وغمغم الدكتور بارينيو وهو يمسح العرق الذي يتصبب على وجهه: لقد ظننت أنه سيضربني! لو أنك رأيته، آه لو كنت قد رأيته! بيد أنني أضيع وقتك يا سيدي السكرتير، وأنت مشغول جدا. إنني ذاهب الآن، وأشكرك شكرا جزيلا. - مع السلامة يا عزيزي الدكتور، عفوا، وأتمنى لك حظا سعيدا.
وانتهى السكرتير من كتابة الرسائل التي سيوقعها السيد الرئيس في بضع دقائق. وكانت المدينة تتشرب الغسق البرتقالي، والسماء ترتدي حلة موسلين قشيبة من السحاب وتترصع بنجوم كأنه ملائكة التسبيح. وصدحت نواقيس الكنائس نغمة «مباركة أنت أيتها العذراء» فملأت الطرقات كأنها طوق نجاة للبشر.
وذهب بارينيو إلى بيته وعالمه ينهار من حوله. كيف كان يمكنه أن يتفادى هذه الضربة الخئون؟ وأغلق الباب وهو يتطلع إلى السقف حيث يمكن أن تهبط أياد قاتلة لتخنقه، وتوجه إلى خزانة ملابس كبيرة في حجرة نومه واختبأ فيها.
كانت معاطفه معلقة في الخزانة في صف مهيب كأنها جثث رجال مشنوقين محفوظة في النفتالين، وذكره منظرهم الجنائزي باغتيال والده منذ سنوات عديدة حين كان يسير بمفرده ليلا. وكان على أسرته أن تقنع بتحقيق قضائي لا جدوى منه. وبعد تلك الجريمة، حلت به مأساة، إذ تسلم خطابا غفلا من التوقيع كان منطوقه ما يلي على وجه التقريب: «كنت وزوج أختي عائدين يوما من طريق «فولتا غراندي» إلى حي «لا كانوا» في حوالي الحادية عشرة مساء، حين سمعنا طلقا ناريا عن بعد، وطلقا آخر، وآخر، وآخر، حتى عددنا خمس طلقات، فاختبأنا وراء أجمة أشجار قريبة. وسمعنا صوت جياد تقترب منا تخب بأقصى سرعة، حتى كادت الجياد وراكبوها أن يحتكوا بنا في انطلاقهم السريع، وبعد برهة، عدنا نسير في طريقنا مرة أخرى، وساد الصمت ثانية، بيد أن جوادينا أخذا يصهلان بشدة . ونزلنا من على ظهريهما وهما يزأران ويصهلان، كل منا يحمل مسدسه في يده لنرى ما الأمر، فوجدنا جثة رجل ميت مقلوب على وجهه، وعلى مقربة منه بغلا جريحا أراحه زوج أختي من آلامه بطلقة من مسدسه. وأسرعنا بالعودة إلى «فولتا غراندي» للإبلاغ عن الواقعة. وفي مقر الشرطة الرئيسي وجدنا الكولونيل «خوسيه بيراليس سونرينتي» الملقب ب «الرجل ذي البغل الصغير»، وثلة من أصدقائه يجلسون إلى مائدة عامرة بزجاجات النبيذ. وانتحينا به جانبا وحكينا له ما رأينا: أولا الطلقات النارية، ثم ... وأصغى إلينا، ثم هز كتفيه، وحول بصره إلى ضوء الشمعة التي سالت على جوانبها ورد في بطء: «اذهبا إلى منزلكما مباشرة - إني أعرف عما أتحدث - ولا تذكرا هذا الأمر مرة أخرى»!» - لويس! لويس!
وسقط أحد معاطفه من شماعته كأنه طير كاسر. - لويس!
وبحركة سريعة، خرج «لويس بارينيو» من خزانة الملابس وتوجه إلى غرفة المكتبة وتظاهر بتقليب صفحات كتاب. لشد ما يكون فزع زوجته لو أنها اكتشفت أنه كان مختبئا في خزانة الملابس! - لقد تعدى الأمر كل حدود! سوف تقتل نفسك أو تفقد عقلك من جراء كل هذه القراءة. لقد قلت لك ذلك منذ البداية! ألا تدرك أن ما ينقصك هو الكياسة وليست المعرفة إذا أردت أن تتقدم في حياتك؟ ماذا ستفيدك كل هذه القراءات؟ ماذا ستستفيد منها؟ لا شيء بالمرة! إنها لن تمكنك من شراء زوج من الجوارب! إن الأمر سيئ جدا، سيئ جدا!
