Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
كانت رحلته عام 1943 بمنزلة بداية لما سيصبح بعد ذلك سلسلة متعاقبة من الفرص لمقابلة أقرانه ورؤسائه وإبهارهم. وعلى الرغم من أن الحرب كدرت حياة الجميع، فقد قدمت لفاينمان في الوقت نفسه - من ناحيتين على الأقل - فرصا مدهشة ما كانت لتتاح له لولا الحرب.
من ناحية، لما كانت خيرة العقول وألمعها تجمع معا كي تقضي عامين في تعاون وثيق، فقد سنحت الفرصة لفاينمان كي يتألق أمام أشخاص لولا تلك الظروف لاضطر أن يرتحل في جميع أرجاء المعمورة كي يلتقي بهم. كان قد أبهر من قبل بالفعل - من خلال حضوره للقاءات جماعية دورية ظلت تعقد منذ عام 1942 في نيويورك وفي معمل الإشعاع بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بماساتشوستس - عالم الفيزياء العبقري، والمتوتر في الوقت نفسه، روبرت أوبنهايمر، الذي اختير بعدها بفترة قصيرة لقيادة مشروع القنبلة الذرية بأكمله. وفي شيكاجو، أثناء قيامه بمهمة جمع المعلومات، أذهل أعضاء مجموعة العلماء النظريين هناك عندما تمكن من إجراء عملية حسابية ظلت مستعصية عليهم لما يزيد على شهر كامل.
وعقب عودته إلى برينستون وتقديم تقريره الذي أوجز فيه نتائج مهمته، لم يضطر للانتظار طويلا قبل أن يعلم ما سيحدث بعد ذلك. لقد اختير أوبنهايمر لقيادة مشروع القنبلة، وبعدها بفترة وجيزة اختار لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو - وهي منطقة ريفية نائية رائعة الجمال زارها من قبل وهو أصغر عمرا، وتفي كذلك بشروط الجيش فيما يتعلق بالعزلة والأمن - لتكون الموقع الذي سرعان ما أصبح بعدها أكثر معامل العالم تطورا، والذي تجمع به أكبر عدد من عباقرة العلم في مكان واحد (بل ربما أبرع من توماس جيفرسون نفسه، كما ضرب جون إف كنيدي ذات مرة المثل أثناء استقباله مجموعة من الفائزين بجائزة نوبل).
كان أوبنهايمر عالما عبقريا، لكن الأمر الذي كان أكثر أهمية لنجاح مشروع القنبلة الذرية، أنه كان عبقريا بالقدر نفسه في الحكم على مواهب الآخرين. وسرعان ما بدأ أوبنهايمر يعين ويحشد فريقا من أقرانه المتميزين لينتقلوا إلى لوس ألاموس، حتى قبل اكتمال بناء المعمل والمنطقة السكنية المحيطة به. ومن نافلة القول أنه بحث عن فاينمان وبذل كل ما في وسعه لإقناعه بالانتقال إلى نيو مكسيكو مع الموجة الأولى من العلماء، في نهاية مارس 1943.
أدى عرض أوبنهايمر إلى الأثر السعيد الآخر الذي جلبه المجهود الحربي للزوجين. كان مرض آرلين يتفاقم؛ فلم يكن مقدرا لها أن تعيش أكثر من عامين بعد الزواج. وعادة ما تكون السنوات الأولى من عمر أي زيجة فترة للرومانسية والمغامرات؛ لو كان مقدرا أن تكون هناك فترة كتلك. ولو لم تكن الحرب قد قلبت العالم رأسا على عقب، فما من شك أن فاينمان كان سيستغرق وقتا أطول كي ينهي رسالة الدكتوراه التي يعدها، وكان هو وآرلين سيواصلان مكوثهما المفعم بالمعاناة في برينستون إذ كانت صحتها في تدهور مستمر، ومن ثم، قبل وفاتها، ربما كان سيمضي في طريقه لنيل درجة أستاذ مساعد في مكان ما لا يختلف كثيرا عن برينستون. وبدلا من ذلك، فإن قراره الانتقال إلى الجنوب الغربي الجامح المجهول منح الزوجين الشابين، ولا سيما آرلين، الفرصة للاستمتاع بشيء من الرومانسية والمغامرة التي طالما تاقا إليها والتي ما كانت آرلين لتستمتع بها مطلقا لولا ذلك.
