فالتفت أبو الحسن إلى الطبيب كأنه يستشيره في هل يضر الغضب صحة السلطان. فتقدم الطبيب إلى السلطان وقال: «أرى مولانا السلطان قد بان الغضب في وجهه وهو مريض، ألا يؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر؟» فقال: «كلا، إني في خير، فليقل ما يشاء.»
فاعتدل أبو الحسن في مجلسه وقال: «إن وزيرك صلاح الدين لم يطلب طاعة المصريين باسمك، ولكنه طلبها باسمه، وزعم أنه هو صاحب الأمر وليس للسلطان نور الدين شيء منه، وقد قاومناه وتآمرنا عليه ؛ لأننا لا نريد أن نعرف غير مولانا نور الدين سلطانا. وأنا أستغرب كيف لم يبلغ ذلك مولانا السلطان، وقد صرح به صلاح الدين في جلسة علنية، حتى إن أباه نجم الدين انتهره وأمره بالكتمان؟» قال ذلك وسكت.
وكان نور الدين حسن الفراسة فأطرق هنيهة يفكر فيما سمع وهو يعبث بلحيته، فلم تعجبه تلك الوشاية من عدو طبيعي لهما، ولا سيما بعد أن سمع اعترافه بأنه كان من المتآمرين على صلاح الدين، وأدرك أنه لو كان صادقا في طاعته لم يكن ليساعد على خلع الطاعة بتلك الصورة، بل كان عليه أن ينقل خبر صلاح الدين إليه. فترجح لديه كذبه فقال: «وماذا ترى الآن؟» قال: «أرى ألا يستخف مولانا السلطان العادل بمطامع وزيره، فإنه قد جاهر باستقلاله بمصر قبل موت الإمام العاضد فكيف به الآن؟ فما على السلطان إلا أن يخضعه وأنا في خدمته أفديه بدمي.»
فحملق السلطان فيه بعينيه السوداوين، وكاد الشرر يتطاير منهما لشدة الغضب وقال: «لو كنت صادقا في نصحك لحملت إلينا هذه الوشاية من قبل. فصبرك عليها حتى الآن حجة عليك وعلى أصحابك المتآمرين. إنما أنتم تآمرتم على خلع طاعة نور الدين، بل أردتم نقض بيعة الإمام العباسي لأنه سني، وطمعتم في استرجاع السيادة لأنفسكم!»
وكان يتكلم وهو مستلق، وأخذ يرتعد من الغضب فاعتدل يريد الجلوس فأعانه الطبيب على ذلك وندم على الإذن له في الكلام. فأخذ أبو الحسن يتنصل من تلك التهمة وقال: «لم أحسن التعبير عن مرادي يا سيدي. إني أصدقك الخبر. إن ما قلته هو الصحيح. نحن طائعون للسلطان نور الدين و...»
قال: «لو كنتم صادقين لأطعتم وزيري ونائبي صلاح الدين، لكنكم تعودتم التملق والتذبذب، ما الذي أساءكم به صلاح الدين؟ ألم ترسلوا إلينا شعور نسائكم تستغيثون بنا فأنفذنا إليكم عمه شيركويه وقد أنقذكم؟ وهذا صلاح الدين أخمد العصيان وأصلح البلاد وأبطل الضرائب. فكان ينبغي أن تعرفوا فضله. ولكن قوما يبلغ بهم الذل أن يستشفعوا بشعور نسائهم لا يرجى منهم وفاء. ما زلت أذكر سوء وقع ذلك في مجلسنا يوم أتتنا تلك الشعور في المناديل وقد عقد المجلس للنظر في طلب إمامكم، وكان بين الغلمان شاب صغير لم يملك حين رأى تلك الشعور أن تقدم إلي لكي أعطيه خصلة منها حمراء ذهبية، وكان مقربا من صلاح الدين فدفعتها إليه لأرى ما يبدو منه. فلما تفرس فيها قال: «إن صاحبة هذا الشعر الجميل لا تمتهن وهي إما بنت الخليفة أو أخته، فإني معيده إليها.» فأذنت له بالخصلة فأخذها في منديلها ولا أدري إذا كان قد وفق إلى ما أراد، فكيف ترجو أن أتوقع منكم وفاء وقد جئتني الآن تريد الإيقاع بيني وبين نائبي؟ هب أنه أراد الاستقلال بمصر فليأخذها هو، فإن البيعة واحدة ولا ترجع لكم.» ولما بلغ إلى هنا بان التعب عليه وحول وجهه عن أبي الحسن باحتقار، وأدار له ظهره وعاد إلى الرقاد وهو يلهث من التعب.
أما أبو الحسن فجمد الدم في عروقه من الفشل وأحس كأنما صب عليه ماء بارد. وأخذ يرتعد وقد وقع خبر خصلة الشعر عليه وقوع الصاعقة؛ لعلمه أنها من شعر سيدة الملك. فأشار إليه الطبيب أن يخرج حالا؛ لأن السلطان أصابته نكسة بسبب الغضب. فخاف أبو الحسن أن يأمر السلطان بالقبض عليه فخرج مسرعا واختفى في مكان لا يعرفه فيه أحد ريثما يرى ما يكون.
وفي الصباح التالي طاف المنادون في المدينة ينعون السلطان نور الدين (توفي في 11 شوال سنة 569). وتناقل الناس عن سبب وفاته بعد أن تحسنت صحته أنه غضب من بعض الناس فأصابته نوبة ذهبت بحياته. فأسقط في يد أبي الحسن وعمد إلى الفرار، وقد تولاه اليأس وأظلمت الدنيا في عينيه.
خرج من دمشق وهو يرغي ويزبد من شدة الغضب والخادم في ركابه لا يجسر على النظر إليه. حتى إذا مر بالغوطة وصل إلى عين ماء جارية يظللها ويحيط بها أشجار التفاح والسفرجل والمشمش وسائر أنواع الفاكهة، وقد دخل الربيع وتفتحت الأزهار وتغنت الأطيار . والطبيعة باسمة ضاحكة، ولكن أبا الحسن، لم يكن يرى شيئا غير الفشل نصب عينيه. وإنما نبهته البغلة إلى الوقوف هناك؛ لأنها رأت الماء جاريا فهاجها العطش فمالت إلى قناة الماء لتشرب. فانتبه أبو الحسن وقد صارت الشمس في الضحى وهو في الخلاء لا رقيب عليه. فلاح له أن ينزل هناك ليستريح فترجل وسلم البغلة إلى الخادم يهتم بأمرها. وتغلغل بين الأشجار على غفلة من خدم البستان لأنهم لا يتوقعون نزول الناس هناك في مثل تلك الساعة.
أما أبو الحسن فلما خلا بنفسه قعد إلى جذع شجرة مشمش تدلت أغصانها تحمل نوعا من المشمش يفاخر به أهل الشام سائر المشرق ويعرف الآن بالمشمش الحموي ينضج في إبان الربيع، والناس يقصدون الغوطة للتمتع بمنظره وطعمه.
Unknown page