151

Sayf Wa Nar

السيف والنار في السودان

Genres

عندما مات إبراهيم عدلان أفضيت بسري إلى شخصين أثق ثقة كلية في أمانتهما وقدرتهما على كتمان السر، ورغم كوني على ثقة - بالنسبة إلى ميلهما لي من ناحية وإلى كراهيتهما الشديدة للخليفة من الناحية الأخرى - من رغبتهما الشديدة في تخليصي من قبضة عبد الله، لم أوفق في سعيي ولم تصل مفاوضتي معهما إلى نتيجة، ولم يكن ذلك لقلة وجود المال الكافي لإنقاذي واستعماله في هروبي، وإنما يرجع إلى خوف ذينك الشخصين من افتضاح أمرهما وظهور اسميهما بعد فراري. وبما أنهما صاحبا عائلتين في السودان، فلم يكونا يرتابان في أن العمل الوحيد الذي يعمله الخليفة اقتصاصا منهما هو نفيهما، ثم حمل زوجة كل منهما إلى دار حرم عبد الله ، ثم تشريد أولاد كل من الرجلين؛ وهذا بلا ريب قصاص فظيع وعقاب لا تحتمله النفس .

في الوقت نفسه لم يكن أفراد أسرتي ساكتين، بل كانوا يدبرون كل الوسائل الممكنة لإنقاذي، ودعاهم حبهم إياي إلى بذل كل ما يستطيعون من عون وتعضيد. وبما أنهم كانوا على جهل كلي بما يجري في السودان، وعاجزين عجزا مطلقا عن مد أيدي المساعدة من فينا إلي في أم درمان؛ لم تكن أمامهم وسيلة سوى دفع قيم مالية تستخدم لحسابي عند قنصل النمسا في مصر، وقد كانت تصدر إلى الأخير تعليمات من وزير خارجية النمسا باستعمال الأموال المذكورة على أحسن صورة ممكنة لإنقاذي. وإنه لمن الواجب علي أن أذكر بالثناء البارون هدلر فون أجبرج - سفير النمسا المفوض في إحدى دول أوروبا الآن عام 1895، والذي كان فيما مضى قنصلا للنمسا في مصر - فقد سعى جهده لإنقاذي في الفرصة الملائمة، وبطبيعة الحال لم يكن من الحكمة التوصل لمساعدتي بواسطة أي شخص، فأمر الهروب خطير يستدعي الاستناد إلى الوثوق منهم ثقة تامة؛ ولذلك عمد القنصل النمساوي إلى اختيار أفراد مؤتمنين يسعون لي من جانب موظفي الحكومة، فانتدب القنصل لهذا الغرض الكولونل شيفر بك، وبعد مدة غير كبيرة استعان بالماجور ونجت، الذي أظهر في ظروف كثيرة عطفا كبيرا. ولا ريب في أني مدين بحريتي لكل من الماجور ونجت والبارون هولر؛ فبدونهما لم يكن ميسورا الحصول على أشخاص أمناء من العرب يوصلون إلي المقادير المختلفة من المال، وسأظل طول حياتي شاكرا لذينك الرجلين الكبيرين جهودهما المتواصلة في سبيل نجاح مسعاهما وتسهيل أمر الفرار على شخصي العاجز أمام الخليفة الشديد السطوة. ومع أن الجميع فشلوا في مساعيهم، وبدا منهم لمساعدتي ما أدخل الريبة في قلب الخليفة وفي قلوب جواسيسه المنتشرين حوله؛ فإني لا أزال أذكر تلك المهارة الفائقة التي بدت من جانبي الرجلين الفاضلين الأخيرين، حتى إن عبد الله لم يدر في خلده حولهما أي شك.

