آذانها وشد مشافرها، واندفع في الصحراء وقد استكثر من الماء ما استطاع، فكان إذا ظمئت الخيل والمطايا نحر هذه الإبل، واستخرج الماء من بطونها فسقاها منه، وطعم الناس من لحومها. وكان بلوغ خالد جيوش المسلمين بركة عليهم، فهو قد أشار على أمراء الجيوش أن يوحدوا القيادة، وأن يكون كل واحد منهم أميرا على جماعة المسلمين يوما، وطلب إليهم أن يجعلوا له أول يوم بعد توحيد القيادة - كذلك يقول الرواة - وأرجح أنا أن أبا بكر أرسله إلى الشام أميرا على جيوش المسلمين كلها، وأن أبا بكر هو الذي وحد قيادة هذه الجيوش، على ألا يحرم أمير من الأمراء عمله الذي وعد به، فلما بلغ خالد الشام وجمعت له جيوش المسلمين، فأصبح قائدها العام لم يماكث العدو، إنما انتظر حتى جم وجم أصحابه، ثم عبأ جيوش المسلمين تعبئة لم يعرفها العرب من قبل، فجعل الجيش كراديس - أي كتلا ضخمة - ثم قذف بها جيش العدو فأتيح له النصر بعد خطوب.
وكان خالد هو الذي فتح الشام في حقيقة الأمر.
ولكن أبا بكر - رحمه الله - لم يتح له أن يفرح بهذا الفتح؛ فقد مرض وتوفي، واستخلف عمر وأرسل رسوله إلى جيوش المسلمين ينبئها بوفاة أبي بكر واستخلافه، ويعزل خالدا عن إمارة الجيوش ويجعل هذه الإمارة لأبي عبيدة.
ويقول الرواة: إن رسول عمر بلغ العسكر ليلة الموقعة وأنبأ أبا عبيدة بمهمته، فاستكتمه أبو عبيده الخبر، وكتمه هو حتى لا يفل في أعضاد الجيش، ولا ينبئ خالدا بعزله، ولم يعلم خالد بهذا العزل إلا بعد أن أنزل الله نصره على المسلمين وفتح لهم طريق دمشق.
10
وكذلك لم تتصل خلافة أبي بكر إلا سنتين وأشهرا، يختلف الرواة في عددها، ولم يوفق خليفة من خلفاء المسلمين في أمد قصير كهذا الأمد إلى ما وفق إليه أبو بكر؛ فقد توفي - رحمه الله - بعد أن رد الجزيرة العربية إلى الإسلام كعهدها أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن امتحن في صبره وصدق نيته وثباته وضبط نفسه عند المكروه، وامتحن معه المسلمون، وأبلت جيوشه في قمع الردة أحسن البلاء وأعظمه. وتوفي بعد أن رمى بهؤلاء المسلمين ملك الفرس، فاقتطع منه العراق العربي، ولو قد مد الله له في الحياة شهرا أو شهرين لمات مطمئنا إلى أن جيوشه في الشام قد فلت جيوش قيصر، وفتحت منافذ الشام للمسلمين ينساحون منها إلى أرض الشام كلها، فيستبرئونها من الروم ويستخلصونها للمسلمين.
ولكن الابتهاج بهذا الفتح واحتمال ما سيعقبه من الأثقال والخطوب، لم يتح لأبي بكر، وإنما أتيح لمن ولي خلافة المسلمين بعده وهو عمر بن الخطاب.
ولم نصف من سياسة أبي بكر إلى الآن إلا سياسة الحرب، فقد كانت خلافته كلها خلافة حرب في الجزيرة العربية أولا، وفي العراق والشام، بعد ذلك، ولم يكن لأبي بكر تجديد في سياسته الداخلية، إن صح أن نسمي سيرته في المدينة وفي العرب بعد أن عادوا إلى الإسلام: سياسة داخلية.
وقد اختصر أبو بكر سياسته في جملة قالها في أول خطبة خطبها بعد أن استخلف، وهي قوله: إنما أنا متبع ولست مبتدع. فقد ألزم نفسه سيرة النبي
Unknown page