أما الأب وهو «جولان» فرجل متوسط السن يظهر عليه الجد وشيء من الاستقامة، ولكنه ليس من الجد في شيء، وإنما هو رجل يحسن التكلف، وأما الأم فامرأة من الجيل القديم محافظة، لا تخلو من ذكاء وفطنة، ولا يكادان يتحدثان إلى ابنتهما حتى تنبئهما في حدة وغضب مضحكين أنها قد اعتزمت الطلاق، فإذا سألاها عن ذلك، قصت عليهما خيانة زوجها إياها وإسرافه في الخيانة. أما الأم فتكره الطلاق لأنها محافظة، وأما الأب فيكره الطلاق لأنه يحب صهره، وقد أقنعتهما هنرييت بأن زوجها يخونها، وأنها احتالت حتى رأته منذ حين يدخل مع خليلته بيتا اتخذه للهو، وهذه الخليلة صديقة لها، ومع ذلك يلح عليها أبوها في أن تعدل عن الطلاق. أما الأم فترى أن كرامة المرأة وسعادتها ليستا في أن يكون زوجها وفيا لها؛ بل في أن تعتقد أن زوجها وفي لها، ويجب عليها أن تجهل خيانة زوجها، فإذا علمت بهذه الخيانة وجب عليها أن تتجاهلها، فإذا لم تستطع وجب عليها أن تزدري زوجها وألا تسأله عن شيء، وهي تقيم الأدلة على صدق هذا الرأي وتبحث عن هذه الأدلة في حياتها الخاصة؛ فانظر إليها تحدث ابنتها بما كان من عبث زوجها الشيخ منذ عشرين سنة مع خادم أحد الفنادق، وكان الشيخ يحسب أن امرأته تجهل هذا العبث، وانظر إليها تحدث ابنتها عن عبث زوجها الشيخ مع امرأة قروية منذ سنين، ثم مع امرأة من أهل باريس منذ يوم أو يومين، والشيخ يسمع هذا كله فيتلقاه في اضطراب وخجل مضحكين.
ثم يحاول الشيخ أن يقنع ابنته بالعدول عن الطلاق؛ فزوجها ظريف خفيف الروح حلو الحديث، قد يخطئ كما يخطئ غيره من الناس، ولكنه قد يعدل عن هذا الخطأ. وهو يكره هذا الطلاق؛ لأنه يحب صهره حبا شديدا؛ فهما يأكلان معا ويتنادمان ويتعلمان معا فنون النضال، وقد أقبل الزوج فتنبئ هنرييت أمها بأنه سيكذب عليها عشر كذبات في خمس دقائق، ولا تكاد الأم تتلقى الفتى حتى يبدأ في كذباته وهو يكذب وزوجه تحصي عليه في أذن أمها؛ يزعم أنه سعيد بلقاء حمويه، وأنه كان يريد أن يزورهما الساعة لولا ... فتهمس هنرييت في أذن أمها: الكذبة الأولى. وما يزال يكذب وتحصي حتى يبلغ العشر، فلا تتمالك هنرييت أن تقول بصوت بصوت عال: العاشرة. فيسألها زوجها: ماذا تقولين؟ تجيب: لاشيء!
ثم يخلو الرجلان، فيأخذ الشيخ في لوم صهره وتأنيبه، وهو يرى أن خيانة الزوج إثم، ولكن الرجل قد يضطر إليه، وإذن فيجب عليه أن يتحفظ ويحتاط حتى لا تجد امرأته عليه سبيلا، فليس الإثم حقا في الخيانة، وإنما هو في الألم الذي تجده الزوج حين تشعر أن زوجها قد خانها، وهو نفسه قد تحفظ واحتاط، فخان زوجه أثناء ثلاثين سنة دون أن تعلم ودون أن تشقى ودون أن يحتاج هو إلى الاستعطاف أو الاعتذار، ثم يذكر لصهره أمر امرأة تعنيه وهي زوج مجلد الكتب الذي يجلد له كتبه، خاصمت زوجها وتريد الطلاق، ولكنها تجهل القانون، وقد وعدها أن يجد لها محاميا يعينها، ونفهم من هذا الحديث أن الشيخ يحب هذه المرأة البائسة، وقد قبل صهره أن يعنى بأمرها، فسر الشيخ، ووعده بأن يزيل ما بينه وبين زوجه من الخلاف. وتقبل امرأة المجلد واسمها «أستيل»، فإذا جمال وسذاجة وخفة وروح، وإذا هي مدينة للشيخ بكل شيء، تحسب أن الرجل يحسن إليها ابتغاء مرضاة الله وتشكر له ذلك، ويألم الشيخ لهذا، ولكنه يخفي ألمه، فإذا خلت إلى الصهر أخذت تقص عليه أمرها في سذاجة ودعابة لم تلبثا أن تفتناه، فإذا هو ميال إليها مشغوف بها، ولكنه يجاهد نفسه ويمانعها، يريد ألا يضيف خيانة إلى خيانة، ولكن هذه المرأة جميلة فتانة، والرجل ضعيف لا إرادة له، وانظر إليها تقص عليه في وداعة وسذاجة أنها ذهبت إلى العرافة فنظرت في يدها، وأنبأتها بأن في يدها خطا يدل على أن زوجها سيخونها، وكانت لا تصدق ذلك، ولكنها اضطرت إلى تصديقه، وهي تعرض يدها على المحامي وتدله على هذا الخط، وقد أخذ المحامي يدها وأخذ ينظر إلى الخط، لكن هذه اليد لطيفة، فهو لا يستطيع أن يتركها، وإذا هو يداعب المرأة، وإذا المرأة تقبل دعابته، وإذا هو يعرض عليها أن تكون له خدنا فتقبل مبتهجة.
