Rousseau Muqaddima Qasira
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Genres
شكل 6-5: بورتريه لروسو بريشة رامزي.
وفي مؤلفه «روسو يحاكم جان-جاك»، المشهور بعنوانه الفرعي «محاورات»، والمكتوب بشكل أساسي في الفترة ما بين عامي 1772 و1774، ترك روسو لجنون اضطهاده الذي أمسى مرعبا آنذاك العنان. قال روسو عن نفسه على لسان متحدث يدعى «الفرنسي» إنه كدب يجب تكبيله بالأصفاد كي لا يفترس الفلاحين (الأعمال الكاملة، المجلد الأولى). وبما أن قلمه المسموم أصبح مخيفا بهذا القدر، فكيف للنبلاء الذين يخشون عدو البشر الوحشي هذا ألا يتآمروا بكد ودأب شديدين من أجل مطاردته (الأعمال الكاملة، المجلد الأول)؟ وإذ يحاول أن يتكلم عن نفسه من خارجها، شيد روسو هنا شخصية مغايرة لا تستطيع استعادة تلقائية مشاعرها ولا البرهنة على أصالة دوافع الرجل الذي كانت عليه، ما دام الولوج إلى شخصيته معدوما بفعل إقصائها عن ذاته كمؤلف أمسى الآن متمايزا حتما بغيريته عن موضوع عمله نفسه. ولقد قدر أن ينشر مؤلف «محاورات» عام 1780 في ليتشفيلد، محل ميلاد صامويل جونسون. وإذ وضع روسو المحاورات استنادا، بقدر أكثر اضطرابا، إلى الجانب الأكثر جموحا للعقل مقارنة بأي من أعماله الأخرى، نراها تشكل نصا حاول روسو نقله للبشرية من طريق إزالة الأثقال عن الكاهل، ساعيا إلى تركها في يد القدر بوضعها على مذبح كنيسة نوتردام، ليكتشف فجأة أن الجوقة محبوسة، فكبت التماسه للعالم بذلك في مهده، حتى إنه حرم من التملص من نفسه. في السنوات الأخيرة، جذبت تلك المحاورات انتباه ميشيل فوكو خاصة الذي قدمها في طبعة حديثة. لكنها نادرا ما تجد لها قراء الآن، ونادرا ما يقرؤها القارئ دون أن يحس بالألم.
العمل الأخير الرئيسي لروسو، «أحلام يقظة جوال منفرد» الذي بدأه في عام 1776، ولم يكن قد انتهى منه إبان وفاته، له طبيعة مختلفة اختلافا جذريا. ففقرته الافتتاحية، وهي من بين أكثر ما كتبه إثارة للمشاعر، ترصد محن حياة تخلصت الآن من توتراتها، وقدمها روسو وكأنها الأسطر الأخيرة من عمله، مسترجعا فيها كل ما حدث من قبل: «الآن، أنا وحدي إذن في هذا العالم، بلا أخ ولا جار ولا صديق، ولم يبق لي رفيق سوى نفسي. أكثر الناس اختلاطا بالناس وأكثرهم حبا لهم نبذه الآخرون جميعا باتفاق جماعي بينهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). وفي سلسلة من عشر نزهات أو جولات، تختتم بالرجوع إلى «أمه» المحبوبة والسلام الرائع الذي استمتع به معها في شبابه، كرر روسو عدة أفكار عن اغترابه وعزلته عن المجتمع مستخلصة من كتاباته الأخرى؛ حيث صور العقل الجوال لرجل عجوز وقد استعاد كل قدراته، منقلبا على عقبيه إلى الأبد. وتمثل جولتاه السابعة والتاسعة، والخامسة بخاصة، القلب الروحاني لعمله - فتكشف السابعة برية فردوسه النباتي، وتشكل التاسعة أسفه على عدم ديمومة السعادة، ويسترجع في الخامسة جنة مائية على معتزل في جزيرة - وتلك الجولات تؤلف في واقع الأمر على التوالي السيمفونيات الرعوية والملحمية والكورالية لأحلام يقظة روسو. وفي الجولة التاسعة، حاول روسو أن يجد لنفسه عذرا لهجرانه أطفاله، ويصف التهور الصبياني لشخصيته، وكذا السعادة التي لا تقاوم التي تنتابه إذ تقع عيناه على الوجوه السعيدة. لكن طوال الجولة، تبنى روسو نبرة استسلام كئيب لقدره، مصرا على أن كل خططنا لتحقيق السعادة محض خيال؛ لأنه ما من طريقة دائمة يضمن بها الإنسان الرضا.
شكل 6-6: «بسطت الطبيعة أمام أعيننا كل عظمتها»، بريشة مورو الأصغر، وتمثل صورة لمؤلف «إميل» لطبعة بوبر من «الأعمال الكاملة» لروسو.
