خلا الزوج إلى صاحبه وأخذا يتحدثان، فما ألذ هذا الحديث وما أقساه وما أكثر نفعه! حديث يكشف لنا عن نفسي هذين الرجلين المختلفين أشد الاختلاف؛ أما الزوج فشديد الغيرة كما قلنا، يسيء الظن بامرأته وبأصدقائه، ثم يحمله ذلك على أن يسيء الظن بكل امرأة وبكل رجل، وهو يعتقد أن المرأة كاذبة بطبعها، وأنها أشد ما تكون كذبا حين تكون متأثرة أو خاضعة لعاطفة عنيفة، فلا تسمع لها إذا حدثتك أوقات تأثرها، وإذا كنت تريد أن تتبين أصادقة هي أم كاذبة؟ أوفية هي أم خائنة؟ فلا تلتمس ذلك في حديثها ولا في تأثرها ولا في حركاتها، فهي منافقة في هذا كله، ولكن التمس ذلك في صوتها العادي حين تتكلم غير متأثرة ولا منفعلة؛ فهذا الصوت هو مرآتها الصادقة.
وأما الآخر فرجل تعود فتنة النساء وهو صاحب لهو ولذة، وهو جبان، وهو يحس أن صديقه يتهمه، ويحس أن صديقه ليس مسرفا في الاتهام، ويريد أن يقف موقفا لا يلزمه شيئا ولا يورطه في شيء، فهو يراوغ ويفر، ولكن صاحبه لا يزال ينتقل من تلميح إلى تلميح حتى ينتهي إلى الصراحة فيطرده طردا عنيفا، وقد أنذره إنذارا قاسيا. خرج الموسيقي، وأقبلت الزوجة، فإذا علمت أن زوجها قد طرد الموسيقي غضبت لذلك غضبا شديدا، وكان بينها وبين زوجها خصام عنيف ينتهي بأن تنصرف المرأة وهي ترمي زوجها بأنه قاتل، وقد أحكمت إغلاق الباب عند خروجها، ولكنك تسمع بعد دقائق صوتا يدعو، وإذا المرأة تدعو زوجها تعلن إليه أنها تجرعت السم، وأنها تتألم، وأنها تموت، فهو لا يصدقها بل يظل هادئا، ولكنه يسمع في الغرفة اضطرابا فيسأل نفسه: أليس من الممكن أن تكون صادقة؟ ويدعو الخدم ويحاول كسر الباب. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فقد مضت أيام على ما كان في الفصل الثاني، ونحن في غرفة الاستقبال نفسها، نرى الزوج جالسا وكأنه مغرق في النوم، ونرى أم الزوجة وأختها تتحدثان، وهما تعدان الدواء، ونفهم أن المريضة ليست في خطر، وأن الأطباء قد استطاعوا أن ينقذوها من الموت، ونسمع الأم تلح في إهانة الزوج، وفي أن ابنتها متى برئت من علتها ستترك هذا البيت وستقطع ما بينها وبين زوجها من صلة، وهي تلح في ذلك إلحاحا ظاهرا، وقد أقبل الطبيب، فينبئ بأن المريضة في حال حسنة، وأنها تستطيع أن تترك غرفتها اليوم، وأنها تريد أن تلبس ثيابها، فتنصرف أمها وأختها لمعونتها، ويخلو الطبيب إلى الزوج، فيتحدثان، فإذا الزوج لم يكن مغرقا في النوم، وإنما كان مغرقا في التفكير، وإذا هو مضطرب أشد الاضطراب، قد ساء ظنه بامرأته حتى أصبح يسأل نفسه: أحق أنها شربت السم، وأنها كانت تريد أن تموت؟ وهو يلقي هذا السؤال على الطبيب فلا يظفر منه بجواب مقنع، ولا يكاد ينصرف الطبيب حتى تأتي الأم فتأمر الزوج بترك الغرفة لأن امرأته تريد أن تأتي وهي تكره أن تراه، فيطيع، وتأتي الزوجة متثاقلة شاحبة، فتلتمس زوجها، فإذا أنبأتها أمها بأنها أبعدته عن الغرفة عاتبتها في ذلك، فتسألها أمها: «لم تريدين أن تريه؟» فتجيب: «لأني كنت أريد أن أعلن إليه أني منصرفة من داره وأني لا أحبه ولا أبغضه.» وانظر إلى الأم التي كانت تعلن منذ حين أن ابنتها لن تبقى في هذا البيت قد أخذت الآن تستعطف ابنتها وتلح عليها في البقاء، تلتمس لذلك العلل والمعاذير، وتفهم أنها تكره هذا الطلاق إشفاقا على الأسرة من نتائجه، وتريد أن تضحي بابنتها في سبيل الأسرة، ويخيل إليها أن ابنتها تستطيع أن تكون سعيدة وأنها تستطيع أن تفعل ما تريد، فإذا أظهر زوجها شيئا من الغيظ أو الغيرة أنذرته بشرب السم، وقد أحست الفتاة أن الطلاق سيكون خطرا على أسرتها، فهي تضحي بنفسها في سبيل الأسرة وترضى البقاء.
