الغنائية، فسيعرض للقارئ في «قصة السبعة» يهاجمون طيبة قطعة تتغنى بها الجوقة وقد حمل إليها الأخوان قتيلين، وما نحسب أن قلبا من قلوب الناس يستطيع ألا يرق لها.
4
لم يكن أيسكولوس ذا فلسفة محدودة أو مبينة الأصول، ولم يكن مفكرا يرسم لنفسه الخطة فلا يتجاوزها، ولا يحيد عنها. أي إن قصصه التمثيلية إنما تنشأ عن مذهب في الفلسفة معين أو رأي في الفن محدود، وإنما نشأت عن قلب الشاعر وما كان يملؤه من إيمان وتقى. فكانت صورة حقيقية لهذه النفس الورعة الديانة تحب الآلهة وتخشاهم، وترغب في إرضائهم وتفزع من سخطهم. ومع هذا فإن تحليل ما بقي من آثار أيسكولوس يدلنا على أن هناك فكرة أو أفكارا، وبعبارة أخرى أصح وأدنى إلى الحق عاطفة أو عواطف كانت تدبر حياته كلها. وعنا صدرت آثاره العملية والفنية من غير استثناء.
فإذا أردنا أن نتعرف هذه العواطف، فأول ما يلقانا منها عاطفة الاستسلام للقضاء والركون إليه في كل شيء. ولعل من النافع أن نوجز صورة هذا القضاء الذي كان يفزع منه أيسكولوس ويفزع إليه، والذي ترك أعظم أثر في حياته العملية وشعره التمثيلي.
ترك أعظم أثر في حياته العملية: فحمله على أن يشهد مدة ثمانين سنة ما كان يحدث في بلاد اليونان عامة، وفي وطنه خاصة من تغير الأمور واستحالة الحال، وقيام الديمقراطية مقام الأرستقراطية، وانقباض هذه عن العمل من غير أن ينكر ذلك أو يحاول إصلاحه. بل انصرف عن هذا كله إلى شعره التمثيلي، وآثر أن يضن بشرفه القديم وكرامة نفسه على التبذل ومحاولة الجهاد.
وترك أعظم أثر في شعره التمثيلي. فلسنا نقرأ قصة من قصصه إلا رأينا فيها أن يدا خفية ولكنها قوية كل القوة تدبر كل شيء، لا يعرض لها منازع أو ممانع إلا ردته ذليلا مقهورا.
هذا أيضا أثر من آثار الشعر القصصي بل أثر من حياة اليونان في العصور الأولى، فقد كانوا يعتقدون - ومثل الشعر القصصي ذلك أعظم تمثيل - أن هناك قوة قاهرة لا يأمن بطشها الناس ولا الآلهة أنفسهم، يرسم كل شيء، فيجري كل شيء في الأرض والسماء كما رسمت، وهذه القوة القاهرة هي القضاء.
لم يكن الناس والآلهة، بل لم تكن حركات هذا العالم إلا آلات تنفذ ما رسم هذا القضاء، ولم يكن الناس يعلمون مما قدر شيئا. حاشى أفرادا قد اختصوا بذلك تتفاوت قواهم في العلم به، فكان للناس كهنتهم، وللآلهة عرافوهم، فلما ارتقى العقل اليوناني إبان القرن السادس، وأخذ الفلاسفة يفكرون وينقضون ما أقامت العصور الأولى من بناء ديني فتهاون الجمهور بأمر القضاء كما تهاون بغيره من أمور الدين، ولم يبق لهذه الآثار القديمة ملجأ أمين ولا حصن منيع إلا في نفوس الأرستقراطية. وقد كان من هذه الأرستقراطية أيسكولوس فامتاز بما امتازت به من محافظة على القديم ونفور من الجديد، وأعانته رقة نفسه وقوة عواطفه على أن يغلو في ذلك ويستمسك به ويتخذه لحياته ملاكا ولحياة العالم نظاما.
فإذا أردت أن تدرس قصة من قصصه، فأول ما ينبغي الالتفات إليه هو أثر القضاء في تكوين القصة وتدبير ما يقع فيها من عمل، وما يجري فيها من حركة.
إلى جانب هذه القوة القاهرة أقام أيسكولوس قوة أخرى هي إرادة الآلهة.
لهذه القوة ما شاءت من حياة الناس والعالم على ألا تمانع القضاء، وعلى الناس أن يدينوا لها ويذعنوا لما قضت به. وإلى جانب هاتين القوتين قوة ثالثة ليست قليلة الخطر، هي إرادة الناس وما يبعث نفوسم على العمل من شهوة وهوى.
وليست هناك قصة من قصص أيسكولوس إلا تنحل بطبيعتها إلى نزاع وممانعة بين هذه القوى الثلاث، أو بين اثنتين منهما. تجد ذلك قد صور صورا مختلفة ووصف أوصافا متباينة. ولكنه بعينه لا يتغير ولا يتبدل، وإن تغايرت الصور وتباينت الصفات.
5
يختلف الرواة في عدد ما أنشأ أيسكولوس من القصص التمثيلية فيعد له بعضهم خمسا وسبعين ويرقى بها بعضهم إلى تسعين ويتوسط المحدثون فيبلغون بها نحو الثمانين.
وقد حفظت الآثار التاريخية طائفة غير قليلة من أسماء هذه القصص تربو على سبعين. ومهما يكن من شيء فقد قدمنا أنه فاز ثلاث عشرة مرة؛ أي إن اثنتين وخمسين قصة من آثاره التمثيلية ظفرت برضى الجمهور وإعجابه.
ولم يبق من هذه الآثار على كثرتها إلا سبع قصص كاملة، أصاب نصوصها شيء غير قليل من الفساد، ومقطوعات كثيرة من قصص أخرى قد استأثر بها الفناء، وتدل القصص الباقية وأسماء القصص الضائعة على أن الشاعر قد طلب موضوعات تمثيله إلى الشعر القصصي كما قدمنا واكتفى بما سقط عن مائدة هوميروس فاستقى من الإلياس والأوديسيا والغناء القبرصي، ومن أبناء طيبة وأرجوس، ومن قصص السفينة أرجو، ومن قصص عودة أبطال تروادة إلى أوطانهم، ومما كان يحفظ الشعر القصصي والغنائي من حياة ديونوزوس وأنبائه، واستقى أيضا من شعر أزيودوس في أخبار الآلهة ولم يحاول تمثيل حياة اليونان الحديثة فيما يظهر إلا مرتين: الأولى تمثيله هزيمة الفرس، والثانية تمثيله إقامة مدينة أتنا في صقلية.
وقد اختلف الباحثون المحدثون في الطريقة التي كان يصل إليها أيسكولوس بها بين قصصه التمثيلية. فقد قدمنا أن نظام المسابقة التراجيدية كان يلزم الشاعر أن يقدم في كل سنة يريد فيه السباق ثلاث قصص تراجيدية وقصة ستيرية، وكانت هذه القصص الأربع تسمى رباعية
Tétralogie
كما كانت القصص التراجيدية الثلاث قبل أن تضاف إليها القصة الستيرية تسمى ثلاثية
Trilogie .
فهل كانت هذه الرباعيات والثلاثيات متصلة تتناول موضوعا واحدا تتقسمه فيما بينها، فتلم كل قصة منها بجزء من أجزائه؟ أم هل كانت منفصلة، تلم كل واحدة منها بموضوع خاص؟
ليس من سبيل إلى الشك في أنها قد وجدت متصلة؛ لأن طبيعة الفن كانت تقتضي ذلك؛ إذ كان موضوع التمثيل في أول أمره حياة ديونوزوس، فكان من المعقول أن تتناول كل قصة جزءا من أجزائها. ولأن التاريخ قد حفظ لنا ثلاثية متصلة من ثلاثيات أيسكولوس: هي الأوريستيا تتألف من أجاممنون والكوويفوروي، والأومينيديس كما سيرى القارئ، وحفظ لنا أيضا قصصا منفردة، لا شك في أن شقيقتيها قد ضاعتا كقصة «السبعة يهاجمون طيبة» فقد كانت من غير شك آخر ثلاثية تمثل ما ألم بأسرة أويديبوس من خطب: أولها قصة لايوس، والثانية أويديبوس، والثالثة السبعة يهاجمون طيبة. إلى غير هذا من القصص والأسماء الباقية التي تدل على ذلك دلالة واضحة.
ولكنه قد حفظ لنا إلى هذا قصصا أخرى يظهر أنها كانت منفصلة كالفرس، فليس في أسماء القصص الباقية ما يدل على أنها قد كان يسبقها أو يلحقها قصة تتصل بها، فمن الراجح إذن أن يكون أيسكولوس قد اصطنع الطريقتين فأنشأ الثلاثيات والرباعيات متصلة ومنفصلة.
أقدم ما حفظ التاريخ من قصص أيسكولوس، قصة المستجيرات، وهي جليلة الخطر من وجهين:
الأول:
أنها تمثل بعض التمثيل ما كان بين مصر وبلاد اليونان في عصر الأساطير من صلة.
كان لدناووس خمسون ابنة، ولأخيه أجبتوس خمسون ابنا، فيخطب الأبناء بنات عمهم، ويأبى الأب وبناته هذا الزواج الذي لا يرضاه الدين فيهربون من مصر إلى أرجوس مستجيرين بملكها وشعبها، ويتبعهم أبناء أجبتوس. أما ملك أرجوس فيتردد في إجارتهم ثم يقدم عليها بعد أن يستشير الشعب فيأمره بها.
الثاني:
أنها تعطينا صورة من التمثيل في أول أطواره حين كان حظ العمل فيه قليلا، وحظ الغناء فيه موفورا، فقد رأينا من هذا التلخيص الموجز أن ليس في القصة حادث ذو خطر، وإنما كل ما فيها هو بكاء الجوقة وغناؤها متضرعة إلى الآلهة، متوسلة إلى الملك، ممانعة لرسول المصريين.
مثل أيسكولوس قصة الفرس سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وهي القصة التاريخية الوحيدة التي بقيت لنا من آثاره، والشبه بينها وبين المستجيرات شديد لكثرة حظها من الغناء وقلة نصيبها من العمل، ولكن القصص فيها كثير، وهو يقوم مقام العمل، قد أتقنه الشاعر وأجاد فيه، حتى إن السامع ليرى ما اشتمل عليه أنه يقع بين يديه، وفي هذه القصة اختراع بديع لأيسكولوس هو محاولته إظهار طيف دارا وإنطاقه على حافة قبره، وقد استخدم هذا مرة ثانية فأظهر طيف كلوتيمنستر محاورة لآلهة الانتقام بمعبد أبلون في قصة الأومبنيديس.
تمثل هذه القصة انهزام الفرس سنة ثمانين وأربعمائة وعودة الملك الأعظم ذليلا إلى وطنه، ومحاسبة الجوقة إياه على ما أهلك من رجال وما أضاع من مال.
القصة الثالثة هي قصة السبعة يهاجمون طيبة، وهي تمثل مدينة طيبة قد حصرها العدو وأحاط بها، وأخذ أهلها يستعدون للدفاع ثم ما كان من الهجوم ومن قتل ابني أويديبوس كل منهما قضى على صاحبه. وقد مثلت هذه القصة سنة سبع وستين وأربعمائة.
ثم مثلت بعدها في سنة غير معروفة قصة بروميثيوس مغلولا، وهي تمثل ما كان من عقاب كبير الآلهة لبروميثيوس لأنه سرق النار وأهداها إلى الناس. فيظهر في أول القصة مشدودا إلى صخرة، ولا يزال كذلك إلى آخرها. وقد أشرنا آنفا إلى ما في هذه القصة من جمال، ويظهر أن قصتين أخريين كانتا تتلوانها وهما بروميثيوس مفكوكا وبروميثيوس يحمل النار.
في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة مثل أيسكولوس رباعية ضاعت قصتها الستيرية وهي الأورستيا.
القصة الأولى منها هي أجاممنون تمثل عودة الملك ظافرا من تروادة وما كان من اغتيال زوجه وعشيقها إياه.
القصة الثانية هي الكوويفوروي وموضوعها أورستيس بن أجامنون يعود من نفيه وينتقم لأبيه فيقتل أمه كلوتيمنسترا وعشيقها إيجستوس.
القصة الثالثة قصة الأومينيديس تمثل أورستيس هاربا بين يدي آلهة الانتقام بعد أن قتل أمه لاجئا إلى أبلون في دلف، ثم إلى أثينا في مدينتها حيث يقاضى ويبرأ وتظفر أثينا بحمل آلهة الانتقام على أن يصبحن آلهة نعمة ورحمة لأهل أتيكا.
والآن وقد ألممنا بحياة أيسكولوس وفنه وآثاره فلنأخذ فيما قصدنا إليه من تلخيص آثاره وترجمة ما نختاره منها.
المستجيرات
في شرق بوليبونيسوس في القسم الذي يسمى أرجوليس نهر يقال له أيناكوس، كانت له ابنة تسمى أيو، وكانت كاهنة للإلهة هيرا، فكلف بها ذوس كبير الآلهة، وحنقت لذلك زوجة هيرا، ومسخت كاهنتها بقرة بيضاء، وكلفت حراسة هذه البقرة أرجوس بن الأرض، له مائة عين مبصرة، فأرسل ذوس إلى هذا الحارس رسوله هرمس فقتله.
أرسلت هيرا إلى هذه البقرة قمعة
1
لزمتها فأضاعت رشدها، وحملتها على أن تهيم في الأرض، فما زالت تطوف الآفاق حتى وصلت إلى مصر، فمسها ذوس، فرد إليها عقلها وصورتها الأولى وأولدها أيبافوس.
كان من نسل أيبافوس هذا إجبتوس له خمسون ابنا، ودناووس له خمسون ابنة، فخطب الأولون بنات عمهم وأبى دناووس هذا الزواج.
وهذا الإباء هو موضوع قصة المستجيرات. ولسنا نعلم كيف أتم أيسكولوس هذه القصة، ولكن الأساطير تحدثنا بأن دناووس قد رضي هذا الزواج، وأعطى كل واحدة من بناته سكينا وأمرها أن تقتل زوجها، فكلهن فعلن إلا واحدة هي أيبرنسترا. أشفقت على زوجها فهربت معه. وعاقب الآلهة بنات دناووس على إثمهن بأن ينفقن حياتهن الخالدة في الجحيم، وقد وكلن بأن يصببن الماء في دن لا قعر له فلا يمتلئ أبدا.
أيكبتيديس (المستجيرات)
الأشخاص:
الجوقة تتألف من بنات دناووس وهن خمسون عذراء - دناووس - ملك أرجوس - حاشية الملك - رسول.
تقع القصة بالقرب من أرجوس على ساحل البحر. ويمثل المسرح غابة وكثيبا تقوم عليه تماثيل الآلهة الذين كانوا يرأسون تصارع الشباب.
الفصل الأول
المنظر الأول
الجوقة :
أي إله المستجيرين، انظر إلينا نظرة معونة وإشفاق. لقد جرت بنا السفن من تلك المصاب الرملية: مصاب النيل بجوار سوريا. هاربات لا يبعثنا على الهرب ذنب اقترفناه. فقضي علينا بالنفي. وإنما أبينا أن نذعن لهذه السلسلة الممقوتة، سلسلة الزواج يصل بيننا وبين ابن إجيبتوس.
إن دناووس أبانا ليقوم مقام المشير الناصح والرئيس المشفق، لقد وزن آلامنا، فرأى الهرب السريع إلى ما وراء البحر أخفها وزنا وأيسرها احتمالا. وها نحن أولاء نقبل على ساحل أرجوس حيث نزعم مفاخرات أن قد نشأت أسرتنا من هذه البقرة الهائمة التي مسحها ذوس ولاطفها فجعلها ولودا ناتقا. في أي بلد أشد علينا إشفاقا ولنا رحمة نستطيع أن نقدم هذا السلاح؛ سلاح المستجيرات؟ هذه الأغصان المقدسة تزينها الشرائط. أيتها المدينة! أيتها الأرض! أيتها الينابيع الصافية!
أي آلهة السماء! أيها الآلهة المخوفة، آلهة الجحيم ولا سيما ذوس إله النجاة هذا الذي يحمي العدل! املئوا قلوب أهل هذه البلاد عطفا وحنانا على نساء مستجيرات! وادفعوا في البحر جماعة أبناء إجيبتوس قد هاجروا من أوطانهم على سفن ما أشد طاعتها للمقاذيف قبل أن تطأ أقدامهم هذا الساحل الرملي. لتحط بهم الزوبعة العاصفة يملؤها البرق الخاطف، والصواعق المهلكة، والرياح يضطرب لها البحر، فترتفع أمواجه مرغية مزبدة، ولتوقع بهم قبل أن يغضبوا بنات عمهم ويكرهوهن على زواج يحظره القانون.
أي أيبافوس! أيها السليل الإلهي، سليل تلك البقرة كانت ترعى كلأ المروج فما كاد يمسها ذوس حتى ولدته. إن اسمك لآية على قوة القضاء! إن اسمك ليدل على شرف مولدك، إنا لندعوك اليوم.
لأعلنن أصلي في هذا المكان الخصب عرفته أمك وأقامت به، ولأثبتن ما بيني وبينها من صلة ذاكرة ما ألم بها من خطب وما لقيت من شقاء، لأملأن نفس ساكنه دهشا وإنكارا، ولكنه إن أصغى إلي واستمع لي لا بد مقتنع بصحة ما أقول.
رب كاهن في هذه الغابة قد أثرت فيه شكاتي المحزنة، فخيل إليه أنه يسمع صوت تلك الزوج النكدة زوج الخائن
2
تيرايوس وصوت فيلوميلا يتبعها البازي.
لقد طردت هذه الزوج من تلك الرياض والعيون التي ألفتها واطمأنت إليها؛ فهي تتنهد تنهدات ملؤها الحسرة، وتبكي آخرة ابنها الذي تقدم ملاطفا أمه فلقي الموت الذعاف بين ذراعيها.
كذلك استعير هذا الغناء المحزن - غناء البونيين - أنا التي نشأت على شواطئ النيل، أخمس خدي لأسيلين، وصدري تحتبس فيه الزفرات، وأقطع شعوري حزنا وولها. ولقد لجأت إلى هذا المكان مفارقة على كره هذا الإقليم الصافي - إقليم النيل - ولست آمن مع ذلك أولئك الذين يحنقهم هربي.
أيها الآلهة الذين منحونا الوجود! اسمعوا لنا، وأقروا العدل في نصابه! لا تأذنوا أن يكون هذا الزواج الذي تكرهه القوانين، إنكم لتكرهون الظلم فلا تقدروا لي إلا زواجا مباحا، أليس يجد الضعيف الذي أذلته الحرب وتبعته شرورها، مأوى إلى هذه المائدة المقدسة يحميها جلال الآلهة!
أي ذوس! لتكن إرادتك، ولتظهر للناس أن إرادة ذوس لغامضة لا تستكنها البصائر النافذة. إنها لتضيء كل شيء حتى الظلمة الحالكة. ولكن ما قدر للناس يحيط به الخفاء دائما.
إن ما قدره ذوس لنافذ لا يدركه الفشل، وإن المسالك المتعرجة الخفية التي تسلكها قدرته المنتهية كلها إلى الغاية.
إنه ليرى من أعلى أسواره السماوية مواضع المجرمين الفجرة، فيرميهم بصاعقته. لن يترك القوة تطغى ممانعة للآلهة من غير أن ينكل بها وينالها بالعقاب؛ يسهر على هذا كله، علمه الذي لا يعدله علم في قصره المقدس.
فلينظر إلى ظلم الناس، لينظر إلى أين ترمي نفسها، لتكرهنا على هذا الزواج، هذه الشبيبة يملؤها الغضب ويغلي في عروقها الدم، هذا الجيل لا تكبح جماحه شكيمة قد أساءت شهوته النصح له وبعثه على اقتراف الإثم باعث لا قبل له باتقائه، فهو يذعن للجريمة التي تخلبه وتضطره إلى أن يأتي ما لا بد من أن يندم عليه.
إني لأقترب من الشر الذي ينذرني، فأبعث من أعماق صدري صرخات عاليات يقطعها الدموع من حين إلى حين ... ويلاه! ويلاه! إن نبرات صوتي لتصور ما أحس من ألم. إني لأتغنى على نفسي أغاني الموت، أي أرض أبيس
3
كوني علي مشفقة وبي رفيقة! اعرفي صوتي، وإن كان غريبا ... إني لأدعوك ضارعة إليك عائذة بك، وإني لأقبلك ألف مرة، انظري إلى هذه الثياب والنقب الممزقة.
لئن حسنت آخرتي، لئن نجوت من الموت أي آلهة السماء، ليتضوعن على موائدكم نشر الطيب، ويلاه! ويلاه! ... إني لفي شك مؤلم! ...
أي ملجأ يعصمني من الزوبعة؟
أي أرض أبيس كوني علي مشفقة ولي رفيقة! اعرفي صوتي وإن كان غريبا! ... إني لأدعوك ضارعة إليك عائذة بك، وإني لأقبلك ألف مرة، انظري إلى هذه الثياب والنقب الممزقة.
لقد حملتني المقاذيف وهذا البيت من الخشب يجلله النسيج ويقيني عادية الموج إلى هذا المكان من غير أن ألقى شر العاصفة، فلست أتهم الآلهة في شيء، أيها الأب الخالد الذي يرى كل شيء لتصحبني حمايتك إلى آخر الطريق ... قدر (وا حسرتاه! ... وا حسرتاه!) أن ينجو بنات نبيلات لأم جليلة من أزواج مجرمين!
أيتها العذراء الطاهرة من بنات ذوس
4
أنت التي لن تحول بين عينها المبصرة وبين العالم غشاوة ما، انظري إلي وتقبلي دعائي.
أيتها العذراء الخالدة! تولي حماية العذراء من الغضب والاضطهاد، قدري (وا حسرتاه! ... وا حسرتاه!) أن ينجو بنات نبيلات لأم جليلة من أزواج مجرمين.
لئن تركتني آلهة أولمبوس فليقودنني حبل محتوم إلى طريق واضحة إلى حيث أجد لي مأمنا في هذا المنزل المظلم الذي ينزله المردة السود منذ صعقتهم الصاعقة، في هذا المكان أقدم هذه الأغصان إلى هذا الذي يضيف الأشقياء جميعا إلى إله الموتى.
5
أي ذوس! إن سخط الآلهة ليتبع أيو غير وان ولا مقصر، إني لأعرف ضربات زوجك الخالدة، إن نفثاتها التي يملأها السخط والعداء لتبعث الزوبعة ولكن أين تضع عدلك إذا أصممت أذنك، فلم تسمع لصلاتنا مطرحا، هذا الذي أنت أبوه، هذا الذي ينتمي إلى البقرة التي كانت إليك حبيبة وعليك عزيزة . اسمع من أعلى السماء إلى أصواتنا تتضرع إليك. (ثم يأتي دوناووس، فينصح لهؤلاء العذارى أن يلزمن مائدة الآلهة وتماثيلهم، وأن يطلبن إليهم الحماية لأنه يرى جيشا يقترب.)
الفصل الثاني
يأتي الملك وحاشيته فيدهش لمكان الجوقة وغرابة أزيائها ويسألها أمرها بعد أن يتعرف إليها فتزعم له أنها أرجية الأصل ويداخله الشك في ذلك فتنبئه بحقيقة الأمر في هذا الحوار.
الجوقة :
أليس قد زعموا أنه في هذه الأرض - أرض أرجوس - قد ولدت قديما أيو كاهنة هيرا، هذه الكاهنة التي - كما بعد بذلك الصيت ...
6
الملك :
ضمت ذوس بين ذراعيها مع أنها امرأة فانية.
الجوقة :
ولكن ما لبثت هيرا أن استكشفت حبهما.
الملك :
من غير شك قد وخزتها الغيرة؛ فماذا فعلت؟
الجوقة :
مسخت خصمها بقرة.
الملك :
فأصبح ذوس عاجزا عن أن يقترب منها!
الجوقة :
زعموا أن ذوس استحال إلى ثور.
الملك :
إذن فزوجه الماكرة العنيدة!
الجوقة :
وكلت حراسة البقرة إلى حارس لا يفوته شيء.
الملك :
ماذا تسمين هذا الراعي الحذر؟
الجوقة :
أرجوس ابن الأرض قتله هرميس.
الملك :
ثم ماذا لقيت هذه البقرة التعسة من ألم؟
الجوقة :
لزمتها حشرة تجن للدغتها الثيرة، ونسميها على شواطئ النيل قمعة.
الملك :
فأكرهتها على أن تفر من هذا المكان!
الجوقة :
لقد صدقت ووافقت روايتك روايتي.
الملك :
وبالقرب من ممفيس في كانوب.
الجوقة :
مسها ذوس فجعلها أما ...
الملك :
وكان هذا الطفل الإلهي قد ولدته البقرة ...
الجوقة :
كان إيبافوس الذي يدل اسمه على مولده ومنه ولدت ليبيا التي كان حظها أعظم أقسام الأرض الثلاثة.
الملك :
ومن ذا الذي ولدته ليبيا هذه؟
الجوقة :
بيلوس الذي كان له ولدان: أحدهما أبي هذا الذي تراه.
الملك :
أبوك؟ ما اسم هذا الرجل الحكيم؟
الجوقة :
دناووس؛ لأخيه خمسون ابنا، يسمى إجبتوس. والآن وقد عرفت قصتي ونسبي فعليك أن تحمي الأرجيين الذين يمتون إليك بسبب متين. (ثم يسأل الملك الجوقة عما أفزعها من مصر فتنبئه به، وعما تريد منه، فتسأله الجوار، ويتردد الملك بين أن يجيرهن فيعرض مدينته للحرب أو يردهن فيغضب إله الجوار، ثم يتم رأيه على أن يستشير الشعب، فيبعث دناووس إلى المدينة ضارعا مستجيرا، ويلحق به بعد أن ينصح للجوقة أن تأوي إلى غابة بجوار المسرح فتفعل وتتغنى قصة أيو متضرعة إلى ذوس أن يكون لها نصيرا.)
الفصل الثالث
يأتي دناووس فينبئ بناته بأن الشعب قد انتصر لهن ومنحهن الجوار، فيرتفع غناؤهن بالدعاء لهذا الشعب والثناء عليه.
الفصل الرابع
ينبئ دناووس بناته بأنه يرى السفن مقبلة، وأنه طائر إلى المدينة فمستنفر أهلها، فتشفق الجوقة وتهلع، ويبذل لها دناووس ما استطاع من تشجيع وتثبيت، ثم ينصرف وتتغنى الجوقة خائفة متولهة مستجيرة بالملك تارة وبالآلهة تارة أخرى، وإنها لكذلك إذ ينزل شخص من إحدى السفن ويتقدم إليها فتتلقاه مستنزلة عليه السخط.
الفصل الخامس
يأتي الرسول ومعه بعض الجند، فيأمر الجوقة أن تتبعه إلى السفن حيث تنتظرها سادتها، فتأبى عليه ذلك منذرة له مستجيرة منه، وإنها لتمانعه وتشاده إذ يأتي الملك فيعلن عزمه على حمايتها، ويلوم الرسول على ما قدم إليها من إهانة، ثم يأمر أن توضع الجوقة بمأمن داخل المدينة، وينصح دناووس لبناته بإيثار العفة والفضيلة، ثم يتقدم الأسطول، فتتردد الجوقة في أمرها فبعضها يرى الخضوع، وبعضها يرى المقاومة، وتنتهي القصة هنا، ولا شك في أن قصتين أخريين كانتا تمثلان ما تم من أمر بنات دناووس ولكنهما فقدتا.
الفرس
الأشخاص
الجوقة:
تتألف من شيوخ يشرفهم المولد والكفاية الخاصة. وهم الذين كانوا يسمونهم الأمناء.
أتوسا:
أرملة دارا وأم أكزرسس.
رسول.
روح دارا.
أكزرسس:
ملك الفرس بن دارا.
تقع القصة في سوس، ويمثل المسرح قصر الملك، ويرى من ناحية قبر دارا.
سافر جيش الفرس يقوده الملك الأعظم أكزرسس لحرب اليونان وهي الحملة الميدية الثانية. فانهزم الفرس هزيمة منكرة في البر والبحر، وعاد الملك الأعظم إلى وطنه ذليلا مهينا. وهذه القصة تمثل عودته، وقد مثلت في أثينا بعد الحرب بثماني سنين، وكان المؤلف قد اشترك في الحرب، ويقال إنه قد أحسن فيها البلاء.
الفصل الأول
تتغنى الجوقة بما يملأ قلبها من فخر بما أرسلت فارس من جيش ضخم لسحق اليونان. ثم تتخوف سوء العاقبة؛ لأن عهدها بالجيش بعيد، وقد انقطعت الأنباء، فهي لا تعرف من أمره خيرا ولا شرا.
الفصل الثاني
المنظر الأول
تقبل أتوسا أم الملك فتفضي إلى الجوقة بما يداخلها من الخوف على ولدها، وأنها قد رأت حلما ملأ قلبها رعبا، وتسألها المشورة. فتشير عليها الجوقة بأن تقدم الضحايا والقرابين إلى الآلهة، وإلى دارا خاصة، ليصرف عن الملك وأسرته كل أذى وضيم، فتذعن لمشورتها، وتهم بالانصراف، ثم يبدو لها فتسألها.
أتوسا :
أين تقوم أثينا؟
1
الجوقة :
بعيدا من هذا المكان حيث يغرب الكوكب الذي نعبده.
أتوسا :
وهذه هي المدينة التي يحرص ابني على تدميرها!
الجوقة :
إن تدميرها يبسط سلطانه على بلاد اليونان كلها.
أتوسا :
إذن فجيش الأثينيين كثير العدد؟
الجوقة :
كثير ما أوقع بالميديين من شر.
أتوسا :
ألهم من مصادر الخير ثروة كافية.
الجوقة :
لهم كنوز الأرض، مناجم الفضة.
أتوسا :
أيتخذون السهام والقسي لهم سلاحا؟
الجوقة :
كلا، إنما يقاتلون بالرمح والدرقة، لا تزول أقدامهم.
أتوسا :
من ذا الذي يقودهم؟ ومن سيد جيشهم؟
الجوقة :
ليسوا أرقاء ولا رعية.
أتوسا :
وكيف يجرءون على أن ينتظروا العدو يقبل فينقض عليهم؟
الجوقة :
كما انتظروا أقوى جيوش دارا فقضوا عليها.
أتوسا :
آه! أي طيرة لأمهات جنودنا!
الجوقة :
ولكن يخيل إلي أنك ستقفين من أمرهم على النبأ اليقين عما قليل فإن هذا الإسراع الذي أراه ينبئني بأن رسول الملك قادم، فسينبئنا بانتصاره أو بانهزامه.
المنظر الثاني
يقبل رسول الملك فينبئ بهزيمة الفرس وفناء الجيش ولكنه ينبئ بأن الملك حي فتبتهج أتوسا بحياة ابنها ولا تحفل بهلاك من هلك. ثم تسأل الرسول أن يقص عليها الموقعة.
2
الرسول :
أيتها الملكة، إن شيطانا حاسدا، وروحا شريرا قد فعل كل شيء،
3
لقد كان جندي أثيني قد أقبل فأنبأ الملك بأن جيش اليونان قد ملأه الهلع، فهو لا ينتظر إلا ظلمة الليل، ليركب السفن ويلتمس نجاته في الهرب. فما كاد يسمع الملك هذا النبأ حتى حرص على تدمير الجيش غير خائف خيانة اليونان ولا حسد الآلهة،
4
فيأمر زعماء جيشه أن يتربصوا، حتى إذا أقبل الليل فغمر الأرض بظلمته، وتكشفت عنها أشعة الشمس، انقسم الأسطول فبعضه يقفل المضيق بثلاثة خطوط من السفن وبعضه يحيط بجزيرة أجكس. فإذا أمن اليونان الهزيمة وأفلتت سفنهم، فإن كل رئيس فاقد حياته جزاء على ذلك. بهذا أمر الملك وقد ملأته الثقة، من غير أن يعرف ما أعدت له الآلهة.
أطاع الجند وقرب البحارة مقاذيفهم من جسور السفن. فلما أقبل الليل، وأطفأت الشمس أشعتها، أخذ كل من الجند والبحارة مكانه، دعي كل إلى موقفه وتصطف السفن كما أمر الملك، ومضى الليل وإن الأسطول - كما رتبه أمراؤه - ليسهر على حفظ الطريق. يمضي الوقت ولا يحاول أحد من اليونان هربا.
ولكن الفجر ذا العجلة المضيئة،
5
ما كاد ينشر بهجته على الأرض حتى سمعنا من قبلهم أصواتا عالية موسيقية، تدل على فرح ونشاط، وغناء حماسة وحرب، تردده أصدية الصخور. فيملك الرعب جماعة الفرس، قد خدعت فيما كانت تنظر. وما كان النشيد الذي كانت تتغناه جيوش اليونان آية هزيمة، إنما كان تشجيعا وتحريضا. وقد كان صوت البوق يضاعف شجاعتهم ثم يصدر الأمر. فما هي إلا أن تقع المقاذيف القاطعة على الأمواج الملحة فتضطرب. وإنهم لعلى مرأى منا، يتقدم جناحهم الأيمن في نظام حسن ويتبعه سائر الجيش. ولقد كنا نسمع ألف صوت يصيح: «هلموا يا أبناء اليونان، خلصوا وطنكم، خلصوا نساءكم، وأبناءكم، ومعابد آلهتكم، وقبور أجدادكم؛ فإن موقعة واحدة لمظهرة ما أعد لهم القضاء.»
فلا يجيب الفرس على هذه الصرخة إلا بالغمغمة: وما كان لنا أن نتقي المعركة. هذه المقدمات النحاسية مقدمات السفن تصطدم، تبدأ الصدمة سفينة يونانية فتحطم سفينة فينيقية. ثم يختلط كل شيء. فيثبت أسطولنا لأول شدة، ولكن سفننا وقد كثر عددها وضاق بها المكان، لا تستطع أن يعين بعضها بعضا، فتصطدم مناقيرها الحديدية وتتحطم مقاذيفها، وقد أحاط بها اليونان المهرة في أعمال البحر، فيوقعون بها من كل ناحية، ويجعلون عاليها سافلها، ويستخفي البحر تحت الشظايا وجثث الموتى، وتغطي الجيف الساحل والصخور وقد أخذ الأسطول كله يفر غير منتظم . وهؤلاء بحارتنا الأشقياء، كأنهم الحيتان أو غيرها من وحوش البحر، قد أخذت في الشراك فتعمل في رءوسهم بقايا المقاذيف والمقاعد. وقد امتلأ الساحل صراخا وأنينا. حتى يقبل الليل فيخفينا عن أعين المنتصر.
عشرة أيام كاملة
6
لا تكفي لوصف ما فقدنا ولكن حسبكم أن تعلموا أن الدهر لم يعهد قط عددا من الناس كهذا العدد قد هلك في يوم واحد.
أتوسا :
يا للسماء! أي طوفان من الآلام يغمر فارس وآسيا جميعا!
الرسول :
ثقي بأنك لا تعلمين نصف هذه الآلام؛ فإن ما تبع ذلك من الشقاء أجل مما سمعت خطرا.
أتوسا :
وأي خيبة أشد علينا قسوة مما نالنا؟ أوضح، أي شقاء قد ناء بجيشنا؟
الرسول :
لقد هلكت شر هلاك من غير مجد ولا فخر، خيرة فارس تلك الشبيبة التي امتازت بالشجاعة والإقدام، وبالنبالة والشرف، وبالحرص على نصر الملك والإخلاص له.