وفي الجولة الخامسة، بدا أنه يطرح مشاعر مماثلة بتأكيد أكبر، قائلا إن «كل شيء في حالة تبدل مستمر على هذه الأرض»، ومشاعرنا، انطلاقا من كونها مرتبطة بأشياء خارجنا، تتغير لا محالة وتموت مع ما ترتبط به، ومتعنا الدنيوية ما هي إلا مخلوقات عابرة لحظية (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). ورغم ذلك، ففي الجولة نفسها، إذ يسترجع رحلته من موتييه في سبتمبر 1765، عندما اتخذ من جزيرة سان-بيير ملجأ في وسط بحيرة بيين ، استحضر روسو صورا لملاذ محمي بديع المنظر جدا لدرجة أنه كان من الممكن أن يكتب عن كل ورقة عشب في مروجه، وكل أشنة تغطي الصخور، حيث كان يمضي فترات الظهيرة في استكشاف نباتات الصفصاف والبرسيكاريا والشجيرات بكل أنواعها، أو كان يستلقي ممددا في قارب جانح حيثما تسوقه المياه، «منغمسا في آلاف أحلام اليقظة المشوشة والممتعة رغم ذلك»، في معتكف من السعادة الشديدة التي كان سيرضى بالعيش فيه طوال حياته، «دون رغبة ولو للحظة في أي مكان آخر» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). وكما تستبدل جولته السابعة بفردوس جولي ماضيا يفترض الآن أنه كان خاصا به، تفعل جولته الخامسة حيث تنقل نزهة يوم خيالي على ضفاف بحيرة جنيف - الذي وصفه سان-برو بالمثل بتفصيل مماثل بشكل مذهل باعتباره «اليوم الذي عاش فيه أكثر المشاعر حيوية في حياته كلها» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة) - إلى معتزل بجزيرة ذي جمال شديد معزول بفعل الطبيعة نفسها عن الاضطرابات المختلقة للحضارة المعاصرة. وإذ فر روسو من الأزمات الدنيوية لحياته عبر أحلام اليقظة، استطاع أن يذيب كل الاختلافات بين التذكر والاختلاق. وإذ انتقل روسو بفعل خياله الشخصي، وحمل معه إلى عالم روحي من النعم النقية كالتي وصفها في رسالته الثالثة لماليزيرب، فقد استطاع أن يسكن عوالم بديلة ذات صفاء مثالي تناسبه بشكل متفرد.
في كتاباته الرئيسية، وفي المجالات المتعددة التي تتناولها، سعى روسو إلى محاولة تحقيق تلك المثل بالإطاحة بكل المؤسسات التي حالت دون تحققها، بحيث استطاع من خلال عملية السلبية السامية إنارة عوالم من الخطاب غير النثري والموسيقى غير المزخرفة، والطبيعة البشرية في غياب المجتمع، والتربية من دون مربين، ومدينة من دون مسارح، ودولة بلا قوانين، وكيان مقدس دون كنيسة. وبواسطة مثل هذه الارتدادات، لم يفترض روسو رؤى متنوعة للتحقيق الذاتي للإنسان في حالة من الحرية غير المقيدة فحسب، بل وفصل نفسه أيضا بشكل أكثر دراماتيكية عن عصر التنوير الذي كان يعيش فيه؛ حيث بدا أقل تقييدا بالفرضيات المسبقة لخطابات ذلك العصر وتقاليده من أي مفكر بارز آخر في عصره. وما زال صوته الناقد بعناد في بعض تجلياته يتكلم بحماسة لم تتزعزع بعد أكثر من مائتي عام على وفاته. وكثيرا ما يدين الفلاسفة والكتاب الحداثيون وما بعد الحداثيين على حد سواء بشكل كبير لأعماله، أحيانا يأنفون الإقرار به، وفي أكثر الأحيان بالفعل يعتنقون وجهات نظر، في صيغ سابقة، سبق أن اعترض عليها بنفسه. في مسعى روسو وراء لغة تتسم بالصدق المحض، في نموذجه المثالي للفاعلين المتواصلين حقا الذين يشتركون بأفعالهم الخطابية، ويساهمون بالكامل في التعبير عن الاختيار العام، يمكن العثور على تنبؤات بالفلسفة السياسية ليورجن هابرماس على سبيل المثال. وفي تصوره لأشكال الاستبداد الخانقة والمشوهة والمذلة للمجتمع التجاري الحديث، الذي رسمه وكأنه سجن لوحش مستبد سيجمعه دكتور فرانكنشتاين في المستقبل متخفيا في قناع الفيلسوف بنثام، فإنه يمهد الطريق بعض الشيء باتجاه فوكو. ولكن، باعتباره مميزا عن أغلب مفكري ما بعد الحداثة ونقادهم على حد سواء، وجد روسو لنفسه ملجأ وتحققت له السكينة، حتى وإن لطمته أمواج عالم شخصي وسياسي من الاضطرابات المستمرة. ومن الاستبطان والتميز الفطري، آمن أكبر نقاد القرن الثامن عشر لزخارف الحضارة، والمصور الأكثر وضوحا لجوانب يأسها وسخطها، طوال حياته، كما فعلت آن فرانك بالقدر نفسه في أحلك لحظات التاريخ الحديث، بأن الطبيعة البشرية ما زالت خيرة في جوهرها أساسا.
المراجع المقتبس منها
روسو، «السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح»، ترجمة وتقديم وتعليق ألان بلوم (إثاكا، نيويورك: مطبعة جامعة كورنيل، 1977) (نشر لأول مرة بهذا الشكل عام 1960).
روسو، «اعترافات»، ترجمة وتقديم جيه إم كوهين (لندن: دار نشر بنجوين بوكس، 1953).
روسو، «إميل، أو عن التربية»، تقديم وترجمة وتعليق ألان بلوم (نيويورك، دار نشر بيسيك بوكس، 1979).
Unknown page