وقد خرجت الأم وعادت ومعها الزوج، فلا يكاد الزوجان يتحدثان حتى نقتنع بأن الحرب لم تضع أوزارها بينهما، ثم يخلوان فإذا هي تعلن إليه أنها تبقى لا لأنها تحبه، بل لابنيها ولأسرتها، وأنها تريد أن تكون حرة منذ اليوم، وإذا هو يعلن إليها أنه لن يغفر لها خطيئة، ولن يعفيها من عقاب إذا خانته أو أظهرت ميلا إلى خيانته، وكانت الأم قد ألحت عليه في أن يكتب إلى الموسيقي يستزيره ليرضي امرأته، ففعل مظهرا الإذعان، ولكنه في حقيقة الأمر كان يريد أن يمتحن امرأته، وهذا الخادم يستأذن للموسيقي؛ فينصرف الزوج ويدخل الموسيقي، فإذا الكذاب في أبشع صورة، ينبئ الفتاة بأنه علم بما أصابها فأقبل يزورها ويتعرف أنباءها، فإذا سألته: «ألم يبلغك كتاب زوجي؟» أجاب: «أي كتاب؟ وهل كتب إلي؟ وهل أنا في حاجة إلى هذا الكتاب؟» ثم لا يزال بالمرأة حتى يقنعها بحبه ووفائه وبأنه يستعد للتضحية بنفسه في سبيلها، وبأنها تستطيع أن تعتمد عليه. وانظر إليها قد انخدعت واقتنعت، وإذا هي تداعبه وتتلطف له، ولكنها قد أحست التعب فتنصرف، وقد استوثقت أنه سينتظرها حينا، فلا تكاد تنصرف حتى يدعو الخادم الذي حمل إليه الكتاب فيدفع إليه مالا ويأمره ألا ينبئ سيدته بأنه دفع إليه الكتاب، وأن يزعم لها أنه ترك الكتاب عند البواب، يقول الخادم: «إذن فسأكذب!» فيجيبه: «نعم، ستكذب.» •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن حيث كنا في الفصل الثالث، وقد هدأ كل شيء؛ لأننا في الساعة الثانية صباحا، فلسنا نرى إلا ثلاثة أشخاص: الزوجة وهي جميلة حسناء قد برئت من علتها واستأنفت حياة ملؤها الشباب والحب، والموسيقي، والطبيب الشاب. وهم يذكرون الزوج، ونفهم من حديثهم أنه قد عني بزراعته وانصرف إليها، وأنه الآن في أرضه على مسافة بعيدة جدا من مدينة بعيدة جدا من مدينة بطرسبرج . لا يشكون في ذلك لأنه بعث اليوم برسالة برقية من هذا المكان البعيد، وقد انصرف الطبيب، وخلا العاشقان، فهما سعيدان بهذه الخلوة وهما يستعدان لليلة سعيدة، ولكنهما يسمعان حركة ثم يريان الزوج!
لم يكن إذن في أرضه، وإنما كلف أحد عماله أن يرسل هذه الرسالة البرقية، واحتال هو في أن يفجأ الخائنين، وهذا الفصل من القصة ثقيل مؤلم ملؤه سخرية مرة وعبث مع الموت.
انظر إلى هذا الزوج مبتسما، وانظر إلى امرأته ملتاعة تتكلف الهدوء، وانظر إلى الموسيقي مضطربا يتكلف الثبات، واسمع لهذه الأحاديث تدور بينهم، فلن تجد فيها إلا شكا وسوء ظن، وإلا ميلا إلى الانتقام وخوفا من الموت وتخلصا من التبعة، والمرأة أضعف الثلاثة، فقد أخذها الدوار، وأسرع زوجها إلى غرفتها يهيئ لها شرابا يرد إليها بعض قوتها، فخلت إلى صاحبها لحظة وهي مخلوعة القلب، تنبئ صاحبها أن زوجها سيقتلها وتضرع إليه ألا يتركها، وهو يتنصل ثم يعلن إليها أنه سيظهر الانصراف وسيختبئ خارج الغرفة، فإذا أحس شيئا أسرع إلى نصرها، وقد أقبل الزوج ومعه الشراب فشربت، وانصرف الموسيقي وخلا الزوجان، وإذا هما يسمعان بابا يغلق إغلاقا عنيفا وحركة رجل مسرع في المشي، فتجزع المرأة ويقول لها زوجها في هدوء: «لقد هرب. ألم أقل لك إنه سيكون إلى الهرب أسرع منه إلى العودة؟ لن يستطيع أن يعينك.» وانظر إلى المرأة جزعة ذاهلة، ترى الموت وتريد أن تتقيه، فهي تنكر حينا وتسب حينا آخر، وتستغيث وتستعطف، وزوجها هادئ مطمئن يعبث بمسدسه ويداعبها في ألفاظ مؤلمة. وانظر إلى هذا الموقف البديع؛ إلى هذه المرأة الجزعة الهلعة قد أخذت تكذب على نفسها وعلى زوجها، فتخيل إليه أنها تحبه أو أنها مستعدة لهذا الحب، تريد أن تتقي الموت باللذة، وأن تفتن زوجها عن إرضاء الانتقام بإرضاء الشهوة، والزوج هادئ، ولكنه طامع أو مظهر الطمع، وهو يدعو امرأته في دعابة وطمع ورغبة إلى أن تدنو منه وهو يبسط ذراعيه وهي تدنو خائفة طامعة، وهي الآن بين ذراعيه ولكنها لن تجد بينهما لذة ولا حياة وإنما تجد الموت؛ فقد خنقها زوجها وهي الآن بينهما جثة هامدة وهو قائم يتنفس الصعداء.
نوفمبر 1924
الحب
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «هنري كستماكر»
Unknown page