أتوسا :
ماذا أسمع أيها الأصدقاء، أي ضربة قاضية! كيف فقدت زهرة فارس الحياة؟
الرسول :
توجد بإزاء سلامين جزيرة سيئة الأثر في سفننا
7
حيث تسمع أغاني الإله بان
8
هنالك أرسل أكزرسس شباب الفرس ليضعوا أيديهم في يد من التجأ إليها من اليونان إذا انهزموا، وليعينوا من اضطر إليها من الفرس. لقد كان سيئ القراءة في المستقبل، فما كادت السماء تمنح اليونان الانتصار البحري حتى نزلوا إلى هذه الجزيرة، مسلحين بكل شيء، فأحاطوا بهم من غير أن يتركوا لهم منفذا، وبدءوا فأرسلوا عليهم وابلا من الأحجار والسهام، ثم انقضوا جميعا في وقت واحد عليهم، فأعملوا فيهم السيف، ولم يتركوا منهم واحدا إلا نحروه. وكان أكزرسس قد قام على ربوة بالساحل ليشمل نظره الجيش كله، فهو يرى هذا القتل والذبح فيمزق ثيابه، ويصيح صيحة ملؤها اليأس، وما هي إلا أن يأمر بالهرب ويسرع هو فيفر، لا يلوي على شيء. هذا هو الشقاء الذي ستبكينه أيضا.
أتوسا :
يا لك من قضاء لنا عدو! لقد خدعت الفرس فأحسنت خديعتهم! إن عقاب أثينا ليكلف ابني ثمنا غاليا! لم يكن يكفي هلاك من هلك من زعمائنا في مراثون! لقد كان مما لا بد منه أن يحمل ابني هذه الحملة، واثقا بأنه سيثأر لهم فيجر علينا هذه المصائب التي لا تحصى، ولكن إلي أين لجأت السفن التي ظفرت بالفرار؟ ألك بذلك علم؟
الرسول :
لقد هرب كل زعيم في غير نظام إلى حيث حملته الريح، فأما الجيش البري فقد هلك بعضه في بيوتنا ظمأ وجوعا، ومضت بقية الجيش في هربها لا تملك من الوقت ما تستريح فيه، فعبرت بلاد الفوكيين والدوريين وما جاورها من بلاد خليج ماليه، تلك التي يرويها نهر سبركوس بمائه العذب. ومن هنا عبرنا - محرومين كل شيء، يعبث بنا الظمأ والجوع - بلاد الأكويين وأرض تساليا، حيث هلك أكثرنا، ثم عبرنا منيزيا: مقدونيا وسواحل أكسيوس، ومستنقعات بلبيه وجبال بنجيه وأيدونيا، وهنا أذنت السماء أن يشتد برد الليل اشتدادا لم تعرف له سابقة، فيجمد ماء سترمون. فما كدنا نشهد هذه النعمة التي لم نكن ننتظرها حتى عبد الأرض والسماء منا الملحد والديان. وبعد صلاة طويلة خاشعة تقدم الجيش على الجليد فنجا كل من استطاع أن يعبر النهر قبل أن يمد إله النهار أشعته. ولكن قرصه المشتعل لم يكد يخترق بنيرانه أحشاء المياه حتى تمزق الجليد، فترامى جنودنا بعضهم على بعض، سعيد من أسرع إليه الموت! فأما الذين استطاعوا أن ينجوا من هذا الخطر فقد عبروا طراقيا في جهد ومشقة ثم عادوا إلى أوطانهم. ليطولن أسف فارس على زهرة هذه الدولة، لقد صدقتكم الخبر، ولكني أعربت عن كثير من الشر الذي أنزلته بنا الآلهة فناء بنا. (ثم تتفجع الملكة والجوقة لما ألم بالفرس وتعلن الملكة أنها فاعلة ما عزمت عليه من تقريب القرين واسترضاء الآلهة، وتطلب إلى الجوقة العناية بتعزية الملك وتسليته إذا عاد.)
المنظر الثالث
الجوقة :
أي ذوس! لقد قضيت على هذا الجيش الضخم، جيش فارس، إنك لتغمر بالحزن مدينتي سوس واكبتان. ما أكثر هؤلاء النساء قد وصل بينهن الألم! سيمددن أيديهن الضعاف إلى النقب فيمزقنها وقد غمرت وجوههن الدموع، زوجات تفيض قلوبهن حنانا، قد قضي عليهن منذ اليوم أن يسكبن دموعا لا تغيض، سيسألن فرشهن الوثيرة التي قد شهدت ما ذقن من لذة حلوة عند أزواجهن الذين لم يكادوا يقاسمونهن الحياة حتى غالهم الموت فملأ قلوبنا لذلك أسفا.
إن آسيا كلها لتئن وقد نزح عنها سكانها، لقد سلبها أكزرسس أبناءها، أكزرسس أضاعهم. أكزرسس أسلم كل شيء من غير روية ولا أناة إلى سفن ضعيفة! ماذا ينفعنا اليوم أن قد ملك علينا دارا وأن قد كان يعبد في سوس ولا يستطيع قاهر أن يقهره!
وا حسرتاه! لقد مضت سفن سود ذات أجنحة بما كان لنا من مشاة وبحارة ... لقد أضاعتهم السفن ... لقد خانتهم السفن عند اللقاء! ... يا للآلهة! ... لقد أهلكتهم أيدي الأيونيين! ... لقد خبرنا أن ملكنا لم يفلت من أيديهم إلا بشق النفس، بعد أن عبر سهول تراقيا وحقولها يجللها الجليد!
ضحايا الموت وا لهفتاه! ... قد تركوا قهرا ... آه يا للآلهة ... على سواحل سيكريه! أعولى آسيا، مزقي صدرك، لترتفع صيحة آلامك إلى السماء: ارفعي صوتك المحزن وصراخك المؤلم. لعبة الأمواج
9
يا للهول! ... قد أصبحوا طعاما لأولئك السكان البكم، سكان الأمواج الملحة. لا بيت إلا وله سيد يبكيه! يستعبر الأب وقد أصبح من غير ولد، ويشكو الشيخ وطأة القضاء. كل شيء يبعث في نفوسهم الألم والحسرة.
لن تطول طاعة آسيا لفارس. لن يطول أداء الإتاوة قد فرضها سيد قاهر، ولن يطول بقاء هذا العرش، كان يعبده الناس راكعين. لقد ذوى سلطان ملوكنا: لا شكيمة تمنع لغط اللاغط: لقد انقطعت تلك السلسلة التي كانت تغل الشعوب، وتحطم ذلك النير الذي كان يذلها: لقد هلك الفرس! لقد رووا بدمائهم ربى جزيرة أجكس.
الفصل الثالث
ثم تقدم أتوسا وقد حملت من العسل واللبن ومن الزهر والفاكهة ما تتقرب به إلى الآلهة والموتى، فتتفجع وتتفجع الجوقة لما أصاب الفرس. ثم تتغنى الجوقة داعية روح دارا أن يصعد من الجحيم لتسأله وتستشيره.
الفصل الرابع
يظهر ظل دارا على حافة القبر فيسأل الجوقة عما أصاب الفرس فلا تستطيع أن تجيبه، وتنبئه بذلك زوجة أتوسا، فيأسف ويلهف ويتحدث بأن مصدر هذا الرزء إنما هو كان من عقد الجسر على البسفور؛ فقد أهان الفرس بذلك إلها إذ قيدوا حركة البحر. ومن شأنها أن تكون مطلقة. ثم ينعي على ابنه طيشه ونزقه وطمعه في قهر أثينا التي لا تقهر. ويعلن أن سلطان الفرس قد تزعزعت أركانه، وخليق بهم أن يحتفظوا بما بقي في أيديهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
الفصل الخامس
يقبل الملك الأعظم أكزرسس منهزما، فتلقاه الجوقة معولة متوجعة وتسأله لائمة مرة وراثية أخرى عمن أهلك من جيش فارس وزعمائها وما أضاع من مجدها وسؤددها. فيجيبها نادما معتذرا، متوجعا متفجعا، وتقاسمه الجوقة كل ذلك. •••
ربما لم تقع هذه القصة من نفسنا موقعها من نفس اليونان، ولكن ينبغي ألا ننسى أن جمال هذه القصة إنما هو فيما تمثل من ظفر مدينة صغيرة ضئيلة الجيش كأثينا على أضخم دولة وأعظم سلطان في الأرض يومئذ كدولة الفرس وسلطانهم. وأن الذين شهدوا تمثيلها هم أنفسهم الذين دحروا الفرس وأجلوهم عن بلاد اليونان، فهم إنما كانوا يرون مجدهم قائما بين أيديهم ويشهدون ذل الفرس الذين أذلوهم قبلا. على أن في القصة أنواعا من الجمال الفني، ليس من الميسور نقلها إلى غير اللغة اليونانية. ومن هنا قل المختار منها في هذا السفر.
السبعة يهاجمون طيبة
كان لايوس ملك طيبة رجلا غير معقب، فشكى ذلك إلى أبلون وتنبأ له الإله بأنه مقتول بيد ابنه، ثم ولدت له امرأته غلاما فأمر أن يطرح على قمة جبل خشاة أن يتحقق ما تنبأ به الإله، ولكن راعيا من رعاة كرنثوس التقط الطفل وحمله إلى ملك المدينة فترباه وسماه أوديبوس - أي ذو القدمين المتورمتين؛ لأنه كان كذلك حين التقط - فلما شب الغلام سمع الناس يتحدثون في القصر بأنه ليس من الأسرة، فذهب يسأل أبلون عن ذلك فتنبأ له الإله بأنه قاتل أباه ومتزوج أمه.
أشفق الغلام أن يتحقق الوحي؛ فلم يعد إلى كرنثوس بل مضى إلى طيبة، وإنه لفي طريقه إليها إذ عرض له ملكها لايوس على عجلة فشاجره سائقها وضربه الملك بسوطه، فأغضبه ذلك فقتل الملك ومضى حتى بلغ طيبة، فإذا أهلها في محنة شديدة وبلاء عظيم قد ظهر لهم حيوان يسميه اليونان اسفنكس له وجه العذراء وصدرها وجسم الأسد وذيله وبراثنه، وله جناحان كجناحي الطائر، فأقام على صخرة وأخذ يسأل من عرض له من أهل المدينة عن شيء يمشي على أربع في الصباح وعلى اثنين إذا زالت الشمس وعلى ثلاث إذا أمسى المساء؟ فمن لم يحسن الإجابة على هذا السؤال افترسه وأتى عليه، وقد عظم شره في المدينة حتى أعلن كريون الذي كان يقوم على المدينة بعد لايوس أن من انتصر على هذا الحيوان فله عرش المدينة وهو زوج ملكتها جوكاست.
ذهب أوديبوس وأجاب عن السؤال بأن هذا الشيء هو الإنسان يزحف على يديه ورجليه طفلا، ويمشي على رجليه شابا، فإذا شاخ انطوى على العصى فاغتم الوحش لهذا الجواب الرشيد ورمى بنفسه من أعلى الصخرة فهلك.
صار عرش طيبة إلى أوديبوس وصارت إليه ملكتها أيضا، فولدت له ابنين: أيتيوكليس وبولينيس، وابنتين أنتيجونا واسمينا، وتم بذلك وحي أبلون فقتل أوديبوس أباه وتزوج أمه ولكنه لم يكن يعلم من هذا شيئا.
أرسل الآلهة وباء الطاعون على طيبة، واستشار الملك أبلون فأمر أن يطرد من المدينة قاتل لايوس، فأخذ أوديبوس يبحث عن هذا القاتل حتى أخبره الكاهن تريزياس بأنه هو، ففقأ عينيه وخرج هائما على وجهه تقوده ابنته أنتيجونا ولعن ابنيه لأنهما لم يصحباه. أما جوكاست فقد قتلت نفسها خنقا.
اختلف بعد ذلك إيتيوكليس وبولينيس أيهما يكون له العرش فآل أمر الملك إلى إيتيوكليس وخرج بولينيس من المدينة مغاضبا لأخيه حتى وصل إلى أرجوس فتزوج ابنة ملكها أدرست وعاد معه إلى وطنه محاربا، فطال الحصار وانهزم الأرجيون بعد أن قتل بولينيس وإيتيوكليس كل بيد صاحبه.
وهذه الحرب هي التي تمثل آخرها هذه القصة التي ستعرض للقارئ.
ولا شك في أن قصتين أخريين كانتا تسبقانها: الأولى كانت تمثل مقتل لايوس، والثانية حياة أوديبوس. ولقد كانت هذه الأسطورة خصبة تناولها الشعراء الممثلون جميعا فأجادوا تمثيل أجزائها المختلفة كما سيرى القارئ في هذا الجزء وما يليه.
عاد الملك إلى كريون فأمر أن يدفن إيتيوكليس وأن يترك بولينيس بالعراء، ولكن أنتيجونا دفنت أخاها فدفنت حية، وكان سيمون بن كريون يحبها فذهب إلى قبرها وقتل نفسه فيه وعرفت أمه ذلك فقتلت نفسها، وترك سوفكليس في قصة ستعرض للقارئ كريون قد فقد رشده أمام هذه الخطوب فهو لا يدري ماذا يصنع بل لا يستطيع أن يفكر.
السبعة يهاجمون طيبة
الأشخاص:
أتيكلس ملك طيبة - الجوقة تتألف من عذارى - جاسوس من طيبة ورجل آخر من طيبة - أنتيجونا واسمينا أختا الملك - رسول - وستة من رؤساء جند طيبة لا يتكلمون - ورجال آخرون من طيبة.
وتقع القصة في طيبة ويمثل المسرح معبدا وميدانا عاما.
الفصل الأول
المنظر الأول (أتيكلس - الجوقة - ورجال من طيبة)
يا أبناء كادموس، إن زعيم الدولة وهو جالس على مقدمة السفينة قد أخذ دفتها بيده. يجب عليه أن يحدق بعينيه وأن يرشد أعوانه إلى ما يلائم أحوالهم؛ فإنا إن ننتصر شكرتم ذلك للآلهة وإن تدور علينا الدائرة - وليكفنا الآلهة شر ذلك - فأنا وحدي المأخوذ به في طيبة. إذن يصبح أتيكلس موضوع لغط الناس وتأنيبهم فليعفنا كبير الآلهة الذي نعتمد عليه ونتقي به شر أعدائنا هذه النكبة، فليدع كل منكم اليوم - سواء في ذلك من لم يبلغ شبابه ومن تجاوزه - ما له من حول وقوة وليدافع عن وطنه، وليحط معابد آلهته التي توشك أن تدمر، وليحم أبناءه وأمه ومرضعه الحنون، وهذه الأرض التي كنا نزحف عليها حين خرجنا من المهد، فاحتملت ثقل طفولتنا، وغذتنا لنسكنها وندافع عنها حين تدعو إلى ذلكم الحاجة. لقد أظهرت الآلهة ميلها إلينا حتى الآن. ولزم النصر جانبنا في أكثر الأحيان على طول الحصار.
أما اليوم فهذا الكاهن الماهر في فنه من غير أن يحتاج إلى تحريق الضحايا يسأل الطير ويفهم منطقها، هذا الذي لا يخطئ فيما تنبأ به ينبئنا بأن الأكويين قد أزمعوا أشد هجماتهم على طيبة وأعدوها. فسابقوا إذن إلى أبواب المدينة ومقدمات الأسوار . أسرعوا طيروا وقد اتخذتم ما وقع في أيديكم من سلاح واملئوا مواطن الدفاع، قفوا على أعالي البروج، واحموا خارج المدينة، اثبتوا في أماكنكم، لا تخيفنكم كثرة المهاجمين؛ فإن الآلهة معنا. وقد بثثت الجواسيس في معسكر العدو، وأرجو ألا يكون ذلك عبثا، وأن تعينني أبناؤهم على أن أتقي مكر الأعداء. •••
ثم يأتي جاسوس فينبئ بأن الأعداء قد أزمعوا الهجوم وانقسموا سبع فرق تهاجم أبواب المدينة السبعة، وعلى رأس كل فرقة بطل من أبطالهم، وقد أقسموا ليدمرن المدينة أو ليموتن. ويتوسل أتيكلس إلى كبير الآلهة أن يحمي المدينة شر المغيرين وينصرف. فتبقى الجوقة متلهفة متوجعة تتوقع الأهوال وتستعين بالآلهة على اتقائها.
الفصل الثاني
المنظر الأول
يقول أتيكلس وقد ملأه السخط على الجوقة لأنها أكثرت العويل والنواح، وهو يخشى أن يطمع ذلك أعداء المدينة ويفزع حماتها، وتعتذر الجوقة بما ملأ قلبها من خوف وهلع حين سمعت ضجيج الجيش وصرير السلاح، فيلح الملك عليها في أن تسكن وتهدأ، وتكتفي بأن تعد الآلهة نحر الضحايا وتقديم القربان إن سلمت المدينة من هذه الهجمة، وينطلق.
المنظر الثاني
الجوقة :
إني لمطيعة ولكن قلبي مضطرب؛ فإن صورة العدو يحيط بأسوارنا لا تفارقني وهي تملأ نفسي هلعا وفرقا، كأني الحمامة قد اتخذت لها عشا واهنا، فهي تخشى على صغارها جولة حية عادية. جيش بل شعب يزحف على أسوارنا، إلى أي حال أنا صائرة. إن السماء لتمطر الأحجار من كل صوب على جنودنا. أي أبناء ذوس! يا معشر الآلهة! أقبلوا جميعا، واحموا مدينة كادموس وشعبه. أي بلد أشد إلى أنفسكم حبا تسكنون إن تركتم هذه الأرض الخصبة نهبا للعدو؟ وماء درسية
1
أشد مياه العيون عذوبة وأحسنها شفاء للنفس قد أهداها إلى الناس بنات «تيتيس»
2
وهذا الإله الذي يضم الأرض بين ذراعيه.
3
أي معشر الآلهة قد أخذوا أنفسهم بحماية هذه المدينة. باعدوا بيننا وبين الخوف الذي يفل القوى ويوهن العزائم، وضاعفوا مجد الطيبين. اسمعوا إلى أناتنا المحزنة، أنقذوا طيبة، اتخذوها لكم مقاما أبد الدهر. ماذا؟! طيبة هذه المدينة القديمة تمحى من الأرض، وقد أصبحت نهبا للسيف والنار؟ أتتركها الآلهة - من غير شرف - عرضة لتخريب الأكويين؟! هذه الأمهات. آه يا للسماء ...! وهؤلاء العذارى يسقن كالقطعان إلى الرق وقد حسرن النقاب وقصصن الشعور، وترتفع أصوات الأسرى المتفجعات في هذه الأسوار مقفرة! إنها لصورة تضطرب لها نفسي. أيتها العذارى الفتيات. أيتها الزهرات النضرات. أي حظ سيئ! قبل أن يحين قطافكن قد أقبلت يد أجنبية، فهي تعبث بكن، تريد أن تنقلكن إلى أرض العدو؟! أجل! إن الموت لأقل قسوة من هذا مائة مرة. آه ... إن مدينة يدخلها العدو عنوة لتقاسي من ألوان الشقاء. يعبث بها الرق والموت واللهب، يسترها الدخان، وينطلق فيها إيديس
4
مدمرا، يملؤها فزعا، ويستحيي نساءها. زئير من كل ناحية، وقد أحاط شرك الموت بكل شيء. ينحر الرجل صاحبه، يصرخ الطفل القتيل صرخات غير متمايزة على صدر أمه الدامي. نهب يصاحب التخريب. يظهر بعض الجند لبعضهم ما احتوت أيديهم من غنائم. يحث بعضهم بعضا على النهب. يدعو بعضهم بعضا من غير أن يريد قسمة ما في يده أو النزول عنه. أين السبيل إلى تصوير هذه الصورة؟ لا تكاد تخطو خطوة حتى ترى الأرض مكللة بأنواع الثمر.
أيتها الأسر النكدة المشئومة! أترين بين أيديكن ثمرات الأرض مطرحة ممتهنة؟ عذارى قد كن ينتظرن من الحياة حظا آخر! فأصبحن مكرهات على أن يقمن مقام الأرقاء في سرير جندي سعيد وعدو ظافر، ليحمني ليل الموت من أن أرى هذا المنظر المشئوم.
الفصل الثالث
بينما تتساءل الجوقة عن عاقبة الموقعة، يقبل جاسوس طيبة من ناحية ويقبل الملك ومعه نفر من كل رؤساء الجنود من ناحية أخرى. فينبئه الجاسوس بأسماء الأبطال الذين اختارهم الاقتراع لمهاجمة أبواب المدينة. وهو كلما سمي بطلا اختار الملك لمقاومته بطلا من أبطال طيبة حتى يصل إلى البطل السابع.
الجاسوس :
أما الرئيس السابع الذي يهاجم سابع الأبواب فلا بد من تسميته: هو أخوك. أي سخط يستنزل على المدينة! قصاراه أن يرقى أعلى بروجنا وأن يعلن نفسه ملكا، وأن يتغنى نشيد الانتصار، وأن يلحقك فيعطيك الموت أو يأخذه من يدك، وأن ينتقم منك لنفسه يبغي يضع من قدرك يستشهد على ذلك آلهة وطنه. وقد مثل على درقته تمثيلا حسنا؛ صورتان جديدتان: مقاتل قد اتخذ من الذهب، وامرأة قد أخذت بيده تقوده في جلالة وعظمة، قائلة: أنا العدالة، لأردن هذا الرجل إلى وطنه، ولأعيدن إليه ملكه وتراث آبائه.
تلك هي علائم هؤلاء الرؤساء. فانظر من تختار للقاء أخيك. فلن تستطيع أن تتهمني - فيما بلغتك - بنقص أو قصور. أنت زعيم هذه الدولة. فعليك الآن أن تدبر شئونها.
أيتيوكليس :
يا لك من أسرة أعمتها السماء، ومقتتها الآلهة! أسرة أوديب التعسة! أسرة شقية! اليوم يتم ما تنبأ به أبونا. ولكن من الحق علي الآن أن أحبس الشكاة وأكفكف الدموع؛ فلا ينبغي أن تكون مصدرا للأنين والعويل. أما أنت يا بلنيس، فقد أحسن من اختارك أشد الإحسان. وسنرى عما قريب أي نفع تجر عليك علائمك، سنرى أيعيدك إلى طيبة هذا الشعار الوقح، قد نقش بالذهب على درقتك؟ لقد كان من الميسور أن يعيدك إليها، لو أن العدالة - ابنة ذوس - هي التي تملأ قلبك، وتحرك ذراعيك. ولكنها لم تنزل إلى تشريفك بنظرة من نظراتها حين ولدتك أمك، وحين كنت صبيا، وحين كنت شابا وحين نبت الشعر في عارضيك. أتظن أنها تقاتل إلى جانبك لتدمير وطنك؟ لقد وصلت ما بينك وبين جريء لا يدفعه عن الشر دافع،
5
أتظن أنك قادر مع ذلك على أن تقيم العدل؟ إن جريمتك لتملؤني ثقة بالفوز، أنا الذي سيلقاك؟ ومن ذا أستطيع أن أختار غيري؟ ملك بإزاء ملك، أخ بإزاء أخ، خصم بإزاء خصم، إن مكاني لمعروف. أسرعوا، احملوا إلي سلاحي، احملوا إلي رمحي ودرعي ... (ثم يشتد الحوار بينه وبين الجوقة، تريد هذه أن تثنيه عن قتال أخيه ويأبى إلا أن يمضي ما عزم، فينصرف وتبقى الجوقة متغنية بآلام هذه الأسرة وما كتب عليها من الشقاء.)
الفصل الرابع
يقبل رجل من أهل طيبة فينبئ الجوقة بأن المدينة قد انتصرت على أعدائها وسلمت من أذاهم. ولكن أتيكلس وأخاه بولينيس قد قتلا جميعا كل بيد صاحبه، فتبكي الجوقة وتعول راثية لهذين التعسين ثم تأتي أختاهما: أنتيجونا، واسمينا، وقد حملت جثة القتيلين. فتنقسم الجوقة إلى قسمين يتجاوبان، وكل يلطم وجهه باكيا معولا.
أنتيجونا :
أيها الشقيان! لقد اقتسمتما ما أرسلت علينا السماء من شقاء. فلم يصبح حظكما من نعيم الدنيا ونفائسها إلا قبرا.
اسمينا :
يا لك من بيت موفور الحظ من الآلام! الآن ترفع آلهة الانتقام أصوت الانتصار، لقد استخفت بين يديها أسرة لايوس. وإن آية الانتقام لقائمة بالباب الذي قتل أمامه الأخوان. لقد انتصر عليهما القضاء فهو الآن راض مطمئن.
أنتيجونا :
إنك لتعطي الضربة القاضية حين تتلقاها ...
اسمينا :
إنك لتلقي الموت حين تعطيه ...
أنتيجونا :
سيفك يسلبه الحياة ...
اسمينا :
سيفه يعطيك الموت ...
أنتيجونا :
شقي حين انتصرت ...
اسمينا :
شقي حين هزمت ...
أنتيجونا :
انهمري أيتها الدموع ...
اسمينا :
انسجمي أيتها العبرات
أنتيجونا :
لقد خر المنتصر صريعا، وا حسرتاه! إن ألمك ليملأ نفسي اضطرابا ...
اسمينا :
إن قلبي ليئن ويزفر ...
أنتيجونا :
يا لك من أخ تعس! ...
اسمينا :
يا لك من أخ شقي! ...
أنتيجونا :
إن أعز الأيدي عليك هي التي حرمتك الحياة ...
اسمينا :
لقد اخترقت برمحك أعز الصدور عليك ...
أنتيجونا :
إن ذكر ذلك لمؤلم ...
اسمينا :
إن منظره لأليم ...
أنتيجونا :
يؤلمنا نحن خاصة، نحن موضع اليأس! ...
اسمينا :
إننا لأختان شقيتان، هذان أخوانا! ...
أنتيجونا :
أيها القضاء الذي لا يرد، أيها المقسم الجائر للحظوظ! أيها الظل المخوف: ظل أوديب! أي أرنيس السوداء!
6
إن سلطانك لعظيم! ...
اسمينا (وقد نظرت إلى بولينيس) :
أي منظر تقدمه إلي بعد عودتك! ...
أنتيجونا :
إن انتصاره لم يضع حدا لغيبته ...
اسمينا :
إن عودته قد كلفته الحياة ...
أنتيجونا :
قد كلفته الحياة من غير شك ...
اسمينا :
ولكنه قد سلب أخاه حياته.
أنتيجونا :
يا لك من أسرة تعسة! ...
اسمينا : : أسرة قد أثقلتها المحن (ثم توجه القول إلى أبولينيس)
ينبئ بها اسمك
أنتيجونا :
لا نفرغ من البكاء من شقاء إلى شقاء! ...
اسمينا :
إن ذكر ذلك لمؤلم.
أنتيجونا :
إن منظره لأليم ...
اسمينا :
أيها القضاء الذي لا يرد، أيها المقسم الجائر للحظوظ! أيها الظل المخوف: ظل أوديب! أي أرنيس السوداء! إن سلطانك لعظيم!
أنتيجونا (وقد نظرت إلى بولينيس) :
لقد علمتك التجربة ذلك هنا.
اسمينا (وقد نظرت إلى أيتيوكليس) :
لم تكن أشد بطئا منه في العلم بذلك.
أنتيجونا :
كان يقودك إلى طيبة ...
اسمينا :
كان يسلمك لقتال أخيك.
أنتيجونا :
أي مصدر الألم! ...
اسمينا :
منظر فظيع.
أنتيجونا :
وا حسرتاه! إن مصابنا فيهما لجلل! ...
اسمينا :
وا حسرتاه! أي مصيبة ألمت بهذا البيت، بهذا البلد، ولا سيما بي! ...
أنتيجونا :
وا حسرتاه! وا حسرتاه إن مصابي لأجل ...
اسمينا :
أي أيتيوكليس، أنت مصدر آلامنا الفظيعة! ...
أنتيجونا :
أي أشد الأخوة شقاء وسوء حال!
اسمينا :
لقد أعماكما الانتقام ...
أنتيجونا :
أين نقيم قبرهما؟
اسمينا :
في أشرف الأمكنة ...
أنتيجونا :
وا حسرتاه! ليتبوآ قبر أبيهما ...
الفصل الخامس
ثم يأتي رسول فيعلن أن مجلس الشيوخ قد أمر أن يدفن أيتيوكليس؛ لأنه مات مدافعا عن المدينة، وأن يترك بولينيس غير مقبور؛ لأنه مات عدوا لوطنه. فتعلن أنتيجونا أنها مخالفة هذا الأمر ودافنة أخاها مهما لقيت في سبيل ذلك من عناء. ويحاول الرسول والجوقة أن يعدلوا بها عن هذا العزم فلا يفلحوا.
بروميثيوس ديسموتيس
بروميثيوس مغلولا
الأشخاص
القوة.
القسر.
أفيستوس.
بروميثيوس.
الجوقة:
تتألف من العذارى.
أكيانوس.
أيو.
هرميس.
تقع القصة في سيتيا.
الفصل الأول
سرق الإله بروميثيوس النار من السماء وأهداها إلى الناس. فهداهم بذلك إلى جميع الصنائع والفنون، وسخط عليه بذلك كبير الآلهة ذوس، فأمر ابنه أفيستوس إله النار أن يصلبه إلى صخرة في سيتيا عقابا له. يتردد أفيستوس فترغمه القوة على أن يصدع بأمر أبيه، وتحذره عاقبة الخلاف والإبطاء، فيطيع ويبقى بروميثيوس وحده مصلوبا يتفجع ويتوجع.
المنظر الأول (بروميثيوس والجوقة)
الجوقة :
لا بأس عليك، إنما نحن آلهة أصدقاء، قد حملتنا إلى هذه القمة أجنحة خفاف. لم يسمح لنا أبونا بهذا السفر إلا بعد مشقة، وقد أعاننا الهواء على اجتياز ما يحول بيننا وبينك من أمد بعيد. لقد بلغ دوي المطرقة أعماق الأغوار البحرية حيث نقيم؟ فما كدنا نسمعه حتى كفكفنا عاطفة الحياء ولم يخجلنا أن نظهر حافيات ، فامتطينا عجلة ذات جناحين.
بروميثيوس :
أي بنات تتيس الولود، وهذا الإله تحيط أمواجه الضخمة بأقطار الأرض جميعها، ألقين أعينكن، انظرن بأي سلسلة قد شددت إلى قمة هذه الصخرة، حيث قضى علي أن أسكن منذ اليوم منزلا لن يحسدني عليه حاسد.
الجوقة :
إني لأرى ذلك يا بروميثيوس، وإن سحابا من الفزع تملؤه الدموع لينتشر أمام عيني حين أحدق في هذا الجسم، وقد أذلته هذه السلسلة من الماس. إن سادة محدثين
1
ليحكمون في أولمبوس، وإن ذوس ليملي فيه ظالما قوانين جديدة، وقد استخفى بين يديه من كان لهم البطش والسلطان قديما.
بروميثيوس :
ما له حين أثقلني بهذه الأغلال التي لا تحل، لم يقذف بي تحت الأرض في أعماق مستقر الموتى، في هوة ترتار!
2
إذن لكنت على أقل تقدير بنجوة من هذه النظرات المهينة: نظرات الآلهة والناس! كلا، يجب أن أكون لعبة محزنة في يد الريح، وأن يتمتع أعدائي بما أنا فيه من عذاب.
الجوقة :
ايه! أي إله بلغ من القسوة أن يستمتع بمنظر كهذا؟! وأي إله غير ذوس لا يرثي لآلامك؟ أما هو فإن قلبه القاسي المحنق الذي لا يعرف اللين يستبد بأهل السماء، ولن يعدل عن ذلك حتى يرضي قسوته، وليس من سبيل إلى زعزعة عرشه الذي قد ثبتت أركانه الآن أشد الثبات.
بروميثيوس :
لئن أثقلتني الآن هذه الأغلال المخجلة؛ فإن هذا الأمير يسود على الآلهة الخالدين، سيضطر إلى معونتي وسيتوسل في أن يعرف عدوه الجديد الذي سينزع منه صولجانه. وسيحرمه ما يحيط به من شرف ولكنه سيبذل عبثا ما يملك من قوة الخداع والإقناع، وسينذرني عبثا بما استطاع أن يعد لي من عذاب، فلن أبيح له هذا السر حتى يفك أغلالي ويصلح ما فرط به في ذاتي من إساءة.
الجوقة :
لقد عهدتك شديد الجرأة دائما! يبلغ بك الشقاء أقصاه، فلا تذعن. لقد تعود لسانك ألا يخشى شيئا. إن الهلع ليملك قلبي، وإني لأرتعد إشفاقا عليك. ما آخر آلامك؟ إن نفس ابن كرونوس
3
لمقفلة ليس إلى استطلاعها من سبيل، وإن قلبه لقاس لا يلين.
بروميثيوس :
قد أعلم أن ذوس شديد الصلابة، وأن إرادته وحدها هي العدل فيما يرى. ولكن كوارث غير منتظرة ستلين هذه النفس الصلبة. وإن غضبه الذي لا سبيل إلى الكسر من حدته الآن لمفلول. ولتحملنه رغبة تعدل رغبتي قوة على أن يسعى إليه حريصا على معونتي وصداقتي.
الجوقة :
ولكن لأي إهانة قضى عليك ذوس هذا القضاء الوحشي؟ ما خطيئتك؟ تكلم إن كان الكلام لا يؤذيك.
بروميثيوس :
وا حسرتاه! يؤلمني أن أقولها، ويؤلمني أن أكتمها، وكلا الأمرين لي مصدر عذاب. انفجر الحقد
4
بين الآلهة، وانقسم بعضهم على بعض. فبعضهم كان يريد طرد كرونوس ودفع الصولجان إلى ذوس، وبعضهم كان يريد إبعاد هذا عن العرش أبد الدهر. قدمت أصدق نصحي عبثا إلى المردة أبناء الأرض والسماء. فقد كانت جرأتهم الحمقاء تزدري المكر والحيلة، كانوا يعتقدون أن قوتهم وحدها ستصل بهم إلى النصر من غير مشقة. أما أنا فقد كانت تميس
5
والأرض نفسها التي يعبدها الناس بأسماء مختلفة تنبأت لي: أن ليس في القوة والقسر غناء في هذه الحرب التي كانت تهيأ؟ وأن الحيلة وحدها تقود إلى الانتصار. فلما أنبأتهم بهذا الوحي لم يتنزلوا إلى أن يستمعوا لي إلا متكلفين. فرأيت من الحكمة مع هذا الشك أن أنضم إلى أمي، وأن أنصر ذوس الذي كان يلح علي في ذلك. فاستطاع - بمعونتي وبما قدمت إليه من نصح - أن يقذف بكرونوس القديم وأنصاره في هوي ترتار العميقة المظلمة. هذا هو الجزاء المهين الذي يجزيني به طاغية السماء من هذه اليد البيضاء وتلك رذيلة الظلم خيانة الأصدقاء وعقوق المعروف. ولكني منبئكن بما تسألن من سبب عذابي. ما كاد يجلس على عرش أبيه مهديا إلى الآلهة ضروب الشرف والمكافأة، حتى اجتهد في تثبيت سلطانه. وبدلا من أن يرعى حق الإنسان الشقي أراد القضاء عليه وأن يستبدل منه جيلا آخر. فلم يظهر أحد خلافه إلا أنا، فقد اجترأت على ذلك، استطعت وحدي أن أحمي أبناء الإنسان من أن تصعقهم الصاعقة فيتركوا الأرض إلى حيث يعمرون دار الجحيم.
هذا سبب ما ألقى من الأذى، هذا هو الذي يحملني على ما أنا فيه من ألم شديد احتماله، فظيع النظر إليه. أشفقت على الناس، فلم يشفق علي أحد. أعامل بغير رحمة ولكن عذابي نفسه هو الخزي المسجل على ظالمي.
الجوقة :
آه يا بروميثيوس! أي قلب من الصخر أو الحديد لا يرق لآلامك! ليتني لم أرها، فقد ملأت قلبي لوعة وحزنا.
بروميثيوس :
ربما رق لي الأصدقاء.
