ونصحوها بالذهاب لمقابلة قس ضئيل الحجم ذي نفوذ، أو إحدى عشيقات الرجل الذي يزود الرئيس بجياده. ولما ترددت الشائعات حينئذ بأن ذا الوجه الملائكي قد مات بالحمى الصفراء في «بناما»، فقد وجدت كميلة كثيرين على استعداد لاصطحابها إلى جلسات تحضير الأرواح كيما تحسم الشك باليقين. وهناك، لم ينتظروا حتى تكرر سؤالها لهم. ولكن الوسيطة الروحانية بدت مترددة، إذ قالت وساقاها الضافرتان تهتزان تحت ثيابها الجامدة: «إني لا أحب أن تحل في جسدي روح شخص كان من أعداء السيد الرئيس». ولكن الضراعة. مقرونة بالمال، تهز الجبال، فوافقت الوسيطة بعد أن أفعموا جيبها بالنقود. وأطفئت الأنوار. وارتعبت كميلة حين سمعتهم يستدعون روح ذي الوجه الملائكي، واضطروا أن يجروها خارج الحجرة وهي تكاد تكون غائبة عن وعيها. وقالوا لها بعد ذلك إنها سمعت صوت زوجها، الذي مات في أعالي البحار، وهو الآن في برزخ لا يمكن الوصول إليه، راقدا في سرير مترف مرفه، على حشية من الماء، محاط بجداول مليئة بالأسماك، علاوة على أفضل وسادة: انعدام الوجود.
كانت قد أصبحت نحيفة مغضنة كالقطة العجوز وهي لم تتعد العشرين من عمرها، ولا شيء يبين في وجهها سوى عينيها - عينان خضراوان تحيط بهما هالات سوداء في حجم أذنيها الشفافتين، وذلك حين وضعت طفلا صغيرا. وبناء على نصيحة طبيبها، فإنها حالما نهضت من الفراش، سافرت إلى الريف لتمكث هناك بعض الوقت. وتعلقت بالحياة من أستار واهية، إذ كانت مهددة بالإصابة بالأنيميا الخبيثة، والسل، والجنون، وهي تتلمس طريقها وطفلها بين ذراعيها بلا أنباء عن زوجها، باحثة عنه في المرآة: المكان الوحيد الذي يعود فيه الناس الذين غرقوا، وفي عيني طفلها، وفي نفسها حين تنام وتحلم به في نيويورك أو في سنغافورة.
وأخيرا، جاء يوم ألقى ضوءا على ليل حزنها المدلهم، حين كانت تتجول كالطيف بين أشجار الصنوبر وبساتين الفاكهة والأشجار السامقة في الحقول. كان يوم «الأحد الأبيض»، حين مسحوا طفلها بالملح والزيت والماء ورضاب القس، وخلعوا عليه اسم «ميغيل». كانت العصافير تتلاطف بمناقيرها - أوقيتان من الريش تغرد إلى ما لا نهاية. وكانت الأغنام منهمكة في لعق صغارها. يا له من إحساس كامل بالخير والرفاه خلقته حركات لسان الأم في الحمل الرضيع، الذي أخذ يرفرف بأهدابه الطويلة تحت وقع ملاطفتها له! وتسابقت الأمهار جريا وراء الفرسات ذوات العيون الرطيبة. وثغت العجول الصغيرة ببهجة واللعاب يبرق بين فكيها وهي تحكهما بالضروع المترعة باللبن. وبدون أن تدرك سببا لذلك، ضمت كميلة طفلها إلى صدرها حين انتهت موسيقى التعميد، كما لو أن الحياة قد عادت إليها من جديد.
ونشأ «ميغيل» الصغير في الريف وأصبح مزارعا. ولم تطأ «كميلة» المدينة بقدمها بعد ذلك أبدا.