تأثر فاينمان باهتمام أوبنهايمر به وتقديره إياه. وبدا «أوبي»، وهو الاسم الذي كان زملاؤه ينادونه به، القائد الأمثل لتلك الكوكبة من العلماء أصحاب الفكر المستقل. لقد استحق احترامهم جميعا، وعلى حد قول فاينمان فيما بعد: «كان بمقدورنا مناقشته في أي شيء فنيا لأنه كان يفهم كل شيء.» وفي الوقت نفسه أظهر أوبنهايمر اهتماما غير عادي بسلامة ورفاهية كل فرد عينه معه في هذه المهمة. ومرة أخرى، يقول فاينمان متذكرا: «كان أوبنهايمر مفرطا في إنسانيته. فعندما كان يعين كل هؤلاء الناس للذهاب إلى لوس ألاموس ... كان يهتم بجميع التفاصيل. فمثلا، عندما طلب مني القدوم أخبرته عن تلك المشكلة؛ أن زوجتي مريضة بالسل. وقد بحث بنفسه عن مستشفى ثم اتصل بي ليخبرني أنه عثر على مكان يمكنه أن يعتني بها. لم أكن إلا واحدا من كثيرين يحاول تجنيدهم للعمل في المشروع، لكن هذا كان دأبه دائما؛ منشغلا بمشكلات الناس الشخصية.» كانت مكالمة أوبنهايمر من شيكاجو بشأن عثوره على مستشفى لآرلين أول اتصال هاتفي يتلقاه فاينمان من مكان بعيد للغاية كهذا، ولعل هذا كان من أسباب تأثره. وعلى أي حال، بعد إجراء بعض المفاوضات مع سلطات الجيش، رتب لآرلين وريتشارد استقلال القطار «سانتا في تشيف» من شيكاجو في 30 مارس. كانت آرلين في حالة غير عادية من البهجة والإثارة:
حبيبي ريتش، آه لو تعلم كم أسعدتني برحلة القطار تلك؛ لقد كانت منتهى أملي وأحلامي منذ تزوجنا ... لم يتبق سوى يوم واحد. إنني في غاية الإثارة والسعادة وأتفجر بهجة. إنني أفكر وآكل وأنام «بك»؛ حياتنا، حبنا، زواجنا، والمستقبل الرائع الذي نبنيه معا. فقط لو أن غدا يأتي سريعا.
بإلحاح من آرلين، ابتاع الزوجان تذكرة مقصورة خاصة، ثم صعدا إلى متن القطار واتجها إلى الغرب. وفي نهاية المطاف، وبعد بحث عدة احتمالات ممكنة، وضعت آرلين في مصحة في ألباكيركي، التي تبعد مائة ميل عن موقع المعمل (ولم يكن المعمل قد أنشئ بعد)، وكان ريتشارد يذهب لرؤيتها مرة كل أسبوع.
بطريقة ما يمكن القول إن ريتشارد فاينمان كان يعد لهذه التجربة طيلة حياته؛ فجميع مواهبه كانت ستستغل خلال العامين التاليين: قدراته الحسابية الخارقة، عبقريته السحرية في الرياضيات، حبه الفطري لعلم الفيزياء، تقديره الجلي لأهمية التجريب، بغضه وازدراؤه للسلطة، اتساع معرفته بعلم الفيزياء، من الفيزياء النووية إلى فيزياء المواد (بعد وصوله بفترة قصيرة أصابه المرض، وأرسل خطابا إلى والدته يخبرها فيه أنه قرأ مرجعا في الهندسة الكيميائية يحتوي موضوعات متباينة من «نقل السوائل» إلى «التقطير» أثناء إقامته مدة ثلاثة أيام في مصحة لأمراض الصدر)، وافتتانه بالآلات الحاسبة.
كان العمل الفيزيائي مختلفا تماما عن عمله الأكاديمي. لقد كان أيسر من الخوض في قوانين مجهولة، لكنه أقذر كثيرا من العمل على الإلكترونات المنفردة في ذرات الهيدروجين البسيطة. وبجانب إسهامه في اختراع القنبلة، ترك فاينمان القليل من التراث العلمي الخالد من نتاج عمله خلال تلك الفترة. (هناك معادلة خاصة بحساب كفاءة السلاح النووي، اسمها معادلة «بيته-فاينمان»، لا تزال مستخدمة إلى اليوم، لكن هذا كل ما أعرفه عنها.)
Unknown page