ويدخل الشيخ فلا تلبث المرأة أن تنبئه في سذاجة أيضا بما كان بينها وبين المحامي من اتفاق وتنصرف. والشيخ مغضب محنق يوجه إلى صهره مر القول! ألم يكن منذ حين يتوسل إلى ابنته في أن ترضى وتعدل عن الطلاق! كان هو يفعل هذا وكان صهره يدبر خيانة أخرى، ونحن نفهم أن الشيخ لا يغضب لخيانة ابنته، وإنما يغضب لهذا العدوان الذي حرمه صاحبته، وتقبل هنرييت وقد رفضت الصلح وأصرت على الطلاق، فيكون بينها وبين زوجها حوار بديع، ويستعطفها ويعتذر إليها فلا تعطف ولا تقبل عذرا، وهو صادق في اعتذاره؛ فهو لا يخون امرأته عن عزيمة وإصرار، وإنما يضعف أحيانا، ويتورط أحيانا، ويخشى أن يتهم بالجفوة والغلظة أحيانا أخرى، فيأتي ما يأتي من الإثم، وهو يريد أن يمنع زوجه من ترك البيت، ولكن امرأته صادقة العزم على الرحيل، وقد أمرت خادمها بالاستعداد له، وأقبل أبواها فهي تنبئهما بذلك، وإذا الزائرة التي رأيناها في أول الفصل قد عادت مبتهجة تنبئ بأنها زارت فلانة فعرفت عزمها على الطلاق أيضا، فتقول هنرييت: وخبر ثالث تستطيعين أن تذيعيه هذا المساء؛ وهو أني أيضا قد اعتزمت الطلاق. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في أحد المطاعم العامة التي يختلف إليها أهل الثراء والترف، والمطعم مزدحم بالذين يريدون أن يشهدوا التمثيل، فهم يطعمون بالقرب من الملاعب، ومن بين هؤلاء الناس «موبران» ومعه زوج المجلد التي اتخذها خليلة له في الفصل الأول، وقد تم الطلاق بينه وبين هنرييت منذ عشرة أشهر، وهو يتحدث إلى صاحبته، ولكنها كئيبة ضيقة الصدر تجيبه في عنف وغلظة، فإذا أقبل الخادم يسألهما عما يريدان أجابت هي أنها لا تريد شيئا ولا تشتهي الطعام، ولكن صاحبها لا يكاد يطلب إلى الخادم لونا من الألوان حتى تستزيد من هذا اللون، ولا يكاد يفرغ من طلبه حتى تضيف إليه ألوانا أخرى، وهي مع ذلك لا تريد شيئا ولا تشتهي الطعام، فإذا أقبلت الألوان أكلت وأسرفت في الأكل، ولكنها ليست جائعة ولا مشتهية للطعام! وهي في أثناء هذا كله تتحدث إلى صاحبها فتثقل عليه وتسوءه، وكان هذا الرجل لا يستطيع أن يرضيها في شيء، ولكنا نفهم من هذا الحديث أن سلطانها عليه عظيم، وأنها استطاعت أن تحول بينه وبين مرضه، فلم يخنها مرة واحدة في عشرة أشهر، وهما كذلك إذ تقبل هنرييت ومعها أبواها يريدون أن يطعموا ويذهبوا إلى دار التمثيل، وما هي إلا أن تراهم «أستيل» فتنبئ صاحبها، فإذا هو مضطرب، ولست أستطيع أن أصف لك الحركات المضحكة التي يأتيانها ليتبينا هؤلاء المقبلين دون أن يظهر منهما ذلك.
