إن النجوم وهي تتمتع بمرأى هذه الليلة الجميلة تشرف أيضا على أماكن أخرى، وتعرض محاسنها بلا شك على صفحات أنهر غير النيل، ولكن ألا تظن معي أيها القارئ أنها تفضل سطح النيل الرائق على كل مرايا العالم؟
في هذه الليلة المباركة تجتمع كلمة المسلمين من كافة أنحاء العالم لأمر واحد، وتتجه نفوسهم بشعور واحد إلى الدعوة والاسترحام ولو لمدة وجيزة. وإنك لتجدهم في هذه الليلة سكارى وما هم بسكارى، غارقين في حلم معنوي وقد هدأت ضربات قلوبهم.
في هذه الليلة المباركة تقام الشعائر الإسلامية بإجلال وإعظام في كافة المساجد من أقصى المعمورة لأقصاها، وفي هذه الليلة تسطع الأضواء من على المنائر ببهجة وإشراق. كل هذا احتفاء بالليلة التي ولد فيها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
كل المآذن الواقعة على مد بصري كانت مزينة بالأنوار ترفل في ثياب من البهجة والإشراق، إلا أن مئذنتي جامع جدي الأكبر محمد علي، تمتازان عليهن بما يبدو على زينتها من روعة وجلال، إذ إن الشرفات المحيطة بهاتين المئذنتين المائستين كانت تلمع في وسط السماء كأربع من الأسورة المرصعة بالجواهر الساطعة. وما كنت أرفع بصري نحوهما إلا وتمتلئ جوانب نفسي بالعظمة والإجلال.
هاتان المنارتان المرتفعتان نحو العلاء بذلك القد الرشيق كأشجار السرو، هما ميزة ذلك الجامع الجليل الشأن، إذ يجذبان الأنظار من أبعاد شاسعة، ويستقبلان الغرباء القادمين إلى مصر من دروبها المختلفة المؤدية إليها، بالتأهيل والترحيب.
كانتا منتصبتين في الفضاء كالتمثال، يراهما القاصي والداني ويشاهد قديهما المائسين، الواقف عند أطراف الصحراء المتوهجة رمالها توهج التبر، ويبصرهما المشرف على مصر من أعلى ذروة في جبل المقطم، كما كان الواقف على سطح النيل المزركش يمتع أيضا أنظاره بمرآهما. وإن العين لا تمل النظر إليهما وقت أن تأذن الشمس بالمغيب، حيث ترسل الغزالة عليهما خيوطها الذهبية الدقيقة، فيظهران في تلك اللحظة كلوحة بديعة نقشتها الطبيعة بمزيج من ألوانها المفرحة الآخذة بمجامع القلوب، فلا يسع الرائي عندئذ إلا أن يرمق ذلك العرش السحري بعين الإجلال والتعظيم.
محمد علي، وما أدراك ما محمد علي! وإنها لسعادة كبرى لمن كانت مثلي أن تقلب الطرف في صفحات التاريخ، باحثة عن حسنات ذلك البطل، نافخ روح العلم والنور في مصرنا العزيزة. ولكن ما العمل وأنا لا يسعني إلا إظهار الأسف لعجز يراعتي عن بلوغ هذه الأمنية! لأنني أعلم تماما أن الكتابة عن حياته المملوءة بالأسرار والمعجزات في حاجة إلى قلم كاتب خطير وتحقيقات مؤرخ قدير.
إن ذكراه لتمر الآن من أمام ناظري كسيارة لامعة وأنا أحدق النظر في المنارتين، ورؤيا جامعه الشريف يعيد إلى الذهن اسمه الكريم تحف به آيات الحفاوة والتقديس.
وهذه الكلمات الصادرة من أعماق قلب تهتز أوتاره باحترامه وإجلاله، أقدمها اليوم إلى أنواره الساطعة كذكرى لهذه الليلة الساحرة. •••
ذلكم البطل الخالد الذكر، صاحب العزمات الماضية، والأفكار العالية، والآمال الكبار، هو أول من نشر المدنية الحديثة في مصر، وأول من أيقظ البلاد من نومها العميق، وأول من أخذ بيدها إلى سبل السعادة ومباهج الحياة الصحيحة. عاش في صباه أميا لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان سراج أمته، أبدل ظلامها نورا، فانتعشت على يديه روح المعارف والفنون. وبفضل مساعيه اتسعت دائرة الصناعات، وتقدمت الزراعة وارتقت أساليب التجارة.
Unknown page