لا أدري ما هي غاية الكتاب إذا أرادوا التعبير عن اختراع جديد، إنهم يجهدون أنفسهم في البحث عن كلمة عربية تقابل الكلمة الأجنبية المصطلح عليها، كاستعمالهم - مثلا - كلمة السيارة بدلا من كلمة الأوتوموبيل، فإن كان القصد تقريب المعنى إلى الذهن، فالكلمة الأجنبية التي اعتادها الناس تقوم بالوظيفة المطلوبة.
وإن كان قصدهم إثبات أن اللغة العربية لا تحتاج إلى اللغات الأخرى، فقد كلفوا أنفسهم أمرا مستحيلا؛ إذ لم توجد، ولن توجد لغة مستقلة عن غيرها مكتفية بنفسها.
هذا هو أحد روادنا الذين سعوا للتحرر، وإنا لم نضعه هذا الموضع لبلاغته وفصاحته بل لمنزلته الاجتماعية التي كان لها أثر بعيد في النهضة الحديثة، فالغاية من الكتابة الإصلاح، وهذا كان قصد قاسم أمين حين يكتب. (7) فرح أنطون
كانوا يقولون في تحديد الكاتب: فلان يطبق المفصل، وصرنا نقول اليوم: يطبق المنهاج ... كانت المعرفة عيارا للعلم، فصارت الشهادة قبلة يصلى عليها، وكيف يجعلها دبر ظهره من يراها مفتاح قفل الغد ...
أما فرح أنطون فهو كغيره من الرواد - تلاميذ ذلك الزمان - لا تعادل درجته العلمية الشهادة التكميلية من مناهج اليوم، ولكنه أخرج إلى عالم الأدب ما تقصر عنه دكاترة الأدب والفلسفة.
بزغ نجم فرح أنطون الأدبي مع هلال القرن العشرين - 1900 - فحمل إلى العالم العربي وحي رسالته الجامعة الشاملة، فطعم الألباب، ونور العقول. حل هذا البلبل الشادي دوح وادي النيل فحنا عليه حنو المرضعات على الفطيم، وما انفك يعمل حتى صار ثالث اثنين: «المقتطف» للعلم، و«الهلال» للتاريخ، و«الجامعة» للأدب والثقافة العامة، فكان رائد النهضة الفكرية الحرة في الشرق العربي.
حمل فرح على منكبيه رسالة الفكر الإنساني فأدتها «جامعته» في سبع سنوات فقط، ثم انفتل من جهاده يسعى وراء الرغيف؛ لأن الثقافة لا تطعم من جوع ولا تؤمن من خوف.
كان الشدياق يهدر كالجمل الأورق، وأديب إسحاق يزأر في عرين المنابر ويطاعن خيلا من فوارسها التعصب، ويحمل على أعداء الحرية حملات حجاجية، فما تواريا حتى أمدت البلاد بعثتها الأولى بغطريف جديد نازل القديم المسيطر بصمصامة الحق، فانجلى الغبار عن نصر من الله وفتح قريب. ففرح أنطون ابن تاجر طرابلسي زوى عينيه عن صندوق أبيه فأدركته حرفة الأدب ... سفح على المهارق ريق شبابه، فما اكتهل حتى شب في صدره الأمل، فحمل «جامعته» إلى أميركا يوسع لها في مجالس تلك الدنيا العريضة، ولكنه رجع من بلاد الدولار على الريق، فاحترف الأدب الرائج يلتمس به قوت من لا يموت، وظل يتحرق على حياة الفن للفن حتى قضى سنة 1922 في الثالث من تموز، وليس له إلا كفاف يومه.
ماذا عمل الرجل في الخمسين إلا عامين، وأية رسالة أدى؟
الجواب: وأية رسالة لم يؤد؟ فهو الذي عرف سواد الشرق الأدنى ببوذا وكنفوشيوس، وأطلعهم على شرائع حمورابي، وهو أول من أذاع فلسفة تولستوي، وكان له مع الإمام محمد عبده جولات موفقة حول ابن رشيد وفلسفته شغلت العالم العربي حصة من الزمن. وهو من أرانا وجه جون روسكين النبيل، ونشر تعاليم روسو وبرنردين دي سان بيار، وترجم قسما كبيرا من رائعة نيتشه، زاراتوسترا، وأخيرا اهتدى إلى مكسيم غوركي، فترجم أشهر رواياته «ملفا»، وهو الذي اكتشف تعاليم كارل ماركس قبل أن تحمر روسيا البيضاء.
Unknown page