فصاح العاضد وقد امتقع لونه من شدة الغضب: «لماذا لم تخبريني حتى الآن. أيصيبك مثل هذا الأمر وتكتميه طول هذه المدة؟ من تجاسر على هذا العمل؟ من تظنين ذلك الرجل؟ قولي.»
قالت: «لا تغضب يا أخي. إني لم أقل ولا أقول الآن خوف الوقيعة بالأبرياء، وقد نجوت والحمد لله. ولكنني قصرت في حق ذلك الشهم الذي أنقذني.» قالت ذلك وأبرقت عيناها، ولو تفحص أخوها صدرها لرأى قلبها يخفق خفقانا سريعا. لكنه لم يفقه ذلك فقال: «لا تعرفين اسم الذي أنقذك، من هو؟»
قالت: «لم أسأله عن اسمه، وكنت أتوقع أن يأتيك في اليوم التالي ويقص عليك ما وقع فتكافئه، إنه لم يفعل. وأنا لم أتمكن من رؤيته، أما هو فبعد أن اطمأن علي وتحقق نجاتي من الخطر دفع إلي هذه الخصلة وهو يقول: «خذي يا سيدتي هذه الخصلة من شعرك، صيانة لها من أن يمسها غير مستحقيها. ولم يكن يجدر بالخليفة أن يرسلها وسيلة للاستغاثة.» قال ذلك وانصرف مسرعا سرعة البرق ولم أعد أراه من ذلك الحين.» •••
غلى صدر الخليفة من شدة الحنق ونسي ضعفه في ذلك اليوم، ونهض بسرعة فقبض على الخصلة واجتذبها من يد سيدة الملك وجعل يتفرس فيها ويقابلها بسائر الشعر، فإذا هي منه فالتفت إلى الجليس وقال: «ماذا ترى يا عماه؟ كيف يدخل الغرباء قصري ومعهم شعور نسائي؟ ولكن آه! أنا المذنب لأني تسرعت في الاستغاثة فأرسلت شعور نسائي إلى صاحب دمشق، ولكن كيف وصلت هذه الخصلة إلى هذا الشاب؟ وكيف احتفظ بها حتى عرف صاحبتها؟»
وكان الجليس يسمع ويرى وقد أخذته الدهشة، فلما رأى غضب الخليفة وشدة تأثره قال: «خفف عنك يا سيدي. لكل شيء سبب، ولا يهمنا سبب وصول هذه الخصلة إلى ذلك الكردي بقدر ما يهمنا معرفة الرجل المتنكر الذي أراد اختطاف مولاتي سيدة الملك. من يجسر على ذلك؟»
فالتفت العاضد إلى أخته وقال: «قولي. قولي من تتهمين؟ من هو ذلك النذل الذي تجاسر على دخول قصري وخرق حرمتي؟» قال ذلك وهو يلهث وقد احمرت عيناه وأرجع الخصلة إليها ورجع إلى مقعده وقد أحس بانحلال قواه.
فتقدمت أخته نحوه وأخذت تخفف عنه وتمسح جبينه وتقول له: «لا تغضب يا أخي. اسمح لي ألا أذكر اسم الرجل الذي أتهمه ؛ لأني اتهمته بالظن وبعض الظن إثم. وأنا واثقة أن هذه التهمة مهما تكن ضعيفة فهي تكفي لإيقاع الأذى بصاحبها. فحرام علي أن أعرض نفسها للهلاك.»
قال: «وحياة رأسي ألا قلت من هو ذلك الخائن، وأعدك ألا أسارع إلى الانتقام إلا بعد التبصر.»
فأطرقت وهي تصلح نقابها على رأسها، ثم جعلت تلاعب خصلة الشعر بين أناملها وأخوها شاخص فيها ينتظر نطقها، فلما استبطأ جوابها قال: «ما بالك لا تقولين؟» قالت: «بالله دعني. سأقول لك ذلك بعد الآن، دعني أفكر قليلا ...»
فالتفت الشيخ الجليس إلى العاضد وقال: «دعها يا مولاي الآن ولا تغضبها. وستقول لنا. وليس في الأمر ما يدعو إلى العجلة، ولنرجع الآن إلى ما كنا فيه من أمر النجاة من هؤلاء الأكراد. ماذا رأى مولاي فيما عرضه علينا ابن عمه أبو الحسن؟»
Unknown page