الجوقة :
ولكن أهذا كل ما جنيت؟
بروميثيوس :
أصبح الناس بفضلي لا يرغبون في الموت.
الجوقة :
بأي دواء حلت بينهم وبين اليأس؟
بروميثيوس :
وضعت في قلوبهم الأمل الأعمى.
الجوقة :
ما أنفس ما آثرتهم به!
بروميثيوس :
وفوق هذا، فقد منحتهم النار السماوية.
الجوقة :
النار! ماذا؟ أيملك الناس هذا الكنز اللامع!
بروميثيوس :
أجل وسيهديهم هذا الأستاذ إلى كثير من الفنون.
الجوقة :
إذن فهذه هي الجريمة التي يجزيك منها ذوس، هذه الإهانة القاسية! ولكن ألا خلاص لك؟ ألا حد لألمك؟
بروميثيوس :
لن يكون لها حد إلا الذي يريده ذوس.
الجوق :
وهل يريد أن يضع لها حدا؟ هل لك في ذلك من أمل؟ آه! بروميثيوس! لقد خرجت على ذوس ولكن لومك على هذا الخروج لا يسر قلبي وهو لقلبي محزن فلندع هذا الحديث، ولنبحث عن الوسائل التي تعجل إنقاذك.
بروميثيوس :
أيسر على من قام بالساحل أن يهدي الموعظة والنصيحة إلى من تعبث به العاصفة! لقد أهنت ذوس. إني لأعلم هذا، لقد أردت إهانته، وما أنا لإنكار هذا بمحاول. أردت أن أعين الناس فأهلكت نفسي. ولكني لم أكن أعتقد أني سأقضي حياتي مشدودا إلى هذا الصخر على قمة هذا الجبل القفر. أما أنتن فلا تقنعن بالرثاء لما أنا فيه الآن من سوء الحال. اهبطن على مقربة مني، أقبلن أنبئكن بما يدخر لي القضاء. لا تأبين ذلك علي، اشفقن على شقي منكود. وا حسرتاه! إن الشقاء ليحلق علينا ويوشك أن ينزل بنا جميعا.
الجوقة :
يسير عليك أن تقنعنا بذلك يا بروميثيوس! سنهبط بأقدام مسرعة من هذه العجلة، وسنترك هذا المستقر الهوائي مستقر الطير إلى حيث ندنو من هذا الصخر الوعر فنتعرف آلامك. (ثم يهبطن من عجلتهن ذات الجناحين.)
الفصل الثاني
يأتي أكيانوس ممتطيا حيوانا ذا جناحين ليزور بروميثيوس، ولينصح له بأن ينزل عن شيء من كبريائه، وينبئه بأنه صاعد إلى السماء فشافع فيه إلى ذوس. ولكن بروميثيوس يحذره عاقبة ذلك. وينصح له بالعدول عنه، فينتصح ويعود أدراجه، وتتغنى الجوقة بآلام بروميثيوس وإشفاق الناس والآلهة عليه.
الفصل الثالث
يذكر بروميثيوس للجوقة فضله على الناس وأنه قد هداهم إلى الصنائع والفنون وعلمهم المنطق وزجر الطير وتأويل الأحلام، وذلل لهم الطبيعة فأصبحوا لها مالكين. وهداهم إلى الطب فأصبحوا بمأمن من عاديات الأسقام والعلل. فكان جزاؤه على هذا كله ما يلقى من عذاب، فترثى له الجوقة وتود لو قرب خلاصه، فينبئها بأن القضاء قد كتب له عذابا أليما طويلا، وأنه لن يستطيع ولن يستطيع ذوس نفسه أن يفر من القضاء، فتسأله الجوقة: أللقضاء على كبير الآلهة سلطان؟ فيجيبها أن نعم! فتود لو عرفت ما قدر لذوس فيأبى أن ينبئها به، ويقول إن خلاصه موقوف على الاحتفاظ بهذا السر. فتغني الجوقة خوفها من كبير الآلهة وإشفاقها من سلطانه وبطشه ورغبتها في ألا تخرج عليه. ورثاءها لبروميثيوس الذي ألقى بنفسه إلى التهلكة حبا في الناس وإيثارا لهم.
الفصل الرابع
أحب ذوس إيو
Io
ابنة إناكوس فحنقت عليها هيرا زوجته فمسختها بقرة، وأفقدتها الرشد
6
فهي تهيم على وجهها تضرب في آفاق الأرض حتى تمر بالصخرة التي شد إليها بروميثيوس، فتسأله عن أمره فينبئها به، ثم تسألها الجوقة عن أمرها فتقصه عليها، ثم تتمنى هي على بروميثيوس أن يتنبأ لها بما ستلقاه من ألم، فيحدثها بذلك مفصلا، ويذكر لها أنها ستصل إلى مصر بعد أن تجوب أقطار البر والبحر، وهنالك يمسحها ذوس بيده فتسترد صورتها الأولى، وتستعيد ما كان لها من جمال وعقل، ثم يتصل الحب بينها وبين كبير الآلهة، وينتج هذا الحب نسل يكون منه من يخلص بروميثيوس من سجنه، ويعرض ذوس لخطر عظيم. فتسأله إيو والجوقة عن اسم هذا المخلص له المهدد لذوس فيأبى أن يجيب، ويسمع كبير الآلهة كل هذه النجوى فيرسل رسوله - هرمس - ليسأل بروميثيوس عن هذا الإله الذي سيزعزع عرشه.
الفصل الخامس
المنظر الأول (بروميثيوس - الجوقة - هرمس)
هرمس :
إليك أيها الماكر الحول، المملوء حقدا وسخطا، الجاني على الآلهة، الذي اختص بالشرف أبناء الإنسان، أنت الذي اختلس النار السماوية، إليك أسوق الحديث. يأمرك أبي أن تعلن: ما هذا الزواج الذي يروقك أن تتحدث عنه، والذي سيقضي على سلطانه؟ تحدث من غير إلغاز، يجب أن ترفع النقاب عن كل شيء. أي بروميثيوس، لا تضطرني إلى أن أعود إليك برسالة أخرى ... فأنت تعلم أنك لا تستطيع أن تقهر ذوس.
بروميثيوس :
بأي حديث وقح يملؤه الكبر قد نطقت! إنه لحديث من كان للآلهة عبدا. أيها السادة الجدد في دولة جديدة! تحسبون أنكم تسكنون قصورا لن ينالها الضيم. ألم أر طاغيتين
7
قد هويا؟ وسأرى سقوط الثالث. ليكونن هذا السقوط أسرع من سابقيه وأشد خزيا، أتظن إذن أنني أخشى هذا الإله الجديد أو أفرق منه؟ شديد ما بيني وبين ذلك من البعد. انطلق، عد غير مبطئ من حيث أتيت! فلن تطلع من سري على شيء.
هرمس :
ألا تزال حريصا على هذا الكبر الذي جلب عليك ما أنت فيه من الشقاء!
بروميثيوس :
ثق بأني لن أرضى رفك بديلا من عذابي. إني لأوثر، أجل إني لأوثر أن أظل مشدودا إلى هذا الصخر على أن أكون الرسول الأمين لأبيك. كذلك يجب أن نهين من أساء إلينا.
هرمس :
آه! لعل آلامك تلذ لك وتملؤك سرورا وغبطة.
بروميثيوس :
تملأني لذة وغبطة! آه، وددت لو أصاب أعدائي وأنت أولهم ما أنا فيه من سرور ونعيم.
هرمس :
ماذا؟ أتتهمني بسوء حالك؟
بروميثيوس :
ليس لي إلا كلمة واحدة. إني لأبغض الآلهة جميعا الذين أثقلتهم إحسانا فيثقلونني مساءة.
هرمس :
لقد اضطرب عقلك، إني لأرى ذلك، إن ألمك لفوق ما تطيق.
بروميثيوس :
وددت لو طال بي هذا الألم، إن كان بغض الأعداء ألما.
هرمس :
إنك لثقيل الظل في النعمة!
بروميثيوس (وقد تنهد ألما) :
وا حسرتاه!
هرمس :
هذه كلمة لا يعرفها ذوس.
بروميثيوس :
سيعلمه الزمن إياها؛ فإن الزمن ينضج كل شيء.
هرمس :
ومع ذلك فهو لم ينضج حكمتك.
بروميثيوس :
لا؛ فإني لن أحدثك بما تشاء، أيها العبد الدنيء.
هرمس :
إذن فلست تريد أن تنبئني بما يريد أبي.
بروميثيوس :
إني لمدين لأبيك بشيء كثير! ومن الحق علي أن أرضيه.
هرمس :
إنك لتسخر مني، إنك لتعاملني معاملة الطفل.
بروميثيوس :
أولست طفلا، وأشد من الطفل سذاجة، إذا كنت تعلل نفسك بأن تقف من سري على شيء؟ ليس هناك عذاب ولا مكر يستطيع أن يقهرني على أن أبيح هذا السر لذوس قبل أن تحطم هذه الأغلال المشئومة. لقد قلت فلتسقط الآن صاعقته يستطير شررها، ولتضطرب الطبيعة، ولتنبعث من جوف الأرض نارها الملتظية فتخالط البرد الناصع، فلن أذعن لشيء، ولن أسمي له ذلك الذي سينزله عن عرشه.
هرمس :
انظر، أينفعك هذا الإصرار.
بروميثيوس :
لقد رأيت كل شيء، ولقد صح عزمي على ما أريد منذ زمن طويل.
هرمس :
أحمق! اجترئ، اجترئ مرة على أن تتعلم الحكمة من آلامك.
بروميثيوس :
عبثا تثقل علي فأنا أصم كأمواج البحر، لا تحسبن أني سأشفق مما قدر لي ذوس، وسأصير من الضعف والهلع بمنزلة المرأة، فأبسط إليه يدي ضارعا متوسلا في أن ينقذني من هذه الأغلال، أنا بعيد من ذلك.
هرمس :
أرى أن كل ما أقوله لك غير منتج. فرجائي لا يستطيع أن يمسك أو يكسر من حدتك؛ فأنت كالجواد الجموح لم يستأنس، تعض الشكيمة ولا تنقاد للجام. ولكنك تبذل عبثا ما تبذل من سخط وغضب؛ فقوتك دون ما تحاول. فلا أشد ضعفا ووهنا من كبر الأحمق. لئن لم أستطع أن أقنعك فمثل لنفسك على أقل تقدير هذه العاصفة التي لا سبيل إلى اتقائها، هذه الزوبعة القاصفة، زوبعة الآلام التي ستنزل بك؛ فإن ذوس سيحطم هذه الصخرة الوعرة بصاعقته ورعده، وسيواري جسمك تحت شظايا الصخر. فإذا مضت عليك الحقب الطوال عدت إلى الظهور، ولكن ما أسرع ما يقبل هذا النسر الشره نسر ذوس ، كلب ذو جناحين يمزق جسمك تمزيقا، نهم تغذوه طوال الدهر مادة سوداء دامية هي كبدك، لا تؤمل لهذا العذاب آخرة، إلا أن يضع بعض الآلهة نفسه موضعك، ويرضى النزول إلى حيث يقيم أدويسيوس ذلك الإله الخفي في هوى ترتار المظلمة. والآن فتدبر، وراجع نفسك؛ فإني لا أقدم إليك نذيرا باطلا. لقد سبق بذلك القضاء؛ فإن فم ذوس لا يعرف اللغو ولا الكذب، لا ينطق بشيء إلا حققه. تأمل وتدبر، ثق بأن الإصرار لا يعدل الحكمة.
الجوقة :
يود هرمس لو نزلت عن كبريائك واصطنعت الحكمة، وإن رأيه لرشيد فخليق بك أن تتبعه، إن من الخزي أن يصر الحكيم على خطته.
بروميثيوس :
لم ينبئني بشيء جديد، وما أيسر أن يلقى عدو أذى عدوه. فلتصعقني بعد ذلك الصاعقة. ليرعد الرعد ولتشهر في الفضاء حرب الرياح القاصفة ولتزعزع عواصفها الأرض وأصولها، وليجمع هبوبها العنيف بين أمواج البحر ونجوم السماء، ولينفق ذوس ما ملك من قوة عنيفة قاهرة ليقذف بي في أعماق ترتار المظلم؛ فأنا على رغم ذلك كله حي لن ينال مني الفناء.
هرمس :
أليس هذا الكلام كلام أحمق مفتون؟ ألم يبلغ من الهذيان أقصاه؟ ولو أن الحظ أعانه، فإلى أي حد ينتهي به الغضب؟ ولكن من الحق عليكن أنتن اللاتي يرثين لآلامه أن ترحلن عن هذا المكان؛ فإن قصف الرعد المفزع قد يوقع الاضطراب بعقولكن.
الجوقة :
آه! قدم إلينا من النصح ما نستطيع أن نسمع له؛ فإن آذاننا لا تستطيع أن تصغي لما تقول. إنك لتدعوني إلى الخزي. كلا، لأقاسمنه آلامه. فقد علمت أن أبغض الخيانة، إنها لأشد الرذائل في نفسي مقتا.
هرمس :
اذكرن على أقل تقدير ما قدمت من نذير، فإذا أصابكن ما سينزل به من شقاء فلا تلمن القدر في ذلكن، لا تزعمن أن ذوس قد أخذكن على غرة، ولا تتهمن إلا أنفسكن؛ فإنكن لن تقعن في أشراك الشقاء من غير أن يكون قد سبق إليكن النصح والإرشاد. (ثم يذهب هرمس وتتبعه العذارى.)
المنظر الثاني
بروميثيوس (وحده) :
أجل، ليس هذا بنذير باطل، إن الأرض لتضطرب، ولقد زأرت الأصدية الصم، أصدية الرعد، وإن الصاعقة لتلمع ثناياها الملتظية، وإن ركاما من التراب ليصعد في السماء، ولقد أطلقت الرياح فيشهر بعضها على بعضها الحرب، وإن أمواج البحر لتكاد تمس السماء. إلي يبعث ذوس هذه العاصفة المروعة ... أي أمي الجليلة وأنت أيها الأثير
ether
الإلهي يحيط بالضوء المشترك، انظر: ماذا قضى به علي ظلما من العذاب.
أجاممنون
الأشخاص
رقيب:
قد أقيم على أعلى القصر يرقب العلامات.
الجوقة:
تتألف من الشيوخ ذوي المكانة في المدينة.
كلوتيمنسترا.
رسول.
أجاممنون.
كسندر.
إيجستوس.
تقع القصة في أرجوس أمام قصر أجاممنون.
إيجستوس :
وعد أجاممنون زوجته كلوتيمنسترا قبل سفره إلى تروادة أن يسارع فينبئها بالنصر حين يدخل المدينة؛ بأن يشعل نارا بعيدة اللهب لتدل على ذلك من يليه فيفعلون فعله، وما يزال لهيب النار يدل بلدا بعد بلد حتى يصل إلى أرجوس. فتعلم كلوتيمنسترا بأن المدينة قد أخذت.
الفصل الأول
المنظر الأول
فيبدأ الفصل الأول بالرقيب قد أقامته كلوتيمنسترا يترقب هذا الضوء. فهو يشكو طول مقامه وما يعاني من سهر الليل، وإنه لكذلك إذ يلمح الضوء فيسر؛ لأن حريته قد عادت إليه، ولأن ملكه قد انتصر، ويسرع فيحمل النبأ إلى كلوتيمنسترا.
المنظر الثاني
الجوقة :
مضت عشرة أعوام منذ قاد من هذا المكان ألف سفينة مسلحة هذان الخصمان المخوفان، خصما بريام: أجاممنون وأخوه مينالاووس ابنا أثريه. هذان الخصمان لا يقهران، قد شرفهما ذوس بالصولجان والعرش.
يصيحان بأورستيس كأنهما صقران قد ملأهما الحزن على فرخيهما، فهما يحلقان ويصفقان بجناحيهما دون عشهما، قد قاما عليه يحفظانه ويحوطانه، فلم يجد عليهما ذلك شيئا. فما هي إلا أن غضب بعض الآلهة - بان وأبلون أو ذوس - لهما فأرسل آلهة الانتقام تثأر من المغير الظالم. كذلك يبعث هذا الإله القوي إله الضيافة ابن أثريه عدوا للإسكندر، كذلك يريد أن يحتمل اليونان في امرأة لعوب ألوان الألم وصروف الجهاد حيث تجثو الركب على الصعيد، وتنقصف الرماح لأول هجمة. أما الآن فقد سبق السيف العذل وليبلغن الكتاب أجله. فلن يفل غضب الآلهة - آلهة الانتقام - صراخ ولا بكاء ولا قربان.
أما نحن الذين حرمتهم السن شرف المرافقة لهذا الجيش، فقد بقينا هنا مسندين إلى العصا ضعفنا الذي هو أشبه شيء بالطفولة، فإذا كان الطفل تحييه قوة جديدة يشبه الشيخ فلا يستطيع أن يقوم بأعمال أورستيس؛ فإن الشيخ قد انحسر عنه شعره كأنه الشجرة اليابسة الجرداء لا يمشي إلا منطويا على العصا، ليس له ما يميزه من الطفل. إنما هو طيف يهيم تحت الضوء.
أما أنت يا ابنة تندار - أيتها الملكة ملكة أرجوس - فما يحملك على أن تأمري بهذه الضحايا الكثيرة، ما حاجتك إليها، ما رغبتك فيها، أي نبأ ذي خطب قد انتهى إليك؟ إن العرف لينتشر على معابد الآلهة، آلهة البيت، وآلهة السماء والأرض والجحيم، ترتفع أضواء المصابيح إلى السماء، يمد ضوءها الهين زيت نقي، وتحمل أنواع القربان من القصر. أعفينا من هذا القلق الذي يحملنا أحيانا على ألا ننتظر إلا الشر، وأحيانا على أن نستبشر فيذود الأمل عن نفوسنا اليأس والحزن.
إني لأستطيع أن أذكر الآن سفر جيشنا يملأه الوعيد وسوء النذير، لنغن - إن ثقتي بالسماء لتدعوني إلى ذلك، وإن سني لتمكنني منه - على أي طيرة فظيعة مضى الملكان وفي أيديهما سلاح الانتقام، تتبعهما زهرة اليونان وزعماؤهم متحدين قد أزمعوا قهر تروادة.
لهذين الملكين، ملكي السفن، ظهر بالقرب من قصريهما الضخمين ملكان من ملوك الطير: أحدهما أبيض، والآخر أسود، قد أخذا يمزقان بمخالبهما أرنبا حبلى لم يؤمنها الهرب، وازدردا أجنتها. لنتغن، لنتغن أشعارا ملؤها الشؤم، ولكن ليكذب ما اشتملت عليه من طيرة!
عرف الكاهن الجليل
1
كاهن الجيش في هذين الصقرين المفترسين، ابني أثريه وغيرهم من زعماء اليونان. فيملكه الطرب، ويصيح: لتؤخذن مدينة بريام بعد أن يطول حصارها، ولتصبحن ثروتها المتراكمة منذ أمد بعيد نهبا للظافر. فعسى ألا يحطم غضب الآلهة هذا الحديد قد اتخذ لقهر التراوديين! إن أرتميس لساخطة على هذا البيت؛ فإن كلاب أبيها ذوات الأجنحة قد مزقت فيه أما تعسة ومزقت أجنتها وقد كانت توشك أن تولد، فمقصف هذين النسرين إليها بغيض. لنتغن، لنتغن أشعارا ملؤها الشؤم، ولكن ليكذب ما اشتملت عليه من طيرة!
إن أرتميس لتحمي ضعاف الطير لا تستطيع أن تنهض، وسكان الغابات لم تفارق بعد ثدي أمهاتها. أجل، إن نبأ هذين النسرين لسعيد، ولكنه لا يخلو من خطر. أيها الإله ذو السهام، أي أبلون! امنع اختك أن تبعث الريح مضادة لسفن اليونان، وأن تضع العقاب لها في سبيل سفرها، أنها لشديدة الحرص على أن تظفر بضحية وحشية لا يصحبها لهو ولا قصف، ضحية هي مصدر خلاف وانشقاق، هي إهانة للطبيعة، للزواج المقدس. في أعماق قصر من القصور يغلي بغض مخوف شديد الخطر، فيه تذكر فتاة
2
في حاجة إلى الثأر. ذلك هو الحظ السعيد السيئ في وقت واحد، تنبأ به كلكاس لملكينا حين ظهر هذان النسران. فليملأنا رجاؤه وخوفه. لنتغن، لنتغن أشعارا مملؤها الشؤم ولكن ليكذب ما اشتملت عليه من طيرة
أي ذوس! كائنا من كنت
3
إن يعجبك هذا الدعاء فأنا داعيك به! عبثا أبحث عمن يستنقذ نفسي من همومها، فلن أجد غيرك لي ملجأ.
لقد كان المتكبر تملؤه الجرأة يزدري كل شيء. يظهر بعد أن لم يكن شيئا، فما هي إلا أن يظهر حتى يجد له قاهرا فيزول. ولكن من يتغنى نشيد النصر فرحا مبتهجا مشرفا به ذوس فهو ظافر بكل ما أراد.
ذوس هو الذي يسن للناس سنة الرشد والحذر، يعاقبنا فيؤدبنا عقابه، يعاقبنا أيقاظا ورقودا، أليس ينبعث الندم في قلوبنا أثناء النوم. وسواء أرضينا أم كرهنا فإن الحكمة بالغة إلينا: هذه الحكمة يهديها الآلهة إلى الناس فتثبت مشرفة علينا لا تضطرب ولا تزول.
كذلك أذعن رئيس السفن للقضاء، غير متهم كاهنه، بينما كانت الأحداث والمصائب تنوء بالأكويين على ساحل أوليس
4
بأعين كلكاس. لقد كانت الريح تهب عنيفة من فم أسترمون فتعوق السفن عن الإقلاع حاملة إلى الجند الجوع والغرق والفرقة، غير معفية أداة ولا سفينة جاهدة في إذبال زهرة اليونان، مكرهة إياهم على راحة ما كانوا يعرفون لها أمدا. فما هي إلا أن يعرض الكاهن باسم أرتميس دواء أشد شرا وأنكر نكرا من هذه الزوبعة، سمعه الملكان فحطما صولجانهما وذرفا دموعا غزارا. وأخذ كبيرهما يصيح: يا لك من قضاء شديد القسوة! أأعصي؟ أأنحر ابنتي، زينة بيتي، أؤدنس يد الأب بدم ابنته مسفوكا على المذبح؟ إلى أي الأمرين يجب المضي؟ أأدع أسطولي وأتخلف عن حلفائي؟ إنهم ليصيحون، يطلبون ضحية تسكن الريح، وا حسرتاه! إنهم ليستطيعون أن يفعلوا ذلك غير آثمين. إنهم إنما يطلبون النصر.
على أنه يذعن لحكم القضاء، قد غير قلبه رأي فظيع مجرم ملؤه الإثم، كذلك يجرؤ الإنسان فيسرع إلى ما يبعثه على الندم، كذلك تخدعه تلك المشيرة تشير بالخزي، جنون مشئوم سيئ العاقبة. يجرؤ على أن يقتل ابنته بيده ليطير إلى الحرب وليثأر لامرأة مخطوفة، يتخذ من هذه التضحية فألا لسفره، والزعماء السفاحون لا تمسهم الرحمة لصلاة الأب وبكائه، ولا ينالهم إشفاق على ابنته. يدعو الآلهة، ويأمر القسس - وهو أبوها - أن تحمل قهرا إلى المذبح كما تحمل الضحايا، مائلة الرأس تزينه «الشرائط» قد أقفل فمها العذب، يخشون ما عسى أن يبعث من لعنات، فتخرسها كلمة ممقوتة. ولكن بينما يروي دمها الأرض، تنبعث نظراتها فتخترق قلب ناحرها وتملؤه إشفاقا. حسناء كأنها آية من آيات الفن، يخيل إلى من رآها أنها تتكلم، تذكر بتلك المقاصف التي كانت تزينها بأغانيها العذاب، حين كان صوت هذه العذراء الطاهرة يملأ حياة أبيها السعيد جمالا وبهجة.
ليس من يعلم ليس من يستطيع أن يقول، ماذا عسى أن تأتي به حوادث الدهر. إن فن كلكاس ليس عبثا، وإن العدل ليحملنا على أن نتنبأ بما هو كائن بعد الذي قد كان. إن اتقاء ما ليس إلى اتقائه سبيل لخطل، إن في ذلك لتعجلا إلى الحزن. ليصدقن مستقبل الأمر كل التصديق ما جاء به الوحي. ليكن هذا المستقبل مملوءا بالخير لهذه التي تدنو! (تظهر كلوتيمنسترا)
فهي وحدها التي تقوم الآن على هذه الدولة!
الفصل الثاني
المنظر الأول
تقدم كلوتيمنسترا فتسألها الجوقة عن أسباب سرورها وهذه الضحايا التي تقدمها إلى الآلهة. فتعلن كلوتيمنسترا انتصار اليونان وسقوط تروادة، فتشك الجوقة وتؤكد كلوتيمنسترا خبرها وتصف كيف وصل إليها. وتود لو قصد اليونان في انتصارهم ولم يسرفوا في إهانة المغلوبين وازدراء آلهتهم. ليأمنوا شر البطر والطغيان.
المنظر الثاني
ثم تتغنى الجوقة بانتصار اليونان وشكر الآلهة والنعي على باريس حين اختطف هيلانة، وعلى هيلانة حين تبعته.
إن أرييس الذي يحمل الناس على أن يستبدل الجثث من الذهب، ويحمل ميزان النصر والهزيمة في الموقعة، لا يرد من تروادة على هذه الأسر المحزونة إلا بقايا مؤلمة، قد جمعت بعد التحريق: إناء يملؤه التراب. إن هذه الأسر لتئن ذاكرة مهارة أبنائها في الحرب وموتهم المجيد، ولأجل من ماتوا في سبيل امرأة أجنبية، ومن يدري لعلهم يسرون السخط والحنق، ولكن ليس من شك في أن سخطهم واقع على أبناء أتريه. إن شبابا غضا قد وجد قبره تحت أسوار تروادة، إن الأرض المغلوبة لتدفن المنتصر. إن سخط الشعب الشديد الثقل، وإن اللعن الذي ينبعث من فمه لمستتبع أثره دائما. إن شعورا مظلما يملأ قلبي وينذرني بسوء العاقبة. لن يفلت من أيدي الآلهة من أسرف في سفك الدماء.
وما يكاد يمضي الزمن حتى تمحو هذه الآلهة السود آلهة الانتقام ذلك المجد المؤثل أقامه صاحبه على الظلم والجور. ليست الحياة الخاملة شيئا يذكر، ولكن المجد يلام فيه صاحبه، عبء ثقيل يدني ما بيننا وبين الصاعقة. ألا فلنؤثر الخير الذي لا يبعث على الحسد.
لا أريد أن أدمر المدن، ولا أن أكون أسيرا يخضع لسيده.
ما أسرع ما انتشر هذا الخبر السعيد في أرجوس، حملته إلينا أضواء النار، من يدري أنها حق، من يدري: لعل الآلهة يخدعوننا؟ أي طفل، أي أحمق يؤمن بنبأ علامة كهذه حتى إذا كذب الخبر تعرض للخجل وتكلم لغة غير التي يتحدثها الآن؟ لقد قضي علينا أن نذعن لامرأة، فلنهنئها بظاهر هذا النبأ؛ فإن المرأة سريعة إلى التصديق والاقتناع، وما أسرع ما تزول هذه الانتصارات التي تتحدث بها.
الفصل الثالث
تعلن كلوتيمنسترا إلى الجوقة أنها ترى رسولا مقدما، ولا تشك في أنه يحمل النبأ السعيد، ويقدم هذا الرسول فيحيي وطنه ويعلن انتصاره، ويشكر الآلهة، ثم تبتهج الجوقة وكلوتيمنسترا، وتظهر هذه حبها للملك وأمانتها له وأنها منصرفة إلى إعداد استقباله بما هو أهل له من كرامة وإجلال.
ثم ينكر الرسول على الملكة إعجابها بنفسها وتسأله الجوقة عن منلووس فينبئها بأنه قد استخفى؛ لأن زوبعة عرضت للأسطول ففرقت سفنه.
وتتغنى الجوقة سوء حظ منلووس وما ألم بتروادة من الشقاء وما يعرض للإنسان في حياته من تبدل الحال وتقلبها.
الفصل الرابع
يقدم أجاممنون على عجلة ومعه أسيرته كسندرا. فتتلقاه الجوقة بالتهنئة ويجيبها محييا وطنه شاكرا آلهته معلنا أنه مثبت ما وجد من خير ومستأصل ما وجد من شر.
المنظر الأول (الأشخاص السابقون وكلوتيمنسترا)
كلوتيمنسترا :
أي معشر المواطنين، أي شيوخ أرجوس، لن يمنعني الحياء أن أظهر بين يديكم شدة ما يملأ قلبي من حب؛ فإن من الأوقات ما يتجاوز فيه الحياء عن قوانينه المألوفة. فاسمحوا لي أن أذكر بنفسي ما تحملت من ألم أثناء غيبة زوجي أمام تروادة، لا أذكر ذلك كبرا ولا افتخارا. أي ألم ثقيل الحمل تعانيه امرأة قد غاب عنها زوجها تطرقها من حين إلى حين أنباء مشئومة، ثم لا تلبث أن تخلفها أنباء أشد منها شؤما.
وا لهفتاه! فلو أنه تلقى من الضربات والطعنات أثناء الحرب ما حملت إلينا الأنباء، لما أصبح جسمه الآن إلا جراحة.
ولو أنه مات مرة كما حملت إلينا الأنباء، لكان له أن يفخر بأنه ادرع أكثر من ثلاثة أدراع قبل أن يهبط إلى الجحيم، كأنه جريون
5
ذو الأجسام الثلاثة. كثيرا ما حطمت أيد أجنبية - بالرغم مني - تلك الآلات: آلات الموت التي كنت أعدها لأتخلص بها من الحياة حينما كانت تبلغني هذه الأنباء.
إن نبأ منها قد منعني أن أحمل إليكم أورستيس: ثمرة حبنا كما كان يجب علي أن أفعل. لا تدهشوا لذلك؛ فإني قد وكلته إلى عناية ضيفكم الأمين: استرفيوس الفوكي. وقد حملني على أن أتوقع خطرا مزدوجا أثناء ما كنتم تتعرضون له من الحوادث أمام تروادة؛ فإن الشعب الثائر كان يستطيع أن يخلع طاعة شيوخه، وقد ألف الناس أن ينحوا بالألم والعذاب على التعسين، أقول ذلك لا منتحلة له ولا متهمة فيه. أما أنا فإن دموعي قد نضبت إلى آخر قطرة من قطراتها، وإن عيني لتحملان آثار تلكم الليالي الطوال، قضيتها باكية ناحبة، أنتظر من غير غناء ما كان قد وعدني زوجي من علامة تنبئني بالنصر. فإذا أخذني النعاس فإن حركة تأتيها أخف الحشرات كانت كافية لإيقاظي من نوم مثل لي الحلم فيه أشد وأطول ما كان يستطيع تمثيله من خطر. أما الآن فقد نسيت كل هذه الآلام. إنما مكان زوجي مني مكان الكلب الأمين من قطيعه، والبحار الماهر من سفينته، والدعامة القوية من قصر مشيد تشده وتثبته، والولد الوحيد من أبيه، ومنظر الأرض من الملاح اليائس، أو ظهور النهار المضيء بعد الزوبعة المظلمة، والينبوع العذب من المسافر أضناه الصدى. أي فرح يملكني حين أراه قد أفلت من كل هذه الأخطار! أجل إنه لخليق بكل ما قدمت من صفة: ليعفه الجسد، فقد تألمت غير قليل. أما الآن أيها الزوج العزيز! فانزل عن عجلتك، ولكن أيها الملك لا تدنس بالتراب القدم التي سحقت تروادة.
أيها الخدم، ما لكم تتريثون في تنفيذ أمري؟! ما لكم تتريثون في مد هذا البساط؟! ليستر الأرجوان موضع قدميه، ليدخل محفوفا بالإجلال هذا القصر، حيث لم نكن ننتظر أن نراه. فأما ما بقي بعد هذا؛ فإن عنايتي تعينها عناية الآلهة ستنفذ ما سبق به القضاء. (فيجيبها أجاممنون منكرا عليها كثرة هذا المدح كارها أن يمشي على الأرجوان، وتلح عليه في ذلك، فيطيع ويوصيها بأسيرته، وتصلي كلوتيمنسترا إلى ذوس، تسأله أن يتم ما أراد.)
الفصل الثالث
وتتغنى الجوقة ما يملأ قلبها من خوف وتوقع للشر برغم ما ترى من انتصار الجيش وعودته.
الفصل الرابع
المنظر الأول
تأتي كلوتيمنسترا فتدعو كسندرا - أسيرة أجاممنون - أن تنزل عن عجلتها وأن تدخل القصر، وتنصح لها بالرضى والطاعة، وتعدها اللطف وحسن المثوى. وتنصح لها الجوقة أن تسمع وتطيع، ولكن كسندرا لا تجيب. فتنصرف الملكة.
المنظر الثاني
ثم تدعو الجوقة كسندرا إلى الطاعة، فتصيح هذه مستصرخة أبلون، ذاكرة ما وقع في هذا القصر من جريمة، متنبئة مع شيء من الألغاز، بما سيقترف فيه من إثم، فلا تفهمها الجوقة.
كسندرا :
يا للسماء! يا للسماء! ماذا أرى؟! أهذه أشراك الجحيم؟ ... أي أشراك؟ ... القاتل، هي الزوج بنفسها! ... أي آلهة الانتقام، لا يرتوين من دماء بيلبس
6
تمتعن بهذه الضحية الدامية.
الجوقة :
ما هؤلاء الآلهة، تدعينهن إلى الفرح والمتعة؟ إن حديثك ليملؤني فزعا ... وإن دمي ليضطرب ويتقلص من عروقي متجها وجه القلب كأنما أصابتني ضربة مهلكة، وكأنما أغمضت عيناي أبد الدهر، إني لأرى نذير سوء قريب.
كسندرا :
انظروا ... انظروا ... حولوا بين الثور والبقرة ... إنها لتفجؤه وقد التف في ثوب مشئوم ... إنها لتضربه ... إنه ليسقط في حمامه ... في إناء المكر والموت.
الجوقة :
لا أزعم أني أحسن تأويل الوحي، ولكن يخيل إلي أني أرى شرا مستطيرا. ويلاه! متى أعلن الوحي إلى الناس خيرا؟ إن هذا الفن قديم: فن الكهنة ما استطاع أن يحمل إلينا قط إلا الفزع والهلع.
كسندرا :
يا لك من شقي! ما آخرتك التعسة؟ فقد أستطيع أن أمزج بها هنا شقائي. يا للآلهة! إلى أين تسوقون هذه التعسة كسندرا؟ إلى أين؟ ... إذا لم يكن إلى الموت.
الجوقة :
أي إله، وأي جنون ينقلك من حال إلى حال؟ إنك لتتغنين على نفسك غناء مضطربا. كذلك تفعل فيلوميلا الحنون، لا يرويها البكاء في شكاة محزنة، تئن على أتيس، وتغذو حياتها علقما وصابا.
كسندرا :
إن حظ فيلوميلا من القضاء لسعيد، لقد منحها الآلهة جناحين، حياتها حلوة بريئة من الألم، أما أنا فسيقطع حياتي خنجر حاد.
الجوقة :
أمن قبل الآلهة جاءك هذا الفزع الفجائي، وهذا الاضطراب غير النافع؟ لم هذا الغناء؟ وهذه الصيحات المخيفة، غير المنتظمة، وهذه الصرخات الحادة؟ من ذا الذي يفتح لك باب التنبؤ بهذا الوحي المشئوم؟
كسندرا :
أي زواج باريس، زواج مشئوم على أسرته جميعا، أي نهر اسكمندر، كان يروي وطنه! لقد رأى شاطئاك طفولتي تنمو وتتقدم، عما قريب سأعلن وحيي على شواطئ كوستيت
7
والأكرون.