وقد جلس القوم، وما هي إلا أن عرفوا مكان موبران وصاحبته، فأما الأبوان فاضطربا، وأما هنرييت فابتسمت لأنها لا تكره زوجها القديم، وإنما ترى أن الحياة معه لا تلائمها وقد افترقا، فليس ما يمنع من أن يلتقيا كما يلتقي الأصدقاء، وما هي إلا أن تبودلت التحية بين الفريقين.
ولكن رجلا آخر يقبل وهو «لوهوتوا» الذي رأيناه في الفصل الأول وعرفنا أنه يحب هنرييت، وما زال يحبها، فلما كان الطلاق استأنف الأمل وخطب هنرييت فقبلت الخطبة، فإذا أقبل ورأى الزوج القديم غاظه ذلك، فهو محنق، له ألفاظ وحركات تضحك، ولكن هنرييت لا تحفل بألفاظه ولا حركاته وإنما تضحك، فإذا رأت إلحاحه غضبت وكلفته أمرا فينصرف له، وقد انصرفت كذلك «أستيل» فانضمت إلى نفر من أصحابها في المطعم، واتصل الحديث بين هنرييت وأبويها وزوجها القديم؛ لأن الخادم أخطأ فدفع إلى الأب حساب الزوج وإلى الزوج حساب الأب. اتصل الحديث فانتقل الزوج إلى مائدة الأسرة وجلس يشاربهم ويحادثهم، ثم يعود «لوهوتوا» فلا يزيده ذلك إلا غيظا، فتشفق عليه المرأتان وتنصرفان معه إلى الملعب ويبقى الشيخ لحظة على أن يلحق بهم بعد أن يتم الحديث، ولكنه لا يلحق بهم، فقد أخذ يذكر الأيام الأولى، وانضمت إليهما «أستيل» فنسي زوجه وابنته وخطيبها وقضى الليل في لهو وعبث. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت الأب في الساعة الرابعة بعد الظهر، وهو متعب يتحدث إلى أستاذه في السلاح بما أنفق فيه ليله من لهو، فإذا أقبلت زوجه - ولم تكن رأته منذ المطعم - أنبأها بأنه أمضى الليل في أمر هام سيغل عليه أرباحا كثيرة، فتجيبه بأنها لا تريد أن تعلم من أمره شيئا وإنما أقبلت تسأله أيريد الشاي. ونفهم من حديثه مع امرأته أنه يريد أن يصلح بين ابنته وزوجها القديم، وهو يفكر في ذلك ويلتمس له الحيلة، فتحاول زوجه أن تصرفه عن هذا، أليس الطلاق قد تم؟! أليست ابنتهما تريد أن تستأنف حياتها مع رجل آخر؟!
ولكن الشيخ يحب صهره القديم، ويكره صهره الجديد، ويرى أن ابنته لن تكون سعيدة معه، وهو في حقيقة الأمر لا يحب إلا نفسه، ولا يريد إلا أن يصل إلى «أستيل»، وتقبل هنرييت فتتحدث إلى أمها، فإذا هي مضطربة مترددة، تحب زوجها القديم؛ لأنه شاب جميل مبتهج فيه نشاط وخفة، وتحب خطيبها؛ لأنه رجل جد وثقة ووفاء تستطيع المرأة أن تطمئن إليه، ولو أنها خيرت لاختارت أن تقضي النهار مع خطيبها والليل مع زوجها القديم. تسخر منها أمها لأنها تطلب محالا، وليس للمرأة مطمع في السعادة الكاملة، وإنما الخير في أن تعتزم أمرا وتمضي فيه.
ثم تنصرف المرأتان، ويستعد الشيخ لدرسه، وإذا صهره القديم قد أقبل، فيتلقاه فرحا مسرورا، واستأنفا ما كانا قد تعودا من نضال وحديث، حتى إذا فرغا من التمرين أشار الشيخ على صهره أن يذهب إلى الحمام كما كان قد تعود، فيقبل بعد تردد ، ولا يكاد يستخفي حتى تأتي هنرييت تحمل الشاي إلى أبيها، وهي تحدثه إذ يظهر زوجها القديم، ويحتال الشيخ في الانصراف، فيخلوان ويتذكران أيامهما الأولى، فإذا هي تحب زوجها، وإذا زوجها قد بدأ يحبها الآن، وما يزالان يمضيان في الحديث حتى ينتهيا إلى الاضطراب والتأثر، وإذا هو يجذبها إليه، وإذا هي تنجذب، ولكنها تملك نفسها في اللحظة الأخيرة فتوسعه لوما وتأنيبا، وتعلن إليه أن ليس إلى استئناف الحياة معه من سبيل، فيخرج محزونا وقد أعلن إليها أنه يألم لهذا الفراق حقا، ولا يكاد يخرج حتى تقول هي: ومن سوء الحظ أني سأقترن بالآخر! •••
Unknown page