الفصل الحادي والأربعون
كل شيء على ما يرام
مرة كل اثنتين وعشرين ساعة، ينفذ الضوء ما بين خيوط العنكبوت وأعمدة النافذة الحجرية إلى السرداب الأرضي؛ ومرة كل اثنتين وعشرين ساعة تتدلى إلى أسفل صفيحة غاز قديمة صدئة من حبل معقود نتن بالطعام للسجناء في الزنزانات السردابية. وعند مرأى الصفيحة مليئة بمرق الدهن وبها مزق من اللحم الدهني وقطع العجين، كان السجين رقم 17 يشيح بوجهه عنها. كان يفضل أن يموت على أن يأكل ولو ملعقة واحدة منها. ويوما بعد يوم، تدلت الصفيحة ثم ذهبت دون أن تمسها يد السجين. ولكن الحاجة كانت تلتهم عزمه تدريجيا، فقد تركه الجوع بلا إرادة ولا تصميم، وانتفخت عيناه وغطت بؤبؤيه مسحة زجاجية، وطفق يتكلم بصوت عال حديثا مشوشا إذ هو يذرع زنزانته الضيقة جيئة وذهابا، ويحك أسنانه بأصابعه، ويلوي أذنيه الباردتين. وجاء أخيرا يوم اندفع فيه إلى الصفيحة المدلاة كما لو كان يخاف أن ترفع عنه في أية لحظة وغمس فيها فمه وأنفه ووجهه وشعره وهو يكاد يغرق من الجهد الذي يبذله في البلع والمضغ في آن واحد. وأنهى الحصة المخصصة له، وحين جذب الحبل إلى أعلى راقب الصفيحة الفارغة ترتفع بسرور الحيوان الذي أشبع نهمه. ولم يستطع أن يمنع نفسه من مص أصابعه ولعق شفتيه. بيد أن شبعه كان قصير الأمد، إذ سرعان ما تقيأ كل ما أكله وسط لعناته وآهاته. والتصق اللحم والعجين بمعدته ورفضا أن يتزحزحا، ولكن كل تشنج معوي كان يضطره إلى الانحناء على الجدار فاغر الفم كشخص ينحني فوق هوة عميقة. وأخيرا انتظمت أنفاسه، ولكن رأسه كان لا يزال يدور. ومشط شعره الرطب بأصابعه، وهبط بها فيما وراء أذنيه كيما ينظف لحيته من القيء. كانت أذناه تصفران، ووجهه غارقا في عرق بارد لزج حريف، كمياه البطارية الكهربائية. وكان الضوء قد أخذ ينحسر بالفعل - إذ هو ما يكاد يأتي حتى ينحسر. وعمد إلى التشبث بما بقي له من قوة جسدية، كأنما هو يصارع نفسه، فنجح في الجلوس القرفصاء، ثم مد ساقيه وأراح رأسه على الجدار ، واستسلم لثقل جفنيه كأنما هو قد تعاطى مخدرا قويا. بيد أنه لم يسترح في نومه، ذلك أن صراعه كيما يتنفس رغم عدم كفاية الهواء تبعته حركات يديه القلقة على جسده، وقيامه بسحب إحدى ساقيه ثم الأخرى، ثم مدهما ثانية في حركة لا إرادية، وجهوده المحمومة كي يقتلع الفحم الحي الذي بدا كما لو كان يحرق حلقه، بخوذات أظافره الصغيرة. وحالما أصبح نصف مستيقظ بدأ يفتح فمه ويغلقه كالسمكة خارج الماء، كيما يتذوق الهواء المثلج بلسانه الجاف؛ وحالما اكتمل استيقاظه أخذ يصيح في هذيان محموم، واقفا على أطراف أصابعه وجاذبا قامته إلى أقصى حد لها، حتى يستطيع كل شخص أن يسمعه. وأخذت صيحاته تضعف شيئا فشيئا إذ يتردد صداها وسط أقبية السراديب. وقرع بقبضتيه على الجدران، ودق بقدميه على الأرض، وصاح عاليا مرة أخرى وأخرى، إلى أن تحولت صيحاته إلى صراخ ... «ماء، مرق، ملح، دهن، أي شيء، ماء، مرق ...».