8 (ثم تتغنى الجوقة بما فهمت من هذا الوحي وما تتوقع من سوء، وتنبئها كسندرا بما سبق في أرجوس من الجرائم وبأنها قد كانت موضع حب أبلون كلف بما فمنته فمنحها الوحي، ثم أبت عليه فهو عليها ساخط.)
كسندرا :
يا للسماء! يا للألم! ... إني لأضطرب من جديد، إني لأشعر بهبوط الوحي ... أترون في هذا القصر هؤلاء الأطفال
9
كأنهم أشباح الليل؟ ... يقتلون بأيدي من يجب أن يكرموهم ... إن هؤلاء القتلة ليحملون في أيديهم لحمهم وقلوبهم وأمعاءهم! ... غذاء ممقوت ... لقد ذاقه أبوهم ... لقد قام ليثأر لهم أسد، ولكنه أسد جبان، لقد دنس سرير الزواج، وما كان ينتظر بعد ذلك إلا عودة سيدي - لا بد لي من أن أتعود هذا الاسم ما دام قد قضي علي بالرق - إن زعيم اليونان، ومدمر تروادة ليجهل ما يعد له هذا الوحش المستأنس، يتلقاه بالملق والابتسام ... إن امرأة لتجرؤ عليه ... تجرؤ على أن تقتل رجلا! ... كيف أسميها؟ حية ذات رأسين، أوسكولا
10
تسكن الصخور، وتلقى البحارة بكل شر، أم من أمهات الجحيم، ماذا تنفخ في أسرتها من بغض لا يهدأ! يا لها من فاجرة! ... إنها لتصيح فرحا كأنها انتصرت انتصارا عظيما! يخيل إلي أنها تعود ظافرة ... سواء علي أصدقتموني أم كذبتموني، إن ما أنبأت به لواقع، بهذا سبق القضاء، وإنكم له لشاهدون وعما قريب ستدعونني متولهين: النبية الصادقة.
الجوقة :
لقد عرفت هذا الغذاء الفظيع، غذاء ثويستيس وإني لأضطرب له. لقد ملكني الخوف حين سمعت قصتها الصادقة، ولقد سمعت بقية ما قالت ولكني لم أستطع فهمه.
كسندرا :
سترون أني أعلن إليكم هذا، سترون موت أجاممنون.
الجوقة :
ماذا تقولين أيتها الشقية؟ احبسي هذه الألفاظ.
كسندرا :
ليس لهذا الشقاء من دواء.
الجوقة :
أجل، حين يحم به القضاء، ولكنها ترجو ألا يكون.
كسندرا :
إنكم هنا لتتمنون. وإنهم هناك ليعدون الموت.
الجوقة :
ومن ذا الذي يهيئ هذه الجريمة؟
كسندرا :
إذا لم تصغوا إلى ما تنبأت به؟
الجوقة :
لم أهتد إلى مقترف الجريمة.
كسندرا :
ومع هذا فقد تحدثت إليكم لغتكم ...
الجوقة :
ولكن لغات الوحي غامضة.
كسندرا :
يا للآلهة! أي نار تلتهمني! يا لأبلون إله لوكييون!
11
أي كسندرا يا لك من شقية! لقد اقترنت اللبؤة إلى ذئب في غيبة أسد كريم، وهي الآن تريد أن تنحرني. إنها لتتلمس لها من ذلك عذرا، ستتخذني لغضبها علة، تزعم وهي تحد خنجرها أنها إنما تقتل زوجها؛ لأنه قادني إلى هذا القصر. وماذا عسى أن أصنع بهذا الصولجان وهذا التاج، أأكون ضحكة أعدائي؟ أيتها الزينة الباطلة لتتحطمي قبل أن أموت، هذا كل ما أنا مدينة لك به.
اذهبي فزيني أشقياء آخرين. إلي أبلون، هلم فاسترد هذا الثوب ثوب النبوة. لقد رأيتني فيه موضع الهزء الظالم من العدو والصديق، أعامل معاملة الساحرات، وأدعى شقية، مشعوذة غرثى، لقد لقيت كل ألم. أما اليوم أيها الإله، إله الوحي، فإلى أي موت تسوق نبيتك؟ لقد نحر أبي على مذبح الآلهة، أما أنا فسأذبح على أدنأ عرش. على أن الآلهة لن يتركوا موتي من غير أن يثأروا له. عما قريب سيعود ذلك الذي يوقع بها العقاب، ابن قاتل لأمه،
12
منتقم لأبيه، يعاني الآن آلام النفي، طريد في غير هذه الأرض، ولكنه سيعود ليتم شقاء هذه الأسرة، ليردنه إلى داره ما يستنزل أبوه المحتضر على المجرمين من سخط. علام آسف هنا وأنا غريبة نازح؟ لقد رأيت ما كتب القضاء على تروادة، وإن الذي أعده القضاء لمن انتصر عليها لجور من السماء. ألا فلنستقبل الموت، فقد أقسم به الآلهة علينا قسما منكرا لا حنث فيه. أي أبواب الجحيم، ألا فلتفتحي؛ فإني أدعوك. لعل ضربة واحدة ترزقني الموت! لعل دمي يسيل أمواجا، ولعل عيني تغمضان من غير ألم. (ثم تعجب الجوقة بها وترثي لها، وتستنزل هي السخط على قاتليها وتنبئ بقتل أجاممنون، وتسرع إلى القصر مقدمة نفسها إلى القتلة لأنها قد وثقت بأن ليس لها مفر من الموت.) (وتتغنى الجوقة شقاء الإنسان وما يلقى أبناء أترية من سوء العاقبة.) (وإنها لفي ذلك؛ إذ تسمع صوت أجاممنون، وقد عمل فيه سلاح القتلة. فتفزع لذلك وتتساءل أتدعو الشعب إلى الثورة، أم تفزع لنصر الملك؟ ولكنها تضيع الوقت بالتردد والاستشارة.)
المنظر الخامس (الجوقة - كلوتيمنسترا)
كلوتيمنسترا :
إلى الآن لم أكن أتكلم إلا لغة تناسب حالي، أما الآن فلن أخجل من أن أستبدل من هذه اللغة لغة أخرى. لقد كنت أريد أن أنتقم من عدو، كنت أزعمه علي عزيزا، فوجب علي أن أحتال، لأوقعه في الشرك. لم أعد هذا العمل اليوم، وإنما هو قديم، كبغضي لهذا العدو، لقد حان حين الانتقام. لقد وصل العدو إلى حيث كنت أنتظره، ولقد كان كل شيء مهيأ، لا أجحد ما فعلت، لقد كان من العجز بحيث لم يستطع أن يهرب، أو أن يدافع عن نفسه، لقد لففته في حلة فاخرة، كما يؤخذ السمك في شبكة ليس له منها مخرج، لقد ضربته ضربتين، ولقد أن أنتين، ثم انحنت به ركبتاه، فخر صريعا، ثم تقدمت إلى آلهة الجحيم بضربة ثالثة، قذفت به إلى حيث تقيم الظلال. لقد لطخني دمه، كأنه ندى الموت، استمتعت به كما تستمتع الأرض بقطر السماء، حين توشك حباتها أن تنبت. هذا ما فعلت، ليرضكم ذلكم أيها الشيوخ أو يسخطكم؛ فأنا به راضية فاخرة. وددت لو قدمت إلى الآلهة القربان على جسمه! إذن لفعلت ولكنت عادلة. لقد شرب هذا الجبار القاسي - عند عودته إلى القصر - هذه الكأس التي كان قد ملأها إثما وجورا. (تنكر عليها الجوقة ما عملت وما قالت، فتجيبها فاخرة غير حافلة فتنذرها الجوقة بالنفي والسخط.)
كلوتيمنسترا :
تقضون علي بالنفي، وبلعن الأرجين، وسخط الشعب، من غير أن تنطقوا بكلمة قضاء على هذا المجرم الذي ضحى بابنتي وثمرة حبي ليهدئ الريح العاصفة، غير مفرق بينها وبين أي ضحية تؤخذ من المرعى؟ ألم يكن من الحق عليكم أن تقضوا عليه بالنفي لتعاقبوه على إثم كهذا؟ ولكنكم إنما تقضون علي وحدي وتظلمونني. أنذروا فإني قابلة نذيركم، فإذا استطعتم أن تقهروني فأنا خاضعة مطيعة، وإن أبت عليكم السماء، فستعلمون ولكن بعد أن سبق السيف العذل، كيف تقصدون وتأخذون أنفسكم بالاعتدال.
الجوقة :
إنك فيما تدبرين وفي ما تنطقين لتحقرين كل شيء لا تسعين إلا إلى القتل، إن الدم لينبجس من عينيك الملتهبتين، لتموتن عقابا على ما جنيت من موت.
كلوتيمنسترا :
لتسمعن هذا القسم: أقسم بهذا الانتقام ثأرت به لابنتي، أقسم بالجحيم وآلهة الانتقام الذين تقربت إليهم بهذا الوحشي لا سلكت سبيل الخوف، ما حفظ لي الحب - إيجستوس - هذا النجم يضيء في قصري، إنه لدرقتي، منه أستمد شجاعتي.
إليكموه صريعا في التراب، هذا الذي أبكاني غير قليل، عشيق كرزييس، وإلى جانبه الأسيرة، تلك النبية تلهمها الآلهة، عشيقته الحنون، كانت تقاسمه السرير في سفينته، بأعين البحارة! لقد لقيا ما كانا يستأهلان من جزاء، أحبب إلي بأن أراه كما هو الآن! وتحت قدميه تلك التي أحبها أشد الحب، هذه الإوزة التي تغنت موتها فأحسنت التغني، هذه التي قادها إلى القصر لتتم له ما يمنحه سرير زوجه من لذة ناقصة! (ثم تتغنى الجوقة سوء عاقبة أجاممنون، ويشتد الحوار بينها وبين كلوتيمنسترا، تلك تلوم، وهذه تتقي اللوم، وتتنبأ الجوقة بأن المجرم لاقى جزاء ما صنع، ويأتي إيجستوس فيشتد الجدال بينه وبين الجوقة حتى يهم أن يأمر بالقبض عليها، ولكن كلوتيمنسترا تنصح لها بالانصراف، وتشير على إيجستوس بالحلم والأناة.)
المتقربون
الأشخاص
أورستيس.
بولاديس.
الجوقة:
تتألف من آباء.
إلكترا:
بواب.
كلوتيمنسترا.
جوليس:
مرضع أورستيس.
إيجستوس.
ضابط من القصر.
أرجيون.
تقع القصة في أرجيوس بين قصر أجاممنون وقبره.
أورستيس واقف إلى قبر أبيه يدعوه ويستعين الآلهة على الانتقام له فيرى نساء قد أقبلن يحملن أنواعا من القربان، ويعرف فيهن أخته إلكترا فيستحفي ومعه بلاد، ليعلم علمهن.
الفصل الأول
المنظر الأول (الجوقة وإلكترا)
إلكترا :
قد أمرني سادة هذا القصر؛ فأنا أحمل القربان، تتوالى الضربات التي أنال بها صدري، تسيل الدماء من خدي وقد تركت أظافري فيهما آثار الخمش. تغذي الزفرات قلبي، وتعلن هذه الثياب الممزقة، وهذا النقاب الممزقة على صدري العاري ما يملأ نفسي من ألم.
لقد زارت آلهة الفزع - ابنة الحلم ذات الشعور المنتثرة - مستقر النساء من هذا القصر منذرة بالانتقام، فملأته خوفا وهولا، وقطعت هذا الصمت المطلق، صمت الليل بالصياح والعويل. وأعلن الكهنة عن الآلهة أن نفوس الموتى قد ملأها السخط، فهي تتحفز للإيقاع بالقتلة.
أيتها الأرض، أيتها الأرض، إنما تتقدم إليك هذه الزوج (وهل أستطيع أن أنطق بهذا الاسم) إنما تتقدم إليك هذه الزوج بما أحمل من قربان لتتقي شر هذا النذير! قربان لا نفع فيه. فكيف تغسل ما سفكت من دم؟! يا لك من بيت تعس! ... ومستقر منكود! لن تشرق لك الشمس! إن الظلمة لتحيط بك منذ قضى سيدي.
لقد قضى هذا الملك القوي لا يقهر، تملك جلالته القلوب، إن الخوف اليوم لسائد متحكم.
إن السعيد في هذه الأرض لإله أو أكثر قوة من إله. ولكن العدل لا يلبث أن يوقع بالمجرم. يوقع به عنوة، في ضوء النهار، أو في الأصيل أو دون أستار الليل. لقد شربت الأرض الخصبة كثيرا من الدماء، فما أسرع ما نبت فيها الانتقام، وعما قريب ستتفتح أزهاره. إن الجريمة لمقترفها ينبوع آلام لا تقدر قسوتها، لا رحمة لمن ازدرى هذا المكان المقدس، مكان الزواج، فلو اجتمعت أنهار الأرض كلها على أن تغسل هذا الدم المسفوك - دم الزوج الشهيد - لما استطاعت أن تمحوه.
أما أنا فقد قضى علي الآلهة أن أعيش، يحيط بي ما ألم بوطني من نكال ودمار، بعد أن نزعت من قصر أبي وأكرهت على حياة الأرقاء، فعلي أن أكظم ما يملأ قلبي من بغض، وأن أحتمل ما يأمر به الطغاة من عدل أو جور. فإذا خلوت إلى نفسي، واستسلمت لما يملكني من حب الانتقام، ملكتني هذه العبرات أذرفها على موت أبي.
الفصل الثاني
تستشير إلكترا الجوقة فيما عسى أن تطلب إلى أبيها وإلى الآلهة حين تقدم القربان. فتشير عليها بالدعاء لنفسها وأخيها وأصدقائها، واستنزال السخط على كلوتيمنسترا وإيجستوس، وطلب التعجيل في الانتقام.
إلكترا :
أي هرمس السفلي، إني لضارعة إليك في أن تنبئني بأن دعائي قد تقبله آلهة الجحيم - الذين يسودون حيث يقيم أبي - قبولا حسنا، وإن قد قبلته الأرض نفسها، هذه التي تلد وتغذو ثم لا تلبث أن ترد كل شيء. أي ابني إني أدعوك حين أصب هذا الشراب، أقدمه إلى الموتى، ألق علي وعلى أورستيس نظرة رحمة وإشفاق، ردنا إلى قصرك. فنحن الآن طريدان، قد خانتنا تلك التي منحتنا الحياة.
لقد أعطت سريرك إيجستوس شريكها في قتلك. إني لأمة وإن أورستيس لطريد معدم، بينما يهنأ المجرم وحده بآثار مجدك وجهدك في لذة دائمة وصفو غير مقطوع. قد أورستيس إلى هذا المكان وقدر له النصر. اسمع صوتي، وا أبتاه! هبني قلبا أعف من قلب أمي، ويدين أطهر من يديها، ذلك ما أسألك لولدك.
أما أعداؤك، فاظهر لهم مسلحا منتقما. تعال أذقهم الموت، كما أذاقوك إياه. ذلك ما أتمناه عليك، فتقبله وأصغ إليه. ليعنك على ذلك آلهة الأرض والانتقام. فتقبل مع هذه الدعوات، ما أصب على قبرك من شراب. (ثم تسقي القبر وتلتفت إلى الجوقة)
أما أنتن فأسمعن أنينكن، كما جرت العادة. (فتتغنى الجوقة ألمها وتسقي القبر بدموعها ولا تلبث إلكترا أن تلاحظ خصلة من الشعر تشبه شعرها فيتقسمها الخوف والرجاء لأنها ترى فيها شعر أورستيس.) (ثم يقبل أورستيس وبولاديس ويتعرف إلى إلكترا والجوقة فتعرفانه، فيشكون جميعا ويبكون وينذرون ويحذرون ويستنزلون سخط الآلهة والموتى على القتلة، ويستعينونهم على الانتقام. ويسأل أورستيس عن مصدر هذا القربان فتنبئه الجوقة بأن أمه رأت فيما يرى النائم كأنها ولدت حية، فلما أرادت إرضاعها، رضعت لبنا ودما، فهي خائفة حذرة تتقي بهذا القربان ما ينذرها من شر. فيعلن أورستيس أنه هذه الحية وأن هذا الحلم واقع من غير شك. ثم يدبرون أمرهم، فيوحي أورستيس إلى أخته أن تذهب إلى القصر فتخدع الناس وتعلم علمهم، وإلى الجوقة أن تصلي وتدعو الآلهة، بينما يطرق هو وصاحبه باب القصر كأنهما غريبان يحملان إلى كلوتيمنسترا موت ابنها.) (ثم ينصرفون وتبقى الجوقة فتتغنى الحب وسوء آثاره؛ فهو الذي يحمل الإنسان على اقتراف الجرائم وتضرب لذلك الأمثال وتتعجل الانتقام.)
الفصل الثالث
يطرق أورستيس باب القصر سائلا عن سيده، فتأتيه كلوتيمنسترا فيزعم لها أنه غريب أقبل من فكيس ينبئ بموت أورستيس، ويريد أن يعلم أيجب نقل رماده إلى أرجوس أم تركه حيث هو، فتظهر إلكترا الجزع وتخفي كلوتيمنسترا السرور. ثم تأمر الخدم أن يضيفوا الغريبين. وبينا تتغنى الجوقة راجية معونة الآلهة ممنية نفسها بالانتقام تقبل جوليس مرضع أورستيس فتنبئ بأنها قد أرسلت في طلب إيجستوس، وتنصح لها الجوقة أن تحمل هذا الطاغية على أن يجيء وحيدا لا حرس له. فتطيع وتتمنى الجوقة على الآلهة النصر والثأر للقتيل المظلوم.
الفصل الرابع
يقبل إيجستوس فيعلن ما بلغه من موت أورستيس ويدخل إلى القصر، فما أسرع ما يسمع صراخه وقد ناله سيف أورستيس ويخرج من القصر عبد يتوجع معلنا موت سيده، طارقا باب مستقر النساء، داعيا كلوتيمنسترا ومنذرا لها بالخطر.
كلوتيمنسترا :
ماذا؟ ما مصدر هذا الصياح؟
العبد :
إن الذين زعموا لنا موتهم، قد قتلوا الأحياء.
كلوتيمنسترا :
يا للآلهة! إني لا أفهم هذا اللغز. إن المكر ليغتالنا بعد أن أعاننا قديما ... علي بالسلاح ... ما دمت مضطرة للدفاع عن نفسي، فلنر لمن النصر.
المنظر الاول (الجوقة - كلوتيمنسترا - أورستيس وفي يده السيف)
أورستيس :
إني لأبحث عنك، فقد نال إيجستوس جزاءه.
كلوتيمنسترا :
ويلاه! إني لشقية! أيها العزيز إيجستوس، ها أنت ذا قد قضيت!
أورستيس :
أكنت تحبينه؟ إذن فسيضمكما قبر واحد، ظلي أمينة له إلى الموت (ثم يمسكها ويحاول قتلها) .
كلوتيمنسترا :
أمسك يا بني! اذكر حرمة هذا الصدر الذي استرحت إليه أكثر من مرة، والذي تناولت منه غذاءك.
أورستيس (وقد أمسك والتفت إلى بولاديس) :
أي بولاديس ماذا أصنع؟ أأستطيع أن أقتل أمي من غير أن ترتعد فرائصي!
بولاديس :
أين وحي بوثو
1
وأين ما قدمت من إيمان! لا تخش عدوا إلا الآلهة.
بولاديس (بعد صمت) :
إنك لظافر، وإن نصحك لرشيد ... (ثم يتحدث إلى كلوتيمنسترا وقد أخذ بيدها)
اتبعيني؛ لأنحرنك إلى جانبه (ويشير إلى حيث يظن أن إيجستوس قد قتل)
لقد آثرته حيا على أبي، فليجمع الموت بينك وبينه، أنت التي خادنت هذا الخائن، وعادت زوجها! ...
كلوتيمنسترا :
لقد غذوت طفولتك ، فاستبق شيخوختي.
أورستيس :
لقد قتلت أبي، أفأستطيع أن أحيا إلى جانبك؟
كلوتيمنسترا :
إن القضاء يا بني، قد فعل كل شيء.
أورستيس :
إن القضاء أيضا هو الذي سيعطيك الموت.
كلوتيمنسترا :
يا بني احذر أن تلعنك أمك.
أورستيس :
أمي؟ ... أنت التي تركتني نهب الشقاء.
كلوتيمنسترا :
لم أتركك إلا إلى صديق أمين.
أورستيس :
لقد بعتني، وأنا ابن رجل حر.
كلوتيمنسترا :
وأين الثمن الذي تتقاضينه؟
أورستيس :
الثمن! يخجلني أن أذكره ...
كلوتيمنسترا :
اذكره، ولكن اذكر أيضا خيانة أبيك.
أورستيس :
أكان لك محبوبة في هذا القصر، إن تتهمني بطلا بعدت بينك وبينه الشقة.
كلوتيمنسترا :
أي بني، إن غياب الرجل عن زوجه لمؤلم لها.
أورستيس :
ولكن الزوج الغائب لا يعمل إلا لها.
كلوتيمنسترا :
أي بني، إذن فأنت تريد أن تقتل أمك.
أورستيس :
لست قاتلك، وإنما تقتلين نفسك.
كلوتيمنسترا :
فكر في ذلك؛ فإن كلابا مفترسة ستنتقم لهذه الأم.
أورستيس :
ألا تنتقم هذه الكلاب لهذا الأب إن نسيته؟
كلوتيمنسترا :
عبثا ما أذرف من الدمع على حافة القبر ...
أورستيس :
إن آخرة أبي قد استتبعت آخرتك.
كلوتيمنسترا :
ويلاه! لقد ولدت وغذوت هذه الحية! أيها الحلم ما كنت إلا حقا!
أورستيس :
لقد قتلت زوجا، فسيقتلك ابن. (ثم يجرها خارج المسرح. وتتغنى الجوقة إشفاقها على أورستيس من انتقام الآلهة.) (تفتح أبواب القصر، ويظهر جسم كلوتيمنسترا وإيجستوس صريعين، ويأتي أورستيس ويحضر الخدم الثوب الذي ظهر فيه أجاممنون قتيلا.)
الفصل الخامس
تتغنى الجوقة الظفر والانتصار، ويعلن أورستيس سروره ثم يأمر أن يبسط ثوب أجاممنون فيألم الناس له، وينظر هو مرة إلى الثوب ومرة إلى أمه فيأخذه الاضطراب ويشعر بشيء من الذهول، وإنه ليتساءل أأحسن في الانتقام لأبيه، أم أساء في قتل أمه إذ يأخذه الجنون. فيرى كلابا مفترسة تطوقها الحيات، قد أقبلت عليه، وهي آلهة الانتقام فيخرج هائما على وجهه.
الأومينيديس
الصافحات
الأشخاص
كاهنة دلف.
أبلون.
أورستيس.
الجوقة:
تتالف من آلهة الانتقام.
روح كلوتيمنسترا.
أثينا.
أعضاء الأريوباجيتيس
1 .
وأهل أثينا:
نساء وشيوخا وأطفالا.
يقع الفصل الأول والثاني من القصة في دلف، ثم تقع بقية القصة في أثينا بمعبد أثينا أولا ثم على تل أريس.
الفصل الأول (يمثل المسرح مدخل دلف)
في المنظر الأول تظهر كاهنة أبلون مصلية متقدمة بالدعاء إلى الآلهة جميعا وإلى أبلون خاصة ذاكرة مزاياه وفضائله، ثم تدخل المعبد لتستشير الإله، ولا تلبث أن تخرج منه فزعة مضطربة؛ لأنها رأت أورستيس قد لزم المذبح مستجيرا، ومن حوله آلهة الانتقام في أشكال نساء سود مريعات، قد أخذهن النوم.
المنظر الثاني (أورستيس وآلهة الانتقام نائمات وأبلون)
أبلون (إلى أورستيس) :
لن أتركك أبدا، لأحمينك، قربت مني أو بعدت، وليشعرن أعداؤك آثار غضبي. أترى إلى هؤلاء الجريئات، قد غلبهن النوم وكدهن الإعياء، هؤلاء النساء المتقدمات في السن بنات بغيضات لا يقربهن الناس ولا الآلهة ولا الحيوان، ولدن ليكن مصدر الشر، مقتتهن الأرض والسماء فهن يسكن الظلم وأعماق ترتاد، اهرب وانتهز الفرصة، وإلا طاردتك في كل مكان، في الأرض والسماء، وعلى أمواج البحر، أسرع فاتق هذا العذاب. أسرع إلى مدينة بلاس
2
والتزم هذه الصورة القديمة، صورة الآلهة. هناك نجد قضاة، وهناك أدافع عنك فأنقذك أبد الدهر من هذه الآلام. علي ذلك فأنا الذي أمرك أن تقتل أمك.
أورستيس :
أي أبلون القوي، إنك لتعلم أن يدي حين ضربت لم تكن جائرة، فكر إذن في أن لا تتركني، فلي في سلطانك ومعونتك الكفاية.
أبلون :
اذكر ما قلت لك ولا تخش شيئا. وأنت، أيها الأخ، ابن ذوس، فتول حراسته. كن عند ما يدل عليه اسمك، هرمس القائد، وفد هذا الجار الذي لجأ إلي. إن ذوس نفسه ليعرف حق المستجيرين، هذا الحق الذي أقامه القدر حماية للناس. (ثم يخرجون.)
الفصل الثاني
المنظر الأول
ظل كلوتيمنسترا قد ظهرت فيه آثار الضربات التي نالتها من أورستيس، وآلهة الانتقام نائمات.
الظل :
أتنمن، أي آلهة الانتقام؟ أهذا عملكن؟ أتنمن بينما أهيم على وجهي بين الموتى أعير ما اقترفت من قتل وقد أعرضتن عن الثأر لي. ثقن بأنهم يعاقبونني على ذلكن عقابا قاسيا، أما أنا فقد عوملت أقصى معاملة من أعز الناس علي، فلم أجد من الناس ولا من الآلهة من يغضب لي. لتنظر أرواحكم إلى هذه الجراحات؛ فإن الروح مبصر أثناء النوم، أعمى أثناء اليقظة. كم سقيتكن شرابا لا نبيذ فيه، قربانا ليس بالفخم، ولكنه محبب إليكن؟ ولم دعوتكن إلى مقاصف ليلية بالقرب من ناري المقدسة حين لا تدعى آلهة أخرى؟ إنكن لتطؤن بالأقدام اليوم ما قدمت إليكن من كرامة. يفوتكن المجرم هاربا كما يلفت الظبي من صائده، لقد فر من الشرك وهو الآن يزدريكن. اسمعن إلى هذه الشكاة يرفعها إليكن ظلي، أيتها الآلهة، آلهة الجحيم، استيقظن. إن التي تدعوكن في الحلم هي كلوتيمنسترا ... (وهنا يسمع غطيط)
أتنمن؟! ... ومع هذا فهو يبتعد. وآلهة كلوتيمنسترا وحدهن لا يصغين إلى جارتهن! (يسمع غطيط من جديد) .
آه! ما أكثر ما تنمن، وما أقل ما تعطفن علي! أيفلت من أيديكن قاتل أمه أورستيس (وهنا تصيح الجوقة صيحات مختلفة) .
إنكن لتصحن نائمات، أما آن لكن أن تستيقظن، أقضي عليكن ألا تعملن إلا شرا (تصيح الجوقة من جديد)
إن النوم والإعياء قد اتفقا على أن يخمدا حياتكن المهلكة.
الجوقة (وهي لا تزال نائمة) :
قف! قف! قف! ... احذر.
الظل :
إنكن لتتبعنه في الحلم، كحيوان الصيد، قد شغلته فريسته، إنكن لتصحن صيحات غير متمايزة. ماذا تعملن؟ اهببن، واقهرن التعب، واعرفن ما سيكلفكن النوم. ليخترق هذا اللوم العدل إلى أنفسكن؛ فإن اللوم محرض الحكيم ... لا تبعثن في الهواء من غير نفع ولا جدوى أنفاسكن الدموية، وهذه النيران الملتهبة تتصاعد من أحشائكن ... اتبعن المجرم، ليستهلكه عذاب جديد. (تستيقظ الجوقة ويستخفي الظل.) (ثم تستيقظ الجوقة فتأسف وتندم وتلقي على أبلون تبعة ما كان من إفلات أورستيس، ويأتي أبلون فيطردهن من معبده مدافعا عن أورستيس، ويشتد بينه وبينهن الحوار حتى ينصرفن.)
الفصل الثالث
يتغير المسرح فيمثل من جهة معبد أثينا ومن الجهة الأخرى الأريوباج وتل أريس.
يظهر أورستيس معانقا تمثال الآلهة لاجئا إليها، وتأتي آلهة الانتقام، فتنذره وتهدده، فيدافع عن نفسه ويعتصم بأبلون وأثينا. وتتغنى الجوقة حرصها على الانتقام وقدرتها عليه وأن ليس من الجناة والمجرمين من يستطيع أن يفلت منها.
الفصل الرابع
الجوقة وأورستيس بحيث كان في الفصل الماضي. وتأتي أثينا على عجلة تمشي في الهواء. فتسأل عن هذا الجمع وهذا الغريب يعانق تمثالها. فتذكر الجوقة لها القصة وأنها تريد الانتقام لكلوتيمنسترا وأنها ترضى بالآلهة حكمة فتسأل أثينا أورستيس عن شأنه، فيقصه عليها ويزعم أنه لم يقتل أمه إلا انتقاما لأبيه، على أنه قد قدم من الضحايا ما يغسل يده من هذا الدم.
فتشعر الآلهة صعوبة القضية، وأنها وحدها لا تستطيع الفصل فيها؛ إذ هي لا تريد أن تسلم جارها إلى من يريد به الشر، ولا أن ترد رجاء المنتقمات، فيملأن الأرض شرا ووباء. فتعلن أنها مؤلفة من أهل أثينا مجلسا يحكم في هذه القضية حكما عدلا. وتطلب إلى كلا الخصمين أن يعد أدلته وشهوده. وتتغنى الجوقة حرصها على الانتقام وخوفها أن يفلت منه المجرمون، فتفسد الأرض وتنقطع الصلات بين الناس.
الفصل الخامس
المسرح على تل أريس حيث كان يجتمع الأريوباج، وتعود أثينا يتبعها الشيوخ الذين يؤلفون مجلس الحكم ويتبعها شعب الأثينيين رجالا ونساء. والصائح الذي يقوم في المجالس العامة.
المنظر الأول (أثينا - أعضاء الأريوباج - الأومينيديس - أورستيس - الشعب - الصائح العام)
يجلس القضاة وترأسهم أثينا.
تأمر أثينا الصائح أن يحتفظ بالنظام ويد الشعب إلى حضور النجوى، ويأتي أبلون فتسأله الجوقة فيما جاء، فينبئ بأنه أقبل يحمي جاره ويطلب إلى أثينا البدء في المقاضاة.
أثينا :
علي بالقضية (إلى الأومينيديس)
لكن الكلمة. فللمدعي أن يبدأ بالكلام وأن يعلن دعواه.
الجوقة :
نحن كثيرات، ولكننا سنوجز في القول (إلى أورستيس)
أما أنت فأجب على ما يلقى عليك من مسألة، أحق أنك قتلت أمك؟
أورستيس :
قتلتها، لا أنكر ذلك ولا أجحده.
الجوقة :
إنا لننتصر. هذا مصارعنا قد خر لأول مرة.
أورستيس :
إنكن لتسرعن إلى الفخر، قبل أن يدركه الإعياء.
الجوقة :
أجب أيضا! كيف قتلتها؟ ...
أورستيس :
طعنتها هذه اليد بخنجر في صدرها.
الجوقة :
من نصح لك بذلك؟ ومن الذي حثك عليه؟ ...
أورستيس :
وحي أبلون، هذا الذي أستشهده.
الجوقة :
وحي أبلون! ... أيأمر الإله النبي قتل الأمهات !
أورستيس :
أجل، وما لي أن أتهم في ذلكن الحظ.
الجوقة :
لتغيرن لهجتك، حين ينالك عدل هؤلاء القضاة.
أورستيس :
أنا آمن مطمئن؛ فإن أبي يدافع عني من أعماق قبره.
الجوقة :
أي قاتل أمه، أتعتمد على الموتى!
أورستيس :
لقد دنست نفسها بجريمتين.
الجوقة :
كيف أثبت ذلك أمام القضاة.
أورستيس :
لقد قتلت زوجها وأبي.
الجوقة :
لقد كفر موتها عن كل شيء، أما أنت فلا زلت حيا.
أورستيس :
فهل تبغننها بالانتقام أثناء حياتها؟
الجوقة :
إن الذي قتلته لم يكن من دمها.
أورستيس :
وهل أنا إذن من دم أمي؟
الجوقة :
ماذا؟ ألست من دم تلك التي غذتك أحشاءها أيها المجرم؟! أتجحد دم أمك؟!
أورستيس :
أي أبلون، اشهد، وأعلن إلى القضاء، ألم أقتلها عدلا؟ لا أستطيع أن أنكر أني قاتلها، ولكن أترى هذا عدلا أم جورا، أجب فإن جوابك يكون دفاعا عني.
أبلون :
أيها المجلس المقدس، مجلس الحكم، ترأسه أثينا، لأعلنن إليك الحق وما كان الإله النبي ليكذب.
ما أوحيت قط من عرشي إلى رجل أو امرأة أو مدينة إلا ما ألهمني إياه كبير الآلهة، فانظروا مقدار شهادتي. أطيعوا إرادة أبي؛ فليس من قسم ما يفوقه أو يعلو عليه.
الجوقة :
إذن فأنت تزعم أن ذوس قد أوحى إليك أن تأمر أورستيس بأن لا يحفل بحقوق أمه؟
أبلون :
من غير شك، وهل يقرن قتل امرأة إلى اغتيال بطل لم ينل صولجانه إلا من يد ذوس، قد نحرته امرأته، لم تضربه ضربات شريفة كضربات الأمزون - فإن من الحق أن تعرف ذلك أثينا والقضاة الذين اختارتهم - وإنما اغتالته عائدا من الحرب حيث انتصر أكثر من مرة، اغتالته بعد أن تلتقه لقاء ملؤه المكر والخديعة، اغتالته في حمامه، متورطا في هذا الثوب - لا منفذ فيه - الذي كانت أعدته لذلك خصيصا، هذه آخرة هذا الرجل العظيم الذي قاد ألف سفينة، إنما قصصتها لتمتلئ قلوب القضاة سخطا على قاتله.
الجوقة :
إذن فأنت تزعم أن ذوس يؤثر تشريف الآباء، ومع هذا فقد غل أباه كرتوس. أليست سيرته تناقض قولك؟ أيها القضاة الذين يسمعون لنا، إنما أشهدكم.
أبلون :
أيتها الوحوش البغيضة تمقتها الآلهة! ... إن من اليسير أن يخرج المرء من أغلاله ألف طريقة تسلك إلى هذا، ولكن الرجل إذا هلك وشربت الأرض دمه، فليس استرجاعه بميسور. إن أبي لم يخلق شيئا يقي شر الموت، وهو مع هذا كله يملك أمر هذا العالم، فيستطيع أن يقلبه رأسا على عقب.
الجوقة :
انظر إلى جورك حين تدافع عن هذا المجرم.
أيسكن في أرجوس منزل أبيه، بعد أن سفك دم أمه، هذا الدم الذي أحياه؟ من أي معبد عام يستطيع أن يقترب؟ وأي جماعة تسمح له أن يشاركها في التقرب إلى الآلهة؟
أبلون :
اسمعوا لما سأقول واعرفوا ما فيه من حق. ليست المرأة خالقة ابنها، وإنما هي تغذو الحبة تبذر في أحشائها.
