ولم يتوقف الراهب عن الكلام إلا ريثما سعل ومسح لحيته بمنديله ثم قال: «وكان من أشد الناس غضبا لذلك رئيسنا المحترم؛ لأنه كان من أكثرهم ولاء لأود ودفاعا عن مصلحته، فلما علم بما ارتكبه أصبح شديد الرغبة في عرقلة مساعيه لاعتقاده أنه إذا نجح في ذلك يكون قد خدم شعبه وحكومته وكنيسته، والظاهر أنه كان قد لاحظ من كلامك نصرة العرب أو ربما جاءه كتاب من أسقف بوردو في هذا الشأن لا أدري ولكن الذي أعلمه أنه بعث إلي ذات صباح وسألني عنك مع أني كنت قد أنبأته يوم عودتي بما جرى أمام بوابة بواتيه، ولكنه دقق في البحث عنك وسألني عن الرجال الذين أخذوك مني فأخبرته أنهم من رجال الدوق أود فهز رأسه ومص شفته وأمرني أن أستقدم هذا الشيخ، وكان قد أخذ في النقاهة من جرحه، ولم أخبره بعد بخبرك لئلا أكدره، فلما أمرني الرئيس باستقدامه سرت إليه وقصصت عليه خبرك فتكدر، ثم أتيت به إلى الرئيس، فلما وقف بين يديه، أمرني فأغلقت الباب فأسر إلينا أمرا كلفني أن أبلغك إياه ولا ريب أنه يسرك؛ لأنه يهدف إلى الغرض الذي تسعين إليه فهل أقوله؟»
فقالت: «أتسألني؟ قل.»
قال: «لقد أعطاني كتابا كتبه بخط يده إلى رئيس دير القديس مرتين، لا أدري فحواه، ولكنه بلا شك يتضمن تحريضه على مقاومة شارل وجنده حتى لا يفوزوا على العرب، أو لكيلا يحاربوهم؛ لأن رئيسنا أصبح يفضل سلطان العرب على سلطان شارل وزمرته لما تحققه من رفق المسلمين برعاياهم المسيحيين فنأمن - على الأقل - على أديرتنا وكرامتنا.»
فلم تتمالك سالمة عند سماع تلك العبارة عن الابتسام من شدة الفرح، ونسيت كل ما مر بها من المتاعب، وتحققت أن كل ما أصابها من الشرور إنما كان القصد منه الوصول إلى هذا الخير، وأن ذلك كله حدث بعناية خاصة من مدبر هذه الكائنات، ذلك هو اعتقاد أهل الأديان، والإنسان بفطرته ميال إلى ذلك، فيحسب أن الدنيا قد وجدت لخدمته وحده، فإذا زرع وأمطرت السماء قال: إنها تمطر إكراما له، وإذا جفت فجفافها نكاية فيه، ولذلك فإذا أصابته مصيبة وإن كان هو الجاني بها على نفسه شكا من فاعل آخر يتبع خطواته إذا لم يسمه الخالق سماه الدهر أو الزمان، فلما توسمت سالمة قرب نجاح مهمتها، ابتسمت وقالت للراهب: «وأين الكتاب؟»
فمد يده إلى كمه وأخرج لفافة دفعها إليها فتناولتها، فإذا هي مختومة، فوضعتها في جيبها وهي تقول: «وما هو السبيل إلى دير القديس مرتين وحولي الحراس ساهرون ليلا ونهارا؟ ألا يقوم بإيصال هذا الكتاب أحد بالنيابة عني؟»
فقال الراهب: «لا يستطيع ذلك أحد سواك؛ لأنه في الواقع كتاب توصية بك، وقد ترك لك إقناع الرئيس، وأوصانا رئيسنا حفظه الله أن نبذل أقصى الجهد في سبيل إنقاذك من هذا السجن، فما الذي ترينه؟»
قالت: «لا أدري وأظن أن حضرة الرئيس قال ذلك وهو لا يعلم مقدار التضييق المحدق بي في هذا السجن، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم الآن وسمعتم أقوال الحراس فهل ترون حيلة لي؟»
الفصل الثامن والخمسون
شهامة
وكان حسان لا يزال صامتا إلى تلك الساعة، فلما رأى حيرتهما قال: «علي أنا تدبير هذا الأمر.»
Unknown page