وأعاد ضوء النهار وصوت زوجته الهدوء إلى نفس الدكتور بارينيو. - لا ينقصنا إلا هذا! القراءة، القراءة ... لماذا؟ كي يقولوا بعد أن تموت إنك كنت عالما؟ إنهم يقولون هذا عن كل شخص بعد أن يموت ... ها! فليقرأ الدجالون، أما أنت فلا حاجة بك إلى ذلك، فقد حصلت على درجتك العلمية. وانتهينا ولديك المعرفة بلا حاجة إلى الاستذكار. ثم ... لا تتطلع إلي بحدة هكذا! إن ما تحتاج إليه هو الزبائن، وليس الكتب. لو كان لديك مرضى بعدد ما لديك من كتب لكان هذا البيت قد أصبح جنة. أنا أنا ، فأنا أود أن أرى عيادتك ملآنة وأسمع الهاتف يرن على الدوام وأراهم يستدعونك للاستشارة، وأراك تصل إلى شيء ما ... - ماذا تعنين بأن أصل إلى شيء ما ...؟ - حسنا، أن تكون ناجحا. ولا تقل لي إن عليك أن تستهلك عينيك في القراءة حتى تكون ناجحا. إن غيرك من الأطباء ينجحون بنصف ما لديك من دراية ومعرفة. إنهم يسعدون بشق طريقهم بالسواعد إلى المقدمة، ويصنعون اسما لأنفسهم. لقد جاء طبيب السيد الرئيس، لقد ذهب طبيب السيد الرئيس ... هذا هو ما يعنيه النجاح.
فقال بارينيو وهو يمط الكلمات كأنما ليغطي فجوة في ذاكرته: ح ... س ... نا، حسنا يا عزيزتي. من الأفضل أن تتخلي عن آمالك هذه؛ فسأظن أنك ستقعين أرضا حين أخبرك أنني قد جئت توا من مقابلة مع الرئيس، أجل، مع الرئيس. - آه، يا إلهي! وماذا قال لك؟ كيف قابلك؟ - بمنتهى السوء. الشيء الوحيد الذي سمعته يقوله هو عن قطع رقبتي. لقد شعرت بالخوف. والأسوأ من ذلك أنني لم أهتد إلى باب الخروج بسهولة. - هل وبخك؟ حسنا، لن تكون الأول أو الأخير في هذا الأمر. «إنه يضرب الآخرين». وأضافت بعد صمت طويل: «إن ما يضيعك دائما هو الخوف ...». - ولكن يا امرأة، أي شخص يكون شجاعا في مواجهة وحش كاسر. - كلا يا رجل، ليس هذا ما أعني. إنما أتحدث عن الجراحة، ما دام في غير طاقتك أن تصبح طبيب الرئيس. إن ما ينقصك هو ألا تخاف. يحتاج المرء كي يصبح جراحا ماهرا إلى الشجاعة. صدقني. الشجاعة والحسم في ضرب المشرط. إن الحائكة التي لا تخسر قطعا من الثياب للتجربة فيها في البداية لن تتمكن أبدا من حياكة ثوب. والثوب شيء غال، أتعرف ذلك، أما الأطباء فبوسعهم أن يتمرنوا في المستشفى على الهنود. أما بشأن ما حدث لك من الرئيس، فلا تهتم بالأمر. هيا لنأكل! لا بد أن الرئيس كان في حالة سيئة بسبب تلك الجريمة البشعة التي وقعت في «رواق الرب». - اسكتي، وإلا فعلت بك ما لم أفعل أبدا، وهو أن أصفعك. ليست هناك جريمة ولا بشاعة في الأمر الذي أنهى حياة ذلك السفاح الكريه، الذي قتل والدي في طريق مهجور، أبي ذلك الشيخ المسالم الأعزل! - وفقا لخطاب غفل من التوقيع فحسب! يا لك من رجل غريب! من ذا الذي يهتم بالخطابات الغفل من التوقيع؟ - لو أنني اهتممت بالخطابات التي لا توقيع. - إن ذلك لا يليق بك. - دعيني أكمل كلامي. لو أنني اهتممت بالخطابات التي بلا توقيع لما كنت معي الآن في هذا البيت. وفتش بارينيو محموما في جيبه وعلى وجهه تعبير حاد وأضاف: «لما كنت معي الآن في هذا البيت، خذي، اقرئي هذا.»
وتناولت الزوجة الورقة التي دفعها إليها زوجها وقد شحب وجهها ولم يعد يبين فيه من لون سوى صبغة شفتيها الحمراء، وجرت بعينيها سريعا عبر سطورها المليئة بالأخطاء اللغوية: «يا دكتور، عليك أن تواسي زوجتك الآن وقد انتقل «الرجل ذو البغل الصغير» إلى الرفيق الأعلى. نصيحة أصدقاء يحبونك.»
وبضحكة ملتاعة، ضحكة تناثرت وملأت أنابيب الاختبار والقوارير التي يمتلئ بها معمل الدكتور بارينيو، كأنها سم زعاف مطلوب للتحليل، أعادت الزوجة الورقة إلى زوجها. وعلى الفور، ظهرت خادمة عند الباب وأعلنت: الغذاء جاهز. •••
Unknown page