إن الأب هو الذي يخلق، أما المرأة فإنما تقبل الثمرة كأنها مؤتمن غريب، وهي تحتفظ بها إن رضي بذلك الآلهة. فأما دليل ما أزعم، فهو أن الرجل يستطيع أن يكون أبا من غير أن تكون هناك صلة بينه وبين امرأة، وآية هذا ابنة إله ألمبوس، هذه التي لم تنشأ في ظلمة الرحم. وأي إلهة كانت تستطيع أن تأتي بولد يدانيها كمالا؟ أي بلاس، لأبذلن ما استطعت من قوة في تعظيم شعبك ومدينتك. لقد بعثت إلى معبدك هذا الضارع المستجير ليكون أبد الدهر لمدينتك صديقا وفيا. أيتها الآلهة، اتخذي منه ومن ذريته حلفاء مخلصين ... ليكن هذا الاتحاد أبديا ولتعرف حقه الأجيال المقبلة.
أثينا :
حسب الخصمين كلاما. ليعط كل قاض صوته بما يوحي به إليه العدل.
الجوقة :
لقد استخدمت كل ما أملك من سلاح، فلننظر ما عاقبة المعركة.
أثينا :
كيف أستطيع هنا أن أبرأ من كل لوم؟
الجوقة :
يا معشر الأثينيين، لقد سمعتم كل شيء، فارعوا أيمانكم حين تقضون. (ثم تأمر أثينا أن يكون هذا المجلس الذي أنشأته خالدا في أثينا، يعدل في عقاب المجرمين. ثم تدعو إلى أن يعطي كل صوته، عادلا منصفا.)
الجوقة :
احذروا أن تخالفوا أمر آلهة الجحيم، هذه نصيحتي لكم.
أبلون :
أما أنا فآمركم أن تجلوا وحي ذوس وأبلون وألا تجعلوه عبثا. (ثم يشتد الحوار بين الجوقة وأبلون، كل ينذر صاحبه حتى تعلن الجوقة أنها تنتظر الحكم؛ فإن لم يرضها فويل للأثينيين من غضبها.) (فتعلن أثينا أنها لا تحفل بهذا الوعيد وأنها ترى براءة أورستيس فإذا استوت أصوات القضاة رجحت صوت مبرئيه؛ ذلك لأنها ليس لها أم، فهي تؤثر إكرام الآباء ولا تحفل بالأمهات.) (وتأمر بعد الأصوات، فتتساوى ويبرأ أورستيس، فيعلن شكره للآلهة وشعبها وأن الحرب والعداء لن يسودا بين أثينا وأرجوس، ثم ينصرف.) (فيطول الحوار بين الجوقة وبين أثينا، تألم الجوقة وتنذر، فتتلطف لها أثينا وترغبها، فلا تزداد إلا سخطا. هنالك تنصح لها أثينا أن تعدل عما أزمعت من الكيد للأثينيين، على أن تقام لها معابد الإجلال والكرامة فترضى. ويتغنى النساء مجد أثينا واسترضاء آلهة الانتقام.)
حياة سوفوكليس
1
ليست الصورة الأدبية التي حفظها التاريخ لسوفوكليس بمباينة كل المباينة، ولا بموافقة كل الموافقة، لما قدمنا من صورة أيسكولوس؛ فبين الرجلين من التشابه في بعض الصفات ما يخيل إليك أن ليس بينهما من فرق، وبينهما من التباعد ما يخيل إليك أن ليس بينهما من صلة. وحياة الرجلين والظروف الخاصة التي أحاطت بهما هي مصدر هذا الاختلاف والاتفاق الشديدين كما سيظهر لك بعد حين.
ولد سوفوكليس بن سوفيلوس في قرية «كولونا» بالقرب من أثينا سنة سبع أو خمس وتسعين وأربعمائة قبل المسيح. ولسنا نعرف من حياته الأولى شيئا كثيرا، ولكن إلمامنا بما كان يسلك الأثينيون إلى تربية أبنائهم في هذا العصر من طريق، ونصوصا قليلة حفظها التاريخ يدلنا بعض الدلالة على نشأة سوفوكليس، وقد روى مؤرخوه أنه كان حسن الصورة جميل الخلق رشيق الحركة خفيفها ظريفها متأنقا في كل شيء، وتدلنا آثاره الأدبية على أنه قد جمع إلى هذه الصفات رجاحة العقل وشدة التؤدة والرزانة، وشيئا غير قليل من الاحتفاظ بالعادات الموروثة والآثار الدينية، فكان محبا للآلهة يجلهم ويتقيهم وينزلهم من نفسة منزلة ملؤها الكرامة، فإذا أردنا أن نعرف مصدر هذه الحياة التي التأمت فيها هذه الصفات المتباينة والخصال المتناقضة عرفنا أن سوفوكليس قد خضع منذ طفولته لمؤثرين مختلفين كل الاختلاف: الأول حياة القرى، والثاني حياة المدينة؛ فقد ولد في «كولونا» وهي قرية كان لها ما لغيرها من قرى أتيكا في هذا العصر من التمسك بالقديم والحرص على العادات الموروثة وعدم الكلف بالحياة اللينة والعيش السهل، فنشأ في أول أمره نشأة قروية خشنة بعض الخشونة، ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى المدينة فتأثر بما فيها من لين العيش ونعومته ومن خفض الحياة وسهولتها ولا سيما في هذا الوقت الذي كانت قد وصلت فيه أثينا إلى شيء من الرقي المادي والمعنوي لم تعهده من قبل.
فهذان النوعان المختلفان من حياة القرية والمدينة تعاونا على أن يكسباه جسما قويا متين البنية ولكنه رشيق الحركة، وعقلا راجحا ولكنه مع ذلك سريع التنقل إلى الموضوعات المختلفة، لا يكاد يلم بموضوع حتى يأخذ منه خلاصته كالنحلة تنتقل في الرياض من زهرة إلى زهرة فتجتني رحيقها عذبا سائغا؛ ومن هنا جمع سوفوكليس في حياته المادية بين القوة والرشاقة، وفي حياته المعنوية بين الجد والفكاهة، فأصبح أحسن مثال لهذه الأرستقراطية الأدبية التي عاشت في أثينا إبان القرن الخامس قبل المسيح، فصورت الحياة اليونانية صورة خاصة عرفت في اصطلاح العلماء والأدباء باسم التأتك أو الحياة الأتيكية.
هذه الحياة الأتيكية هي المثل الأعلى لحياة الأمة اليونانية في كل شيء، نقول لحياة الأمة اليونانية؛ لأنها لم تقتصر على أهل أتيكا بل تجاوزتهم إلى غيرهم من يونان أوروبا وآسيا وأفريقيا، ونقول إنها كانت المثل الأعلى للحياة اليونانية في كل شيء؛ لأنها لم تتناول لونا واحدا من ألوان الحياة، بل تناولت الحياة في جميع فروعها، سواء في ذلك الفلسفة والسياسة والعلم والأدب والفن والاجتماع، فقد كانت أتيكا في القرن الخامس مركزا ينبعث منه الضوء فيشرق على جميع أجزاء العالم اليوناني، ومعملا - إن صحت هذه العبارة - تأخذ فيه نتائج العقل والشعور اليونانيين صورها الحقيقة. فما كان يظهر في جزء من أجزاء البلاد اليونانية عالم أو فيلسوف أو أديب إلا أحس الحاجة إلى أن يرحل إلى أثينا، ليعرض بضاعته على أهلها وينال رضاهم وإعجابهم، وما هي إلا أن ينزل هذه المدينة حتى يتأثر بها ويصطبغ بصبغتها ويصبح أثيني العقل والشعور واللغة، بل أثينيا في زيه ونظام حياته الخاصة، ولعل أصح تعبير عن هذه الاستحالة التي تناله إنما هو التعبير اليوناني؛ فقد كانوا يقولون أتك فلان أي اتخذ ما لبلاد أتيكا من عادة ونظام.
تأثر أيسكولوس بما كان لدميتير في أولوزيس من أثر ديني، فنشأ ورعا ديانا كما قدمنا. أما سوفوكليس فلم تكن القرية التي ولد فيها من شدة التمسك بالدين والحرص على الاحتفاظ به بمكان أولوزيس، ولكنها لم تكن من التهاون به والإعراض عنه بمكان المدن المتحضرة، فنشأ سوفوكليس مقتصدا في دينه، لا معرضا عنه، ولا مسرفا فيه، وسنرى أثر ذلك في حياته الشعرية.
كان أيسكولوس سليل أسرة أرستقراطية تكره الديمقراطية وتنفر منها وإن لم تجهد في ممانعتها وإشهار الحرب عليها. فتأثر بما لهذه الأسرة من عقيدة وخطة سياسيتين، ولم نعرف أنه عني بالأمور السياسية أو اشترك في أعمال الجمهورية ذات الخطر. أما سوفوكليس فلم يكن أرستقراطيا ولم يكن من سفلة الناس، وإنما نشأ في أسرة من أسر هذه الطبقات الوسطى التي تقوم بين الأرستقراطية والدهماء مقام الصلة، فتجمع إليها ما لهاتين الطبقتين من فضيلة؛ لذلك لم يكن سوفوكليس متشددا ولا متعصبا لرأي سياسي إنما كان معتدلا في السياسة، ليس بالديمقراطي المسرف ولا بالأرستقراطي المتعنت. ولئن كان فنه قد استأثر بأكثر وقته فذلك لم يمنعه من أن يبذل فضل ذكائه وحياته العملية للجمهورية؛ فقد انتخب مرتين «ستراتيجوس» أي قائدا من قواد الجيش فقبل الانتخاب ولم يسخط عليه مواطنوه. لم يكن سوفوكليس ذا مطامع سياسية ولكنه لم يكن يهمل السياسة كل الإهمال، ولقد فشل الجيش الأثيني في حملته على سقليا فشلا منكرا حمل الأثينيين على أن يحاولوا تغيير نظامهم السياسي، فانتخب سوفوكليس عضوا في الجماعة التي وكل إليها هذا التغيير، ولكنه لم يلبث أن استقال حين رأى ميل هذه الجماعة إلى الاستبداد بالحكم دون الشعب؛ فهذا يبين لنا مقدار ما كان عليه من توسط في الرأي وبعد عن الإسراف والإفراط.
كان أيسكولوس من هذه الجماعة الأتيكية التي كانت تشهد استحالة أتيكا ساخطة غير راضية، والتي كانت معجبة كل الإعجاب بالقديم قاصدة كل القصد في الرضى عن الحديث، والتي حاربت الفرس فقهرتهم، وكانت تود بعد ذلك لو أعاد لها هذا الانتصار ما كان لها من عزة وسلطان، ولكنها لم تظفر بما كانت تريد فظلت هادئة تتربص الفرص وتتريث مترقبة حوادث الأيام. أما سوفوكليس فقد نشأ إبان هذه الاستحالة فلم يتأثر تأثرا شديدا بآراء شيوخ أتيكا ومحافظيها، وإنما كان شابا يملأه مجد أمته إعجابا وفخرا فيضيف هذا كله إلى هذه الحياة الجديدة التي تناولت كل شيء فغيرته وبدلته ودانت ما بينه وبين الكمال. أتراه بعد انتصار أثينا في «سلامين» شابا لم يتجاوز السابعة عشرة قد رأس طائفة من الشباب يتغنون ويوقعون في حفل أقامه الأثينيون شكرا للآلهة على ما منحوهم من فوز، فهو يتيه ويختال ويظهر من براعته في التوقيع، ورشاقته في الحركة، ومن حسن زيه وجمال منظره ما ينبئ بمكانته في الحياة الأثينية بعد حين، أترى بعد ذلك أنه يمكن أن يميل عن نصر هذا الحديث الذي ملأ شبابه كبرا وإعجابا، والذي استبقى له في شيخوخته من الذكرى ما لم يكن لينساه.
لم نعرف كيف نشأ أيسكولوس؛ لأن نظم التربية في القرن السادس ليست بالواضحة ولا الجلية، ولكنا نعرف أن سوفوكليس لم يكد يتجاوز سن الطفولة حتى روى الشعر القصصي والغنائي وتعرف ما فيهما من جمال، وحتى اختلف إلى أساتذة الموسيقى فأحسن الأخذ عنهم، وأظهر براعته الفنية أكثر من مرة وأنه تردد إلى أماكن الألعاب الرياضية واشترك فيها، فأكسبته من قوة الجسم وجمال الخلق ورشاقة الحركة ما أشرنا إليه آنفا. فهو إذن مدين بحياته المعنوية للأدب والموسيقى وبحياته المادية للألعاب الرياضية. لم يختلف سوفوكليس إلى دروس الفلاسفة ولم يعن بحل المعضلات الفلسفية، ومع ذلك فقد كان فيلسوفا؛ أي إنه يفهم الحياة الإنسانية فهما خاصا معقولا لاءم فيه بين إرادة الإنسان وإرادة القضاء، ولكن هذه الفلسفة ليس لها مصدر إلا الذوق الذي اكتسبه من درس الشعر القديم، وإلا تجربته الشخصية التي كانت تجد من الحياة العامة والخاصة في أثينا حينئذ موضوعا حسنا للبحث والتمرين. هناك شيء لا بد من الإشارة إليه إذا أردنا أن نستقصي المؤثرات التي عملت في تكوين الآثار التمثيلية لسوفوكليس، هو هذه الجماعة الأثينية التي عاشرها الشاعر في جميع أطوار حياته منذ بلغ رشده، ولم يظفر بمعاشرتها أيسكولوس إلا بعد أن تقدمت سنه. كانت هذه الجماعة تمثل أرقى طبقة مفكرة في العالم اليوناني، بل في العالم كله حينئذ، وماذا ترى في جماعة كانت تتألف من سيمون وبيركليس وهيرودوت وفيدياس وألكمين وغيرهم من زعماء السياسة والأدب والفن. أولئك الذين ازدانت بهم أثينا وبلغت بهم أقصى ما قدر لها أن تبلغ من مجد ورقي في كل شيء. كانت هذه الجماعة محبة للحياة كلفة بلذاتها تستمع بها غير مسرفة ولا مغرقة. وكان أحب شيء إليها أن تجتمع إلى الطعام والشراب متجاذبة أعذب الحديث وأطيبه، متنقلة من جد إلى هزل متحاورة متناظرة في أطرف الموضوعات وأظرفها، وفي أشدها للنفوس استهواء وأحسنها في القلوب موقعا، فما أشد تأثير هذه الاجتماعات في ترقية الحوار وتهذيبه وجعله من الرقة والدقة بحيث يلائم هذه العقول التي كانت تفهم فتسرع في الفهم، وتتعمق فيه، وتعبر عما تريد فتنتقي أشد العبارات دلالة عليه، مجتزئة في كثير من الأحيان بالإيماء والإشارة، محملة للجملة الصغيرة أكبر المعاني وأدقها، متفننة في ذلك التفنن كله!
كل هذا تراه واضحا جليا فيما اشتملت عليه قصص سوفوكليس من حوار أو جدال. أضف إلى هذا أن مدينة أثينا في القرن الخامس كانت ملتقى الوفود اليونانية من كل أوب، وأن جماعتها السياسية والقضائية كانت تدرس أجل الموضوعات خطرا مقلبة إياها على جميع وجوهها يتناظر فيها الخطباء وزعماء القول لا يريدون إظهار مهارتهم أو الإعجاب بما كان لهم من قدرة أو تفوق، إنما يريدون المنفعة والإصلاح. فكانت هذه الحركة البرلمانية والقضائية من أشد الأشياء تأثيرا في تحسين المنطق وترقيته من جهة وفي أخذ الخطباء والمحاورين بالقصد والأناة فيما يقولون ويفكرون من جهة أخرى. وأضف إلى هذا وذاك أن العين لم تكن تقع من أثينا إلا على ما يملؤها جمالا وبهجة، فكما أن الخطباء والفلاسفة كانوا يتسابقون إلى الإجادة والاستئثار بنفوس الجمهور، وكما أن القواد وزعماء السياسة كانوا يتنافسون في رفع شأن المدينة وبسط سلطانها، فقد كان زعماء الفن الجميل يبذلون أقصى ما يملكون من جهد في تزيين المدينة وتجميلها والملائمة بين منظرها المادي وجلالها الأدبي والسياسي. فاستحالت المدينة إلى معرض من معارض الفن الجميل لا تخطو فيها خطوة إلا رأيت بناء فخما أو تمثالا جميلا، وكانت أثينا في ذلك الوقت غنية موسرة وزعماؤها أجوادا لا يبخلون بفضل مالهم بل بصميم مالهم على تشجيع المهرة من الفنيين، فقام في هذا العصر «البرتينون» وغيره من المعابد ذات الصوت الطائر وصنع فيه هذا التمثال المشهور، تمثال أثينا أقامه «فيدياس» من الذهب والعاج إلى غير ذلك مما لسنا في حاجة إلى ذكره الآن.
فإذا كان الشاعر من ذكاء القلب ورقة الطبع ونفاذ البصيرة بمكان «سوفوكليس» ثم عاش في عصر كهذا العصر لا تسمع الأذن فيه إلا جميلا ولا تقع العين فيه إلا على جميل، ولا تستشعر النفس فيه إلا مجدا وعظمة وإلا رفعة وفخارا، فليس من شك في أنه بالغ من النبوغ في شعره والوصول بفنه من الكمال درجة رفيعة إلى حيث بلغ سوفوكليس.
يذكر المؤرخون أن سوفوكليس كان هين الأخلاق حسن العشرة لطيف الحديث، متحببا إلى الناس متألفا لهم، وأنه لم يكن يبخل على نفسه بشيء من اللهو والدعابة؛ فقد كان يرى أن يستمتع بما في الحياة من لذة وأن يأخذ ما أعطته الأيام من طيبة من غير أن يسترسل في ذلك فيفسد نفسه ويضيع وقته.
على أن هذه الحياة لم تخل من سحابة هم غشيتها فنغصت صفوها بعض التنغيص، وعملت في تكوين الرجل وتكميل خلقه. فمثل الحياة تملؤها اللذة لا يشوبها ألم، والفرح لا يعترضه حزن مثل الطعام لا ملح فيه، تعافه النفس وتنفر منه.
لم يكتف سوفوكليس بالحياة المنزلية المشروعة، فمع أنه كان زوجا ناصحا وأبا شفيقا، كلف بامرأة من «سيكيون» وعاشرها فكان له منها ابن سماه «أرستون» وكان لأرستون هذا ابن هو سوفوكليس الشاب، مثل قصة لجده بعد موته.
بين هذا الولد غير المشروع وإخوته، كانت خطوب وإحن تألم لها الشاعر، ويقال إنها وقفته بين أيدي القضاة، ومهما يكن من شيء فإن ما امتلأت به حياة سوفوكليس من لذة وألم، ومن خير وشر، لم تشغله عن فنه ولم تمنعه من إتقانه والإجادة فيه، فيروي المؤرخون أنه كان يقدم إلى المسابقة أربع قصص في كل سنتين. بدأ في ذلك قبل أن يتجاوز الثامنة والعشرين فانتصر على أيسكولوس سنة ثمان وستين وأربعمائة، ويقول الرواة إنه انتصر عشرين مرة؛ أي إن ثمانين قصة من قصصه قد راقت الجمهور. ويقولون إنه لم ينهزم قط فكان إما سابقا أو لاحقا، فأما الصف الثالث فلم يعرف مرارة الانحطاط إليه. ظل كذلك لا يبطره الانتصاره ولا توئسه الهزيمة ولا تناله الغيرة إذا تفوق عليه أحد من خصومه إلى أن مات سنة خمس وأربعمائة من غير أن يفارق وطنه إلا جادا في خدمته؛ فقد طلب إليه كثير من طغاة المدن اليونانية أن يرحل إليه فأبى ذلك لأنه كان يحب أثينا، ولأن أثينا كانت تحبه. فأما حبه إياها فكل ما قدمناه يدل عليه دلالة واضحة، وأما حبها إياه فحسبك دليلا عليه أنه لم يكد يفارق هوى الحياة حتى اتخذت له المدينة معبدا وعبدته، وقدمت إليه الضحايا والقربان في كل سنة، كما كان يفعل اليونان بأبطالهم.
فلننظر الآن إلى آثاره الأدبية لنرى ما بينها وبين هذه الحياة من صلة.
2
كان التمثيل قد بلغ من الرقي درجة عظيمة كما قدمنا قبل أن يحاوله سوفوكليس؛ فقد رأينا كيف نشأ وكيف منحه «تسبيس» صورته الأولى، وكيف أكمل أيسكولوس هذه الصورة، ورأينا معظم ما اخترع أيسكولوس في التراجيديا من اختراعات مادية أو معنوية وصلت بها من الرقي إلى حيث نراها فيما ترجمنا ولخصنا من آثار هذا الشاعر. إذن فقد وجد سوفوكليس أمامه طريقا ممهدا وخططا مرسومة لم يكن له أن يتجاوزها أو يعدل عنها، فلم ينفق من نبوغه شيئا كثيرا في هذه المعدات التي ليس منها بد ليوجد فن من الفنون، والتي تحرم صاحبها في كثير من الأحيان لذة الاستمتاع بآثاره والشعور بأن الناس يضيفون إليه ما اشتملت عليه من جمال. فمهما أتقن البناء ووضع الأساس وأقام الدعائم لقصر ضخم بديع؛ فإن إعجاب الجمهور منصرف عنه إلى هذا الذي أتم بناءه ومنحه من الزينة والتحسين ما يملأ النفوس بهجة والقلوب روعة.
لم ينفق سوفوكليس شيئا من نبوغه في وضع أساس التمثيل وإقامة دعائمه، وإنما أنفقه كله في ترقيته وتحسينه، وسلك به طريق الاستحالة والانتقال من طور إلى طور، ومع هذا فقد أبى مؤرخوه إلا أن يضيفوا إليه اختراعات أساسية لا شك في أن حظ الإسراف منها كثير.
فقد زعموا أنه أول من عدل عن الرباعية المتصلة، فقدم إلى المسابقة رباعية منفصلة، وفي الحق أنا لا نعرف لسوفوكليس رباعية متصلة كما نعرف لأيسكولوس، ولكن مما لا شك فيه أنه ليس مبتدع الرباعية المنفصلة؛ فقد سبقه إليها أيسكولوس كما قدمنا، وإنما رأى سوفوكليس أمامه طريقين من طرق التمثيل، طريق الوصل بين القصص والفصل بينها فآثر أن يسلك أيسرهما وهي الثانية، وأحسن كل الإحسان لأنه حرر الفن من قيود كانت تقف الشاعر مواقف لا تخلو من حرج كثير.
وزعموا أنه أول من جعل عدد الممثلين ثلاثة، وكان أيسكولوس قد جعله اثنين، ولا شك في أن هذا أيضا متكلف مبالغ فيه؛ فقد رأينا أن أيسكولوس قد قسم غير قصة بين ثلاثة من الممثلين، وإنما عدل سوفوكليس كل العدول عن القصة الثنائية التي لا يلعبها إلا اثنان. وكان أيسكولوس يشعر بشيء من الضيق والوحشة في تقسيم قصته بين الممثلين الثلاثة، أما سوفوكليس فقد أحسن الانتفاع بهذه البدعة واستخدمها في ترقية الحوار ووضع أشخاص القصة مواضع ثابتة رحبة ليست بالضيقة ولا بالمضطربة، فاستطاع كل شخص من أشخاص القصة أن يحسن الإعراب عما في نفسه، وأن يجلي أخلاق البطل واضحة لا يشوبها الغموض ولا يحول بينها وبين الوضوح الشديد ضيق المقام.
وزعموا وربما كان هذا حقا أنه زاد عدد الجوقة، فجعل أعضاءها خمسة عشر وقد كانوا اثني عشر. وأنه مع ذلك قد جعل خطرها في التراجيديا غير جليل فأصبحت التراجيديا أقرب إلى التمثيل منها إلى الغناء. ولكنا قد قدمنا أن طبيعة الفن كانت تستلزم هذه الاستحالة، وأن عمل الجوقة أخذ يقل ويتضاءل شيئا فشيئا منذ أيام تسبيس، ورأينا هذه الاستحالة ظاهرة في قصص أيسكولوس؛ فالمستجيرات وهي أقدم ما بقي لنا من آثاره توشك ألا تكون إلا غناء، والفرس وهي أحدث منها يعظم فيها حظ الغناء ولكن حظ التمثيل فيها غير قليل، ثم ما يزال التمثيل ينمو والغناء يتضاءل، حتى إذا نشأ سوفوكليس وجد هذا القانون قد أصبح لا سبيل إلى تغييره فأحسن الأخذ به والاستفادة منه كما سنرى.
يظهر أن ليس من شك في أن سوفوكليس قد أحدث في التمثيل شيئا ماديا لم يكن مألوفا من قبل، ولكنه كان شديد الإفادة؛ لأنه أعان الجمهور على الفهم وقارب بين التمثيل وبين الحقيقة الواقعة، وهو أنه صور على الحائط الذي كان يقوم دون المسرح كل ما كانت تشتمل عليه القصة من منظر. فهذه هي الاختراعات التي تنسب إلى سوفوكليس، وسواء أصحت هذه النسبة أم لم تصح فلا شك في أن سوفوكليس قد كان أمهر في استعمال هذه البدع من أيسكولوس وأنه قد أحسن الانتفاع بها في ترقية التمثيل.
3
على أن نبوغ سوفوكليس لم يظهر أثره في هذه الترقية المادية للتمثيل، وإنما يظهر واضحا جليا في ترقيته المعنوية؛ فليس من سبيل إلى الشك في أن سوفوكليس قد غير معنى التراجيديا وغايتها تغييرا باعد ما بينها وبين الصورة التي كانت في نفس أيسكولوس.
وأول ما نشهده من ذلك هو الفرق بين القاعدة التي اتخذها سوفوكليس والتي اتخذها أيسكولوس للتمثيل. فبينما كان أيسكولوس يرمي دائما إلى تمثيل ضعف الإنسان أمام قوة الآلهة أو قوة القضاء، وبينما كان يحاول أن يظهر إرادة الإنسان ضئيلة واهنة سيئة النظر في المستقبل يملكها الغرور فيحملها على ممانعة القوة القاهرة واعتراض الإرادة التي ليس إلى اعتراضها من سبيل، فتفعل ثم لا تلبث أن تلقى جزاء هذا التهور والإسراف اللذين ليس لهما مصدر إلا الغرور، وبينما كان هذا التصور نفسه للحياة الإنسانية يحمله على أن يجعل للآلهة أو للقضاء في القصة مركزا ذا خطر، وأن يجعل مركز الإنسان دونه بحيث تصبح القصة كأن الغرض الحقيقي منها إنما هو تمثيل هذه القوة القاهرة وعبثها بالإنسان، نقول بينما كانت هذه حال أيسكولوس كان سوفوكليس قد اتخذ من الناس والآلهة صورة أخرى، فما كاد يلاحظ هذه الصورة في إنشاء قصصه التمثيلية حتى ظهر الفرق جليا بين الرجلين، وأصبحنا نرى أن كلا منهما إنما يمثل عصرا خاصا، له ما ليس لصاحبه من حياة العقل والشعور.
كان سوفوكليس ابن هذا العصر الحديث الذي رقي فيه العقل اليوناني والشعور اليوناني، وأصبح فيه الإنسان يشعر أشد الشعور بوجوده ويعترف أشد الاعتراف بشخصيته ويود لو أكره كل شيء على أن يعترف بهذه الشخصية ويشعر بذلك الوجود.
نشأ هذا كله عما كان من الاستحالة الاجتماعية والاقتصادية اللتين غيرتا ما كان لليونان من نظام سياسي، وجعلتا الحرية حظا شائعا بين أفراد الشعب جميعا سواء منهم الفقير المعدم والغني المثري، وسواء منهم الشريف الرفيع والسوقي الوضيع.
فكر كل إنسان وعمل كل إنسان وأحس كل إنسان بأن لتفكيره ثمرة ولعمله نتيجة فعرف أنه شيء يذكر واعتقد أنه موجود لا ينبغي لأحد أن يهمله أو يفكر لوجوده من خطر أو قيمة، ونشأ عن ذلك اعتقاده أن له إرادة حرة تستطيع أن تمانع فتفوز في الممانعة، وأن تنازع فتنتصر في النزاع.
على هذا الأصل الذي هو إلى السياسة أقرب منه إلى الفلسفة قامت قصص سوفوكليس؛ فهو يرى أن الإرادة الإنسانية تملك من الحرية ما يمكنها من العمل، ومن هنا كانت آثاره الفنية اعترافا بالشخصية الإنسانية وتحريرا لها من ربقة القضاء الذي كان قد سيطر على الأمة اليونانية منذ عصورها الأولى، فقد رأينا في حياة أيسكولوس أن الشعر القصصي يدلنا على أن اليونان كانوا يرون الآلهة الخالدين لعبة في يد قوة قاهرة لا مرد لما أمرت به ولا محيد عما قصدت إليه، وهي قوة القضاء وأن ما كان يعتقد الإنسان لنفسه من قوة أو حرية إنما هو غرور باطل وانخداع بظواهر الأشياء، ورأينا أن أيسكولوس لم يجحد هذه القضية بل آمن بها وأصر عليها، ولكنه لطفها بعض التلطيف فمثل الإنسان عاملا بعض العمل، مريدا بعض الإرادة، ولم يحاول التوفيق بين هذه الحرية الإنسانية وبين قوة القضاء؛ لأنه لم يسأل نفسه عن معنى هذه الحرية ولا عن ما يمكنه أن يكون بينها وبين قوة القضاء من توفيق.
أما سوفوكليس فإنه لم يحاول التوفيق أيضا ولم يجرؤ على أن يظهر الإنسان ممانعا للآلهة متفوقا عليهم؛ لأنه لم يكن يعتقد ذلك من جهة، ولأنه لو اجترأ عليه لأسخط الجمهور من جهة أخرى. ولكنه جعل التمثيل إنسانيا؛ أي إن ما تشتمل عليه القصة التمثيلية ليس حربا بين هذه الإرادة الإلهية وبين إرادة الإنسان وإنما هي حرب بين إرادتين إنسانيتين. ومن هنا أصبح مكان الآلهة في قصص سوفوكليس غير ذي خطر؛ فقد كنا نراهم في الشعر القصصي يخالطون الناس ويداخلونهم في كل شيء، ثم رأيناهم في شعر أيسكولوس يشرفون على أعمالهم من كثب ثم نراهم في شعر سوفوكليس يدبرون الحياة الإنسانية من بعيد.
ليست لذة تمثيل سوفوكليس فيما نرى من عظمة الآلهة وشدة بطشهم وافتنانهم في إرغام الإنسان على أن يذعن له، وإنما هي فيما نشهد من الممانعة الشديدة والحرب العنيفة بين إرادتين إنسانيتين قد أصرت كل منهما على ما عزمت فهي لا تعدل عنه ولا تميل، وما تزالان تتمانعان وتتشادان حتى يبلغ النزاع أقصاه، وهنا يفصل بينهما الآلهة فصلا يظهر ما لهم من قوة وبأس.
انظر إليه في أنتيجونا كيف مثل إرادتها قوية شديدة الحرص على ما صممت عليه من دفن بولينيس لا يصرفها عن ذلك صارف، تلح عليها أختها فتردها ردا عنيفا وتنصح لها الجوقة فلا تحفل بنصحها، وينذرها الملك فتحتقره وتزدريه، ثم يقضي عليها بالموت فتلقى ذلك ثابتة غير مضطربة في رأيها ولا متحولة عنه. وكيف مثل كريون معتزا بسلطان الملك والقانون يريد أن يأمر فيطاع، فقد أزمع ألا يدفن بولينيس وأعلن أن دافنه مقتول، ثم يظهر له أن بولينيس قد دفن وأن بنت أويديبوس هي التي دفنته، وأن أهل المدينة كلهم لهم أنصار وأن ابنه يحبها ويكلف بها ولا يستطيع أن يستمتع بعدها بالحياة فلا يحوله ذلك عما أصدر من أمر. بل انظر إليه يزدري الجوقة حين تنصح له بالقصد ويهين الكاهن حين يعلن إليه أمر الآلهة. كلا الخصمين مصر عنيد وكلاهما يلقى ثمرة إصراره وعناده.
يخيل إلى الجمهور أن الآلهة هم الذين عاقبوا كريون على ما قدم إليهم من إهانة، ولكن المتأمل في القصة يرى أن هذه العقوبة لم تكن إلا نتيجة منطقية لما كان من إصراره وإعراضه عن اللين. يعلن إليه ابنه أنه قاتل نفسه إن قتلت أنتيجونا، فلا يحفل بذلك، ويمضي ابنه يائسا قد أزمع الموت. ثم يندم كريون لأنه لم يسمع لنصيحة الكاهن، فيحاول أن يخلص أنتيجونا ولكن «سبق السيف العذل»، قد ماتت أنتيجونا والتزمها ابنه يعانقها مرة ويقبلها مرة أخرى، ثم يقتل نفسه فيمتزج دمه بدم من أحب، وأبوه شاهد قد ملكه الذهول وكاد يجن جنونا. حتى إذا عاد إلى القصر وجد الخبر قد سبقه إليه ووجد زوجه قد قتلت نفسها بأسا لموت ابنها، فينوء به الحزن ويتركه سوفوكليس أمامنا متولها أبله لا يعرف ماذا يصنع ولا يدري كيف يقول.
تغيير معنى التراجيديا ووجهتها، غير اللذة التي يشعر بها النظارة أو القارئ. فقد كان الحوار عند أيسكولوس يبهرنا بما اشتمل عليه من جلال وضخامة، أما عند سوفوكليس فهو يخلبنا لدقته ولطف مأخذه.
شعورنا وحده هو الذي كان يتأثر في أكثر الأحيان بحوار أيسكولوس. كنا نحس كأن شيئا ضخما يبهظنا. أما عند سوفوكليس فلم يفقد الشعور شيئا من لذته، وقد أخذ العقل من هذه اللذة بنصيب. ليس من سبيل إلى أن ننكر حين تقرأ سوفوكليس أن الكاتب قد كان يتأثر بحياة هذا العصر الذي أخذت تظهر فيه الفلسفة، ولا سيما فلسفة السوفسطائيين. هذه الفلسفة التي كان قوامها الافتنان في المحاورة والاجتهاد في الأخذ بتلابيب المحاور والتضييق عليه من غير أن يظهر في ذلك تعنت أو تكلف.
يشعر قارئ سوفوكليس بأنه يعيش في عصر سقراط، حوار مرن مقنع دقيق، مع أنه يخيل إليك أن الذين يتجاذبونه لا يجهدون أنفسهم ولا يتعمقون في البحث. كل ما بين سقراط وسوفوكليس من الفرق هو أن سوفوكليس لم يكن يتخذ الفلسفة لحواره موضوعا ولم يكن يتكلف لغة الفلاسفة، إنما كان يتخذ موضوعا لحواره ما للنفس الإنسانية من خلق أو هوى، وكان يتكلم هذه اللغة الذي ألفها الجمهور باختلافه إلى ملاعب التمثيل.
أخذت التراجيديا بفضل سوفوكليس صورة جديدة. فقدت شيئا من هذا الجلال الذي كان يميز قصص أيسكولوس، ولكنها بذلك نفسه قرب ما بينها وبين الناس، واكتسبت شيئا - من الدقة والتلطف في تحليل العواطف والميول - لم يكن لها من قبل. وليس من الغلو القول بأن سوفوكليس هو أول من وضع التمثيل البسوكولوجي.
فلم يقصد إلى إظهار سلطان الآلهة وضعف الإنسان، وإنما أراد قبل كل شيء أن يظهر النفس الإنسانية واضحة جلية إبان ما يعترضها في الحياة من خطوب، فتراها مطمئنة هادئة، ثم تراها وقد أخذت تضطرب وتجيش، ثم تراها وقد لقيت الخطب ثابتة مزمعة احتماله، وهي في جميع هذه المواطن تحسن الإعراب عما ينبعث فيها من عاطفة، أو يبعثها على العمل من ميل وهوى.
