فدهشت من ذلك وقالت: «إن ذلك غريب نادر.» قال: «ولو أسرد ما كان من التحف في هذه الدار لاستغرق سردها فقط عدة ساعات، وإنما أذكر عقدا من الجواهر قيمته ثمانون ألف دينار بيع يومئذ بألفي دينار. وأخذوا من خواتم الذهب والفضة فقط نحو 1200 خاتم فصوصها من الجواهر المختلفة، فيها ثلاثة خواتم ذهب مربعة، على كل منها ثلاثة فصوص: أحدها زمرد والآخران ياقوت سماقي ورماني، بيعت باثني عشر ألف دينار. غير ما أخرجوه من الجواهر ونحوها، فإنها كانت تحصى بالويبة وتكال بالكيل. منها ويبة جواهر مشتراة في الأصل بسبعمائة ألف دينار باعوها بعشرين ألف دينار. وطاووس ذهب مرصع بالجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من زجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس. غير التحف المتوارثة عن الخلفاء أو المنقولة إلينا من العباسيين وغيرهم، ورقع للشطرنج أحجارها من الجواهر والذهب والفضة والعاج. كل هذه ومئات مثلها أخذت في نكبة المستنصر ولا فائدة من الكلام الآن.»
فانقبضت نفس سيدة الملك مما سمعته وقالت: «إن مصيبتنا قديمة يا أخي. ولا فائدة من التذكار الآن.» قالت ذلك وهي تتعجل ما في خاطر أخيها عن سبب استقدامها إليه. فقال: «صدقت ولكنني أطمئنك أن أولئك اللصوص لم يأخذوا كل ما كان لنا، فإن بعض خواصنا وأهل بطانتنا المخلصين يومئذ احتفظوا لنا ببعض ما كان من الذخائر ولا يزال مخبأ إلى الآن.» قال ذلك ونهض إلى خزانة داخلة في الحائط لا تلفت الناظر إليها ففتحها بمفتاح استخرجه من جيبه، ومد يده فأخرج منها علبة بها عقد من الجوهر يبهر النظر دفعه إليها فتناولته وجعلت تقلبه فقال لها: «خذيه جربيه على عنقك.» فتراجعت وأعادته إلى العلبة. فمد يده وأخرجه وألبسها إياه في عنقها وقال: «هذا لك.»
فأرادت أن ترجعه فمنعها وقال: «خذيه إنه لا يليق بأحد سواك.» واستخرج من علبة أخرى خاتما حجارته من الزمرد والياقوت نحو الذي ذكره وألبسه إياها في إصبعها فلم يعجبها منه هذا الكرم ولحظ استغرابها فقال: «لا تستغربي، ما ترينه فإن في هذه الخزائن تحفا أخرى لا يعلم بها سواي، وسأدفعها كلها إليك لئلا تذهب كما ذهبت تلك.»
فتوسمت من كلامه شيئا يعنيه لسبب طرأ عليه، فقالت: «ماذا تعني يا أخي، معاذ الله أن يكون ما تشير إليه. لا يتمتع بهذه الذخائر سواك وسوى أولادك.» قالت ذلك واختنق صوتها رغم إرادتها، لكنها تجلدت وهمت أن تتم كلامها فلحظت في عيني أخيها شيئا كالدمع وهو ينظر إليها نظر المستعطف. ثم قال: «أنت لا تريدين أن تبقي هذه التحف!»
أدركت ما يشير إليه من تمنعها عن قبول أبي الحسن زوجا لها بعد أن تكفل بقتل صلاح الدين. فأحست بوخز الضمير وأثر فيها الأسلوب الذي اختاره أخوها لمعاتبتها. لكنها لا تستطيع أن توافقه، ولا تعتقد أن أبا الحسن يستطيع القيام بوعده ولم تجد الوقت مناسبا للدفاع في تلك الساعة فقالت: «أنت تعنفني يا أخي على أمر ليس في طاقتي، فأنا قد عاهدت نفسي ألا أتزوج وإذا كان ذلك الرجل يقدر على شيء فليفعله ثم نرى ما يكون.»
فرأى في جوابها شبه الرضا فقال: «إنما المطلوب قبل كل شيء أن تظهري الرضا به ليقدم على هذا العمل، أليس كذلك؟» قال ذلك وهو يبتسم ويهش ليسترضيها، فكادت تغلب على أمرها وأوشك أن يحملها حبها لأخيها على أن توافقه، لكنها ما لبثت أن تصورت أبا الحسن فنفرت منه وتذكرت عماد الدين فاختلج قلبها في صدرها وتوردت وجنتاها.
فظنها أخوها تريد إجابته لكنها تستحي فقال: «ما الذي يضرك أن تجيبي طلبي وهذا الرجل أكفأ إنسان لك، فضلا عما وعدنا به من الخير؟ قولي إنك ترضينه خطيبا لك، وإذا كنت تحسبين قبولك له مصيبة ... فإنها مصيبة صغرى.» وأبرقت عيناه كأنهما تنطقان بسر يكتمه. وتشاغل بعد حبات سبحته.
فأطرقت سيدة الملك وأعملت فكرتها في كلام أخيها فخافت أن يصح ظنها فقالت: «ماذا تعني يا أخي بالمصيبة الصغرى؟ وهل هناك مصيبة أكبر منها؟» - «يا أختي أن يطلبك رجل أعجمي من غير أهلك لا قبل لنا برد طلبه، فهمت؟»
قال: «يتجاسر عليه الذي تجاسر على سلب حقوقنا من أيدينا واستبد بالأمر دوننا ونحن أحياء. الرجل الذي نخاف سطوته ونحسب لحركاته ألف حساب. ألا يستطيع هذا الرجل أن يطلب الزواج منك؟»
فبغتت واستبعدت ما يفهم من كلام أخيها فقالت: «صرح يا أخي بما تقول. هل تعني صلاح الدين؟» قال: «نعم، إياه أعني، فما قولك؟» فتراجعت وقد اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها ولم تتمالك فجلست على المقعد وقد امتقع لونها وأوشك الدم أن يجمد في عروقها وسكتت. فقعد أخوها بجانبها وأحاط كتفيها بذراعه ليلطف من بغتتها وقال: «إني أزعجتك بهذا الخبر ولكنك أحرجتني. ولا تظني الأمر قد نفذ. إنه لم يطلبك صريحا بعد. لكن رجلا من خاصته جاءني في هذا الصباح وفاجأني بهذه المصيبة بعد أن مهد للكلام بمقدمات طويلة عريضة إلى أن قال: «إن السلطان صلاح الدين يريد أن يتشرف بهذا القران، فأحب أن يسألك عن طريقي قبل الإقدام على الطلب لعل هناك مانعا».»
Unknown page