وسقط على يده خيط من الدماء ... دماء عقرب مهروس ... أو عقارب ... ذلك أن الدماء استمرت تسيل ... دماء كل العقارب المهروسة في السماء وقد تحولت إلى أمطار ... وأطفأ عطشه دون أن يعرف من أين تنهال عليه تلك الهبة السائلة، التي أصبحت بعد ذلك مصدر عذاب له. ذلك أنه أمضى ساعات وساعات مقعيا على الحجر الذي اتخذه وسادة، حتى يقي قدميه من بركة المياه التي تكونت في زنزانته حين حل الشتاء، ساعات وساعات، مبللا حتى قمة رأسه، يقطر بالمياه، مبللا حتى نخاعه، يتثاءب ويرتجف، يعاني عذابات الجوع كلما تأخرت الصفيحة الصغيرة في المجيء. وكان يأكل بنهم النحيفين من الرجال كيما يغذي أحلامه، ثم يستغرق في النوم واقفا بعد آخر قضمه. وبعد ذلك، كانت تدلى إليه صفيحة أخرى يقضي السجناء الانفراديون حاجاتهم البدنية فيها. وفي أول مرة سمع السجين رقم 17 تلك الصفيحة تدلى إليه، ظن أنها وجبة غذاء أخرى، وذلك في الوقت الذي دأب فيه على رفض الطعام، فكان يتركها تصعد إلى أعلى دون أن يخطر بخياله أنها تحتوي على براز، ذلك أن رائحتها الكريهة كانت هي نفس رائحة المرق. وكانت هذه الصفيحة تنتقل من زنزانة إلى أخرى، وحين تصل إلى رقم 17، تكون نصف ملآنة. ويا لقسوة مشاعره حين يسمعها تدلى إليه حين لا يحتاج إليها، ثم لا تأتي حين تمس حاجته إليها ويصم أذنيه بقرعه على الحائط كلسان الجرس المصمت! وأحيانا يشتد به العذاب فتموت رغبته بمجرد التفكير في الصفيحة؛ متسائلا هل يا ترى تأتي أم لا تأتي، أو تتأخر أو ينسونها كلية (وهو ما كان يحدث أحيانا) أو ينقطع حبلها (وكان ذلك يكاد يحدث كل يوم) فتعطي أحد السجناء دشا ثقيلا. لقد كان مجرد التفكير في الأبخرة التي تتصاعد منها، والدفء البشري، والأطراف الحادة للصفيحة المستديرة، والجهد المطلوب، كافيا كيما يقطع رغبته، ثم يكون عليه إذن أن ينتظر المرة القادمة، وأن يحتمل اثنتين وعشرين ساعة من المغص، وعسر التبول، والدموع، والتقلصات، والشتائم، وطعم النحاس في رضابه، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يقضي حاجته على الأرض، مفرغا المحتويات النتنة لمعدته كالكلاب أو الأطفال، وحده مع الموت.
ساعتان من الضوء، واثنتان وعشرون ساعة من الظلام الحالك؛ صفيحة مرق، وصفيحة براز؛ عطش في الصيف، وفيضان في الشتاء: هذه هي الحياة في الزنزانات السردابية.
وقال السجين رقم 17 لنفسه بصوت لم يكد يتعرف عليه: «إن وزنك يتناقص كل يوم، وسرعان ما تستطيع الريح أن تحملك إلى حيث كميلة تنتظر عودتك إلى المنزل! لا بد أنها قد تعبت من طول الانتظار، لا بد أن الحزن قد جعلها نحيلة كعود الخيزران! ماذا يهم لو نحلت يداك؟ إنها سوف تعيد إليهما الدفء بضمهما إلى صدرها. قذرتان؟ إنها سوف تغسلهما بدموعها! عيناها الخضراوان! أجل، مثل صور الحقول الخضراء في التيرول النمساوي التي تظهر في مجلة «الستراسيون»، أو في خضرة أعواد القصب المبرقشة بالأصفر الفاقع واللون النيلي. ومذاق كلماتها، ومذاق شفتيها، ومذاق أسنانها ... ومذاق مذاقها ... وجسدها، كرقم ثمانية بخصرها النحيل، أو سحابة الدخان على شكل القيثارة التي تخلفها الصواريخ النارية حين تنطلق وتفقد قوة دفعها. لقد خطفتها من براثن الموت في ليلة كانت الصواريخ النارية تنطلق إلى السماء ... كانت الملائكة تتهادى، والسحب تتهادى، والأسطح تتهادى، بخطوات قصيرة تشبه خطوات الحارس الليلي، والبيوت، والأشجار، كل شيء كان يتهادى في الهواء معها ومعي».
Unknown page