4
يمكن أن نقول إن أشخاص سوفوكليس يمثلون عصره، ويمكن أن نقول إنهم لا يمثلونه. فقد تأثر سوفوكليس بشيئين متباينين؛ الأول: الشعر القصصي الذي استعار منه موضوعاته والذي كان يمثل عصر الأبطال، والثاني: هذه الحياة الحديثة، حياة القرن الخامس قبل المسيح.
وقد عمل هذان المؤثران معا في تكوين قصصه. ففي أشخاصه شيء غير قليل من جلال الأبطال، ولكنهم خاضعون لما امتاز به أثيني القرن الخامس من رشاقة الحركة وخفة الروح، وشيء من الهزء والسخرية حتى بأشد الأشياء جلالا وأقربها من الدين منزلة. كأن سوفوكليس قد أراد أن يمثل أبناء عصره منزهين من نقائصهم، تزينهم فضائل الأبطال أو كأنه أراد أن يمثل الأبطال تزينهم خصال عصورهم الأولى من غير أن يبعد ما بينهم وبين الناس.
في أشخاصه قوة وعزة وفيهم صلابة وعنف، ولكنهم مع ذلك يلينون ويضعفون وينالهم الألم والإعياء.
لم يحسن أيسكولوس كما قدمنا تمثيل المرأة؛ لأنه كان لا يميل إلا إلى القوة ولا يعجب إلا بالقوة، ولأن الضعف وما امتاز به النساء من سرعة الحركة والانتقال من طور إلى طور، ومن شدة التأثر بالأشياء لم يكن لينال نفسه القوية الخشنة. أما سوفوكليس فقد كان حضريا مترفا، وكان غزلا يحب المداعبة، وكان قد عاش في عصر لين ويسر، واستمتع من لذات الحياة بشيء غير قليل فبلا أخلاق الناس، ولم يقف في تمثيله عندما رسم الشعر القصصي، وإنما استعان الحياة الواقعة على تصوير أشخاصه. فكانوا إلى الحقيقة أقرب منهم إلى الخيال.
أصرت أنتيجونا على دفن أخيها ورضيت الموت، ولكن ذلك لم يمنعها أن تجزع وأن تبكي شبابها وأن يمتلئ قلبها حسرة لهذا الموت، يتعجلها قبل أن تبلو الحياة وتذوق لذة الزواج.
أزمع أياس قتل نفسه، وعدل عن كل ما قدمت إليه زوجه من نصح واستعطاف، وأرهف السيف وأثبته في الأرض، ولكن ذلك لم يمنعه أن يذكر وطنه وأمه وأباه، وأن يحيي الشمس والبحر والهواء.
ذلك دأب الشاعر في جميع أشخاصه يصفهم من الفضيلة بما يحتمله النوع الإنساني لا يداني بينهم وبين الآلهة، وقد قدمنا أنه فشل حين أراد أن يمثل هيراقل؛ لأنه حين جعل هيراقل إنسانا كغيره من الناس، أفسد صورته الجميلة التي كان قد صوره بها الشعر القصصي.
هناك أشخاص آخرون يملئونك إعجابا بهم ورضى عنهم، هم الأشخاص الذين ليس لهم في القصة أثر عظيم. لم يتكلف سوفوكليس أن يحليهم بصفات الأبطال وإنما مد يده فتناولهم من حوله وأتى بهم في الملعب؛ فهم يمثلون أبناء أثينا أحسن تمثيل.
انظر إلى هذا الحارس أقبل يخبر كريون بأن بولينيس قد دفن، فهو يسلك إلى ذلك طرقا معوجة كثيرة الثنايا، يريد أن يشوق الملك إلى ما سيقص عليه من غير أن يحرم نفسه شيئا من الهزء به:
مولاي! لا أقول لك إني قد طرت إلى هذا المكان سريع الخطا؛ فإن الخواطر المختلفة التي كانت تملأ نفسي في هذه الطريق قد اضطرتني إلى أن أرجع أدراجي أكثر من مرة. فقد كان قلبي يحدثني مرة قائلا: أيها الشقي! ما بالك تسرع إلى ما ينتظرك من العقاب؟! ومرة أخرى: أيها التعس! ماذا يقف بك؟! لو أن كريون علم هذا النبأ من غيرك فأي عذاب قد قدر لك؟ وأنا في هذا الاضطراب والتردد لم أكن أتقدم إلا بطيئا؛ فإن أقصر الطرق يطيله مثل هذا التردد. وبعد فقد أكرهت نفسي وأقدمت. سأتكلم وإن كنت لا أستطيع أن أشرح لك شيئا؛ فإني قد جئت وأنا واثق أني لن ألقى إلا ما قدره لي القضاء.
كريون :
ما مصدر هذا الاضطراب الذي أراك فيه؟
الحارس :
سأتكلم عما يتعلق بي، فلست أنا مقترف الذنب، ومن الجور أن أعاقب على ما لا أقترف.
كريون :
إنك لحسن السعي إلى غايتك، وإنك لتحسن الحيطة والاحتراس، ولكن يخيل إلي أنك تحمل إلي نبأ جديدا.
الحارس :
ليس من اليسير أن يسرع المخبر إذا كان يحمل نبأ سيئا.
كريون :
وبعد، فأدل بما عندك ثم انصرف إذا أديت رسالتك.
الحارس :
لك الطاعة، قد دفنت الجثة، ووريت في التراب، وأقيمت الواجبات العادية، واستخفى من أقامها.
اقرأ ذلك وتعرف صورة الرجل أو الشاب من عامة أثينا في القرن الخامس تجدها مطابقة كل المطابقة لما قرأت. هؤلاء الأشخاص كثيرون في قصص سوفوكليس، ومع أنهم يكسبون هذه القصص فائدة تاريخية فقد كانت لهم فائدة أخرى هي أنهم كانوا ينفسون عن الجمهور ويريحونه وقتا ما من تتبع القصة وما فيها من جد.
فقد رأينا في هذا الفصل الموجز ما بين سوفوكليس وأيكسولوس من وجوه التشابه والافتراق، وكل ما قدمناه ينتهي بنا إلى نتيجة واحدة هي أن الفرق بين الرجلين ليس إلا فرقا بين عصرين مختلفين لأمة واحدة، ثانيهما استمرار لأولهما وإن امتاز منه بخصال خاصة وصفات اقتضتها الاستحالة والانتقال.
5
أشرنا إلى أن حياة سوفوكليس كانت خصبة منتجة، فكثرت آثاره التمثيلية، وقد رأينا أنه قد فاز في ثمانين قصة، ويذكر المؤرخون الإسكندريون أن مجموع قصصه تبلغ ثلاثا وعشرين ومئة قصة، ويرى المحدثون أن ليس في هذا شيء من المبالغة كثير. ومهما يكن من شيء فلم يبق لنا من آثاره إلا قصص سبع أقدمها أياس، مثل فيها الشاعر قتل أياس نفسه، بعد ما أصابه من الجنون الذي مثل له قطعان الغنم والبقر كأنها جيش اليونان فأنحى عليها ضربا بالسيف. وهذه القصة على قدم عهدها، وعلى أنها تمثل الشاعر مبتدئا لم يتوثق من الفن ولم تثبت قدمه فيه، تشتمل على آيات من البلاغة خليقة بالإعجاب.
ثم مثل «أنتيجونا» وهي ما كان من دفن أنتيجونا لأخيها بولينيس برغم أمر الملك وما كان من القضاء عليها أن تدفن حية، وليس من شك في أنه قد تأثر فيها بأيسكولوس ولكنه فاقه في تصوير عواطف المرأة والتقريب بينها وبين الحقيقة.
ذلك شأنه في «إلكترا» التي تمثل ما كان من انتقام أورستيس لأبيه وقتله أمه كلوتيمنسترا، ولكن الشخص الأول في هذه القصة إنما هو إلكترا؛ لأنها هي التي كانت تشهد فجور أمها وانتصار قاتل أبيها، فتألم لذلك ويشتد حرصها على الانتقام.
وأعظم قصص سوفوكليس حظا من الجمال إنما هي «أويديبوس ملكا» وقد قدمنا تلخيص موضوعه في مقدمة «السبعة يهاجمون طيبة».
وأشدها ضعفا هي «التراكينيات» مثل فيها غيرة ديجانيرا؛ لأن زوجها هيراقل أحب غيرها، وإهداءها إليه ثوبا مسموما لبسه فمات بعد ألم شديد.
ثم مثل «فيلوكتيتيس» وهو بطل من أبطال الإلياس. كان يملك سهام هيراقل فأصابه سهم منها في ساقه وعجز اليونان عن مداواته، فتركوه في جزيرة مقفرة، ثم يحتاجون إليه فيحتالون في رده إلى معسكرهم أمام تروادة.
وآخر قصة من قصصه هي «أويديبسوس في كولونا» لعبها الممثلون بعد موته، وهي تمثل أويديبسوس بائسا يعيش من المسألة، بالقرب من أثينا، وما كان من تضييف هذه المدينة له.
ولنأخذ الآن في تلخيص قصصه وترجمة ما نختاره منها، فذلك أوضح طريق تنتهي بنا إلى ما كان له من نبوغ.
أياس
كان أياس بن تيلامون ملك سلامين بطلا من أبطال اليونان أمام تروادة، حارب فأحسن البلاء وظفر على الترواديين في مشاهد عظيمة، وحمى اليونانيين جميعا بعد أن انهزم زعماؤهم وأبطالهم، فما زال يدافع عنهم حتى أقبل أخيل فرد أعداءهم منهزمين. فلما كان مقتل أخيل جعل اليونان سلاحه جائزة لأعظم أبطالهم شأنا وأجلهم خطرا ففاز بها أوديسيوس، وغضب لذلك أياس، فذهب عقله وأنحى بسيفه على ما كان في حظائر اليونان من ماشية، فلما عاد إليه صوابه استخزى لما فعل فقتل نفسه، وقد رويت هذه الأسطورة في قصيدة قصصية أنشئت تكملة للإلياس واسمها الإلياس الصغيرة.
الأشخاص
أياس.
أثينا.
أوديسيوس.
توكروس:
أخو أياس.
تكمسا:
زوج أياس.
مينيلاووس.
أجاممنون.
رسول.
الجوقة:
تتألف من أهل سلامين.
تقع القصة في معسكر اليونان بإزاء تروادة أمام خيمة أياس.
الفصل الأول
أوديسيوس واقف بإزاء خيمة أياس كأنه يرقبه ويبحث عما أحدث من عمل، فتظهر له الإلهة أثينا وتنبئه بأنها عالمة بما هو فيه، وأن أياس قد كان يريد اغتيال رؤساء الجيش فحالت هي بينه وبين ذلك بأن سلبته عقله وخيلت له الماشية كأنها ملوك اليونان وأبطالهم، فأعمل فيها السيف وقاد طائفة منها إلى خيمته فهو يعذبها ضربا بالسوط. ثم تأمر أوديسيوس أن ينتظر غير خائف ولا وجل؛ لأنها مظهرة له أياس أبله مجنونا، وتدعوه فيظهر ويعلن أنه قتل جماعة اليونان وقاد بعضهم إلى العذاب، وأنه لم يقتل أوديسيوس وإنما شده إلى أحد أعمدة الخيمة ليمزق جسمه بالسياط، ثم يعود إلى خيمته.
المنظر الأول (أثينا وأوديسيوس)
أثينا :
أي أوديسيوس، أرأيت إلى أي حد تبلغ قوة الآلهة، وأي رجل بين اليونان كان يستطيع أن يدبر الأمر على خير مما دبرته؟ وأي رجل كان يستطيع ان ينفذ الأمر في إبانه؟
أوديسيوس :
وا لهفتاه! ما عرفت هذا الرجل قط، إن أياس لعدوي ولكني آسى لشقائه، وأحزن لما أصابه من ذل. وإني حين أرى آخرته لأفكر في آخرتي، فأرى أنا جميعا أثناء هذه الحياة لسنا إلا أشباحا وظلالا باطلة.
أثينا :
إذن فلتملأ قلوبكم هذه الحقيقة، ولتحذروا أن تهينوا الآلهة بألفاظ ملؤها الكبر والغطرسة، وأن يأخذكم الإعجاب والتيه لما يهبكم الحظ من قوة وثروة. إن يوما واحدا ليكفي ليهدم الآلهة ويقيموا ما عمل الناس. إن الفضيلة لترضي الآلهة وإن الفجور ليملؤهم سخطا. (ثم تتغنى الجوقة ما شاع من أمر أياس، وأن ذلك قد ساء أثره في جيش اليونان، وتدعو أياس إلى أن يظهر فينفي هذا الزور ويقطع ألسنة المرجفين.)
الفصل الثاني
تأتي تكمسا فتقص على الجوقة ما قدمنا من جنون أياس، وما كان من قتله الماشية، فتثق الجوقة بأن الخبر صحيح وتشفق من سخط اليونان، وتود لو استطاعت أن تنجو إلى وطنها لتأمن شرهم، ثم تخبرها تكمسا بأن أياس قد استرد رشده، فتهدأ وتطمئن، ولكنها تجزع حين تعلم أن أثر الندم في نفس البطل شديد، وأنه يضمر أمرا منكرا، وإنهم لفي ذلك إذ يسمع صوت أياس متولها يدعو ابنه وأخاه.
المنظر الأول (أياس - تكمسا - الجوقة)
أياس :
أيها الأصدقاء الأعزاء، الذين صحبوني فيما أبليت من بلاء، ووفوا لمودتي، انظروا إلى هذه الأمواج من الدم تحيط بي وتحصرني من كل وجه.
الجوقة :
ويحك! أيتها الأميرة ما أنبأتنا إلا بالحق، إن كل ما نراه ليثبت لنا جنونه.
أياس :
أي هؤلاء الذين أحسنوا إعمال المقاذيف واعانوني على كل ما حاولت، ما أرى غيركم قادرا على معونتي. اضربوا واسلبوني الحياة.
الجوقة :
قف، واكفف عن هذه الألفاظ يملؤها الشر، لا تضف شقاء إلى شقاء، ولا تبلغ بسوء حالنا أقصاه.
أياس :
أترون إلى هذا المقاتل الجريء الكريم حسن البلاء في الموقعة، ألم يثبت شجاعته وشدة بأسه حين أعمل سيفه في تلك الماشية البريئة! لأي احتقار ولأي سخرية مهينة قد عرض نفسه منذ اليوم ؟
تكمسا :
أيها الزوج العزيز، أي أياس، إني لضارعة إليك في أن تكف عن هذا الحديث؟
أياس :
اهربوا، دعوا هذا المكان ... آه! يا للآلهة! آه! آه!
الجوقة :
إني لأعزم عليك باسم الآلهة ألا تبلغ بك الصلابة أقصاها وأن تعود إلى رشدك.
أياس :
إني لشقي؟ لقد أعملت هذا السيف الخائن، فأظهرت قوة ذراعيه في البقر والكباش، وسفكت دما يزري بي أبد الدهر.
الجوقة :
لم يملأك اليأس على شيء مضى؟ ليس من سبيل إلى استدراك ما فات.
أياس :
أي هذا الذي ليس يخفى على مكره شيء، أي مصدر كل شقاء، أي عار الجيش أي ابن لاهرتيس، بأي ضحك مهين تعلن فرحك!
الجوقة :
إن الآلهة وحدهم هم الذين يتصرفون في ضحكنا وبكائنا.
أياس :
ما له لا يعرض لي في هذه الحال التي أنا فيها! أقسم ...
الجوقة :
دع هذا النذير يملؤه الكبر، ألا ترى إلى ما أنت فيه من شقاء؟!
أياس :
أي أبا أجدادي، أي ذوس، وددت لو هلكت بعد أن نحرت هذا الخائن ونحرت معه أبناء أتريوس!
تكمسا :
إذا كنت تتمنى هلاكك فتمن هلاكي أيضا. فهل من سبيل إلى أن أحيى بعدك؟
أياس :
أيتها الظلمة الحالكة التي هي ضوئي، أي ظلمة الجحيم، استقبلي ساكنا جديدا، استقبليني. لقد أصبحت منذ اليوم غير أهل لأن أرى الناس والآلهة، لقد أصبحت حياتي غير نافعة. إن هذه الآلهة المخوفة ابنة ذوس لتتبعني بسخطها، وإن غضبها لينوء بي. أين أهرب؟ أين أستخفي؟ أين أستقر؟ وقد ذهب مجدي كما تذهب حياة الحيوانات الدنيئة، وقد أصبحت ضحية تضاف إلى هذه الضحايا التي ضحى بها الجنون، وقد تأهب جيش اليونان لينقض علي بأسره. (ثم يطول الحوار بينه وبين الجوقة وتكمسا، تريدان أن تحولا بينه وبين الموت ويأبى إلا أن يفارق الحياة، فيوصي بأن يطلب إلى أخيه توكروس حماية زوجه وابنه وردهما إلى وطنه.)
الجوقة :
إني لأضطرب لهذا الشعور العنيف، وإن هذه الألفاظ يملؤها الخطر لتملأ قلبي فزعا.
تكمسا :
أيها العزيز أياس، أي مولاي، على أي عمل ذي خطر أنت مقدم.
أياس :
لا تحاولي أن تتعرفيه، لا تسأليني إن الصمت لفضيلة.
تكمسا :
يا لليأس، إني لأعزم عليك بحق الآلهة وبحق ابنك ألا تتركنا.
أياس :
إن صلواتك علي لثقيلة، ألا تعلمين أني أصبحت غير مدين للآلهة بشيء؟
تكمسا :
دع هذا الحديث المهلك.
أياس :
لن أسمع لشيء.
تكمسا :
ماذا! ألا أستطيع أن أمس قلبك!
أياس :
لقد أسرفت.
تكمسا :
انظر إلى ما يملأ قلبي من خوف أيها الزوج العزيز.
أياس :
نحوها عني.
تكمسا :
باسم الآلهة دع قلبك يلن.
أياس :
أبلغت إذن من الحمق أن تمني نفسك بتغيير خلقي؟ (ثم تتغنى الجوقة سوء حالها وسوء حال أياس، وما سيصيب أباه من الحزن حين يصل إليه هذا النبأ السيئ، وإنها لكذلك إذ يأتي أياس ومعه زوجه فيعلن أنه قد عدل عن رأيه، وأنه لن يقتل نفسه ولن يصر على خلاف أجاممنون، وأنه ذاهب إلى البحر ليستحم وباحث عن عزلة يستريح فيها ويخفي فيها سيفه الذي أهداه إليه هكتور فكان مصدر شقائه ومحنته. ويطلب إلى الجوقة أن تكلف أخاه توكروس العناية به وبها مشيرا بذلك من طرف خفي لي أنه لا يذهب ليستحم، وإنما يذهب ليبحث عن الموت. ولكن الجوقة لا تفهم، فتتغنى ما نالها من سرور وبهجة، ويخيل إليها أن قد منحها الفرح أجنحة فهي توشك أن تطير وترقص داعية «بان وأبلون» ليعيناها على ذلك ويشاركاها فيه.)
الفصل الثالث
يأتي رسول من قبل توكروس ينبئ بأنه قد عاد من غارة كان يشنها على العدو، وأنه أرسله ليمسك أخاه في خيمته، فقد أعلن الكاهن كلكاس أن أياس إن خرج اليوم من خيمته فهو قاتل نفسه، وتأمر تكمسا الجوقة أن تتفرق فيذهب بعضها إلى الشرق، وبعضها إلى الغرب باحثا عن أياس، وتعلن أنها ذاهبة من جهة أخرى ويتفرقون.
الفصل الرابع
المنظر الأول
أياس (وحده) :
إذا لم أكن قد أخطأت فإن هذا السيف القاطع قد رق حداه وأصبح لا يصيب إلا قتل. يا لك من هدية مهلكة أهداها إلي هكتور هذا التروادي الذي كنت أختصه من بين أعدائنا بأشد المقت والبغض . هذا هو سيفه المحتوم قد أرهفت حديه، وغرزته في أرض تروادة. لقد أثبته في الأرض، فهو الآن قادر على أن يمنحني من غير عناء هذا الموت السريع الذي أطلبه وأرغب فيه. لقد فعلت كل ما كنت أستطيع أن أفعل، أما الآن فإن عليك يا ذوس أن تتم ما بقي وأن تمنحني معونتك. لا أطلب إليك شيئا ذا خطر، أوصل إلى توكروس هذا النبأ المحزن، نبأ موتي، وليكن هو أول من يأتي ليواري جسم صديق قد ألقى بنفسه على سيفه الدامي. ليحذر كل الحذر أن يسبقه إلى هذا الجسم أحد الأعداء فيطرحه طعمة للكلاب وسباع الطير. أي ذوس، هذي هي صلاتي، ولكني إنما أضرع إلى هرميس هذا الذي يقود الموتى في دار الجحيم، ألا يكاد هذا السيف يخترق جسمي حتى يمهد لي إلى الجحيم مهبطا سهلا هينا! إنما أدعو هؤلاء العذارى المعينات لا تغمض أعينهن عن البائسين، ادعو آلهة الانتقام القاسيات المسرعات لينظرن إلى هذا الموت الذي ألقاه في شقاء وسوء حال، بيد ابني أتريوس. لعلهن ينلن هذين الرجلين الشريرين بسخطهن فيعدلن بين إثمهما وما يلقيان من عقاب!
إنهن ليريدني أسلب نفسي الحياة بيدي، فلعل هذين الرجلين يسلكان هذه الطريق التي أسلكها، فيمزق كل منهما صدره ويجود بنفسه أمام أعز الناس عليه وأحبهم إليه. أقبلن إذن أيتها الآلهة المنتقمة، أسرعن لا تبقين على شيء، سلطن غضبكن على هذا الجيش كله. وأنت أيتها الشمس تقود عجلتها على قبة السماء، إذا بلغت مسقط رأسي حيث رأيت الضوء لأول مرة فأمسكي لجامك الذهبي، وألقي إلى أبي الذي قد أثقلته السن وإلى أمي التعسة ما لقيت من بؤس وما ادخر القضاء. يا لها من شقية! بأي أنين سيمتلئ بيتها حين يبلغها هذا النبأ! ولكن ماذا أصنع؟ لندع هذا البكاء لا يجدي شيئا ولنسرع إلى إتمام ما بدأنا. يا للموت! يا للموت! أقبل الآن، زرني! لأساكننك هنا ولأحادثنك عما قليل. أيها الضوء اللامع، ضوء النهار، أيها النور المشرق، أيتها الشمس، إني لأراك، إني لأناجيك لآخر مرة ! أيتها الأسوار المقدسة، أسوار سلامين وطني، أيتها المنازل العزيزة، منازل أجدادي، أيتها المدينة الكريمة مدينة أثينا، أيها الأصدقاء الذين قاسموني الغذاء، أيتها العيون والأنهار والحقول تحيط بتروادة، إليكم أهدي التحية. أي هذان اللذان منحاني الحياة، في ذمة الآلهة: هذه آخر كلمة يوجهها إليكما أياس، فلن ينطق بعدها في دار الجحيم. (ثم يقتل نفسه.) ••• (ثم يقبل نصف الجوقة من جهة ونصفها من جهة أخرى آسفا لما لقي من عناء من غير أن يستكشف شيئا. وتقبل تكمسا فترى زوجها صريعا فتصيح وتجيبها الجوقة، وتبكيان أياس وتعولان لسوء حالهما. ويأتي توكروس فيتفجع ويتوجع ناعيا أخاه متخونا إياه ساخطا على هذا السيف الذي أهداه هكتور إلى أياس فأهدى إليه به الموت، كما أن أياس أهدى إلى هكتور حمالة واتخذها أخيل آلة لتعذيبه شده بها إلى عجلته، وأخذه يجره جريحا حتى مات، وإنه ليألم ويشكو إذ يقبل مينيلاووس.)
المنظر الخامس (مينيلاووس - توكروس - الجوقة)
مينيلاووس :
إليك أسوق الحديث، دع هذا الجسم ولا تقدم إليه كرامة ما.
توكروس :
ومن ذا الذي ألهمك هذا الحديث الباطل؟
مينيلاووس :
ألهمتني إياه إرادتي وإرادة زعيم الجيش.
توكروس :
أليس يمكنني أن أعرف لهذا مصدرا.
مينيلاووس :
لقد كنا نخدع أنفسنا بأنا قد اصطحبنا إلى هذا المكان صديقا يدافع عن اليونان ويحمي حوزتهم، فلم نجد فيه إلا عدوا أشد علينا خطرا من أهل تروادة، عدوا قد أقسم ليهلكن الجيش كله ودب إليه يوقع به في ظلمة الليل وينحره تهدئة لغضبه، ولولا أن أحد الآلهة قد أخمد سخطه للقينا هذا الحتف الذي لقيه الآن؛ إذن لهلكنا جميعا ولتمتع هو بالحياة. ولكن إلها قد حول عنا ضرباته وأصاب بها القطعان والرعاة. فليس هنا من رجل مهما بلغت قوته يستطيع أن يمنحه القبر بعد هذه الجريمة المنكرة، ليظلن جسمه طريحا بالساحل نهبا لطير هذه البحار. فكفكف إذن من هذا الكبر، تظهره وتباهي به، فلئن عجزنا عن أن نخضعه حيا فنحن الآن قادرون على أن نحتكم فيه ميتا. ولتكرهنك أيدينا على أن تنزل لنا عنه. ما أذكر أنه أذعن في حياته لأمر وجهته إليه، وكذلك خلق الأشرار، يأبون الطاعة لمن له عليهم السلطان وعلو المكانة. وكيف تضمن سلطة القوانين وسيطرتها إذا لم يحملها الخوف؟ وكيف تحسن قيادة الجيش إذا لم يكن زعيمه موضع المهابة والإجلال؟ كل امرئ مهما نبه شأنه وعزت مكانته يجب أن يعرف أن أقل هفوة يهفوها ربما أهلكته. تعلم أن لا أمن لمن قادته الرهبة والإجلال. تعلم أن دولة يستطيع كل امرئ فيها أن يعلن كبرياءه وصلفه من غير أن يخشى عقوبة، هاوية من رفعتها لا محالة. فلتحتفظ إذن بشيء من الخوف ليس منه بد لسلامتنا وعافية الدولة. ولا يمن أحد نفسه بأن يذل ويسعد ظالما من غير أن يلقى جزاء هذا الظلم من ألم وعذاب؛ فإن الجريمة والعقوبة متوازنتان دائما، كلتاهما تعدل الأخرى. لقد كان أياس عنيفا تياها، فقد آن لي الآن أن أتكبر، وإني لأحظر عليك أن تتخذ له قبرا مخافة أن تهوي أنت إلى قبرك.
الجوقة :
أي مينيلاووس! إنك لتضع قواعد ملؤها الحكمة، فلا تكن فاجرا ولا تجحد حقوق الموتى.
توكروس :
يا أهل سلامين، لن يدهشني منذ اليوم أن أرى رجلا خاملا ليس بالنبيل ولا بذي النسب يخطئ أو يسقط في الإسراف، حين أرى الآن من يزعمون لأنفسهم النبالة والشرف ينطقون بمثل هذا الحديث. ولكن لنبدأ حيث بدأت، تزعم أنك إنما قدت هذا البطل ليكون مدافعا عن اليونان! ألم يكن إذن مالكا لأمره حين أبحر معكم؟ وكيف تزعم لنفسك السلطان على جيش قد جمعه من بلاده؟ لقد أقبلت إلى هذا المكان وأنت ملك سبرتا لا ملكنا. وما كان لك من الحق عليه شيء كما أنه لم يكن له عليك من الحق شيء. إنك لتطيع زعيما، وإن لك لطائفة من الجيش تذعن لأمرك، وما أرى أن الجيش كله خاضع لك، وما أرى أن أياس مدين لك بالطاعة، فأعلن سلطانك على الذين يعترفون به، أعلنه فيما شئت من عبارة وقحة، فأما أياس فمهما أبرقت وأرعدت، ومهما شاركك في ذلك من زعماء الجيش؛ فأنا أعلم كيف أواريه وكيف أقوم له بالواجب الديني، لا أخشى وعيدا ولا نذيرا، فما حمل السلاح لينتقم لزوجك كغيره من مأجوريكم وإنما اصطلى نار الحرب ليبر بيمين كان قد حلفها. ما عمل شيئا من أجلك، لقد كان يعتقد أن الناس ليسوا بذوي خطر، والآن فأسرع إلى القائد وإلى أبطاله فادعهم فمهما كنت ومهما فعلت فلن تظفر مني بشيء.
مينيلاووس :
ما أشد بغضي لهذه الجرأة الشديدة، تخالطها هذه الدناءة الشديدة.
توكروس :
ربما ظهرت الصراحة مظهر الإهانة، وإن كان العدل يعينها ويؤيدها.
مينيلاووس :
إن هذا لكبر عظيم لا يحسن بمن لا يجيد الحرب إلا بالقوس.
توكروس :
ليست إجادة الرمي فنا دنيئا.
مينيلاووس :
إلى أي حد تصل بك الغطرسة لو أحسنت حمل الدرقة.
توكروس :
إني لأستطيع على خفة سلاحي أن أثبت لك وإن ثقل سلاحك.
مينيلاووس :
إن لسانك ليحسن التعبير عما يملأ قلبك من كبرياء.
توكروس :
لنا أن نكبر إذا كان العدل لنا نصيرا.
مينيلاووس :
أمن العدل أن ينتصر قاتلي.
توكروس :
قاتلك! إن هذا لعجيب. أنت ميت ومع ذلك فما زلت حيا.
مينيلاووس :
لقد حفظ حياتي أحد الآلهة حين كدت أقضي بيد أياس.
توكروس :
حسن! فاشكر ذلك للآلهة الذين أنت مدين لهم بالحياة.
مينيلاووس :
وكيف أستطيع أن أزدري قوانين الآلهة الخالدين.
توكروس :
حين تعترض دون القيام بواجب الموتى.
مينيلاووس :
لقد كان هؤلاء الموتى أعدائي، فمن الحق علي أن أحول بينهم وبين التكريم.
توكروس :
ومتى كان أياس عدوا لك؟
مينيلاووس :
كان يضمر لي من البغض ما يعدل حقدي عليه، إنك لتعلم ذلك.
توكروس :
لقد علم الناس جميعا أنك اختلست فوزه.
مينيلاووس :
ذلك خطأ القضاة، لا خطئي.
توكروس :
إن هناك لخيانات أخرى تستطيع أن تقوم بها سرا.
مينيلاووس :
ربما كلفت هذه الألفاظ بعض الناس ثمنا غاليا.
توكروس :
لئن استلزمت بعض الشر فمن الهين أن يجزي بمثله.
مينيلاووس :
ليس لي إلا كلمة واحدة: احذر أن تواري أياس.
توكروس :
ليس لي إلا جواب واحد: لأوارينه.
مينيلاووس :
لقد رأيت رجلا عضب اللسان، يشجع البحارة على أن يقلعوا أثناء العاصفة ، فما هي إلا أن اشتد قصف الزوبعة حتى خفت صوته. وحتى التف في ثوبه، واستلقى على ظهره، فالبحارة يطئونه بأقدامهم، ذلك شأنك، لغط كثير، وسفه عظيم، وجرأة لا حد لها، ولكن هذا كله سيخمد حين تناله أيسر ريح تبعثها سحابة هينة.
توكروس :
أما أنا فقد رأيت مجنونا يهين جيرانه في آلامهم، فيقول له رجل يشبهني، حظه من الشجاعة قليل كحظي: أيها الرجل، احذر أن تهين الموتى، وإلا فثق أن العقوبة نازلة بك. هذه هي النصيحة كان يهديها إلى هذا الرجل الدنيء الذي تراه عيناي الآن، والذي يخيل إلي أنه ليس إلا إياك. أترى في هذا شيئا من الخفاء؟
مينيلاووس :
لأمضين؛ فإني أستخزي أن يراني الناس أعاتب باللسان حين أستطيع أن أستخدم القوة.
توكروس :
إمض إذن فأشد من ذلك خزيا أن أسمع لمجنون ينفق وقته في لغو الحديث. (ثم تحث الجوقة توكروس على أن يسرع بمواراة أخيه قبل أن تحول قوة اليونان بينه وبين ذلك، ويأتي ابن أياس وزوجه فيأمرهما توكروس أن يلتزما الجثة، ويأمر الجوقة أن تحرسها حتى يعود، ويمضي باحثا عما لا بد منه لدفن أياس. وتتغنى الجوقة سخطها على الحرب ومن اخترعها، وأسفها على ما تعاني من بعد عن الوطن وفراق لما فيه من لذة.)
الفصل الخامس
يأتي توكروس وأجاممنون فيشتد بينهما حوار كالذي ترجمناه آنفا، ثم يأتي أودسيوس فينصح لأجاممنون أن يسمح بدفن أياس، ويعترف بأنه بعد أخيل أشجع اليونان وأكرمهم، وأن حرمانه شرف القبر انتهاك لحرمة الآلهة.
أجاممنون :
ماذا! أأنت الذي يعنيه علي!
أودسيوس :
لقد كنت أبغضه حين كنت أستطيع البغض.
أجاممنون :
أليس من الحق عليك أن تهينه ميتا كما أفعل؟
أودسيوس :
يا أتريوس، لا يغرنك ما لك عليه الآن من فضل غير مشرف.
أجاممنون :
ليس من اليسير على الملوك أن يتبعوا العدل دائما.
أودسيوس :
من اليسير عليهم أن يسمعوا لنصح الأصدقاء.
أجاممنون :
إن من حق الرعية المخلصة أن تطيع ذا السلطان.
أودسيوس :
قف، أليس من الحكم أن تذعن لنصيحة الأصدقاء؟
أجاممنون :
أتذكر حال هذا الذي تريد أن تكرمه الآن.
أودسيوس :
لقد كان عدوي، ولكنه كان كريما.
أجاممنون :
ماذا تزعم؟ أتزعم إجلال عدو قد مات!
أودسيوس :
إن فضيلته لأشد قوة من بغضي.
أجاممنون :
لقد رأيت رجلا شديد الميل إلى أن يتغير رأيه.
أودسيوس :
إن من الناس من هم أصدقاؤك اليوم وأعداؤك غدا.
أجاممنون :
أتود أن يكون لك مثل هؤلاء الأصدقاء؟
أودسيوس :
لا أريد أن يكون لي صديق لا يلين.
أجاممنون :
لتكونن سببا في أن ينظر إلينا اليونان نظرهم إلى الجبناء.
أودسيوس :
كلا، بل نظرهم إلى من يؤثر العدل.
أجاممنون :
إذن فأنت تريد أن أدع هذا الجسم يوارى.
أودسيوس :
من غير شك، ما دام يجب أن أهبط أنا إلى القبر.
أجاممنون :
كذلك لا يعمل الإنسان إلا ذاكرا منفعته.
أودسيوس :
وأي منفعة يجب أن أذكر إذا لم أذكر منفعتي أولا؟
أجاممنون :
سيقولون إن مواراته أثر من آثارك لا من آثاري.
أودسيوس :
لتنالن من الشرف بمقدار عملك.
أجاممنون :
إذن، فثق بأن ليس هناك ما لا تستطيع أن تناله مني. ولكن أياس سيظل لي عدوا في الجحيم كما كان على الأرض. لك أن تفعل ما تريد. (ثم تشكر الجوقة وتوكروس أودسيوس على صنيعه، ويود هذا لو شاركهم في إقامة القبر لأياس ولكن توكروس يأبى مخافة أن يؤذي أخاه، فينصرف أودسيوس ويأخذ توكروس ومن معه في مواراة القتيل.)
أنتيجونا
الأشخاص
أنتيجونا، اسمينا:
ابنتا أويديبوس
كريون:
ملك طيبة.
أوروديس:
زوج كريون.
هيمون:
ابن كريون.
تيريزياس:
الكاهن.
رسول.
حارس.
عبد.
