ويقسم سائرها على المسلمين قسمة سواء، لا يفرق بين الناس مهما تختلف منازلهم، وكان يسوي في هذه القسمة بين الأحرار والأرقاء، وكانت الأخماس التي ترد إلى أبي بكر لا تكاد تذكر بالقياس إلى ما كان يرد إلى عمر من الشام ومصر، ومن العراق وأرض الفرس. وقد ظهرت له المشكلة خطيرة كل الخطورة حين كثرت الأخماس من جهة، وحين جاء ما كان يجبى من الجزية والخراج من جهة أخرى. كان هذا المال أكثر من أن يقسم على الناس، وكان تقسيمه خطرا، كان نوعا من السرف، وكان مغريا للناس بالكسل والاتكال والاعتماد على حظوظهم من الأخماس والجزية والخراج.
وقد شغل عمر بهذه المشكلة واهتم لها، ولاسيما بعد أن دخل سعد بن أبي وقاص وجيشه المدائن عاصمة الفرس وأرسلوا إليه خمس ما غنموا في هذه المدينة، وقد استشار عمر أصحاب النبي في أمر هذا المال، فأما علي - رحمه الله - فأشار عليه بأن يقسم في كل عام ما يجتمع له من المال ولا يمسك منه شيئا. ومعنى ذلك أنه كان يرى أن يسير عمر سيرة أبي بكر، فيقسم كل ما يصل إليه ويترك بيت المال فارغا.
وأما عثمان - رحمه الله - فقال: أرى مالا كثيرا يسع الناس، إن لم يحصوا، فيعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر. ومعنى ذلك أن عثمان أراد أن ينظم تقسيم المال بحيث لا يأخذ بعض الناس ويحرم بعضهم. وما أرى أن عثمان كان يريد أن يمسك عمر في بيت المال قليلا أو كثيرا، وإنما كان يريد أن يقسم المال بين الناس على نحو لا يوفر المال لبعضهم ويقصر عن بعضهم الآخر.
وقد كان في رأي عثمان شيء من الدقة والجدة معا؛ فإحصاء الناس في نفسه لون من النظام لم يعرفه العرب من قبل، وهو بعد ذلك جدير أن يمكن أمير المؤمنين من أن يضع المال في حقه ويطمئن إلى أنه لم يمنعه أحدا من الناس.
ولكن رجلا من قريش، ومن ذوي قرابة عمر، وهو الوليد بن هشام بن المغيرة أشار بالرأي الصواب حقا، وكان رأيه أول تقليد لغير العرب، فقد قال لعمر: إني قد جئت الشام، فرأيت ملوكه قد دونوا ديوانا، وجندوا جنودا، فدون ديوانا، وجند جنودا. وقد أخذ عمر برأي الوليد بن هشام، فكلف ثلاثة من قريش، هم: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم. وكانوا من نساب قريش، أن يكتبوا الناس على قبائلهم، وأن يبدءوا ببني هاشم لقرابتهم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
ومعنى الرأي الذي أشار إليه الوليد بن هشام ألا يقسم المال على الناس لغير غرض معروف، وإنما ينفق لغرض جدير أن ينفق فيه. وهذا الغرض هو تجنيد الجنود، فإذا جند الجنود وجب على أمير المؤمنين أن يعطيهم أعطياتهم من هذا المال، وأن يترك لهم حقهم من الغنيمة بعد ذلك. والجنود لم يكونوا يعيشون قبل تجنيدهم منفردين، وإنما كانوا يعيشون في أسرهم، لهم أبناؤهم وآباؤهم وإخوتهم، ولا بد من أن يمكن هؤلاء الذين تركهم الجنود للجهاد في سبيل الله من الحياة، فلهم إذن حقهم في العطاء. فإذا أعطي الجند، وأعطيت أسرهم، وأعطي الذين يحتاجون إلى المال ما يقوم بحاجتهم، وبقي بعد ذلك شيء عند الخليفة، فيجب عليه أن يمسكه في بيت المال عدة لما يحدث من الأحداث، ولما قد يحتاج إليه المسلمون من المعونة في أوقات الشدة والضيق.
فاقتراح الوليد بن هشام إذن لا ينظم قسمة المال فحسب، وإنما يجعل فيه للجند حقا إلى ما يكتسبون بأنفسهم من الغنائم، ويقوم بأمر أسرهم، ويغني من احتاج من المسلمين، ويدخر في بيت المال ما يكون عدة للأحداث حين تحدث وللنوائب حين تنوب.
وكان تنظيم عمر للعطاء بعد أن كتب له الديوان لا يخلو من طرافة، لم يسو بين الناس في أعطياتهم وإنما جعلهم طبقات وأنزل كل طبقة منزلتها. وقد لوحظ شيء من هذا فيما أصدر من أمر إلى كتاب الديوان بأن يبدءوا ببني هاشم، ثم بالأقرب فالأقرب من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد رأيت آنفا ما فعل حين جعل كتاب الديوان بني تيم رهط أبي بكر في إثر بني هاشم، وبني عدي رهط عمر في إثر بني تيم، فأبى عمر، وقال: ضعوا عمر حيث وضعه الله.
Unknown page