في الأيام الأولى من شهر فبراير عام 1892، وصل إلى أم درمان من مصر الشيخ بكار أبو زبيبة، رئيس فرقة جمال دنقلة، وقد كان هذا الرجل من العرب العبابدة، فلم تكد تطأ قدماه أرض السودان حتى أحضر أمام الخليفة، وهناك قال لمولاه إنه فر من مصر وقدم عن طريق أسوان طالبا عفو الخليفة والسماح له بالإقامة في بربر. وقد سهل له مهمته هذه جملة خطابات توصية إلى زكي عثمان أمير بربر، ولم يكد هذا الرجل يمر في ساحة المسجد الكبير ويلتقي بي حتى أسر لي في أذني: «إني أتيت لمساعدتك فاجتهد في مقابلتي.» فأجبته: «إن المقابلة تكون غدا بعد صلاة المغرب في هذا المسجد.» وبعد النهاية من جوابي اختفى عن نظري. وعلى الرغم من وثوقي في النجاة وارتياح ضميري إلى أني سأنجو يوما من ذلك العش، فإني لم أكن شديد الإيمان بذلك القول الأخير؛ لأني اختبرت أقوال السودانيين والعرب فوجدتهما في غالبيتها وعودا كاذبة وأقوالا لا ترمي لغير تبرير موقف قائلها وقت وقوفه أمامي، وتبعا لذلك قضيت اليوم التالي كما أقضي كل يوم عادي، فلم أفكر في المقابلة أو نتيجتها؛ لأني لم أكن آمل تحقيقها، وفي حين حدوثها لم يكن يذهب بالي إلى أن نجاتي ستتحقق بعدها مباشرة.

بعد الانتهاء من صلاة المغرب في اليوم التالي، مر بكار في طريقه إلى الخارج بباب المسجد الذي تقابلنا فيه اليوم السابق، فتبعته بحذر شديد، ثم دخلنا معا إلى القسم المحجوب عن الأنظار من بناء المسجد. وعندما غابت عنا عيون الناس وبعدت عن مجلسنا آذان السامعين، سلمني بكار صندوقا من الصفيح يبدو من رائحته أنه يحتوي على كمية من البن، وقد قال لي صاحبي العربي: «لهذا الصندوق قاع مزدوج فافتحه واقرأ الأوراق الموجودة في آخر القاع الثاني، وسأقابلك هنا غدا في الباب نفسه.»

أخفيت الصندوق تحت عباءتي، ثم رجعت إلى مكاني، وكان مقدرا لي أن أتناول العشاء في تلك الليلة مع الخليفة، فارتجف قلبي عندما سمعت تلك الدعوة؛ لأني كنت أحمل صندوقا كبير الحجم إلى حد ما بحيث يمكن ظهوره تحت ملابسي بكيفية بارزة، ومن سوء الترتيب أني وضعت أمام الذي كان يحدق في طول وقت العشاء، ولكن من حسن حظي - إلى جانب ذلك - أن الخليفة كان شديد التعب طول يومه فدار كلامه حول مواضيع عامة، وهذا كله لا يمنع استمرار ريبته وعدم تردده في إنزال العقاب الصارم بي وقت سنوح الفرصة، إلا أني لم أتردد في كل مرة أقابله فيها في إظهار ولائي وإخلاصي له، وبطبيعة الحال كررت ذلك في ليلة العشاء، ومن الغريب أني استطعت بعد أخذ قطع صغيرة من اللحم وكمية من الذرة المسلوقة ادعاء المرض، فأذن لي الخليفة بالانصراف إلى حيث أقضي ليلتي كل يوم، فأسرعت إلى المنزل وهناك أشعلت المصباح الزيتي الصغير وفتحت الصندوق بمديتي، فوجدت ورقة صغيرة كتب عليها بالفرنسية الكلمات الآتية:

بكار واد أبو زبيبة رجل مخلص أمين.

الإمضاء

الكولونيل شيفر

جعلنا (أنا وأحمد) نتساءل عما أصاب الرجال المرسلين لإنقاذنا، وأغلب ما اتجه إليه ظن كل منا هو أن الدراويش قابلوهم فقبضوا عليهم بعد أن شكوا في أمرهم وارتابوا، ومهما يكن الأمر فقد وصلنا إلى حيث كنا ممتلئين مخاوف وآلاما مبرحة، وعندما فارقت أحمد عند ساحة الاستعراض طلبت منه أن يخبرني في المساء عما يحدث، وفي الوقت نفسه أكدت له أني مستعد لمحاولة الفرار في أية لحظة.

لم يكد يبدو السحر حتى وصلت إلى كوخي الذي تركته منذ ساعات قليلة، وأظن أنه من الخير أن أترك للقارئ تصور شعوري وحالتي بدلا من السعي إلى وصفها، فهذا الوصف مما لا أستطيعه ومن حسن الحظ أني وصلت قبل قدوم أحد الضباط - واسمه عبد الكريم - برسالة من الخليفة يسألني فيها عن سبب تغيبي عن صلاة الفجر، فأجبته بأني كنت مريضا، وفي الحق كانت ملامحي كافية لإغراء الضابط بوقوعي في قبضة المرض الموجع.

Unknown page