الجوقة:
تتالف من شيوخ طيبة.
تقع القصة في طيبة، في مدخل القصر.
الفصل الأول
المنظر الأول (أنتيجونا واسمينا)
أنتيجونا :
أيتها العزيزة اسمينا، أيتها الأخت العزيزة، تعرفين عدد الآلام ومقدار الشقاء الذي أورثناه أويديبوس، والذي أراد ذوس أن ينغص به حياتنا كلها. لقد كان يخيل أن لم يكن من الآلام والمصائب ما يبلغ مبلغ ما لقينا قسوة وخزيا، ولكن أتعلمين أن الملك قد نشر في المدينة كلها أمرا جديدا؟ أسمعت به أم لا تزالين تجهلين المخازي التي يعدها أعداؤنا لمن هم علينا أعزاء؟
اسمينا :
وا لهفتاه! أيتها العزيزة أنتيجونا لم يصل إلي عن أحبائنا وما أضمر لهم القضاء خبر حسن أو سيئ منذ حرمنا في يوم واحد أخوينا، وقد جادا بنفسهما معا في أثر ضربتين تبادلاهما، ولم أعلم بخير ولا بشر منذ استخفى جيش الأرجيين في ظلمة الليلة البارحة.
أنتيجونا :
لقد كنت أعلم ذلك، ولأجل أن أنبئك النبأ ولأتحدث معك بمعزل عن راء أو سامع دعوتك إلى الخروج من القصر.
اسمينا :
ماذا تريدين أن تنبئيني؟ يخيل إلي أن أمرا ذا بال قد شغلك واستولى عليك.
أنتيجونا :
ماذا؟ ألم يمنح كريون أحد أخوينا ما حرمه على الآخر من شرف القبر؟ لقد وفى بحق العدل والقانون - كما يذيعه أبناء طيبة - فأمر أن يوارى أيثبوكليس في التراب، وأن يؤدى إليه من الواجبات الدينية ما يسر نفوس الموتى، بينما أعلن الأمر ألا يدفن الشقي بولينيس ولا يبكى، وأن يترك - من غير أن يقبر أو تؤدى إليه فروض الدين - نهبا لسباع الطير التي تتأهب لافتراسه. هذا ما أنبئت أن كريون ذا القلب الكريم سيعلنه إليك وإلي أجل إلي أنا. سيأتي هنا ليثبت أمره من يجهله، وهو أمر ليس بذي الخطر القليل؛ فإن من خالفه أو حاول الخروج عليه فهو واثق بأنه سيلقى أقصى أنواع العذاب وسط المدينة وبمشهد من مواطنيه. هذا ما يعدون لك، وعما قريب ستظهرين أنك خليقة بهذا الدم الطاهر الذي منحك نعمة الوجود.
اسمينا :
وا حسرتاه! إني لشقية تعسة! ماذا عسى أن أوثر بعد أمر كهذا؟ أأذعن له أم أنبو عليه.
أنتيجونا :
روي، أتريدين أن نعمل معا.
اسمينا :
إلى أي خطر تريدين أن تلقي بنفسك، وماذا تديرين في خلدك.
أنتيجونا :
روي، أتعينينني على أن ندفن هذه الجثة.
اسمينا :
أتزعمين مواراة من قد حظر على الناس هنا أن يخصوه برحمة أو إشفاق؟
أنتيجونا :
أريد أن أواري أخي وأخاك، أجل هو أخوك وإن جحدت ذلك وأنكرته، وكذلك لن يلومني الناس لأني تركته غير مقبور.
اسمينا :
ماذا! أي أنتيجونا التعسة! أتقدمين على ذلك رغم أمر كريون!
أنتيجونا :
أله الحق أن يقطع ما يصل بيني وبين ذوي.
اسمينا :
آه! تدبري أيتها الأخت، إن أبانا وقد أثقله العار والبغض قد قضى أن فقأ عينيه بيده معاقبا نفسه على ما اقترف من إثم حين عرفه، وإنه لم يكد يفعل ذلك حتى استعانت هذه الملكة التي قضى عليها الشقاء المضاعف أن ترى نفسها في وقت واحد أما وزوجا حبلا مشئوما يستنقذها من آلام الحياة، ثم إن أخوين تعسين قد قتل كل منهما صاحبه وقضى عليهما موت واحد في يوم واحد. والآن وقد مكثنا وحيدتين في أسرتنا فانظري أي آخرة سيئة تنتظرنا، إذا اجترأنا خارجتين على القانون أن نخالف أمر السلطان ذي القوة والبأس. فكري في أنه ليس للنساء أن ينصبن الحرب للرجال، وأن الذين يأمرون أشد منا قوة وأن علينا أن نذعن لما يريدون ولو أنه كان أشق علينا وأعظم في نفوسنا أثرا. أما أنا فسأتوسل ما استطعت إلى الموتى أن يغفروا خطيئتي ولئن خنعت للقوة فأنا مطيعة لمن بيدهم السلطان؛ فإن من الخطل أن يعرض الإنسان لما لا يستطيع إنفاذه.
أنتيجونا :
لن ألح عليك بعد، ولئن أردت الآن أن تشاركيني فيما أريد أن أفعل فأنا لهذه الشركة رافضة، افعلي ما تؤثرين. أما أنا فموارية أخي، فإذا أديت هذا الواجب فما أجمل بي أن أموت، ولئن مت فإنما أنا صديقة لحقت بصديقها سأؤدي واجبا عدلا ملؤه التقوى؛ لأن الوقت الذي سأروق فيه إلى الموتى أطول من الوقت الذي سأروق فيه إلى الأحياء، فسأكون قرينته أبد الدهر، أما أنت فإن شئت فازدري ما يجل الآلهة.
اسمينا :
بعيد ما بيني وبين هذا الازدراء، ولكني أضعف قوة من أن أخرج على الدولة.
أنتيجونا :
اتخذي لك من هذه المعذرة وقاية، بينما أحاول أنا تأدية الواجب، وإقامة القبر لهذا الأخ العزيز.
اسمينا :
لهف نفسي عليك أيتها الأخت الشقية! إن فرائصي لترتعد إشفاقا عليك!
أنتيجونا :
لا تشفقي على حياتي، واجتهدي في المحافظة على حياتك.
اسمينا :
ولكن على أقل تقدير لا تبيحي سرك لأحد، اكتميه على الناس كما سأكتمه أنا أيضا.
أنتيجونا :
كلا، كلا، سارعي إلى إفشائه، إنك لتسيئين إلي بكتمانه أكثر مما تسيئين إلي بإذاعته.
اسمينا :
إنك لتسرفين في العناية بجسم هامد.
أنتيجونا :
ولكني أعلم أن ذلك يروق من أريد أن أرضيهم.
اسمينا :
نعم، إذا استطعت تنفيذ ما تريدين، ولكنك تحاولين محالا.
أنتيجونا :
لا بأس، سأقف حيث تنتهي قواي.
اسمينا :
خير لك أن تبدئي بأن لا تحاولي ما لا تستطعين.
أنتيجونا :
كلما حاولت سلوك هذه الطريق بعثت سخطي عليك واستوجبت من أخيك عداءه العدل. دعيني وما أحاول؛ ألق ما يضمر لي القدر، فليس من المصائب والآلام ما يحول بيني وبين ما أطلب من موت ماجد.
اسمينا :
دونك وما تريدين ما دمت عليه حريصة، ولكن لا تنسي حين تقدمين على هذا الخطل أنك لا تزالين عزيزة على أصدقائك.
المنظر الثاني
الجوقة (وقد دخلت الملعب) :
أي أشعة الشمس النقية، وعين النهار المبصرة، ها أنت تلك تعودين إلى الإشراق يجلوك ضوء شديد البهجة والرواء، على طيبة ذات الأبواب السبعة. تمشين فوق ينابيع ديركا وتحملين على الهرب والفرار في ضجيج وعجيج، هذا الأرجي تحميه درقة لامعة. أدرستوس هذا الذي أقبل في عدد وعدة يحصر أسوارنا. لقد كان يشتعل غيرة وحماسة منتصرا لمزاعم بولينيس، لقد طار يمشي ممزقا الهواء بصراخه كالنسر ينقض على فريسته، وقد بسط جناحيه يجلوهما بياض البرد. يتبعه جمع ضخم من السلاح والخوذ. وقف إلى أسوارنا وقد أحاطت به أسنته عطاشا إلى دمائنا. لقد كان يخيل إلى من يراه أنه يوشك أن يلتهم أبواب المدينة. ولكنه اختفى قبل أن تنقع دماؤنا غلته، وقبل أن تحيط نيرانه الملتهبة ببروجنا ومعاقلنا؛ لأن أريس صديق الثعبان الذي كان يهاجمه هذا العدو قد ملأ أذنيه بما أحدث من ضوضاء. إن ذوس ليمقت الغطرسة والكبرياء، لقد رأى أمواج الأرجيين تسعى إلينا حثيثة وقد زهاهم صرير أسلحتهم الذهبية. فأرسل على أحدهم صاعقته الملتهبة حين كان يمني نفسه أن يتغنى على أسوارنا نشيد الانتصار. انظر إلى هذا البطل في يده جذوة من النار وقد خر صعقا، هذا الذي كان قد كان منذ حين مقداما شديد الجرأة كأنه الزوبعة القاصفة. ما أسرع ما تغير كل شيء وما أسرع ما ألقى أريس ذو القوة والبطش مقاتلا في ميمنتنا على صفوف أعدائنا ما كانوا قد أعدوا من شر ووبال.
لقد ترك الزعماء السبعة الذين كانوا يحاربون مثلهم من زعماء طيبة لنا أسلحتهم اللامعة، لنرفعها آية مجد وعز إلى ذوس منتصرا، ولم يبق إلا هذان الشقيان منحهما الحياة دم واحد فأمضى كل منهما رمحه في صدر صاحبه، وكان لهما من الموت مورد واحد. ولكن النصر الذي يخلد الأسماء قد زار طيبة فأنزل فيها الفرح والسرور، منزل الحزن والألم. إذن فدعوا عنكم ذكرى الحرب يا معشر أبناء طيبة! ولنذهب إلى معابد الآلهة فنقيلها طوال الليل وليقم دين ذوس بعد أن أمدنا جميعا بنشوته من ألعابنا مقام الرئيس. ولكن هذا كريون بن مينيوكيوس ملكنا الجديد الذي دولته أمورنا نعمة الآلهة، إنه ليقبل وكأنه يدبر في خلده أمرا ذا خطر؛ فإن أمرا منه قد جمعنا الآن ليؤلف منا مجلس شوراه من جماعة الشيوخ.
المنظر الثالث (كريون والجوقة)
كريون :
أيها الشيوخ، لقد أنقذ الآلهة من الغرق هذه المدينة التي كانت تكتنفها زوبعة قاصفة، وقد أردت أن أجمعكم هنا خاصة دون بقية المواطنين؛ لأني أعلم مقدار ما تضمرون وتعلنون من الإجلال لصولجان لايوس، وأعلم أيضا مقدار ما احتفظتم به من الوفاء لأويدبيوس في حياته ولأبنائه من بعده. أما الآن وقد قضى كل من الغالب والمغلوب على صاحبه فقتل الرجلان وقضي عليهما قضاء واحد فأنا صاحب الملك بحق الوراثة.
ليس من سبيل إلى أن تعرف نفس الرجل وذكاؤه وأخلاقه إذا لم يجلس مجلس الحكم، ولم يوكل إليه تدبير الدولة وحماية قوانينها. أما أنا فأعتقد وقد اعتقدت دائما أن ذلك الرجل الذي يكلف الحكومة وحماية القوانين فلا يقف نفسه على النصح للدولة وتضحية كل شيء في سبيلها، بل يمنعه الخوف من ذلكم، أعتقد أن هذا الرجل شرير ممقوت؛ ولا أستطيع إلا أن أزدري ذلكم الذي يؤثر منفعة الصديق على منفعة الوطن. يشهد علي بذلكم ذوس الذي يحيط بكل شيء، لن أخفي ما يحدق بالمدينة من خطر أو يهدد راحة مواطني، ولن يكون صديقا لي من هو للدولة عدو؛ فإني واثق كل الثقة أن سلامتنا في سلامة الدولة، وأن وجود الأصدقاء ميسور إذا جرت سفينة المدينة آمنة هادئة.
على هذه القاعدة أريد أن أرفع شأن الدولة وأوفر عليها أسباب النعيم، ومن هذه القاعدة نشأ ما أصدرت من الأمر في شأن ابني أوديبوس أريد أن يقبر أيتيوكليس الذي امتاز بالشجاعة والإقدام ووقف بيننا موقف المدافع عن وطنه، وأن تقام له الواجبات الدينية التي تؤدى إلى نفوس عظماء الرجال، أما يولينيس الذي خرج من وطنه طريدا فعاد إليه ومعه جيش من العدو ليدمره ويحرق أسواره وآلهته، وليجعلنا أرقاء، ولينقع غلته من دمائنا؛ فقد أمرت أن لا يدفن ولا يبكى، وأن يكون جسمه بالعراء فريسة للكلاب وسباع الطير، ذلكم ما أريد وما آمر به. فلن تنال الجرائم مني من المكافأة والجزاء ما هو موقوف على الفضيلة، فمن أبلى في خدمة وطنه بلاء حسنا فله مني الشرف وحسن المكافأة حيا وميتا.
الجوقة :
يا ابن مينيوكيوس! ما أحسن ما ادخرت لعدو الدولة وصديقها من جزاء! إنك لتملك تدبير القوانين وإنا على اختلاف طبقاتنا لخاضعون لها أثناء الحياة وبعد الموت.
كريون :
إذن فاحرصوا على تنفيذ ما أمرت به.
الجوقة :
كلف هذا الواجب من هم أشد منا قوة وأكثر شبابا.
كريون :
قد كلفت من يجب عليهم حراسة جسم بولينيس وهم الآن يقومون بعملهم.
الجوقة :
إذن فماذا تريد منا؟
كريون :
أن لا ترقوا ولا تلينوا لمن يخرج عن أمري.
الجوقة :
ليس بين الناس من فقد الرشد، إلى حيث يسعى إلى الموت.
كريون :
هذا في الحق جزاء المخالفين، ولكن الأمل يذكيه حب المال كثيرا ما ساق الناس إلى الموت.
المنظر الرابع (كريون - حارس والجوقة)
الحارس :
لا أقول لك إني قد طرت إلى هذا المكان سريع الخطى؛ فإن الخواطر المختلفة التي كانت تملأ نفسي في هذه الطريق قد اضطرتني إلى أن أرجع أدراجي أكثر من مرة.
فقد كان قلبي يحدثني مرة قائلا: أيها الشقي! ما بالك تسرع إلى ما ينتظرك من العقاب؟ ومرة أخرى: أيها التعس! ماذا يقف بك؟ لو أن كريون علم هذا النبأ من غيرك فأي عذاب قد قدر لك؟! وأنا في هذا الاضطراب والتردد لم أكن أتقدم إلا بطيئا؛ فإن أقصر الطرق يطيله مثل هذا التردد، وبعد فقد أكرهت نفسي وأتيت.
سأتكلم وإن كنت لا أستطيع أن أشرح لك شيئا؛ فإني قد جئت وأنا واثق أني لن ألقى إلا ما قدره لي القضاء.
كريون :
ما مصدر هذا الاضطراب الذي أراك فيه.
الحارس :
سأتكلم عما يتعلق بي فلست أنا مقترف الذنب. ومن الجور أن أعاقب على ما لم أقترف.
كريون :
إنك لحسن السعي إلى غايتك، وإنك لتحسن الحيطة والاحتراس، ولكن يخيل لي أنك تحمل إلي نبأ جديدا.
الحارس :
ليس من اليسير أن يسرع المخبر إذا كان يحمل نبأ سيئا.
كريون :
وبعد فأدل بما عندك ثم انصرف إذا أديت رسالتك.
الحارس :
لك الطاعة، قد دفنت الجثة، وووريت في التراب، وأقيمت الواجبات العادية، واستخفى من أقامها.
كريون :
ماذا تقول؟ وأي الناس استطاع أن يجرؤ على هذا؟
الحارس :
لا أدري، فلم يظهر لنا أن الأرض في هذا المكان قد احتفرت أو عملت فيها الفئوس، لقد كانت كما هي مستوية يابسة. ويخيل إلينا أنها لم تتأثر بمرور عجلة ما. وعلى كل حال فلم نجد أثرا ما يدل على مقترف الجريمة. لم يكد ينبئنا بذلك الحارس الذي كانت عليه النوبة مطلع الفجر، حتى رأينا فيه معجزة ليس إلى تصورها من سبيل. قد اختفى الجسم ولم يكن مدفونا إنما كان يواريه بعض التراب، كأنما أراد المجرم أن يتقي الخطيئة ليس غير. ولم يكن يظهر من الآثار ما يدل على أن الكلاب الجياع أو السباع المفترسة قد أقبلت تتخذ هذا الجسم نهبا. لم نكد نعلم بذلك حتى أخذ بعضنا يهين الآخر، كل يتهم صاحبه. لقد كنا نقتتل، ولم يكن بيننا من يستطيع أن يمنعنا من ذلك، كلنا كان مجرما، ومع ذلك فليس منا من يظهر أنه مجرم، أو من كان يمكن اتهامه بذلك من غير شك.
لقد كنا جميعا مستعدين لأن نأخذ الحديد الملتهب بين أيدينا، وأن نمشي على النار وأن نقسم بالآلهة أنا لا نعرف من أمر هذه الجريمة شيئا، لم نشعر بإعدادها، ولم نشهد تنفيذها. فلما أيسنا من استكشاف أي شيء عرض أحدنا علينا رأيه جمدت له الدماء في عروقنا هلعا وغضت له أبصارنا، فقد كنا لا نستطيع إنكاره ولا نستطيع تنفيذه من غير أن نتعرض للهلكة. كان هذا الرأي ألا نخفي عليك شيئا وأن نفضي عليك بكل ما جرى. أجمعنا على قبول هذا الرأي، ووقع اختيار الحظ علي أنا الشقي التعس، لأحمل إليك هذا النبأ السعيد. كذلك أجدني هنا الآن على كره مني وعلى كره منك أيضا، فليس مما يبعث على الرضى والاستبشار حمل الأنباء السيئة.
الجوقة :
مولاي! إني لأسأل نفسي حائرا، أليس هذا الأمر عمل الآلهة؟!
كريون (للجوقة) :
دعوا هذا اللغو الذي يثير غضبي، ولا يدل إلا على تقدم سنكم وضعف قواكم العقلية. ومن ذا الذي يستطيع أن يسمعكم تقولون إن الآلهة قد نزلوا إلى العناية بهذا الميت؟ أتظنون إذن أن الآلهة قد حرصوا على أن يشرفوه تشريف الأخيار، فواروه وهو الشقي الآثم الذي جاء ليحرق صورهم وتماثيلهم، ويدمر أرضهم وقوانينهم؟ أرأيتم قط أن الآلهة شرفوا مجرما؟ كلا، كلا ولكن هذا عمل الساخطين الذين يهزون رءوسهم سرا وينالونني بالذم، والذين لا يذعنون لحكمي إلا كارهين، ولا يضمرون لي إلا العداوة والبغضاء. هؤلاء هم الذين واروا هذا المجرم رغبة في المكافأة، ذلك شيء لأ أشك فيه؛ فإن المال أشد ما اخترعه الإنسان خطرا. المال يدمر المدن ويفني الدول، ويفسد الطبائع الخيرة فيجعلها شريرة آثمة، هو الذي ألهم الناس كل خيانة، وحملهم على كل جور، ولكن الذين باعوا أنفسهم واقترفوا هذا الإثم إنما أعدوا لأنفسهم عذابا أليما عهدهم به غير بعيد.
أجل إذا كان من الحق أني لا أزال أكبر ذوس وأجله فثقوا - وأنا مقسم لكم بهذا - أنكم إذا لم تستكشفوا المجرم ولم تقودوه بين يدي، فالموت وحده لا يكفي لعقابكم. يجب أن تصلحوا ما قدمتم إلي من الإساءة معلقين في الهواء أحياء.
سترون إلى أي حد يجب أن تمتد منافعكم، وإلى أي حد يجب أن ينتهي شرهكم، فقد أرى أن المنفعة غير المشروعة تضيع أكثر الناس.
الحارس :
أيتاح لي أن أتكلم أيضا؟ أم يجب علي أن أعود أدراجي؟
كريون :
ألم تعلم بعد أن كلامك يؤذيني أشد الإيذاء؟
الحارس :
أيؤذي كلامي أذنك أم قلبك؟
كريون :
ماذا! أتسأل أين مقر حزني؟
الحارس :
قد جرح المجرم قلبك، أما أنا فلم أسئ إلا إلى أذنيك.
كريون :
إنك لراغ ثقيل.
الحارس :
ولكني بريء من الإثم.
كريون :
إنك لتستطيع أن تبذل حياتك في سبيل المال.
الحارس :
إن الظن لإثم عظيم إذا لم يقم على أساس متين.
كريون :
انثر بيننا الآن فرائد الحكم، ولكن ثق بأنكم إذا لم تقودوا لي المجرم فستعلمون أن الربح غير المشروع يستتبع العذاب الشديد.
الحارس :
لعل الآلهة تمكننا من استكشافه! (يكلم نفسه)
ولكن سواء أستكشف أم لم يستكشف - فإن المصادفة وحدها صاحبة الكلمة في ذلك - فلست أخشى أن تراني هنا. لقد نجوت رغم مخاوفي، وما كنت آمل النجاة فلأشكر ذلك للآلهة.
الجوقة :
لقد ملئ العالم بالمعجزات، ولكن لا أشد إعجازا من الإنسان. هو الذي يستعين الهواء القاصف على أن يطير بعد أن اتخذ للسفن أجنحة فيعبر البحر الملتطم وهو يبيض من حوله. هو الذي يستخدم الخيل والمحراث ليمزق في كل سنة جوف الأرض. هذه الإلهة الجليلة التي لا تعيي ولا ينالها الفساد. هو الإنسان حول يوقع في ثنايا شباكه أنواع الطير الهوج وأنواع الحيوان المفترس، وبنات البحر. يذلل بمهارته أشد سكان الغابات وحشية ويستخدم لسلطانه السوابق ذات الأعراف العراض، وثيرة الجبال تأبى على من يريد تذليلها. تعلم المنطق، وعرف مذاهب الريح، أدرك سلطان القوانين على المدن، عرف كيف يقي مساكنه سهام البرد والرطوبة، سير كل شيء بتجربته، ووجد من الحيل ما يتقي به أحداث الزمان، واستكشف ما يحول بينه وبين أشد العلل قسوة وأعظمها فتكا، الموت وحده هو العلة التي لم يستطع أن يجد عنها محيصا. على أن مهارته وافتنانه في الحيلة لا تطيعان أمله دائما، فهما إن أعانتاه على إدراك الخير فقد توقعانه في الشر. خليق بالشرف والكرامة في وطنه هذا الرجل وحده الذي يجل قوانين بلده وعدل الآلهة المقدس، فمن جرؤ على مخالفتها والخروج عليها فليس من وطنه في شيء. وددت لو لم تجمع بيني وبينه دار، ولم تصل بيني وبينه صلة، ولكن أي معجزة أشهد! كيف أستطيع أن أناقض عيني ولا أعرف أنتيجونا؟ فتاة شقية لأب منكود! ماذا! أأنت الذي خالفت عن أمر الملك! أنت التي جنيت هذه الجناية الحمقاء! أنت التي تقاد!
الفصل الثاني
المنظر الأول (أنتيجونا - الحارس والجوقة)
يبتدأ الفصل الثاني وقد أقبل الحارس يقود أنتيجونا، وجاء كريون فسأله عن أمرها فينبئه الحارس أنها هي التي اقترفت الإثم، وأنها قد اقترفته مرتين؛ فقد كان الحرس قد نبشوا عن جسم بولينيس ما كان يواريه من التراب، فأعادت أنتيجونا مواراته، وأخذت وهي تصب عليه بعض الخمر - كما يقضي به الواجب الديني - فيدور بين كريون وأنتيجونا هذا الحديث:
كريون :
ماذا! أتظلين مطرقة إلى الأرض من غير أن تنكري ما تؤخذين به!
أنتيجونا :
كلا، بل أنا أعترف به وأنا أبعد الناس من إنكاره.
كريون (إلى الحارس) :
انصرف واذهب حيث شئت فلا بأس عليك (إلى أنتيجونا)
أما أنت فأجيبيني من غير محاولة، أتعلمين أني قد كنت حظرت مواراة بولينيس.
أنتيجونا :
نعم، أعلم ذلك، وهل كان يمكن أن أجهله؟ وقد أعلن إلى الناس كافة؟
كريون :
وكيف جرؤت على مخالفة هذا الأمر؟
أنتيجونا :
ذلك لأنه لم يصدر عن ذوس، ولا عن العدل مواطن آلهة الجحيم، ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم، وما أرى أن أوامرك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان، من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي لم تكتب والتي ليس إلى محوها من سبيل.
لم توجد هذه القوانين منذ اليوم، ولا منذ أمس، هي خالدة أبدية وليس من يستطيع أن يعلم متى وجدت. ألم يكن من الحق علي إذن أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس؟ قد كنت أعلم أني ميتة، وهل كان يمكن أن أجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ لئن كان موتي سابقا لأوانه فما أرى في ذلك إلا خيرا.
ومن ذا الذي يعيش من الآلام في مثل هذه الهوة التي أعيش فيها ثم لا يرى الموت سعادة وخيرا، فأنت ترى أني لا أرى هذه الآخرة كأنها عقوبة، ولقد كنت أتعرض لما هو أشد لنفسي إيذاء لو أني تركت بالعراء أخا حملته الأحشاء التي حملتني.
ذلك وحده هو الذي كان يجعلني نهب اليأس والقنوط، أما ما دونه فما كان ليحزنني أو يؤثر في، فإذا قضيت بعد ذلك على ما فعلت بأنه نتيجة جنون، فمثل هذا القضاء لا يصدر إلا عن أحمق مأفون.
الجوقة :
إن أخلاق أوديبوس لتظهر واضحة في هذا الأخلاق شدة لا تعرف اللين وعزة لا ينال منها الشقاء.
كريون (للجوقة) :
ثقوا بأن هذه الأنفس الأنفة سريعة الإنكسار. ألا ترون إلى الحديد على شدته وصلابته كيف تعمل فيه النار فتلينه وتثنيه. أليست أقل شكيمة تكفي لتذليل أشد الجياد إباء وشموسا؟ مثل هذا الكبر لا يحسن بمن كان عبدا لذوي قرابته. قليل ما فعلت من مخالفة القانون فهي تجرؤ على معارضتي وتضيف إلى هذه الإهانة إهانة أخرى فتعجب بما فعلت. إذن فمن الحق علي أن لا أكون رجلا وأن تكون هي لو أني تركتها تستمتع بما انتحلت من السلطان من غير أن تلقى في ذلك ما هي أهل له من العقاب ... نعم ستلقى ما هي أهل له من العذاب ولو وصلت بينها وبين إلهنا المقدس - ذوس حامي الأسرة - أوثق الصلات، ستلقاه هي وأختها، فلا شك في أن أختها قد قاسمتها ما اقترفت من إثم. فعلي بها. لقد رأيتها منذ حين وإنها لتكاد تفقد الرشد. إن قلبا يدير الجريمة في الخفاء، ينم على نفسه من غير عناء. ما أشد بغضي لهؤلاء الذين يؤخذون وهم يقترفون الإثم فيحاولون تزيينه وتنميقه.
أنتيجونا :
أتتمنى أكثر من موتي.
كريون :
لا! تقر عيني حين أشهد مفارقتك لهذه الحياة.
أنتيجونا :
فما يمنعك من أن تأمر بها، وما ينفعك هذا الكلام الذي لا طائل فيه، والذي يزيد سخطي، كما أن كلامي لا يستطيع أن يرضيك؟ وأي مجد أحب إلي من أني قد واريت أخي؟ وأي مدح لا يهديه إلي السامعون لو لم يعقد ألسنتهم الخوف؟ ألا إن أكبر مزايا الظلم أن يستطيع أن يقول ويفعل ما يريد من غير أن يخشى عقوبة.
كريون :
أتظنين أنك أبعد نظرا من أهل طيبة جميعا؟
أنتيجونا :
إنهم يرون رأيي، ولكنهم يلتزمون الصمت بين يديك.
كريون :
ألا يخزيك إذن أن تسلكي سبيلا غير التي سلكوها؟
أنتيجونا :
ليس هناك ما يحمل على الخزي إذا شرف الإنسان من يصل الدم بينهم وبينه.
كريون :
ماذا! أليس أخاك أيضا هذا الذي مات في سبيل وطنه!
أنتيجونا :
هو أخي لأبي وأمي.
كريون :
فأي شرف آثم قدمت إليه؟
أنتيجونا :
ليست هذه الشهادة هي التي أنتظرها منه.
كريون :
إنك تسوين بينه وبين المجرم.
أنتيجونا :
إن بولينيس أخو أيتيوكليس لا عبده.
كريون :
لقد جاء يدمر وطنه بينما قاتل الآخر للدفاع عنه.
أنتيجونا :
سواء علي ذلك؛ فإن أديس هو الذي يأمرني بتشريفهما جميعا.
كريون :
ماذا! أيأمرك أديس بالتسوية بين الجريمة والفضيلة؟
أنتيجونا :
ومن يدري، أيقبل الموتى تمييزك بين الأشياء!
كريون :
إن أعداءنا لن يصبحوا أصدقاءنا بعد الموت؟
أنتيجونا :
ولدت لأحب لا لأبغض.
كريون :
هذا حسن، اذهبي إلى الجحيم فأحبي من شئت. أما أنا فلن أذعن لسلطان امرأة ما حييت.
الجوقة :
أرى اسمينا الحنون مشفقة على أختها، قد انهمرت دموعها أمام باب القصر، قد ستر عينيها سحاب من الألم فغير وجهها فهو مصبوغ بالدم، تنهل دموعها على خديها الأسيلين.
المنظر الثالث (اسمينا والأشخاص السابقون)
كريون :
أقبلي، أنت التي تزحف كالثعبان محاولة من وراء ستار أن تنقع غلتها بدمي. ما كنت أعلم أني أطعم في بيتي عدوين خطرين على دولتي، أقبلي ونبئيني: أشاطرت أختك دفن بولينيس أم تقسمين أنك لم تعلمي بهذا الأمر.
اسمينا :
هذا الأمر! لقد أخذت بحظي منه ولئن سمحت لي أختي بأن أقول الحق، فعلي أن آخذ نصيبي من الذنب.
أنتيجونا :
العدل يحظره عليك، لقد سألتك المعونة فأبيتها، وقمت بما قمت به منفردة.
اسمينا :
ولكني حين أراك شقية لا أتردد في أن أشاركك في الشقاء.
أنتيجونا :
لقد علم الجحيم وسكانه من قام بهذا العمل، لا أستطيع أن أحب من لا تتجاوز محبته الكلام.
اسمينا :
لا تحرميني أيتها الأخت شرف الموت معك. وإني قد قمت لأفي بالواجب الديني.
أنتيجونا :
إياك أن تموتي معي، وأن تنتحلي لنفسك شرفا لم تأخذي منه بنصيب، موتي وحدي يجب أن يكفي.
اسمينا :
كيف أن أستطيع أن أحب الحياة إذا فرق الدهر بيني وبينك.
أنتيجونا :
اطلبي ذلك إلى كريون؛ فأنت له شديدة الإخلاص!
اسمينا :
لم تؤذينني بهذه السخرية المرة، وما نفعها؟
أنتيجونا :
لم أسمح لنفسي بذلك إلا راغمة متألمة.
اسمينا :
ماذا عسى أن أفعل الآن لأنفعك؟
أنتيجونا :
احتفظي بحياتك فلست أحسدك عليها.
اسمينا :
إني لشقية تعسة! ماذا! أليس لي أن أقاسمك ما قدره القضاء.
أنتيجونا :
قد آثرت الحياة وآثرت أنا الموت.
اسمينا :
لقد كنت أنبأتك بهذا كله.
أنتيجونا :
تعجبين بما في كلامك من حكمة وأنا أعجب بما في كلامي من غناء.
اسمينا :
آه! لقد استوى حظنا من الجريمة.
أنتيجونا :
طيبي نفسا بالحياة، لقد ماتت نفسي منذ أمد بعيد وأصبحت لا تنفع إلا الموتى.
كريون :
لست أخشى أن أقول إن هاتين الأختين لمأفونتان. إحداهما كانته دائما والأخرى قد بدأت تكونه منذ الآن.
الفصل الثالث
المنظر الأول
كانت أنتيجونا خطيبة هيمون بن كريون، فلما علم هيمون بما أصاب خطيبته أقبل إلى أبيه فيتلقاه هذا بشيء من اللطف والبشاشة، وبكثير من النصح يدعوه إلى أن يعدل عن حب أنتيجونا؛ لأنها منذ خالفت القانون قد أصبحت غير أهل لأن تكون زوجا. وترى الجوقة أن الملك قد تكلم فأحسن الكلام، ثم يجيب هيمون أباه فينصح له بالعدول عن قتل أنتيجونا؛ لأن الشعب يرى رأيها وإن كان يخشى أن يجهر بذلك، وترى الجوقة أن هيمون قد أحسن النصيحة أيضا، وتدعو الأب وابنه إلى أن يتفقا وأن يذعن كلاهما لرأي صاحبه إن ظهرت فيه الحكمة.
كريون :
كيف! الآن وقد بلغت هذه السن يجب أن أتلقى دروس الحكمة من هذا الغلام الحدث!
هيمون :
ما شبابي؟ لا تنظر إلى سني، ولكن انظر إلى نصيحتي.
كريون :
بم تنصح لي! بأن أشرف من يخرج عن القانون!
هيمون :
لم أدعك إلى تشريف الأشرار.
كريون :
أليست أنتيجونا أهلا لهذا الوصف؟
هيمون :
ليس هذا ما يقوله أهل طيبة.
كريون :
ألأهل طيبة أن يملوا علي ما أصدر من أمر؟
هيمون :
لا تنس أنك بعرشك حديث العهد.
كريون :
وأي الناس غيري يستطيع أن يملك في هذه المدينة؟
هيمون :
ولكن الدولة لم تخلق لرجل واحد.
كريون :
أليست الدولة لمن يحكم؟
هيمون :
نعم، هذا حسن، ولكن البلد إذا كان خاليا مقفرا فعلى من تحكم؟
كريون :
أرى أنه يجاهد في سبيل امرأة.
هيمون :
إن أعجبك هذا الاسم؟ فإني إنما أجاهد في سبيل منفعتك.
كريون :
شقي! أتجرؤ على أن تتهم أباك!
هيمون :
حين أراه يقترف الظلم.
كريون :
أمن الظلم أن أحتفظ بحقي؟
هيمون :
إن من سوء الاحتفاظ بالحق أن توطأ بالأقدام قوانين الآلهة.
كريون :
أي خائن! يصلح لأن تملكه امرأة!
هيمون :
لئن تراني على الأقل وقد قهرتني شهوة مخجلة.
كريون :
لا تتكلم إلا دفاعا عنها.
هيمون :
بل دفاعا عنك وعن نفسي وعن آلهة الجحيم.
كريون :
لن أسمح عوض بأن تكون لك زوجا، إنها ستموت.
هيمون :
لئن ماتت، فليتبعن موتها موت آخر.
كريون :
كيف! أتبلغ بك الجرأة أن تهددني؟!
هيمون :
أأهددك حين أحارب فيك عواطف ظالمة؟!
كريون :
سأعلمك أن تكون أشد عدلا في عواطفك وميولك.
هيمون :
لو لم تكن أبي لقلت إن عواطفك تضاد العقل.
كريون :
أيها العبد الدنيء تملكه امرأة، لا تثقل علي بلغطك.
هيمون :
تريد أن تتكلم من غير أن تسمع شيئا.
كريون :
قد يكون ذلك ولكني أقسم بأولمبوس إنك لن تثقل علي بإنكارك من غير أن تلقى في سبيل ذلك ما تستحق من جزاء (إلى حرسه)
لتقد هذه المرأة البغيضة ولتجد بنفسها في أسرع وقت بأعين حبيبها.
هيمون :
لن تجود بنفسها بين يدي، لا تظن ذلك، ولكن عينيك لن ترياني بعد. لأتركنك نهبا لما يملكك من غيظ مع أصدقائك الذين يتملقون لك. (وينصرف هيمون مغضبا حنقا، فتحذر الجوقة كريون عاقبة هذا السخط، ولكن هذا لا يعبأ بالتحذير. ويعلن أنه قد قضى بأن تقبر أنتيجونا حية في غار بعيد عن المدينة حتى لا يقع إثم موتها على طيبة، ثم تتغنى الجوقة بما للحب على الناس والآلهة من سلطان، وتعلن أسفها على ما أعد لأنتيجونا من العذاب.)
المنظر الرابع (الجوقة وأنتيجونا)
أنتيجونا :
أي مواطني! انظروا إلى أنتيجونا تبدأ سفرها الأخير وتلقي على كوكب النهار آخر نظرة من نظراتها، ويلاه لن أرى هذا الكوكب منذ الآن!
إن إله الجحيم الذي يقبر كل شيء سيقودني حية إلى شاطئ الأكرون قبل أن أخضع لقوانين الزواج، وقبل أن أسمع أناشيد الزفاف تغني لي. ويلاه، إنما إلى الأكرون سيكون زفافي.
الجوقة :
أي ثناء وأي مجد ستحملين حين تلجين دار الموتى، أنت التي تهبط إلى دار أديس حية حرة لم تصبها علة مهلكة ولم يقض عليها حد الحسام.
أنتيجونا :
أعلم كيف احتملت ابنة تنتلوس شر ما قدر لها القضاء، إذا اكتنفتها في أرجاء فريجيا وعلى قمة جبل سبيل صخرة شاهقة تلين من حولها لين اللبلاب. وإن البرد الأبدي فيما يزعمون يتوج رأسها الذي يخيل إلى من رآه أنه ينهل انهلال السيل، وقد تنهمر على وجهها عبرات لن ترقأ. لقد ادخر لي القضاء ما ادخر لها، ولقد أعد لي سرير كسريرها الأبدي. (ثم يستمر الحوار بينها وبين الجوقة فهي تعزيها، وهي تلج في البكاء والعويل ذاكرة أباها وأمها وأخويها وما ألم بهم جميعا من الخطوب، حتى يأتي كريون فيحث الحرس على التعجيل بدفنها حية.)
المنظر الخامس (كريون - أنتيجونا والجوقة)
أنتيجونا :
يا للقبر! يا لسرير العرس! يا لك من منزل تحت الأرض لن أبرحه أبد الدهر، فيك سألقى من استقبلتهم يرسفونني في مقر الموتى من أسرتي، سأهبط إلى الجحيم قبل أن يحل الأجل الذي كتبه لي القضاء، وإني لآخر أسرتي وأشقاها، ولكني أهبط وإني لمملوءة أملا أن يكون محضري مصدر سروري لأبي وقرة عين لك يا أماه! ولك أيها الأخ العزيز أيضا؛ فإن يدي لم تهمل بعد موتك ما كان يجب من عناية بك وسقي لثراك، وتقريب إلى نفسك. فانظر أي بولينيس العزيز! ماذا ألقى من جزاء على القيام بواجبي، ولكن قلوب أصحاب الفضيلة لن تبخل علي بإعجابها بي ورضاها عني. وفي الحق أني لو كنت أما فقدت ولدها، أو كنت زوجا فقدت زوجها، لما فعلت ما فعلت مخالفة إرادة الوطن! ولوجدت من العزاء ما يحول بيني وبين اقتراف هذا الإثم؛ فإن الزوج إذا فقد سهل أن يخلفه غيره، وإن المولود قد يعزي عن المفقود، ولكن إذا استأثر القبر بمن منحنا الحياة فليس من الميسور التعزي عن الإخوان.
لذلك أيها العزيز بولينيس آثرتك على كل شيء، جرؤت على كل شيء، ولم أخش أن أقف من كريون موقف العاصية. ادن إذن، وضمني إليك، تقبل أختك التي تهبط إلى مقر الموتى وحيدة لا صديق لها، لم تبل حلاوة الزواج، ولا حنان الزوج، ولا لذة الأمومة. أي ذنب جنيت إذن على الآلهة؟ ولكن وا حسرتاه! إني لتعسة شقية، ما ينفعني أن أرفع نظري إلى السماء؟ وأي معونة أستطيع أن أسأل، وقد لقيت على ما قدمت من التقوى جزاء الآثمين؟ لئن رضي الآلهة عن من قضوا علي بهذا العقاب؛ فأنا معترفة بأني مجرمة غافرة لهم ما سألقى من عذاب. ولكن إذا كانوا ظالمين مجرمين، فليصرف الآلهة عنهم كل سوء، وليكن ما أحتمل من ألم مكفرا عن سيئاتهم.
الجوقة (لكريون) :
ما زالت أنتيجونا نهب ما يملأ نفسها من الغضب.
كريون :
ويل للذين يقودونها مع هذا البطء.
أنتيجونا :
ويلتاه! إذن فهذا آخر قضاء علي بالموت .
كريون :
لا تخدعي نفسك بالإفلات منه.
أنتيجونا (يقودها الحرس) :
يا لأسوار طيبة! يا لوطني! يا لآلهة مدينتي! لقد نفذ القضاء إنهم ليقودونني، انظروا إلى ملكتكم وحيدة مخذولة، ماذا يثقلها من إهانة! ومن أي يد ينالها السوء؛ لأنها قامت بما يجب عليها من التقوى!
الفصل الرابع
يأتي برزياس كاهن طيبة فينصح لكريون أن يعدل عن عقاب أنتيجونا، ويحذره سوء العاقبة وينذره بما أنبأته به كهانته من الوبال إن لم يسمع كريون. ولكن هذا يسخر منه ثم ينكر عليه ثم يهدده. فينصرف برزياس مغضبا وقد أنذر وأعذر.
فيتشاور كريون والجوقة، ويقر الرأي على أن يسمع الملك لأمر الكاهن فينصرف كريون ليستنقذ أنتيجونا ولكن «سبق السيف العذل».
الفصل الخامس
المنظر الأول
يقبل رسول فينبئ الجوقة بأن هيمون قد مات وإنه ليقص عليها ذلك إذ تخرج أوروديس زوج كريون من القصر.
المنظر الثاني (أوروديس - الرسول والجوقة)
أوروديس :
أي مواطني، لقد سمعت صوتكم وإني لخارجة من القصر أحمل صلواتي إلى معبد بلاس، أفتح الباب فإذا النبأ السيئ - بأن بعض الشقاء قد ألم بمنزلي - يمس أذني، يملكني الخوف فأسقط بين وصائفي، كأنما أغمي علي. ماذا كنتم تقولون؟ أعيدوه علي. قد احتملت من الآلام ما يجعلني من القوة بحيث أستطيع أن أستمع.
الرسول :
أي سيدتي العزيزة، سأقص عليك ما شهدت غير مخف للحقيقة، وما ينفعني أن أخفف من وقعها، فلئن فعلت فما أسرع ما يظهر كذبي، إن الحقيقة خالدة. لقد تبعت الملك إلى وسط الحقل، حيث كانت جثة بولينيس نهبا للكلاب. نتقدم بالصلاة إلى برسفونية وأديس، نتوسل إليهما أن يرفعا عنا سخطهما، نصب على بولينيس الماء المقدس، نجمع ما بقي من جثته على بعض الأغصان الحديثة العهد بأصولها، ونستخدم أرض هذا الحقل، لنتخذ له قبرا في شكل الهرم، فلما فرغنا من ذلك مضينا نحو الصخرة التي اتخذ فيها للأميرة سرير العرس يقرنها إلى الموت.
وما هي إلا أن يسمع أحدنا من هذا القبر المهمل صدى أنين يتردد عن بعد، فيقص ذلك على الملك الذي لا يكاد يقترب من القبر حتى يتميز بنفسه صوت هذه الشكاة من غير أن يعرف لها مصدرا. ثم يصرخ صرخة مؤلمة: شقي! أحق ما كنت أتوقع من شر؟! ألست أسعى إلى شر الآلام وأشقها احتمالا؟ لقد سمعت صوت ابني. أسرعوا، طيروا إلى قبر أنتيجونا، ارفعوا الحجر الذي يسده، ادخلوا فوجته، أنبئوني، أأسمع صوت ابني حقا أم خدعني بعض الآلهة.
ننفذ أمر سيدنا الواله، نرى أنتيجونا معلقة في قبة هذا الغار، وقد اتخذت من منطقتها حبلا إدارته حول عنقها. وكان هيمون يضمها بين ذراعيه، باكيا حبه، منكرا قسوة أبيه، ناعيا حبيبته. فيقبل كريون وقد هاله هذا المنظر، فهو يصرخ صراخا مزعجا، ويبعث من صدره أنينا أليما: «ولداه! ماذا تصنع؟ أين تترك عقلك يهيم؟ في أي يأس تسترسل؟ اخرج يا بني، اخرج فأنا الذي يتضرع إليك.» ولكن هيمون يستل سيفه ذا الحدين، وقد ألقى على أبيه نظرة ملؤها الغضب والحنق، من غير أن يجيبه. فيهرب كريون ويتقي ضربته، ثم يحول الشقي غضبه إلى نفسه، فيغمد سيفه في صدره وقد احتفظ بحبه، فهو يضم أنتيجونا بين ذراعيه يتمشى فيهما الفناء، يلقي آخر أنفاسه، ويصبغ بدمه الذي يخرج مع زفراته خدي حبيبته الممتقعين.
وكذلك اجتمع هذان الزوجان في مقر الموتى، قد اضطجع كل منهما إلى جانب صاحبه ليعلما بني الإنسان أن الحمق أشد الرذائل عليهم خطرا. (تنصرف أوروديس من غير أن تنطق بكلمة فتخشى الجوقة والرسول عاقبة هذا الصمت، ثم يقبل كريون وهو يحمل جثة ابنه، وإنه ليتفجع ويتوجع إذ يقبل من القصر عبد فينبئه بأن زوجه قد قتلت نفسها. وتنتهي القصة بما ينطق به كريون من شكاة وأسى، ومن حزن وألم.)
إلكترا
الأشخاص
أورستيس:
ابن أجاممنون.
بولاديس.
مربي أورستيس.
إلكترا:
بنت أجاممنون.
كروزوتيميس:
بنت أجاممنون.
كلوتيمنسترا:
زوج أجاممنون.
إيجستوس:
عشيق كلوتيمنسترا.
والجوقة:
مؤلفة من بنات موكينا
تقع القصة أمام قصر الملك في موكينا.
عاد أجاممنون من حرب تروادة ظافرا منتصرا، فأتمرت به زوجه كلوتيمنسترا وعشيقها إيجستوس وقتلاه في حفل أقيم لاستقباله في عقر بيته وأمام النار المقدسة، وتمكنت ابنته إلكترا من إنقاذ أخيها الطفل أورستيس فهرب به مربيه، وما زال يتعهده ويعنى بصباه وشبابه، حتى بلغ أشده وعاد ليثأر لأبيه.
الفصل الأول
المنظر الأول
الفجر بازغ يبعث أضواءه قليلا فيمحو بها ظلمة الليل شيئا فشيئا، وقد أخذ أورستيس وبولاديس ومربيه يدبرون أمرهم بينهم، ويدبرون ما أزمعوا من الانتقام. فيأمر أورستيس مربيه أن يذهب إلى القصر فيخالط أهله، ويداخلهم ويبلو من أمرهم ما هم في حاجة إلى بلائه، بينما يذهب هو وصديقه إلى قبر أبيه فيقدمان إليه الضحية والقربان، ثم يعودان بعد ذلك وقد حملا علبة من النحاس يزعمان أنها تشتمل ما بقي من رماد أورستيس الذي صرع في حفلة سباق، فأحرق جسمه وحملت بقيته إلى أهله، وإنهم ليتأهبون للمضي في ما دبروا إذ تقبل إلكترا ولكنها لا تراهم فيحاول أورستيس أن يقف ليسمع شيئا من حديثها، ولكن مربيه يأبى عليه ذلك، فينصرفون.
المنظر الثاني (إلكترا وحدها)
أي ضوء النهار النقي، أيها الفضاء الواسع من الهواء يحيط بالأرض، كم سمعتماني أبعث الصراخ المحزن، والعويل المؤلم، وأضرب بيدي صدري الدامي حين تنجلي ظلمة الليل! وكم رآني سريري ترويه دموعي أثناء الليل في هذا المنزل النكد أبكي ما أعد القضاء لهذا الأب الشقي الذي أعفاه أريس هذا الإله السفاح في ميدان القتال، وغالته أمي يعينها عشيقها إيجستوس، فقضت عليه بفأس دام كما ينحي الحاطب في الغابة على شجرة البلوط! أنا وحدي يا أبتاه في هذا المكان، أئن لموتك هذا الموت الشنيع الوحشي! على أني لن أضع حدا لما أبعث من أنين، ولا لما أسكب من دموع، ما رأيت نجوم الليل تجري في أفلاكها، وضوء النهار يلمع في آفاق السماء، سيتردد صدى آلامي أمام قصر أبي كشكاة فيلوميلا، لم تنقطع منذ حرمت أطفالها.
أي مقام برسفونيه وأديس، أي هرمس السفلي وأنتن يا بنات الآلهة أيتها الموكلات بتعذيب الأشقياء، أيتها الآلهة المخوفة، آلهة اللعن والسخط ألقوا أعينكم على هذه الضحايا التي سفكت دماؤها مع هذه القسوة. انظروا إلى هذه الجريمة المشتركة مصدرها الحب الفاجر، أقبلوا، أعينونا، اثأروا لموت أب شقي، ابعثوا إلي أخي، فلن أستطيع منذ اليوم أن أحمل وحدي ثقل هذه الآلام التي تنوء بي.
ثم تقبل الجوقة مؤلفة من فتيات موكينا، فيدور بينها وبين إلكترا حوار طويل تحاول الجوقة تعزيتها، فتعلن إلكترا أن ليس إلى العزاء من سبيل.
الجوقة :
احذري أن يسمع صوتك؛ ألا ترين إلى أي حال بلغت وفي أي هوة قذف بك؟ لقد جمعت لنفسك شقاء إلى شقاء ولقد جرت عليك صلابتك آلاما جديدة، إنك لتعاندين من هم أشد منك قوة، وما هذا من الرشد في شيء.
إلكترا :
نعم، أعلم أن حالي شديد السوء، وأعلم مقدار شدتي وصلابتي، ولكني على رغم هذا كله لن أقصر عما أنا فيه من استنزال السخط واللعنة على المجرمين ما تنفست، ومن ذا الذي أيتها الصديقات العزيزات - أين هذا القلب - يشعر بما أنا فيه ثم يحاول تعزيتي؟ دعن، لا تحاولن هذا العزاء، لن يكون لسخطي حد، وسيكون أنيني أبديا خالدا كآلامي.
الجوقة :
ولكن قلبي وحده هو الذي يعزيك، كما يفعل قلب الأم الحنون، احذري أن تستتبع شكاتك هذه شكاة جديدة.
إلكترا :
وأي حد أستطيع أن أضع لما أنا فيه من يأس وقنوط؟ كيف أستطيع من غير أن أضيع شرفي في أن أنسى من حرمنيه الموت؟ أي الناس اتخذوا لأنفسهم هذه السيرة؟ لو أن بين الناس من يسلك هذا المسلك فأنا أود أن لا أنزل من قلوبهم منزل الرضى والكرامة. كما أني أود أن يدفعني ويزدريني كل محب للخير، أنا كفكفت في قلبي غلواء هذه العواطف الشريفة، عواطف الألم يبعثها الحرص على تشريف الموتى. ألا فليهلك أبد الدهر بين الناس الرشد والتقوى، إذا كان حظ من فارق الحياة أن يبقى مهملا منسيا كأنه تراب غير حساس وإذا لم يلق المجرمون جزاء ما اقترفوا من إثم.
الجوقة :
ولكن منفعتك ومنفعتي يا ابنتي هما اللتان جاءتا بي إلى هذا المكان؛ فإن كنت مخطئة فيما وجهت إليك من نصح، فلتكن لك الكلمة ونحن لما ترين مذعنات .
إلكترا :
يخجلني أيتها الصديقات العزيزات أن أسترسل أمامكن في هذا الألم الذي لا حد له، ولكن عاطفة أشد مني قوة تقهرني على ذلكن؛ فلا تلمنني فيه. وأي ابنة وفية تسلك مسلكا آخر بعد هذه النازلة التي نزلت بأبي والتي لا يزيدها مر النهار وكر الليل إلا قوة؛ فهي لا ينمحي منظرها أمام عيني بل يتمثل من حين إلى حين فظيعا مريعا. أليست أمي التي منحتني الحياة قد أصبحت أشد الناس لي عداء؟ ألم أصر من سوء الحال إلى حيث أعيش في قصري مع الذين قتلوا أبي، وقضوا عليه بالموت؟ أنا لهم خاضعة، منهم وحدهم أنتظر ما ينالني من خير وشر. أي حياة تظنن أني أستطيع أن أحيى حين أرى إيجستوس يجلس على عرش أبي، ويلبس ثيابه، ويقوم بالواجبات الدينية للآلهة في المقام الذي قتله فيه! وحين أرى هذا المجرم الآثم يقاسم أمي المجرمة سرير أبي، إن استطعت أن أسمي أما تلك التي ترتاح إلى صدر شريكها في الإثم؟ إلى أي حد من الجرأة يجب أن تكون هذه المرأة قد وصلت حتى يتصل الحب بينها وبين هذا المجرم الفاجر؟ إنها لتسخر من انتقام الآلهة وكأنها تعجب بما اقترفت، فإذا أقبل اليوم الذي خدعت فيه أبي وقتلته من كل شهر، أقامت حفلات الرقص وقدمت إلى الآلهة الحفظة الضحايا والقرابين. وأنا الشقية التعسة أبكي وأنتحب لهذه المناظر، وأفني قواي وحيدة. أئن لهذا المقصف الوحشي الذي سموه مقصف أجاممنون، ولو أني استطعت أن أسترسل كما أشاء إلى هذه الراحة الحلوة، راحة سكب الدموع! ولكني لا أكاد أفعل حتى أسمع هذه المرأة التي لا حظ لها من كبر النفس إلا في ألفاظها تنحي علي باللوم وتثقلني مسبة وازدراء، تدعوني موضع بغضها ومرمى انتقامها السماوي وتسألني: أأنت الوحيدة التي فقدت أباها؟ ألم يشعر غيرك من الناس ألما ولا حزنا؟ ... ليهلكنك اليأس ولا أرقأت آلهة الجحيم عبراتك.
كذلكن يتناولني لسانها بالمسبة. ولكنها لا تكاد تسمع بقرب عودة أورستيس حتى تفقد رشدها، ولا تملك من صوابها شيئا، تبحث عني وتصيح بي: إذن فهذا ما أعددت لي! هذا عملك، أنت التي وضعت أورستيس بنجوة من سلطاني حين أخفيته! ثقي بأنك ستلقين على ذلك عقابا عدلا. ويصخب هذه الكلمات صراخ وعجيج، وإلى جانبها عشيقها يزيد غيظها حدة والتهابا، هذا الجبان، هذا المجرم، هذا الذي ملأ يديه دعارة وفجورا، هذا الذي لا يحسن الحرب إلا مع النساء. وأنا أنتظر أورستيس يستنقذني من كل هذه الإهانة وأموت، منتظرة! ما زال يؤخر عودته حتى قضى علي ما أؤمل وما أملت. في هذه الحال التي وصلت إليها لا أستطيع أن أحتفظ بقصد ولا تقوى؛ فإن الشعر إذا بلغ أقصاه اضطرنا إلى أن نذعن له ونسترسل فيه. (وتقبل بعد ذلك أختها كروزتيميس وهي تحمل قربانا إلى أبيها من قبل قاتلته كلوتيمنسترا، فتحاول من غير طائل إقناع أختها بالعدول عما هي فيه من نحيب وعناد لأولي البأس والسلطان، وتسألها إلكترا عما تحمل فتجيبها بأن أمها قد رأت فيما يرى النائم أن أجاممنون قد عاد إلى الحياة وأظل سلطانه مملكته القديمة، فأشفقت من هذا الحلم وأرسلت إلى قبر القتيل هذا القربان.) (فتنهاها إلكترا عن أن تقدم إلى أبيها قربان أمها المجرمة، وتنصح لها أن تقدم مكانه خصلا من شعرهما فتأتمر كروزوتيميس بهذا الأمر، وتستبشر الجوقة بهذا الحلم الذي ينبئ بأن أوان الانتقام قد آن.)
الفصل الثاني
المنظر الأول (كلوتيمنسترا - إلكترا والجوقة)
تبدأ كلوتيمنسترا بلوم ابنتها الكبرى لأنها انتهزت غياب إيجستوس فخرجت من القصر معولة تنثر لومها وسخطها على أمها، ثم تحاول أن تدافع عن نفسها وتزعم أنها لم تقتل زوجها إلا انتقاما لابنتها إيفيجينيا التي ضحى بها أجاممنون للآلهة قبل سفره إلى تروادة ليجعلوا هذا السفر له ميسورا. فقد كان يستطيع أن يرق لابنته ولأمها، ولكنه بلغ من القسوة والاستهانة بعواطف الأمهات أن ذبح ابنته غير مشفق ولا راحم، وما له لا يفعل ذلك وهو لم يقاس من الألم في منحها الحياة ما قاسته أمها.
ألم يكن من الحق أن يضحي مينيلاووس بأحد أبنائه، إذا لم يكن بد من التضحية؛ فإن اليونان لم يشهروا هذه الحرب إلا انتقاما له ودفاعا عنه، ثم يدور بين كلوتيمنسترا وإلكترا هذا الحديث:
إلكترا :
سأتكلم إذن، لقد قتلت أبي، ذلك شيء تعترفين به. ولكن سواء أكان موته عدلا أم ظلما، هل يوجد اعتراف أشد من هذا نكرا.
ومع ذلك فلست أخفي عليك ما أرى، إن العدل لم يدفعك إلى قتل أبي وإنما اندفعت إلى ذلك مفتونة بحب هذا المجرم الذي تعيشين معه. سلي أرتيميس على من أرادت أن تنزل سخطها، حين وقفت حركة الريح في أوليس وإن شئت فأنا منبئتك بذلك؛ إذ ليس من الميسور أن تسمعيه من فم الإلهة. حدثت أن أبي بينما كان يلهو في غابة مقدسة من غابات الإلهة، طارد وعلا أرقش طويل القرنين، ثم أصابه فقتله، وأسكره النصر فنطق بما لا يحسن النطق به.
سخطت لذلك ابنة لاتونا، وحبست اليونان على الساحل، حتى ضحى لها أبي بابنته وفلذة كبده، ندما واستغفارا.
هذا هو السبب الحقيقي لهذه التضحية، قد كان انقطع بالجيش الرجاء أن يذهب إلى تروادة أو أن يعود إلى وطنه.
ولقد مانع أبي زمنا طويلا، ثم أكرهته الحاجة فضحى بابنته استرضاء للآلهة لا تلطفا لمينيلاووس. ولو أني مالأتك على أنه قد ضحى بابنته لمنفعة أخيه فهل كان لك من أجل ذلك أن تنحريه بيدك؟ من ذا الذي منحك هذا الحق؟ احذري حين أقمت بين الناس هذا الحق وسننت لهم هذه السنة أن تكوني قد أعددت لنفسك ما يحملك يوما ما على الندم والحسرة؛ فإن الدم إذ لم يغسله إلا الدم، فدمك أول دم يجب أن يسفحه العدل. ولكن لا تنسي وهن ما تنتحلين من معذرة. تنزلي فأنبئيني ما بالك قد اطرحت كل حياء، واستخففت بكل خجل، فقاسمت سريرك هذا الشريك الذي أعانك على قتل أبي؟ ما بالك تحرصين على هذه الصلة المنكرة، وتطرحين أولادك الطاهرين الذين منحك إياهم زواج مقدس، كيف أستطيع أن أرضى عن مثل هذه الجنايات؟ أتقولين أيضا أنك إنما تثأرين لابنتك؟ فإنك لن تستطيعي من غير خزي أن تنطقي بمثل هذا الجواب. وفي الحق أن من أشرف الأعمال أن تقترن المرأة إلى عدوها لتثأر لابنتها. ولكن حسبي لوما فإني إن لم أكف حملتك على أن تملئي الأرض صراخا بأنا نعق أمنا. على أني لم أر فيك أما وإنما أرى فيك طاغية ظالمة؛ فأنا أقاسي أنواع العذاب، وألقى منك ومن عشيقك ألوان الألم، بينما أخي أورستيس الذي لم ينج إلا بعد مشقة يحتمل ثقل النفي وذله.
هذا الذي ما زلت تتهمينني بأني إنما ربيته لينزل بك العقاب يوما ما. ثقي بأني لو ملكت عقابك لما أحجمت عنه. والآن فانطلقي وأعلني إلى الناس جميعا أني قد فطرت على الشر والغضب والحمق؛ فإن ذلك إن يكن حقا فلن أضع قدر الدم الذي ورثته عنك. (ثم يشتد الأخذ والرد بينهما حتى تهدد كلوتيمنسترا ابنتها بالعذاب حين يعود إيجستوس، وتنصرف إلكترا فتتقدم كلوتيمنسترا إلى أبلون بالصلاة راجية منه أن يقيها شر الحلم الذي أفزعها وأن ينزل سخطه على أعدائها.) (ثم يقبل مربي أورستيس فينبئ كلوتيمنسترا بمحضر من إلكترا والجوقة بأن أورستيس قد مات، ويقص عليهم موته، فتتفجع إلكترا ولا تدري كلوتيمنسترا في أول الأمر أتحزن لفقد ابنها أم تفرح لنجاتها منه، ثم يملكها الفرح فتنصرف مع المربي وتبقى إلكترا متفجعة متوجعة، تعزيها الجوقة وترثي لها.)
الفصل الثالث
رأت كروزوتيميس قبر أبيها مكللا بالزهر، وقد علقت فيه خصل من الشعر، فتقبل فرحة مسرورة تعلن إلى إلكترا عودة أورستيس لأنها واثقة بأنه وحده الذي قرب هذا القربان إلى أجاممنون. ولكن إلكترا تنبئها بموت أخيها، فتعول وتنتحب، ثم تطلب إليها إلكترا المعونة على قتل إيجستوس فتأبى فزعا وفرقا وتنصرف تاركة إلكترا وقد صممت على أن تنتقم وحدها لأبيها، وأخذت الجوقة تغني ما أصابها من ألم وما امتازت به من شجاعة ووفاء.
الفصل الرابع
يقبل أورستيس ومعه نفر من الناس يحملون علبة زعموا أنها تشتمل رماد أورستيس، فيسألون عن بيت إيجستوس، ويخبرون بأنهم أمامه، ثم ينبئون إلكترا بأنهم إنما أقبلوا يحملون ما بقي من أورستيس في هذه العلبة فتتمنى عليهم أن يدفعوها إليها لتبكي هذا الفقيد العزيز فيفعلون.
إلكترا (وقد أخذت العلبة) :
أيتها البقية الأخيرة لمن آثرت بحبي على الناس جميعا، أيها العزيز أورستيس! لشد ما بين هذه الحال التي أراك فيها الآن، وبين ما قد كنت عقدت بك من الآمال من فرق!
لست الآن إلا رمادا باطلا أحمله بين ذراعي، وإن كنت حين أبعدتك من هذا القصر - أي بني العزيز - لمملوءا قوة ونشاطا، آه! ما لي لم أفقد الحياة قبل أن أنقذتك من الموت وبعثت بك إلى أرض غريبة!
إذن لمت في هذا اليوم النكد ولكنك كنت تظفر بالمواراة في قبر أبيك. أما اليوم فقد قضيت بعيدا من وطنك، ومن ذراعي اختك، هاربا منفيا، إني لشقية! لم تصب يداي على جسمك الماء المقدس! ولم أجمع بعد تحريقك ما بقي من رمادك، لقد قامت بهذا الواجب أيد أجنبية.
يا لك من شقي تعود إلى ذراعي وإنك لخفيف الوزن في علبة ضئيلة تعسة ...! إلى أي حال صار ما بذلت من العناية بطفولتك، تلك العناية التي تعودتها، والتي كنت أحتمل في سبيلها هذه المشقة الحلوة؟ فما كنت في ذلك الوقت أعز على قلب أمك منك على قلبي؛ لذلك لم أعتمد على أحد في تغذيتك، لقد أخذت نفسي بذلك، وما كنت تدعو أختك إلا إياي. وا حسرتاه! لقد اختفى كل شيء معك في يوم واحد. ولقد قضى موتك كأنه الصاعقة على كل ما أحب وآمل.
لقد قضى أبي، ولقد قضيت، وهأنا تلك أموت.
ينتصر أعداؤنا، هذه الأم، هذه الضرة، تثمل فرحا، ومع ذلك فكم وعدتني رسائلك السرية بأنك ستعود لتنزل بها العقاب! ولكن إلها عدوا لك ولي قد حرمنا هذا الانتقام، هو الذي بعث إلي مكان هذا الوجه الذي كنت أحبه وأوثره، والذي كانت صورته مرتسمة في نفسي بهذا الظل الذي لا وزن له وهذا الرماد الذي لا غناء فيه. ويلي عليك! أيها التعس أورستيس! أي عودة مشئومة ادخر لك هذا الإله! أأنت أيها الأخ العزيز ، أأنت الذي يعود في هذه الحال ليحرمني الحياة، ولينزعها مني! استقبلني إذن مستقرك الأخير، أضف ظلا إلى ظل لنستطيع أن نعيش معا أبد الدهر.
لقد كنت أحب أن أقاسمك الحياة ما تمتعت عيناك بضوء النهار، أما الآن فلا أتمنى إلا الموت لأقاسمك ظلمة القبر؛ فليس الموتى بأشقياء.
الجوقة :
فكري أي ألكترا، فكري في أن أباك لم يكن خالدا، وأن أخاك لم يكنه أيضا، خففي من ألمك، واقصدي في أنينك؛ فإن الموت ضريبة لا بد أن نؤديها يوما ما.
أورستيس (لنفسه) :
ويلاه! ماذا أقول لها؟ بم أستطيع أن أخاطبها في هذا الاضطراب الذي يملكني؟ لن أستطيع بعد أن أملك هذا الجأش المضطرب.
إلكترا :
أي ألم ينالك، ومن أين هذا الكلام الذي أسمعه؟
أورستيس :
ماذا! أهذه إلكترا التي أرى، أهذه إلكترا ذات الصوت البعيد!
إلكترا :
نعم هي إلكترا، في حال شديد السوء.
أورستيس :
يا لك من حظ منكود!
إلكترا :
أيها الغريب، ما لك ترثي لشقائي؟
أورستيس :
أيتها الأميرة التعسة! إلى أي ذل وامتهان قد صارت حالك!
إلكترا :
ومع ذلك فهذا حظي، هذا هو الحظ السيئ الذي ادخره القضاء لإلكترا.
أورستيس :
أي حياة مؤلمة تحبين، لا زوج ولا عون!
إلكترا :
لم تنظر إلي أيها الغريب متنهدا محزونا؟
أورستيس :
لم أكن أعلم مقدار شقائي.
إلكترا :
وكيف استطعت أن تعرفه؟
أورستيس :
حين رأيت الآلام التي تنوء بك.
إلكترا :
ومع ذلك فأنت لا ترى منها إلا شيئا قليلا.
أورستيس :
أيمكن أن أرى أشد منها سوءا؟
إلكترا :
من غير شك، حين أمضي أيامي مع القتلة.
أورستيس :
القتلة! قتلة من؟ ... وبأي فظاعة ستنبئينني؟
إلكترا :
قتلة أبي، وقد قضت علي الضرورة أن أكون لهم قنا.
أورستيس :
وأي الناس استطاع أن يقهرك على ذلك؟
إلكترا :
أم لا تستحق هذا الاسم.
أورستيس :
وأي طريق سلكت إلى ذلك؟ القسر أم العذاب اليومي؟
إلكترا :
العذاب، القسر وكل ألم متخيل.
أورستيس :
ولا صديق لك يحميك ويعينك!
إلكترا :
لا، لم يكن لي إلا صديق واحد، هو الذي تحمل إلي رماده.
أورستيس :
أيتها الأميرة البائسة، إن منظرك ليثير إشفاقي.
إلكترا :
وا حسرتاه! أنت وحدك بين الناس جميعا نالك الإشفاق مما أنا فيه.
أورستيس :
لذلك أنا وحدي الذي أتى ليقاسمك آلامك.
إلكترا :
من أين؟ ماذا! أيصل الدم بيننا وبينك؟
أورستيس :
أنبئك بذلك إن أمنت هؤلاء اللاتي يسمعن حديثنا.
إلكترا :
ثق بأنك آمن، فالصلة بيني وبينهن متينة.
أورستيس :
دعي هذه العلبة، فسأنبئك بكل شيء.
إلكترا :
أيها الغريب، باسم الآلهة لا تنزعها مني.
أورستيس :
اسمعي لي، فلن تندمي على ذلك.
إلكترا :
آه! لا تحرمني أعز شيء علي.
أورستيس :
لن أسمح بأن تحفظيها.
إلكترا :
ما أشقاني أيها العزيز أورستيس! أأحرم رمادك.
أورستيس :
دعي هذه اللهجة المحزنة، فليس لحزنك من أساس.
إلكترا :
ماذا! أليس لحزني من أساس حين أبكي أخا فقد الحياة.
أورستيس :
ليس لك منذ الآن أن تنطقي بمثل هذه الألفاظ.
إلكترا :
ألست إذن كفأ لأن أبكي هذا الظل؟
أورستيس :
أنت كفء لكل شيء ولكن ليس ...
إلكترا :
ألست أحمل في يدي رماد أورستيس!
أورستيس :
ليس رماد أورستيس، وليس له منه إلا الاسم.
إلكترا :
في أي مكان توجد بقية هذا التعس؟
أورستيس :
لا بقية له: فليس للأحياء من قبر.
إلكترا :
آه، يا للآلهة! ماذا قلت؟
أورستيس :
الحق.
إلكترا :
أهو حي.
أورستيس :
إن كنته.
إلكترا :
ماذا! أيمكن أن تكون أورستيس!
أورستيس :
ألقي عينيك على خاتم أبي، ثم انظري أتشكين بعد ذلك.
إلكترا :
يا لك من ضوء عزيز طوال الدهر!
أورستيس :
آه! عزيز جدا، من غير شك.
إلكترا :
أيها الصوت الحلو، هأنت ذا قد أتيت.
أورستيس :
هو بعينه.
إلكترا :
أأنت أورستيس الذي أقبل.
أورستيس :
وددت لو تملكين كل ما تشتهين، كما تملكينني اليوم. (ثم تعلن إلكترا فرحها واستبشارها، وتشاركها الجوقة، ويحذرهن أورستيس عاقبة ذلك، ويأتي مربيه فيضيف تحذيرا إلى تحذير، ويحث أورستيس على انتهاز الفرصة؛ لأن كلوتيمنسترا وحدها، فينصرفون بعد أن ترفع إلكترا صلاتها إلى أبلون أن يقدر لها ولأخيها الفوز، وتتغنى الجوقة بقرب الانتقام.)
ويشتمل الفصل الخامس على موت كلوتيمنسترا وإيجستوس بيد أورستيس وظفر إلكترا والجوقة بأخذ الثأر.
Unknown page